شوق محمد
لا أغبط هذه الأيام إلا سكان الأرياف والقرى،وتلك البيوت المجاورة للمزارع فبوسعهم أن يتسكعوا قليلا في مساحة واسعة تحت قبة السماء والظفر بهواء نقي من دون مراقبة أو تسجيل مخالفة. بعكس حالنا بهذه المدينة الكبيرة جداً والمزدحمة دوماً بعدما فرض عليها الحظر الكلي .
أعتقد بأن تجربة العزل هذه ستجدد علاقة الناس بمنازلهم كيف تبدو وإلى أي مدى هي تشبههم،
كما ستطرح فكرة أنسنة المساكن أكثر مما هي عليه الآن. فحين تتأمل الشكل الغالب على منازلنا من الخارج ستبدو لك كصناديق من الإسمنت محاطة بالأسوار العالية والزنك،فهي قد تكون مريحة للعيش لكن هل هي مروحة عن النفس؟
وهنا أذكر سر جمال وراحة وحميمية البيوت القديمة وأعني ببيوت أجدادنا فغير أنها كانت تبنى من الطين وقريبة من تكوينا ، فهي أيضا تستخدم هندسة بسيطة وصحية اكثر ؛ بحيث كانت تعتمد على أن يكون الفناء وسط المنزل والحجر تحيط بهذا الفناء ،فالبتالي اضاءة جيدة طوال ساعات النهار وفائدة أكبر من ضوء الشمس والتي بدورها انعكست على صحة أفراد الأسرة جسديا ونفسيا . وبالمجمل تاريخياً كانت العمارة تستوحي تصميماتها من الطبيعية ومن الحيوانات والإنسان فأثبتت الكثير من الدراسات بأن الانسان ينجذب للأشكال الطبيعية،وكان للماء والمساحات الخضراء دور كبير في التقليل من التوتر والإجهاد عند الإنسان ولكن سرعان ما تغير ذلك مع الوقت إذ أصبح الفناء خارج المنزل والمنزل داخله .
فبسبب التطور ووصول الأسمنت والحديد تغير شكل العمارة بشكل كبير ومغاير عما كانت عليه في السابق الا أن العامرة الحديثة راعت الجانب الاقتصادي أكثر من الجانب الصحي..حتى أصبحت تعد العمارة الحديثة ،وخاصة التي بدأت بعد الستينيات هي من أسوأ العمارة في الوطن العربي.
وهذا السوء بدوره انعكس على سلوك وصحة أفراد المجتمع المدني. فلو أخذنا مدينتة الرياض كمثال بسيط لوجدنا الكثير فشوارعها واسعة وكبيرة وطويلة كأنها مضمار سباق و الأماكن المخصصة للمشي فيها قليلة كما أنها تستولي على أكثر من ثلث مساحة المدينة،كذلك المنازل فيها اتسعت وتباعدت عن بعضها واعتلت أسوارها وزادت معها الخصوصية فارتخى بذلك حبل المودة والرغبة بالتعرف على الجيران حتى بدأيتقلص مفهوم الحارة في كثير من أحيائها ويتلاشى كلياً في ضَل سطوة النمط العمراني الحديث .
هذا بالنسبة لمدينة الرياض، فكيف بتلك المدن التي تكثر بها ناطحات السحاب حد أنها تمنع وصول أشعة الشمس لسكانها حتما ستزيد من عدوانية سلوكهم وسوء صحتهم النفسية والجسدية بسبب ؛ نقص فيتامين (د) كصحوة ضد نمط لا يتلائم مع طبيعتهم كبشر فهم بحاجة للسعة وضوء الشمس والطبيعة .
تقول بعض الدراسات بأن البيوت القديمة ليست لها قيمة تاريخية فحسب بل حتى قيمة صحية لأنها كانت تراعي البيئة المحيطة ،وتؤمن أفضل الظروف الصحية للإنسان .
بعكس النمط العمراني الحديث والذي لا يؤثر على نفسية وصحة الفرد بل ايضا على فنه وحسه الإبداعي .
يقول المخطط الحضري فؤاد عسيري بأحد اللقاءات عن المدينة: ( هنا معمل التجارب الانسانية من هنا تتولد القصص ثم تتحول إلى روايات لكن إذا كنت أنا في العمل أشغل سيارتي و أروح إلى البيت ثم أروح الإستراحة أقابل ناس أقابلهم منذ عشرين سنة من أين تتولد القصة حتكون قصص أنا ماخذها من التلفاز وليست قصتي ..ويمكن أن نشاهد تجارب الروائيين السعوديين في الستينيات والسبعينيات عندهم تجارب تحكى لأن كان في تفاعل إنساني في مشاكل في تحديات في الحارة والحي )”
فعلا المدينة تفرض على الفرد بأن يكون منظما ومرتبا في عيشه وسيره ومواعيد خروجه ودخوله وخاصة مع النمط الحديث. فأنت حين تذهب لعملك تسلك ذات الطريق كل يوم وترى ذات المناظر و بنفس التوقيت،وهذا التكرار يفرض الرتابة والذي يغيب عنصر المفاجئة المثير والمحفز على الإبداع والخروج عن المألوف والابتكار ..كما انه يزيد من فرصة حضور الملل والذي سينعكس مع الوقت على سلوكنا وتعاملنا مع كل ماهو حولنا وأخيراً نظرتنا للمستقبل وللحياة .
لذلك من المفترض أن نراعي أكثر هذا الجانب ببالغ الاهتمام ونحاول أن نخلق ونبني مدناً مريحة وجميلة وصحية ومفعمة بالتنوع والحياة واقتصادية في ذات الوقت .
فالعمارة في الأخير وكما تقول لبنى الخميس”ماهي الا انعكاس لروح المجتمع وسمات العصر ، الانفتاح أو الإنغلاق، الزهد أو الرفاة ، التحفظ أو الجموح “.
ويقول أيضا ونستون تشرشل: “إننا نقوم بتشكيل مبانينا وبعد ذلك تقوم هي بتشكيلنا” .
فأي صورة سنشكل بواسطتها لنجد أثرها على أنفسنا وطريقة عيشنا، وأي حكاية سنتركها خلف جدرانها لتحكي للأجيال القادمة عنا ؟