الكاتب المنفي قتل نفسه يائساً بعد صعود النازية.
قبل أن يموت، قال: أن البرازيل أصبحت ما يحلم بأن تكونه أوروبا.
قبل خمسة وسبعين عاماً، في فبراير ١٩٤٢، انتحر الكاتب الأكثر شعبيةً في أوروبا في بيت صغير في بلدة بيتروبوليس (Petropolis)، حوالي ١٠،٠٠٠ كم عن موطنه الأصلي ومكان ولادته: فيينا. في العام السابق لوفاته، أكمل زفايغ دراستين متناقضتين – عالم الأمس: مذكرات أوروبي، مرثية لحضارة استهلكتها الحرب، والبرازيل: بلاد المستقبل، نموذج متفائل لعالم جديد.
النمسا-هنغاريا قدمتا لزفايغ أنموذجاً للتعددية الثقافية في مواجهة الوطنية
ولد زفايغ عام ١٨٨١ لعائلة يهودية مثقفة وثرية في فيينا، عاصمة الامبراطورية الهابسبورغية متعددة الأعراق، حيث يعيش النمساويون ، الهنغاريون، السلاف، اليهود وغيرهم جنباً إلى جنب. كان الحاكم آنذاك فرانز-جوزيف الأول متعدد اللغات، وهو الذي أصدر مرسومًا في بداية حكمه ينص على أن “جميع الأعراق في الإمبراطورية لها نفس الحقوق، ولكل عرق حقاً مصوناً في إستخدام جنسيته ولغته الأصلية”.
كان فرانز-جوزيف عنيدًا ومتصلب الرأي، وحين لا ننظر لحكمه برومانسية، نجد أنه قدم لزفايغ أنموذجاً للتعددية الثقافية، في الوقت الذي كانت أوروبا تستهلك نفسها بالنَفَس القومي والوطنية.
بدأ زفايغ بكتابة “عالم الأمس” بعد مغادرته النمسا عام ١٩٣٤، متوقعاً تفشّي النازية في بلاده.
وأكمل مسودته الأولى للكتاب صيف عام ١٩٤١ في نيويورك، وقام بتسليم النسخة النهائية من كتابه – الذي قامت زوجته “لوت ألتمان” بطباعته – قبل يوم واحد من انتحارهما.
في ذلك الوقت، كانت الإمبراطورية الهابسبورغية قد “اختفت من غير أثر” كما كتب، وتم تخفيض مرتبة فيينا إلى مجرد بلدة ألمانية. أصبح زفايغ عديم الجنسية: “لا أنتمي لأي مكان الآن، أنا غريب أو – في الغالب – ضيفاً في كل مكان.”
إن مذكرات زفايغ ملهمة في عرضها للطبيعة المربكة للنفي. المدن التي كانت تحتفي بزفايغ، صارت تحرق كتبه؛ العهد الذهبي من “الأمن والازدهار والراحة” مهّد طريقاً للثورة، عدم الاستقرار الاقتصادي والقومية، “الوباء الذي سمم زهرة ثقافتنا الأوروبية”. الوقت ذاته تم اختطافه: “كسرت جميع الجسور بين اليوم والأمس وقبل الأمس”.
استقر زفايغ في بيتروبوليس، شمال ريو دي جانيرو – سميت المدينة على بيدرو الثاني، آخر إمبراطور للبرازيل.
(الصورة: Emma Bridget Byrne)
من دون أي أثر
من أكثر الأشياء التي كانت تقلق ستيفن زفايغ، هي فقدان بلد لغته. عبّر زفايغ: “إنه لعار معذب” في أن الأيديولوجيا النازية ظهرت وولدت من خلال اللغة الألمانية. مثل الشاعر “بول سيلان”، الذي انتحر في باريس، شعر زفايغ أن لغة شيلر، غوته، وريلك قد احتلت وشُوّهت من قبل النازية بشكل لا يمكن إصلاحه الآن.
يكتب زفايغ عن زمن بإمكانك فيه زيارة الهند والولايات المتحدة من غير جواز أو فيزا
في “عالم الأمس”، يصف زفايغ سهولة السفر من دون حدود بين الدول قبل عام ١٩١٤ – عن زيارة الهند والولايات المتحدة من غير الحاجة إلى جواز أو فيزا – وهو وضع غير مقبول لأجيال ما بين الحروب (الذين ولدوا أثناء الحروب أو بينها).
الآن زفايغ، مثل جميع اللاجئين، يواجه ذل التفاوض مع البيروقراطية غير العملية. يصف زفايغ “فوبيا البيروقراطية” لديه حين يطلب منه موظفو الهجرة تزويدهم بإثباتات إضافية للهوية، حتى أنه سخر مع صديق مهاجر عن مسماه الوظيفي “كنت كاتباً، والآن خبير في شؤون الفيزا”.
كان زفايغ واحداً من أكثر كتاب أوروبا شعبيةً في العشرينات والثلاثينات من القرن التاسع عشر، حتى أن صناع الأفلام تبنوا أعماله – أصبحت روايته “الخوف” فيلماً لروبيرتو روسيليني “لا باورا”. (Photo credit: Alamy)
مع انتشار قوات هتلر في أنحاء أوروبا، انتقل زفايغ من محل إقامته في باث، المملكة المتحدة، إلى أوسينغ، نيويورك.
كان زفايغ مجهولاً إلى حدٍ كبير للناس هناك باستثناء زملائه المهاجرين، الذين يفتقدون العلاقات الاجتماعية والملاءة المالية التي يمتلكها، ولجؤوا إلى الاستعانة بكرمه البالغ في العديد من المرات. لم يشعر زفايغ أبداً أنه في منزله عندما كان في الولايات المتحدة – اعتبر الأمركة (Americanisation) الدمار الثاني للثقافة الأوروبية تلو الحرب العالمية الأولى – وتمنى العودة إلى البرازيل، التي احتفت به خلال جولة محاضرات قدمها عام ١٩٣٦.
قد تكون رواية “رسالة من امرأة مجهولة” الأكثر رواجاً بين روايات زفايغ، والتي صارت فيلماً لماكس أوفولس عام ١٩٤٨، بطولة جوان فونتان ولويس جوردان. (Photo credit: Alamy)
البرازيل: بلاد المستقبل، ليست إلا احتفاءً بدولة أبهر جمالها وكرمها ستيفن زفايغ بشدة. كان زفايغ منبهراً بالبرازيل، وعاتب نفسه بسبب جهله و”غروره الأوروبي”. في كتابه، يصف زفايغ ويحدد تاريخ واقتصاد وجغرافية وثقافة البرازيل، لكن القيمة الأساسية للكتاب تأتي من منظوره الأوروبي الذي اكتسبه عن قارته.
لا يوجد فاصل لوني، لا فصل، لا تصنيف متعجرف – زفايغ
أصبحت البرازيل، في وصف زفايغ، كل شيء يتمنى أن تكونه أوروبا. حسية، ثقافية، هادئة ومنفرة للنزعة العسكرية والمادية.
(يدعي كذلك أن البرازيليين يفتقدون الشغف الأوروبي بالرياضة، وهي ملاحظة غريبة، حتى في ١٩٤١).
البرازيل دولة حرة من “المتعصبين عرقيًا”، “مشاهدها المحمومة ونشوة عبادة البطل”، “قوميتها المجنونة وإمبرياليتها”، “غضبها الانتحاري”.
أشاد “ويس أنديرسون” بزفايغ في اللقطات الختامية لفيلم “The Grand Budapest Hotel”، الذي يقول أنديرسون عنه أنه مستلهم من الكاتب. (Credit Fox Searchlight)
في ألوانها وإيقاعاتها، كانت البرازيل مختلفة بشكل كبير عن صورته المضطهدة لفيينا الهابسبورغية، لكن يبدو أن جمال هويتها الهجينة يبرر نظرته لها. في البرازيل، كان أحفاد المهاجرون الأفريقيون، البرتغاليون، الألمان، الإيطاليون، السوريون، واليابانيون يختلطون مع بعضهم البعض بكامل الحرية: “تعيش كل هذه الأعراق بتجانس تام مع بعضها البعض”.
تقدم البرازيل درساً “للحضارة” الأوربية في كيفية التحضر: “في الحين الذي تحكم فيه عالمنا القديم محاولات مجنونة لخلق سلالات بشرية نقية، مثل خيول وكلاب السباق، كانت الدولة البرازيلية قد بنيت على مر العصور على مبدأ التجانس الحر وغير المكبوت… يتحرك شيئاً بداخلك حين ترى الأطفال بألوان بشرة مختلفة – شوكولا، حليب، قهوة – يخرجون من المدرسة يداً بيد، لا يوجد حاجز لوني، لا فصل، لا تصنيف بغيظ… لمن نقوم هنا بالتباهي بنقاوة العرق المطلقة؟”
“الجنة”
أصبحت هذه الأنشودة شعبية بشكلٍ كبير لدى العامة، وحضر آلاف البرازيليين محاضرات زفايغ، بينما كان مسار رحلاته يطبع يومياً في جميع الجرائد الرئيسية.
لكن الكتاب تلقى النقد: يشير بروشنيك (Prochnik) إلى أن جرائد البرازيل الرئيسية نشرت – لثلاثة أيام متتالية – مراجعات سيئة لكتابه، تتهم زفايغ بتجاهل الابتكارات الصناعية والحداثية في البرازيل.
جعل احتفاء زفايغ بالبرازيل منه ذو شعبية عالية، العديد من المواقع سميت باسمه هناك (Credit: Wikipedia/Eduardo P)
من أكثر الأشياء جدلاً كان مديح زفايغ لديكتاتور البرازيل، غوتيلو فارغاس. في عام ١٩٣٧، أعلـن فـارغاس دولة جديدة (Estrada Novo) بنظام جديد مستلهم من الحكم السلطوي في البرتغال وإيطاليا. أغلق فارغاس البرلمان البرازيلي وسجن المثقفين اليساريين، والذين افترض بعضهم أن زفايغ قد دفع له مقابل مديحه، أو عرضت عليه الفيزا على الأقل.
قننت حكومة فارغاس استقبال المهاجرين اليهود على أساس عرقي – لكنها استثنت زفايغ لشهرته.
هذه الحلقة من حياة زفايغ توضح سذاجته السياسية. بطبيعته الهادئة والمتصالحة، خاف زفايغ من التحريض على العداء في لحظة حاسمة (انضم فاغراس أخيراً إلى الحلفاء في الحرب العالمية الثانية عام ١٩٤٢). بحثًا عن العزلة، خبأ ستيفن ولوت نفسهما في مدينة بتروبوليس الراقية، والمستوطنة سابقاً من الألمان، ٤٠ ميل (٦٤ كيلو) خارج ريو.
آمن زفايغ بعالم من غير حدود، لكن الحدود هي من عرّفته
“إنها جنة”، كتب زفايغ عن المناظر الطبيعية الخلابة لجبال الألب، والذي “يبدو على أنها مترجمة من اللغة النمساوية إلى اللغة الاستوائية”. هدف زفايغ إلى نسيان كتبه وأصدقائه القدامى، والبحث عن “الحرية الداخلية”.
أثناء كرنفال في ريو، علم زفايغ بتقدم النازية في الشرق الأوسط وآسيا، وهبط عليه الشعور بالموت. شعر زفايغ أنه لن يكون حراً أبداً، حراً من الخوف على وجه التحديد. “هل تصدقون فعلاً أن النازيين لن يأتوا إلى هنا؟” كتب، “لا شيء بإمكانه إيقافهم الآن”.
آمن زفايغ بعالم من غير حدود، لكن الحدود هي من عرّفته: “أزمتي الداخلية في ذلك هي أنني غير قادر على التعريف بنفسي عن طريق جواز سفري، الذات الخاصة بالمنفى”.
زفايغ المطارد من الأشباح (“نحن مجرد أشباح – أو ذكريات”)، كتب في رسالة انتحاره “ولقد استنفدت كل قواي في سنوات التيه الطويلة”.
كتب ستيفن ولوت في استقالتهما: “ليس لدينا حاضر أو مستقبل… قررنا، برابطة الحب، أن لا نتخلى عن بعضنا”.
قمت بزيارة بيت زفايغ الصغير في بيتروبوليس، والذي أصبح الآن “متحفاً نشطاً”، بحسب تريستان ستروبل، الذي يعمل هناك بالخدمة الوطنية كخادم للتذكار النمساوي للهولوكوست.
أراني تريستان شاشة تفاعلية بها صور لجميع اللاجئين الذين قدموا للبرازيل بين عام ١٩٣٣ و ١٩٤٥، مسلطةً الضوء على مساهماتهم.
“كانت هذه الفترة خسارة عظيمة على الحياة الثقافية الأوروبية”، يقول تريستان، “لكن للبرازيل والدول الأخرى، كان استقبال اللاجئين أمراً إيجابياً بشدة”.
العقد الأشد ظلاماً للعالم القديم جلب النور إليهم الآن.
كتبها: بنيامين رام، ٢٢ فبراير، ٢٠١٧. (BBC)
ترجمة: سالم الشهاب
مقال جميل ..نتمني المزيد من هالنوعية من مقالات السير الذاتية التي لا تتعمق بالتفاصيل والأحداث و لكنها تمنحك رؤية واضحة عن الكاتب.