غسان كنفاني وأدب المقاومة الفلسطينية

غسان كنفاني أديب فلسطيني تلتحم حياته بالمقاومة الفلسطينية التحاماً، وفي الحقيقة حياته بأكملها مقاومة لا يمكن فصلها منها في أي صورة، كما يقول الدكتور فؤاد: “غسان من هؤلاء الحالمين الذين يعملون على تقصير المسافة بين الفعل والكلمة، و يتطلعون إلى جنس جديد من البشر”. فإنه مقاوم من حيث الفعل، ومن حيث الكلمة، وقد وصفه كامل سلمان الجبوري بالفدائي كما يقول “غسان كنفاني أديب فلسطيني من كبار الفدائيين.” فهو أديب ولد في عنفوان ثورة عام 1936، واستشهد في ريعان شبابه عام 1972، وكابد شقاوة الحياة و مرارتها من التهجير والغربة، وعاش حياته لاجئاً تائها في البلدان العربية المجاورة، مختفياً في بعض الأحيان من السلطة. وهو كاتب ناضل بريشة قلمه وأفكاره طول حياته القصيرة التي لا تتجاوز أكثر من ست وثلاثين سنة، ولكنها غزيرة بالإنتاجات المفعمة بالحيوية وروح النضال والمقاومة، وهو كما – يقول محمود درويش-“ أحد النادرين الذين أعطوا الحبر زخم الدم. ونقل الحبر إلى مرتبة الشرف وأعطاه قيمة الدم” و ليس هذا فحسب، بل حياته مليئة بالنشاط السياسي والاجتماعي أيضاً. 

  • أسرة غسان كنفاني:

كانت أسرة غسان أسرة مسلمة سنية من أسر الطبقة المتوسطة بمدينة عكا مدينة بساتين البرتقال والزيتون القائمة على ضفة البحر المتوسط. أبوه محمد فائز عبد الرزاق كنفاني كان محامياً قد حصل على شهادة الحقوق خلاف رضى أبويه، ويشتغل محامياً بمدينة “يافا”، وكان يعمل في النشاطات القومية الفلسطينية ضد الاحتلال البريطاني، والاستيطان الصهيوني، ولذلك أودع السجن مراراً قبل النكبة. أما أم غسان كنفاني، فرغم كونها غير متعلمة –كما وصفها غسان- كانت عاقلة وذات حكمة عظيمة.

  • ولادته و دراسته:

 ولد غسان بـ”عكا” في 9 أبريل/نيسان عام 1936، في وقت كانت فلسطين تحترق في نار الثورة الكبرى، وكانت سلطة الاحتلال قد شمرت عن ساقها لاجتثاث إرادة الشعب للتحرير من أصولها. وبما أن أباه فائز محمد كنفاني كان يشتغل محاميا في مدينة “يافا” ويسكن في حي المنشئة هناك، فعاد به إلى يافا عندما انتهت فترة الإجازة. وفي يافا قطع غسان المرحلة الابتدائية من مراحل حياته ودراسته فعندما بلغ الثانية من عمره ألحقه أبوه بروضة الأستاذ وديع سري حيث تلقى دروسه الأولى في اللغة العربية والإنجليزية والفرنسية، وبعد ذلك التحق بمدرسة الفرير التي كانت تديرها منظمة فرنسية تنصيرية بمدينة يافا.

  • التهجير والغربة:

ولم يمض على دخول غسان في مدرسة الفرير بيافا بضع سنوات حتى اضطر أبوه أن يهاجر مع أسرته إلى مسقط رأسه “عكا” عندما تعرضت مدينة يافا للهجوم اليهودي الأول على المسلمين لقربها من تل أبيب إثر قرار تقسيم فلسطين عام 1947. في عكا لم يوفق له و لأسرته إلا أن يقضوا عدة شهور فقط، فعكا أيضا أصبحت فريسة للهجوم الوحشي اليهودي والتطهير العرقي في أواخر نيسان عام 1948. و مدينة “عكا” التي قد كان عدد سكانها 1800 نسمة عند صدور قرار تقسيم أصبحت تحتوي على أكثر من 40000 نسمة بعد أن أصبحت مأوى للمهاجرين من يافا، وحيفا، والقرى المجاورة التي قد سقطت قبلها. في 25 أبريل 1948 رجم اليهود مدينة “عكا” بالصواريخ ومدافع مورتورز مما أدى إلى استشهاد عدد كبير من السكان. و قد عرض عدنان كنفاني أخو غسان صورة لهذا الوقت المأزق، فهو يقول “كانت إحدى ليالي أواخر نيسان 1948 حين حدث الهجوم الأول على مدينة عكا. بقي المهاجرون خارج عكا على تل الفخار (تل نابليون)، وخرج المناضلون يدافعون عن مدينتهم، ووقف رجال الأسرة في بيت جدنا الواقع في أطراف البلد، وكل يحمل ما تيسر له من سلاح وذلك للدفاع عن النساء والأطفال إذا اقتضى ذلك الأمر. ومما يذكر هنا أن بعض ضباط جيش الإنقاذ كانوا يقفون معنا. وكنا نقدم لهم القهوة تباعاً علماً بأن فرقتهم بقيادة (أديب الشيشكلي) كانت ترابط في أطراف بلدتنا. وكانت تتردد على الأفواه قصص مجازر دير ياسين، ويافا، وحيفا، التي لجأ أهلها إلى عكا وكانت الصور ما تزال ماثلة في الأذهان. وفي هذا الجو كان غسان يجلس هادئا كعادته ليستمع و يراقب ما يجري. ” وجملة عدنان الأخيرة تدل على أن غسان كان دقيق الملاحظة، ولهذه الملاحظة الدقيقة أثر كبير في التقائه الأبطال الأحياء من المجتمع لقصصه ورواياته.

وإثر الهجوم الأول، والخوف الذي أصاب اللاجئين مما شاهدوا من القتل والدمار الوحشيين والمجازر المروعة في مدنهم وقراهم، وبسبب قلة الغذاء والماء فقد كان اليهود قد لوثوا مياه “الكابري” -القناة التي كانت تزود عكا- بجراثيم التيفوئيد لتضيق الخناق على سكان عكا واللاجئين إليها، بدأت الأسر تنزح من عكا إلى البلدان العربية المجاورة في الزوارق عن طريق البحر، وفي الشاحنات في هرج ومرج، قبل أن يبدأ الحصار اليهودي لعكا في 28 شباط 1948. وعند سقوط عكا قتل اليهود أكثر من مئة مدني كان بينهم عدد غير قليل من الشيوخ والأطفال. وكانت أسرة غسان من الأُسَر التي تمكنت من الهجرة في شاحنة إلى لبنان، ونزلت بـ”صيدا”. وهناك استأجر أبوه مكانا لقيام أسرته في بلدة “الغازية” فمكثوا فيه، ولكن المقام لم يطِب لأبيه لأنه كان قد بذل كل ما كسب في بناء بيته في عكا وفي بناء منزل له في حي العجمي بيافا، ولم يبق لديه إلا بعض النقود التي لم تكن كافية لسد رمق الأسرة، وبالإضافة إلى ذلك لم يجد هناك مجالا للعمل الذي يساعد على قضاء الحياة في هذه المدينة الصغيرة، فلم يمض أربعون يوما على مكوثه هناك، حتى شد الرحال مع أسرته و طاف حلب ثم الزبداني، وفي النهاية استأثر القيام في “دمشق” حيث وجد المجال الأرحب للعمل كمحامي.

  • استكمال الدراسة وبداية الحياة السياسية:

فتح أبو غسان مكتباً لممارسة المحاماة، و حقق نجاحاً في مهنته، فتحسن حال الأسرة الغريبة التي عاشت حياة قاسية حتى الآن، وسنحت الفرصة لأبنائه أن يكملوا دراساتهم، فانتهز غسان الفرصة وبدأ دراسته الثانوية التي خلالها برز تفوقه في الرسم والأدب العربي، وبدأت مواهبه تتفتح فقد جعل يقرض الشعر، ويكتب بعض من المقطوعات الوجدانية والمسرحية وهو لم ينته من الثانوية بعد، وكذلك جعل يقوم بتصحيح البروفات لبعض الصحف لكسب بعض المال الذي يكون عونا لأبيه. وعندما أكمل غسان دراسته الثانية في عام 1952 حصل على شهادة التدريس أيضا، بالإضافة إلى شهادة الثانوية. فبدأ حياته المهنية وجعل يعمل مدرسا للتربية الفنية في مدرسة “الإليانس” إحدى مدارس وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين (اونرو) United Nations Relief and Works Agency for Palestine Refugees (UNRWA) في دمشق. وبالإضافة إلى اشتغاله بالتدريس، إنه التحق بقسم اللغة العربية في “جامعة دمشق” لممارسة دراسته العليا في الأدب العربي، وأعد أطروحته بعنوان “العرق والدين في الأدب الصهيوني”، وهناك لقي جورج حبش في عام 1953 الذي حرضه على الانضمام إلى “حركة القوميين العرب” (Arab Nationalists Movement). وجورج حبش الذي تخرج في الجامعة الأمريكية بـ”بيروت” كان مسيحياً متعصباً وكان له يد في الصدام العنيف بين الجماعتين من المسلمين، فقد لعب دوراً بارزاً في تحريض اللاجئيين الفلسطينيين ضد الحكومة الأردنية الذي أدى إلى صدام عنيف بين الجانبين في عام 1970. إنه كان قائد “حركة القوميين العرب” التي أسسها المسيحيون العرب من سوريا ولبنان، والتي اتخذت مقراً لها في الجامعة الأمريكية بـ”بيروت” وكان من أهداف هذه الحركة توحيد العرب على أسس اللادينة، لأن قائدها كان يرى الدين سببا هاما في هزيمة العرب. عملت هذه الحركة أولأ لأغراض الولايات المتحدة، ثم أصبحت تنادي بالماركسية والشيوعية.

انخرط غسان في “حركة القوميين العرب” على تحريض جورج حبش –كما سقنا آنفاً-  وأصبح عضواً نشيطا لها، و نشاطاته هذه أدت إلى إحراج مع والده الذي كان يتمنى أن يكمل غسان دراساته، وفي النهاية إلى فصله عن الجامعة في عام 1955م، وهو لم يكن يمضي في رحاب الجامعة إلا سنتين.

  • في الكويت:

بعد أن فصل عن الجامعة بسبب نشاطاته السياسية، قصد غسان “الكويت” في نفس السنة ليعمل هناك مدرساً للرسم والرياضة ولحق شقيقته فائزة و أخاه غازي الذين قد سبقاه إلى الكويت بسنوات للتدريس في المعارف الكويتية. وهناك تبدأ مرحلة جديدة من مراحل حياته، لها دور مهم في تكوين شخصيته من حيث تطور الأفكار عنده، ومن حيث الدراسة ومن حيث نقطة الانطلاق للإنتاج الأدبي.

أما من حيث تطور الأفكار، فعندما يصل “الكويت” يجد نفسه تتخذ القيام في غرفة يسكنها ست زملاء كلهم يحملون اتجاهات شيوعية، وهم أعضاء في إحدى الوحدات الشيوعية هناك، فيتأثر بهم، و كذلك يتأثر كثيراً بزوج أخته الذي كان ينتمي إلى منظمة شيوعية، ويعد من أهم أعضائها، وتحت هذا الأثر إنه مال إلى الشيوعية و بدأ دراسة الماركسية بشره. و قد تكلم غسان -في حوار أجراه الكاتب السويسري- عن علاقته بالاشتراكية واعتناقه للمبادئ الشيوعية، و تطور حركة القوميين العرب في حركة ماركسية: “يمكنني القول بأن حركة القوميين العرب كانت تشمل بعض العناصر الشابة، وكنت من ضمنها، التي كانت تسخر من حساسية الكبار في السن تجاه الشيوعية، وبالطبع لم نكن يومها شيوعيين، ولم نكن نحبذ الشيوعية. غير أن حساسيتنا ضد الشيوعية كانت أقل نسبة من حساسية المتقدمين في السن، و بالتالي، لعب الجيل الجديد دورا بارزا في تطوير حركة القوميين العرب إلى حركة ماركسية-لينية. و كان العامل الأساسي في ذلك كون غالبية أعضاء حركة القوميين العرب من الطبقة الفقيرة، أما الأعضاء المنتمون إلى البورجوازية الصغيرة، أو البورجوازية الكبيرة، فقد كان عددهم محدودا… و قد اطلعت على الماركسية في مرحلة مبكرة من خلال قراءاتي و إعجابي بالكتاب السوفيات.”

 أما من حيث الدراسة، فكان قيامه في الكويت فرصة سانحة للدراسة الواسعة والعميقة، فأقبل على دراسة الأدب العربي، والماركسية إقبالا، و نجده يدرس بنهم لا يصدق، و يذكر أخوه عدنان كنفاني قوله عن إقباله على الدراسة فيقول “إنه لا يذكر يوما نام فيه دون أن ينهي قراءة كتاب كامل أو ما لا يقل عن ست مئة صفحة، و كان يقرأ و يستوعب بطريقة مدهشة.” أما نقطة الانطلاق للانتاج الأدبي، فنجد غسان في عام 1956 قد انخرط في إدارة صحيفة “الرأي” الكويتية الناطقة بلسان “حركة القوميين العرب،” وبدأ يكتب تعليقا سياسيا بتوقيع “أبو العز” الذي استلفت به اتجاه الناس. و في الكويت برزت مواهبه الفياضة في كتابة القصة القصيرة فكتب هناك عددا من باكورات قصصه القصيرة التي نشرها في هذه الصحيفة من أهمها “ورقة من الرملة”، و”ورقة من غزة”، و “ورقة من الطيرة”، و “إلى أن نعود”، و “درب إلى خائن”، و”أرض البرتقال الحزين”، و “القميص المسروق.” وقد نال على قصة “القميص المسروق” في عام 1957 الجائزة الأولى في مسابقة أدبية، و التي شكلت فيما بعد عنوانا لإحدى مجموعات قصصه القصيرة.

  • في بيروت:

على دعوة جورج حبش للعمل كمحرر أدبي في مجلة “الحرية” التي اشترتها “حركة القوميين العرب” بـ”بيروت” لتكون مجلة رسمية لها، غسان يغادر الكويت عام 1960 إلى لبنان، و يختار القيام في بيروت. وهناك وجد الفرصة للوقوف على التيارات الأدبية والسياسية عن كَثَب حتى في وقت قليل أصبح بسبب نشاطاته التحررية و حماسته لقضية فلسطين و ثقافته الواسعة، مرجعا للمهتمين بالقضية الفلسطينية. وفي السنة التالية دخل في النصف الأفضل من حياته فتزوج بامرأة دنماركية آني هوفر (Anni Hoover) التي كانت حضرت بيروت للاطلاع على القضية الفلسطينية على كثب، و تعرف عليها غسان عن طريق بعض أصدقائه الذين ذهبوا بها إليه كمرجع للقضية الفلسطينية.

كانت آني هوفر امرة دنماركية و تعرفت إلى القضية الفلسطينية والظلم الواقع على الفلسطينيين عن طريق بعض الطلاب الفلسطينيين في دنمارك، ، فتحمست لهذه القضية، و شدت رحالها إلى البلاد العربية للاطلاع على القضية، وعندما زارت بيروت مروراً بدمشق التقت بغسان لأنه كان يعتبر مرجعا للقضية الفلسطينية، فقام غسان بشرح الموضوع لها، وزار معها المخيمات، و أراها الحياة القاسية هناك، فتأثرت بهذه القضية، وكذلك تأثرت بشخصية غسان، و تحمسه للقضية، و عندما عرض عليه غسان الزواج بعد عشرة أيام بلقائه إياها، أجابت بالقبول، فتزوجا. كانت آني معه في عسر ويسر، و ساعدته في تنظيم حياته غير المنتظمة، و في تقوية جسده النحيل الذي كان قد أرهقه مرض السكري، و التهاب المفاصل. إنها ساعدت غسان في توفير المواد لدراسته “أدب المقاومة في فلسطين المحتلة” عن طريق استخدام وسيلة وطنه. كان غسان و آني رزقا، في العام التالي لزواجهما، بابن سماه “فائز” ثم رُزقا بابنة سمياها “ليلى”.

ومر غسان في بيروت بأقسى ظروف عندما اضطر إلى الاختفاء عام 1962 لأنه كان لا يملك الوثائق الرسمية، وأثناء اختفائه، عندما اضطر أن يتوقف عن الكتابة في الصحف، سنحت له الفرصة أن يكتب روايته الاولى الشهيرة “رجال في الشمس”. و في السنة التالية 1963 ظهر كرئيس التحرير لصحيفة “المحرر” اليومية التي كانت تمثل نظرية القوات الناصرية المتقدمة، و محرراً لملحقها الأسبوعي “فلسطين” وأصدر أفضل وأشهر وأول روايته “رجال في الشمس” التي تعتبر معلما مهما في مسير الرواية العربية عموما و في الرواية الفلسطينية على وجه الخصوص، والتي ألقت الضوء على حالة الاستسلام والخنوع التي كان أهالي فلسطين يمرون بها سواء في الأرض المحتلة أو في المنفى

حياة غسان في بيروت كانت مشحونة بالنشاطات السياسية والأدبية معا، فنجده يزور االهند والصين عام 1965، و لكن من الأسف الشديد لا نجد أي تفصيل لزيارته للهند مثل ما لا نجد أي تفصيل لزيارته للعراق خلال إقامته بالكويت، و لكنه قد كتب رحلة حول زيارته للصين بعنوان “ثم أشرقت آسيا” التي صدرت في حلقات عام 1965. والجدير بالذكر هنا أن في هذه السنة، أنعم الله عليه بولادة ابنة سماها “ليلى”.

في العام التالي، أعني في عام 1966 يصدر غسان روايته الثانية “ما تبقى لكم” التي تجلب له “جائزة أصدقاء الكتاب في لبنان”. و في نفس السنة إنه أخرج دراسته الشهيرة “أدب المقاومة في فلسطين المحتلة 1948-1966” التي قامت بتعريف أدب المقاومة، و أخرجت الأدب الفلسطيني المتواجد في الأرض المحتلة من الانزواء إلى النور.

في عام 1967 التحق غسان بهيئة التحرير لصحيفة “الأنوار” الناصرية و عمل رئيسا لتحرير مجلتها الأسبوعية، و في نفس السنة شارك في تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين POPULAR FRONT FOR THE LIBERATION OF PALESTINE (PFLP) ، برئاسة أحمد جبريل عقب تشتت حركة القوميين العرب، و أصبح عضو المكتب السياسي لها والناطق الإعلامي باسمها. وفي عام 1969 استقال عن صحيفة “الأنوار”، و قام بتأسيس مجلة ناطقة باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين باسم “الهدف” وترأس تحريرها إلى أن اغتيل شهيدا.

و “الهدف” في الحقيقة كانت صحيفة يومية سياسية تصدر في بيروت، لكن عندما اشترت الجبهة الشعبية امتيازها باسم غسان كنفاني،  أصبحت الصحيفة مجلة مركزية للجبهة ولسان حالها، وبدأت تصدر برئاسة تحرير غسان كل أسبوع بعشرين صفحة على قطع كبير. و قد عبر غسان عن الغاية من إصدارها في عددها الأول الذي صدر 26 يوليو 1969، بـ”رفضها لكل الصيغ العاجزة المتخذة حينا طابع المساواة، وحينا طابع المهاودة، وحينا ثالثاً طابع الوسيطة، وهي تعتنق هذا الرفض الثوري أساسا للمعركة المصيرية. إنما تأتي رداً على الصناعة الإعلامية العربية التي أسقطتها القيم التجارية و قيم المجتمع المنهار، وفي دوامة العجز والفشل. وأنها لم تسمح لمواقف الارتجال والانفعال المزايدة أن تحل مكان موقف الموضوعية والعلمية.”

  • الاستشهاد:

في غرة شهر يوليو عام 1972، حضرت لميس ابنة اخت غسان التي كانت قد أكملت الثانوية العامة بأعلى المراتب في الكويت للالتحاق بالجامعة الأمريكية بـ”بيروت”. و في الثامن من يوليو، خرج غسان مع لميس ليصطحبها إلى الجامعة و ينتهي من إجراءات تسجيلها هناك، و لكن ما أن ركب السيارة و حرك مقودها حتى انفجرت عبوة ناصفة وضعها فيها جهاز مخابرات إسرائيل (موساد)، و انتشرت أشلاء السيارة و أشلاء غسان و ابنة اخته في الهواء. و تقول زوجته السيدة آني عن هذا الحادث “(… بعد دقيقتين من مغادرة غسان ولميس ـ ابنة أخته ـ سمعنا انفجارا رهيبا تحطمت كل نوافذ البيت .. نزلت السلم راكضة لكي أجد البقايا المحترقة لسيارته .. وجدنا لميس على بعد بضعة أمتار .. ولم نجد غسان، ناديت عليه !! ثم اكتشفت ساقه اليسرى.. وقفت بلا حراك.”

شهدت مدينة بيروت حشداً كبيراً وجماً غفيراً في جنازة غسان، ولعل جنازته كانت أكبر تظاهرة سياسية بعد وفاة ناصر. ودفنت بقايا غسان في مقبرة الشهداء في بيروت، واعترف مغتالوه عن جريمة قتله فيما بعد. ففي 22 يناير عام 1973، نشرت صحيفة إسرائيلية (Jerusalem Post) بأن عملاء إسرائيليين مسؤولون عن استشهاد غسان، واعترف بذلك قادة الكيان الصهيوني في شكل رسمي في أكتوبر عام 2005 بأن عملاء جهاز “الموساد” قتلوا غسان عن طريق وضع عبوة ناسفة في سيارته. ولم تكن شهادة غسان إلا حلقة من حلقات مؤامرة الصهاينة لاغتيال العبقريات و القادة الفلسطينيين الذين يلعبون دوراً في النضال الشعبي ضد التعدي والعدوان الصهيوني كما يقول أوس داؤد يعقوب: “كان اغتيال …غسان كنفاني… متابعة للمسلسل الإرهابي الصهيوني الرهيب، الذي ألحقه قادة العدو الصهيوني بأخس و أجبن محاولات الاغتيال والتصفيات الجسدية والتشويه والإرهاب عبر الطرود الملغومة، و تفجير السيارات، و زرع القنابل الموقوتة في السيارات والهواتف و الغرف، و التي كان من ضحاياها في بيروت اغتيال عدد من قادة العمل الوطني الفلسطيني، أمثال: اغتيال الكمالين ناصر و عدوان، و محمد يوسف النجار (أبو يوسف)، و محاولة اغتيال الدكتور أنيس صايغ، والصحفي بسام أبو شريف، والتي ذهب ضحيتها في بلدان الشتات والمنافي نخبة من خيرة رجالات فلسطين والأمة العربية، من كتاب و مبدعين، أمثال: وائل زعيتر، و محمود الهمشري، و د. باسل الكبيسي، و ماجد أبو شرار، و ناجي علي، وغيرهم كثير.”

الرثاء:

رثى كثير من الكتاب والأدباء العرب في مقالاتهم و شعرهم على غسان كنفاني، واعترفوا بفضله، ودوره في المقاومة الفلسطينية. وفيما يلي نورد بعض مقتبسات من عدة مقالات كتبت في رثاء غسان كنفاني لتسليط الضوء على مدى تأثر الأدباء والكتاب والمفكرين به:

محمود درويش، الشاعر الفلسطيني الرائد الذي كتب مقالة طويلة في نثر شبه شعري بعنوان “محاولة رثاء بركان” في رثاء غسان كنفاني يقول:

” اكتملت رؤياك، و لن يكتمل جسدك. تبقى شظايا منه ضائعة في الريح، و على سطوح منازل الجيران، و في ملفات التحقيق. و لم يكتمل حضورنا نحن الأحياء-طبقا لكل الوثائق. نحن الأحياء مجازا. و أنت الميت-طبقا لكل الوثائق. أنت الميت مجازا.

نحزن من أجلك؟ لا.

نبكي من أجلك؟ لا.

أخرجتنا من صف المشاهدين دفعة واحدة، و صرنا نتشوف الفعل، و لا نفعل. أعطيتنا القدرة على الحزن، وعلى الحقد،  على الانتساب. و كنا نتعاطى الحزن بالأقراص، و نتعاطى الحقد بالحقن، و نتعاطى الانتساب بالوراثة.

مرة واحدة أعطيتنا القدرة على الاقتراب من أنفسنا، و على الرغبة في الدخول إلى جلودنا التي خرجنا منها دون أن ندري. الآن ندري، حين خرجت منا.

و من أنت يا غسان كنفاني؟

حملناك في كيس، و وضعناك في جنازة بمصاحبة الأناشيد الرديئة، تماما كما حملنا الوطن في كيس، و وضعنا في جنازة لم تنته حتى الآن، و بمصاحبة الأناشيد الرديئة.

كم يشبهك الوطن!

و كم تشبه الوطن!

والموت دائما رفيق الجمال، جميل أنت في الموت يا غسان. بلغ جمالك الذروة حين يئس منك و انتحر. لقد انتحر الموت فيك. انفجر الموت فيك لأنك تحمله منذ أكثر من عشرين سنة ولا تسمح له بالولادة. اكتمل الآن بك، واكتملت به. ونحن حملناكم. و أنت والوطن والموت. حملناكم في كيس و وضعناكم في جنازة رديئة الأناشيد. و لم نعرف من نرثي منكم. فالكل قابل للرثاء. و كنا قد أسلمنا أنفسنا للموت الطبيعي.

و يا غسان كنفاني. للمناسبة، قل لي من أنت؟

غامض، و عاجز عن الإجابة، لأنك فلسطيني حقيقي. كلما اشتد وضوحك اشتد غموضك. تنسى نفسك في البحث عن الوطن. و ينساك الوطن في بحثك عن نفسك، ثم تلتقيان يومين في اليوم. في اليوم الواحد تلتقيان أمس و تلتقيان غدا. و ما الفرق بينكما؟ هو الفارق بين ظل الشجرة في الدم، وبين ظل الشجرة الماء.

فلسطيني حتى أطراف أصابعك. فلسطيني حتى الحماقة.

و هذا هو مجدك إذا كان المجد يعنيك.

تسلم على السائح، فتصيبه عدوى فلسطين….

هذا هو مجدك إذا كان المجد يعنيك.

ليست أشلاؤك قطعا من اللحم المتطاير المحترق. هي عكا، و حيفا، و القدس، و طبريا، و يافا. و طولى للجسد الذي يتناثر مدنا….

نسفوك كما ينسفون جبهة، وقاعدة، وجبلا، وعاصمة.

وحاربوك، كما يحاربون جيشا..لأنك رمز، و حضارة جرح.

ولماذا أنت؟ لماذا أنت؟

لأن الوطن فيك صيرورة مستمر و تحول دائم. من سواد الخيمة حتى سواد النابالم. و من التشرد حتى المقاومة….

لو وضعوك في الجنة أو جهنم، لاشغلت سكانهما بقضية فلسطين.

ها هم يتبارون في رثائك. كأنك شيء ذاهب…

ها هم يتبارون في رثائك، كأنهم يرثون فردا.

آه.. من يرثي بركانا!”

هذه المقتبسات تلقي الضوء على مدى تأثر محمود درويش بغسان كنفاني، و كذلك تدل على إدراكه المكانة التي احتلها غسان كنفاني في الكفاح الشعبي أديباً وصحفياً وسياسياً و فكرياً.

ويقول أنيس صائغ في مقال كتبه بعنوان “غسان كنفاني: لقاء لم يتم”:

“عاش غسان ثورة دائمة في العلاقات الخاصة، كما في الشؤون العامة. فنانا كان، أو أديبا، أو كاتبا، أو مفكرا، صديقا كان، أو رفيقا، أو زميلا، أو قريبا، أو زوجا، أو أبا، أو أخا، كان ثورة تلتهب مثلما تحرق أعصابه. لذلك كان النضال الفعلي في الثورة الفلسطينية/العربية/الإنسانية، بالكتابة والتوجيه والدعوة والانتماء العقائدي، و تحمل المسؤولية، بؤرة يحقق غسان فيها ذاته، و يقترب من مثله العليا السامية. و لعله كان أيضا يريح فيها أعصابه.”

  • آثار غسان كنفاني:

بما أن شخصية غسان كانت ذات موهبة فياضة، و ذات أوجه متعددة، تنوعت عطاءاته و إنتاجاته في الأدب، والنقد، و الفن، والثقافة، والسياسة، فثبت كاتبا مكثرا خلال عمر غير مديد، و أثرى المكتبة العربية إثراء يقل نظيره. إنه ملأ صفحات الصحف بقلمه السيال، و أخرج روايات رائعة ممتازة، و كتب القصص المثيرة، و أعد بحوثا و دراسات قيمة، و أصدر مسرحيات جديرة بالتمثيل على خشبة المسرح ألف مرات، فكما يقول عبد الله ابو راشد “كان (غسان) حالة انسانية متوازنة و بداعية منفردة يقف على مسافة واحدة من جميع صنوف الأدب والفنون والصحافة و السياسة التي خاض غمارها منذ بواكير حياته.” وكل ذلك لغرض نبيل و هدف سام، و هو مأسأة فلسطين و حقوق مواطنيه الفلسطينين الذين يشكلون محور كتاباته، كما قال بنفسه -و هو يجيب ابنة أخته لميس التي طلبت منه أن يترك العمل النضالي ويتفرغ لكتابة القصص لأن قصصه جميلة – أنا أكتب جيدا لأنني أومن بقضية، و بالمبادئ. في اليوم الذي أترك هذه المبادئ، ستكون قصصي فارغة. و إذا تركت المبادئ خلف ظهري، لما تحترميني بنفسك. وجملة القول، إنه خلف آثاراً رائعة وغزيرة رغم حياته القصيرة، وترك لنا تراثاً عظيماً قد أصبح جزءاً من الأدب العالمي، وسوف يبقي مدى حياة الأدب العربي.

  •  الدراسات والبحوث:

صدر لغسان كنفاني خمس دراسات و بحوث، “أدب المقاومة في فلسطين المحتلة” عام 1966 في بيروت، و”الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 48 – 68″ عام 1968 في بيروت، و “فى الأدب الصهيوني” عام 1967 في بيروت، و “المقاومة ومعضلاتها”، و”ثورة 36 – 39 في فلسطين، خلفيات و تفاصيل”.

المسرحية: أخرج غسان كنفاني ثلاث مسرحيات “الباب” عام 1964، و”جسر إلى الأبد” عام 1965، و”القبعة والنبي” عام 1967.

رواياته: أخرج غسان كنفاني في طول حياته أربع روايات مختصرة كاملة “رجال في الشمس” عام 1963 ،  و”ما تبقى لكم” عام 1966، و”أم سعد”عام 1969، و “عائد إلى حيفا” عام 1969. و كتب، ما عدا هذه الروايات الأربع، ثلاث روايات أعجلته المنية قبل أن يكملها 1-العاشق، 2-الأعمى و الأطرش، و 3- برقوق نيسان. و هناك رواية تم إصدارها عام 1980 بعد استشهاده بعنوان “الشئ الأخر أو من قتل ليلى حائك”.

قصصه القصيرة: صدرت لغسان كنفاني خمس مجموعات قصصية و هي: “موت سرير رقم 12” عام 1961م، و “أرض البرتقال الحزين” عام 1962، و “عالم ليس لنا” عام 1965، و”عن الرجال والبنادق” عام 1968، و”القميص المسروق وقصص أخرى” نشرت بعد وفاته.

 

المصدر: غسان كنفاني: دراسة في حياته وأعماله د/ محسن عتيق خان الندوي

 

 

فن الرواية: مقابلة مع هاروكي موراكامي

يُعدّ هاروكي موراكامي أكثر الكتاب اليابانيين شهرة حول العالم حيث بلغت مبيعات أعماله الملايين وهو أيضًا بدون منازع أكثر كاتب ياباني تجريبي تُترجم أعماله إلى اللغة الإنجليزية. تسكن رواياته تلك المساحة الفاصلة بين الأدب الواقعي والخرافي، والبوليسي والخيال العلمي، وعلى سبيل المثال، فإن لبطل روايته «أرض العجائب الحارّة ونهاية العالم» عقلين، وروايته «يوميات طائر الزنبرك»، أفضل أعماله المشهورة خارج اليابان، تبدأ  بحبكة خفيفة، رجل يبحث عن زوجته المفقودة، ثم بالتدريج تصير واحدة من أغرب الروايات الهجينة منذ صدور رواية «ترسترام شاندي» للورنس ستيرن. يبني موراكامي عالمه المجازي باستخدام الرموز المألوفة، مثل بئرٍ جافّة أو مدينة تحت الأرض، ولكن معاني هذه الرموز تبقى مُغلقة ومختومة حتى نهاية العمل. وعلى الرغم من أنه مدين في أعماله للثقافة الشعبية (الأميركية على وجه الخصوص)، إلا أن أعماله تحمل درجة عالية من الخصوصية تنافس أي كاتب آخر.

وُلِد موراكامي عام 1949 في مدينة كيوتو، عاصمة اليابان القديمة، لعائلة من الطبقة الوسطى ومُهتمة بالثقافة الوطنية، إذ عمل والده مُدرِّسًا للأدب الياباني، وكان جدّه راهبٌ بوذيّ. انتقلت عائلته إلى مدينة كوبه وهو في الثانية من عمرهِ، وشكّلت هذه المدينة الساحلية حساسيته، بزوارها الأجانب (البحَّارة الأميركيين بالتحديد). رفض موراكامي الأدب والثقافة والموسيقى اليابانية منذ عمر مُبكر، وآلف نفسه مع العالم خارج اليابان، عالم عرفه عبر موسيقى الجاز وأفلام هوليوود ومحلات الكُتب المُستعملة.

شحذ موراكامي ذوقه الروائي ما بعد الحداثي وهو طالبٌ في طوكيو في أواخر الستينات بينما كان يُتابع عن بعد، وبتعاطف، ذروة  حركة احتجاجات أنبو[1]. تزوج وهو في الثالثة والعشرين وقضى السنوات التالية في إدارة نادٍ لموسيقى الجاز في طوكيو اسمه «پيتر كات»، وهو ما أتاح له الفرصة لإدارة نفقات حياته قبل نشره روايته الأولى. تُرجمت رواية «اسمع الريح تغني» إلى الإنجليزية، ولكنها غير متاحة خارج اليابان بناءً على طَلب المؤلف، وفاز بها جائز گونزو للكتّاب الجدد، وكانت هذه الرواية البادئة لمقروئية أعماله. ذاع صيته أكثر فأكثر مع كل كتاب نشره لاحقًا، إلى أن نشر روايته الواقعية الأولى «الغابة النرويجية» والتي حولته إلى نجم أدبي عالميٍ، وصار صوت جيله في الثمانينات، مُعادلًا لجي دي سالنگر. بيعت من الرواية أكثر من اثنين مليون نسخة في اليابان فقط، ما يعني رواية لكل بيت في طوكيو وقتها.

صار موراكامي منذ ذلك أكثر الكُتاب المشهورين في وطنهِ دون قصدٍ منه، وعاش في الخارج لسنوات طويلة ليضع مسافة بينه وبين صورته العامّة. عاش في أوروبا والولايات المُتحدة، فكتب روايته «يوميات طائر الزنبرك» في أثناء تدريسه في جامعتي پرينستون وتافتس. وعلى الرغم أنه لم يعد إلى أسلوب الكتابة المباشر كما في رواية «الغابة النرويجية»، اتسعت قاعدته الجماهيرية، فباعت روايته «كافكا على الشاطئ» أكثر من ثلاثة آلاف نسخة في اليابان وستصدر النسخة الإنجليزية منها قريبًا. أما على المستوى العالمي، فهو أكثر الروائيين اليابانيين مقروئية في جيله، وحاز بكل الجوائز المطروحة للرواية في اليابان، بما فيها جائزة يوميري الأدبية. ولا يفوتنا أن نذكر بأنه مُترجم نَشط، ونقل أعمال رايمند كارڨر وتوم أوبرين وفرانسيس سكوت فيتسجيرالد إلى اللغة اليابانية، والتي كانت بعضها أول مرة تترجم للقارئ الياباني.

يقع مكتب موراكامي في طوكيو قبالة الطريق الرئيسي في أوياما، وهو المعادل لحي سوهو في مدينة نيويورك. المبنى نفسه عشوائي وقديم المظهر، كما لو أن التغيير في الحي قد حدث دون أن يصل المبنى. يستأجر موراكامي جناحًا متوسط الحجم في الطابق السادس، وتعكس غرف الجناح طبيعته: خزانات خشبية عادية وكراسٍ دوارة ومكاتب مغطاة برقائق المايلر وأثاث مكتبي. لا يبدو الديكور متوافقًا مع الشكل السائد لأستوديوهات الكتَّاب، إلا أنه مُناسب لموراكامي، حيث غالبًا ما تكون شخصياته في مثل هذه البيئة اليومية عند أول اتصال لهم مع عالم الأحلام. ولكن كما تبين لاحقًا، فإن المكتب يخدم بشكل رئيسي بوصفهِ الواجهة المهنية لعمل موراكامي. يبدو جو الغرفة مشحونًا بالعمل المتفاني، وعلى الأقل يوجد في المكتب مساعدتيْن يتحركن ببراعة وخفّة بجواربهنٍ الشفّافة.

أجريت هذه المقابلة مع السيد موراكامي على مدار ظهيرتين متتابعتين، حيث أظهر  ضحكات خافتة محاولًا الحفاظ على الهدوء في المكتب. بدا رجلًا مشغولًا وباعترافه، لم يكن يُحب التكلم كثيرًا، ولكن بعد دخولنا إلى جو المقابلة، وجد موراكامي نفسه مُركِّزًا ويتحدث بسلاسة. تكلم بطلاقة، مع أخذه لسكتات متعددة بين جمله، محاولًا توليف أدق إجابة ممكنة. وفي كل مرة أخذنا الحديث إلى الجاز أو إلى الركض، أكثر الأشياء التي تشغف قلبه، صار أصغر بعشرين سنة، أو ربما ظننته صبيًا في الخامسة عشرة من عمرهِ.

جون راي، 2004

 

صفحة من مخطوطة رواية «مطاردة الخراف الجامحة»[2] لهاروكي موراكامي

المُقابلِ:

انتهيتُ مؤخرًا من قراءة مجموعتك القصصية «بعد الزلزال After The Quake» وأدهشتني قدرتك على خلط القصص الواقعية على شاكلة رواية  «الغابة النرويجية » مع قصص أخرى على شاكلة «يوميات طائر الزنبرك» و«أرض العجائب الحارّة ونهاية العالم». هل ترى فرقًا واضحًا بين هذين الشكلين؟

 

هاروكي موراكامي:

أعتقد أن الشكل الأدبي الأقرب إليّ يتمثل في رواية «أرض العجائب الحارة ونهاية العالم»، شخصيًا لا أحب أسلوب الكتابة الوقعي. أفضل الأسلوب السريالي. لكن في حالة «الغابة النرويجية» فكنت قد قررتُ أن أكتبَ رواية واقعية بالكامل. أردتُ أنا أخوض تلك التجربة.

 

المُقابِل:

هل فكرت في الكتابة على أنها تجربة في الأسلوب أم كانت لديك قصة محددة أردت إخبارها وكان ذلك الأسلوب هو الأفضل لها؟

 

هاروكي موراكامي:

لو استمريّت في الكتابة على ذات الأسلوب السريالي، فسيتم تعريفي بهِ. لكني أردت أن أخالف السائد، ولذا كان لزامًا عليّ إثبات قدرتي على كتابة كتابٍ واقعيّ. لهذا كتبت الكتاب، وقد حقق مبيعات كبيرة في اليابان كما توقعت.

 

المُقابِل:

كان خيارك مُخطط له ومقصودٌ إذن.

 

هاروكي موراكامي:

صحيح. الغابة النرويجية رواية سهلة القراءة وسهلة الفهم. كثيرون أعجبهم الكتاب. وربما تكون الرواية مُدخلًا لهم إلى باقي أعمالي، وهو ما يساعدني.

المُقابِل:

القراء الأميركيون والقراء اليابانيون يتشابهون؟ يريدون قراءة قصة سهلة.

 

هاروكي موراكامي:

بيعت من كتابي الأخيرة «كافكا على الشاطئ» في مجلدين حوالي 300 ألف نسخة. تفاجأت أنه بِيع بهذا القدر، لم يكن الأمر عاديًا. القصة معقدة وليست سلسة. لكن أسلوبي النثري سهل القراءة. وينطوي على حِسٍ فكاهي ودرامي يدفع الناس لقراءة الصفحة التالية ثم التي تليها. يوجد توازن سحري بين هذين العاملين، وربما يكون هذا سبب آخر لنجاحي. الأمر رهيب. أكتب رواية كل ثلاثة أعوام، والناس ينتظرونها. عقدت مقابلة ذات مرة مع جون إيرفنگ، وأخبرني بأن قراءة الكتب الجيدة تشبه الحقن المُخدّرة. وفورما يدمن الناس عليها، سيبقون دائمًا في الانتظار.

 

المُقابِل:

لديك رغبة في دفع الناس ليصيروا مُدمنين.

 

هاروكي موراكامي:

هذا ما يقوله جون إيرفنگ.

 

المُقابِل:

هل استخدامك لعامليّ الصوت السردي المباشر والسلس مقرونًا بعامل الحبكة المُثيرة يعد خيارًا واعيًا لديك؟

 

هاروكي موراكامي:

الأمر ليس كذلك. فأنا لا أحيك خطة للكتابة عندما ابدأ بها. أشرع في كتابة القصة وأنتظرها. لا أختار نوع القصة ولا أوجّه أحداثها. أنتظر فحسب. كان الأمر مع الغابة النرويجية مختلفًا، لأني قررت مسبقًا استخدام الأسلوب الواقعي. لكني عامة لا أختار.

 

المُقابِل:

هل تختار صوت الراوي، ذلك الصوت الجامد والسهل؟ هل تختاره واعيًا؟

 

هاروكي موراكامي:

تحضرني الصور وأربطها مع بعضها البعض تباعًا. هكذا يتشكل خط سير القصة. بعدها آخذ في شرح خط سير القصة للقارئ. وعلى المرء أن يكون لطيفًا للغاية لحظة شرحه لأي شيء. وإذا فكرت للحظة أنك تعرف أمرًا ولا تريد شرحه، فهذا غرور. كلمات سهلة وكنايات لذيذة وصورٌ مُعبّرة. وهذا ما أفعله. أشرح بهدوء ووضوح.

 

المُقابِل:

هل يحضرك هذا الأمر طبيعيًا؟

 

هاروكي موراكامي:

لستُ ذكيًا. ولستُ مغرورًا. أنا تمامًا مثل الناس الذين يقرؤون كتبي. كان لدي نادٍ للجاز، واعتدت تجهيز الكوكتيلات والساندويتشات للناس. لم أرد أن أصير كاتبًا. ولكني كتبتُ. الكتابة بالنسبة لي هِبة من السماء، ولذا عليّ أن أكون متواضعًا.

 

المُقابِل:

في أي عمرٍ صرت كاتبًا؟ وهل فاجأك الأمر؟

 

هاروكي موراكامي:

وأنا في التاسعة والعشرين من العمري. ونعم، تفاجأت. لكني اعتدت على الأمر مُباشرة.

 

 

المُقابِل:

مباشرة؟ شعرت بالارتياح منذ أول يوم كتابة؟

 

هاروكي موراكامي:

طفقت أكتب على طاولة المطبخ في منصف الليل. استغرقتُ عشرة أشهر في إنجاز الكتاب الأول وأرسلته لأحد الناشرين وحصلت بعدها على جائزة، وكان الأمر أشبه بالحلم. تفاجأت لحدوث الأمر. لكن بعد لحظة تفكير أدركته، أنا كاتب. ولِمَ لا؟ الأمر بالغ البساطة.

 

المُقابِل:

ما كان شعور زوجتك عند قرارك في التوجه للكتابة؟

 

هاروكي موراكامي:

لم تعلّق على الأمر، وعندما أخبرتها بأني صرتُ كاتبًا، تفاجأت وشَعرتْ بالإحراج نوعًا ما.

 

المُقابِل:

ولِمَ شعرت بالإحراج؟ لم تعتقد أن بإمكانك النجاح؟

 

هاروكي موراكامي:

ثمة ابتذال في فكرة أن يصير المرء كاتبًا.

 

المُقابِل:

من هم قدواتك؟ من أثر عليك من الكتاب اليابانيين؟

 

هاروكي موراكامي:

لم اقرأ للكثير من الكُتاب اليابانيين في طفولتي ولا حتى في مراهقتي. رغبت في الهرب من هذه الثقافة. شعرتُ أنها كان مملة ولزجة.

 

المُقابِل:

ألم يكن والدك مُعلمًا للأدب الياباني؟

 

هاروكي موراكامي:

صحيح. علاقتي بأبي زينها الأدب أيضًا. ولكني اتجهت للثقافة الغربية: موسيقى الجاز ودوستويفسكي وكافكا ورايمند تشاندلر. كان هذا عالمي الخاص، عالمي الخيالي. كان بمقدوري الذهاب إلى سان بطرسبرغ أو إلى هوليوود الغربية إذا رغبت في ذلك. هنا تتمثل قوة الرواية، تهديك القدرة للسفر إلى أي مكان. صار من السهل الآن السفر إلى الولايات المتحدة. يمكن لأي أحد السفر إلى أي مكان يريدونه، ولكن في الستينيات كان الأمر مُستحيلًا تقريبًا. ولذا كانت القراءة والموسيقى طريقتي في السفر. لذتُ بهما مثل الحلم.

 

المُقابل:

وقادك هذا في مرحلة من المراحل إلى الكتابة؟

 

هاروكي موراكامي:

صحيح. عندما كنت في الحادي والعشرين من عمري، بدأت في كتابة رواية دون أي مقدمات. أردت كتابة شيء ما، ولكني لم أعرف كيف. لم أعرف كيف أكتب باللغة اليابانية لأني بالكاد قرأت أية أعمال لكتاب يابانيين، ولذا استعرت الأسلوب والصيغة وكل شيء من الكتب التي قرأتها، من الكتب الأميركية والغربية. ونتيجة لهذه الاستعارة، خرجت بأسلوبي الأصلي. كانت بداية.

 

 

المُقابِل:

نُشر كتابك الأول وحصلت على جائزة وأنت في طريقك لتصير كاتبًا. هل بدأت في مقابلة كُتاب آخرين؟

 

هاروكي موراكامي:

لا. أبدًا.

 

المُقابل:

لم يكن لديك أي أصدقاء كُتاب وقتها؟

 

هاروكي موراكامي:

كلا.

 

المُقابِل:

ومع مرور الوقت، هل قابلت أحدًا صار لاحقًا صديقك أو زميلك؟

 

هاروكي موراكامي:

كلا. أبدًا.

 

المُقابل:

ألا يوجد لديك أي أصدقاء كُتّاب حتى هذا اليوم؟

 

 

هاروكي موراكامي:

كلا.

 

المُقابِل:

ألا تعرض كتاباتك على أحد في أثناء عملك عليها؟

 

هاروكي موراكامي:

إطلاقًا.

 

المُقابِل:

ماذا عن زوجتك؟

 

هاروكي موراكامي:

أريتها المخطوطة الأولى لروايتي الأولى ولكنها تدعي بأنها لم تقرأها نهائيًا! أظنها لم تشكل انطباعًا عن العمل.

 

المُقابِل:

لم تندهش.

 

هاروكي موراكامي:

أصبت. ولكنها كانت المسودة الأولى، وكانت فظيعة. أعدت كتابتها مرارًا وتكرارًا.

المُقابِل:

ماذا عن الآن وأنت تعمل على كتابٍ ما، ألا يثيرها الفضول لتعرف عمّا تكتب؟

 

هاروكي موراكامي:

زوجتي هي قارئتي الأولى دائمًا. أكتب كتابًا، واعتمد عليها، فهي شريكتي في الكتابة إلى حدٍ ما. يذكرني الأمر بسْكوت فيتسجيرالد، حيث كانت زوجته زيلدا قارئته الأولى.

 

المُقابِل:

لم تشعر بأي مرحلة من مهنتك كاتبًا بأنك تنتمي إلى مُجتمع من الكُتّاب؟

 

هاروكي موراكامي:

أنا انطوائي.  لا أحب المجموعات والمدارس والدوائر الأدبية. يوجد في پرينستون مطعم صغير حسبما أتذكر، ودُعيت إليه. حَضَرَتْ فيه آنذاك جويس كارول أوتس وتوني موريسون. خفتُ للغاية لدرجة أنني لم آكل أي شيء. كانت ماري موريسون هناك أيضًا وهي امرأة لطيف جدًا بنفس عمري تقريبًا وصرنا أصدقاء. أما في اليابان، فلا أصدقاء كتّاب لي لأني أحافظ على…… مسافتي.

 

المُقابِل:

كتبت جزءًا ليس بالهين من رواية «يوميات طائر الزنبرك» في الولايات المتحدة. هل أثّر عيشك فيها على عملية الكتابة أو على النص نفسه؟

 

هاروكي موراكامي:

عشتُ خلال سنوات كتابة رواية «يوميات طائر الزنبرك» الأربعة في الولايات المتحدة الأميركية غريبًا. تبعني الإحساس بالغرابة مثل ظلٍ وترك الأثر نفسه على الشخصية الرئيسة في الرواية. وبعد تفكيري بالموضوع، لو كتبت الرواية وأنا في اليابان، لكان قد خرج معي كتاب آخر مختلف تمامًا.

الغرابة التي أشعر بها وأنا في الولايات المتحدة الأميركية تختلف عن الغرابة التي تنتابني في اليابان. كان الإحساس بها في أميركا واضحًا ومباشرًا وأعطتني تقديرًا أوضح لنفسي.  كأني كنت وفي أثناء كتابة الرواية أعرّي نفسيّ، إلى حدٍ ما.

المُقابِل:

هل يوجد كتابٌ حاليين في اليابان تقرأ لهم وتستمتع؟

 

هاروكي موراكامي:

بالطَّبع، ومنهم ريو موراكامي. أحب بعضًا من كُتب بانانا يوشيموتو. ولكني في الآن ذاته لا أحب المُراجعات والنقد. لا أريد الانخراط بهذا.

 

المُقابِل:

ولِم لا؟

 

هاروكي موراكامي:

أؤمن أن عملي يقوم على ملاحظة الناس والعالم لا الحكم عليهم. آمل دائمًا في موضعة نفسي بعيدًا عن الأحكام والخلاصات. أريد أن أترك الأمور مفتوحة على كل الاحتمالات في العالم.

أفضل ترجمة النقد لأن الترجمة لا تلزمك بالحكم على أي شيء. سطر بسطر أدع الأعمال المفضلة عندي تمر عبر جسدي وذهني. نحن نحتاج على النقد في العالم بكل تأكيد، ولكني لستُ ناقدًا.

 

المُقابِل:

بالعودة إلى كتبك: لا بدّ أن أدب التحقيقات الأميركي الساخر[3]  كان موردًا هامًّا لها. متى قرأت لهذا الجنس لأول مرة ومن عرَّفك عليه؟

 

 

 

هاروكي موراكامي:

وأنا أدرس الثانوية العامة استهوتني روايات الجريمة. كنت أعيش وقتها في كوبه، وهي مدينة ساحلية اعتاد الأجانب والبحارة الاجتماع فيها وبيع الكتب ذات الأغلفة الورقية لمكتبات الكُتب المستعملة. كنت فقيرًا، ولكن كان بوسعي شراء كتب الأغلفة الورقية بسعر زهيد. تعلمت الإنجليزية من هذه الكتب وكان الأمر شيِّقًا.

 

المُقابِل:

ما كان أول كتابٍ قرأته بالإنجليزية؟

 

هاروكي موراكامي:

«اسمي آرتشر My name is Archer» للكاتب روس مكدونالد. تعلمت الكثير من تلك الكتب. وفورما بدأت بالتهامها لم يكن بمقدوري التوقف. أحببت في الوقت نفسه القراءة لتولستوي ودوستويفسكي. دفعتني تلك الكتب لقراءة صفحاتها تباعًا، على الرغم من طولها، لم أتوقف عن قراءتها. لا فرق لدي بين دوستويفسكي ورايمند تشاندلر. حتى هذا الوقت، أرى أن كتابتي تكون في أبهى صورها حين أجمع بين صوتيّ دوستويفسكي وتشاندلر في كتاب واحد. هذا ما أرنو إليه.

 

المُقابِل:

متى قرأت كافكا للمرة الأولى؟

 

هاروكي موراكامي:

وأنا في الخامسة عشرة من عمري. قرأت رواية «القلعة»، وكان كتابًا عظيمًا، ثم قرأت «المُحاكمة».

 

المُقابِل:

غريب. لأنّ أيًا من هذه الأعمال لم يكتمل، ما يعني أنها تعقيداتها لم تُحل. رواياتك كذلك، وخصوصًا كتابك الأخير «يوميات طائر الزنبرك»، بدت الرواية كما لو أنها تقاوم إيجاد حلٍ من النوع الذي يتوقعه القارئ. هل كان لكافكا ربما تأثير عليك؟

هاروكي موراكامي:

ليس حصرًا.  لا بد أنك قرأت لرايمند تشاندلر قبلًا. لا تقدّم كتبه نهايات واضحة للقراء. قد يقول إن فلان هو القاتل، ولكن لا يهمني من القاتل. في إحدى الحلقات الماتعة، صنع هاورد هوكس صورة لـ «النوم الكبير». لم يعرف هوكس من هو قاتل الشوفير، فاتصل بتشاندلر وسأله، وأجابه تشاندلر: «لا أهتم». وأشاركه الشعور نفسه. لا تعني النهايات شيئًا إطلاقًا. لا أهتم لهوية القاتل في رواية «الأخوان كارامازوف».

 

المُقابِل:

ولكن يبقى جزء كبير من إبداع وانتشار رواية «النوم الكبير» متمثلًا في الرغبة بمعرفة القاتل؟

 

هاروكي موراكامي:

أنا نفسي وفي أثناء الكتابة لا أعرف من الفاعل. أتشارك والقارئ في هذه الخاصيّة. فعندما ابدأ في كتابة قصة ما، لا أعرف نهايتها ولا أعرف ماذا سيحصل بعد الحدث الحالي. ولو احتوت قصتي على جريمة قتل فلا أعرف من القاتل. أكتب الكتاب لأن ثمة رغبة تعتريني لأعرف. لو كنت أعرف من هو القاتل منذ البداية، فلن يكون أي هدف لدي لكتابة القصة.

 

المُقابِل:

هل ينبع هذا من رغبتك بعدم شرح كتبك؟ لأنها قد تفقد قوتها مثل الأحلام إذا ما خضعت للتحليل؟

 

هاروكي موراكامي:

تتجسد عظمة الكتابة في أنها تمنحك القدرة على الحلم مستيقظًا. لو حلمت حلمًا حقيقيًا فلن تتمكن من السيطرة عليه. ولكن في حالة الكتابة، فأنت مستيقظ، وتختار الزمان والطول وكافة التفاصيل. أواصل الكتابة لأربع أو خمس ساعات في الصباح، وعندما أشعر بالحاجة إلى التوقف، أتوقف. يمكنني الاستمرار حتى حلول اليوم الجديد. لو كان حلمًا حقيقيًا، لما تمكنت من فعل ذلك.

 

المُقابِل:

تدّعي أنك لا تعرف القاتل في أثناء الكتابة، ولكن ثمة استثناء محتمل خَطَرَ لي الآن: شخصية گوتاندا من راوية (رقص رقص رقص). يمكن للقارئ ملاحظة بناء مُتعمد في الرواية يؤدي إلى لحظة اعتراف گوتاندا ، وكما هو الأمر في روايات الجريمة الكلاسيكية، كان گوتاندا آخر شخص قد يشتبه به. ألا يمكن أنك كنت تعرف مسبقًا أنّ گوتاندا كان مذنبًا منذ البداية؟

 

هاروكي موراكامي:

لم أكن أعرف في المسودة الأولى أن القاتل هو گوتاندا. ومع اقترابي من النهاية، أي بعد كتابة ثلثيّ الرواية، عرفت. وبعد عملي على المسودة الثانية أعدت كتابة شخصية گوتاندا. عادة ما تكون المسودة الأولى غير مرتبة وتتطلب قدرًا كبيرًا من المُراجعة.

 

المُقابِل:

كم عدد المسودات التي تعمل عليها قبل النشر؟

 

هاروكي موراكامي:

أربع أو خمس مسودات. أقضي ستة أشهرٍ في كتابة المسودة الأولى، ثم سبعة أو ثمانية أشهر في إعادة الكتابة.

 

المُقابِل:

عملك سريع للغاية.

 

 

هاروكي موراكامي:

أنا كاتبٌ متفانٍ. أركز على عملي بقوة، وهو ما يجعل الكتابة سهلة بالنسبة لي، خصوصًا أني حين أكتب، لا أقوم بأي عمل آخر.

 

المُقابِل:

كيف تخطط ليومك العادي؟

 

هاروكي موراكامي:

عندما أقرر الدخول في جو كتابة رواية، أصحو الساعة الرابعة صباحًا وأكتب لحوالي خمس أو ست ساعات. وفي فترة الظهيرة، أجري عشرة كليو متر أو أسبح مسافة 1500 متر (أو أفعل الأمرين معًا)، وبعدها اقرأ لبعض الوقت، ثم أستمع للموسيقى. أنام في الساعة التاسعة مساءً. ألتزم بهذا الروتين يوميًا دون تغيير. يتحول التكرار إلى أمر بالغ الأهمية مع مرور الوقت ويصير ضربًا من ضروب السحر. ألقي على نفسي تعويذة سحرية لأصل إلى مستويات أعمق من عقلي. وجدير بالذكر أن الالتزام بهذا الروتين لفترة طويلة – ستة أشهر أو سنة – يتطلب قوة ذهنية وصحة بدنية. لذا تعتبر كتابة رواية طويلة بالنسبة لي تمرينٌ لقدرتي على البقاء حيًا في ظروفٍ غير مواتية. وأؤكدّ أن القوة الجسدية ضروريّة ضرورة الحساسيّة الفنيّة.

 

المُقابِل:

اسمح لي بسؤالك عن شخصيات أعمالك. إلى مدى تصير الشخصيات حقيقية في أثناء عملك عليها؟ هل تجد أي أهمية في أن يكون لها حياتها المستقلة عن القصة والسرد الروائي؟

 

هاروكي موراكامي:

أميلُ إلى مشاهدة الناس الحقيقين في حياتي عند خلقي للشخصيات الجديدة في كتبي. لا أحب التكلم كثيرًا، وأحب الاستماع لقصص الآخرين. لا أصنّف الناس ولا أحكم عليهم، أحاول قدر المُستطاع أن أفكر فيما يشعرون وإلى أين يذهبون بحياتهم. أجمع بعض الحقائق للشخصية من هذا الرجل وأخرى من تلك الفتاة. لا أدري ما إذا كان فعلي هذا معقول أم لا، ولكني أرى شخصيات أعمال الروائية حقيقية أكثر من الأشخاص الحقيقيين، وخلال الشهور الستة أو السبعة التي أكتب فيها عملًا ما، تكون هذه الشخصيات في داخلي. كأنني كونٌ في ذاتي.

 

المُقابِل:

نجد أن شخصياتك الرئيسية عادة ما تكون انعكاسٌ لوجهة نظرك في العالم الفانتازي لقصصك ولسردك، كأن تكون أنت الحالِم في الحُلم.

 

هاروكي موراكامي:

أرجو منك أن تفكر بالأمر كالآتي: لدي أخٌ توأم. وعندما كنتُ في الثانية من عُمري، اُختطف أخي، وأُخذ إلى مكان بعيد ولم نره من وقتها. أفكر دائمًا في الشخصيات الرئيسة كأنها أخي. نعم هي جزء مني ولكنها ليست أنا، ولم نر بعضينا منذ زمن سحيق.  كأن يكون لي وجودٌ بديل. من ناحية بيولوجية، نحن توأم ونتشارك نفس الدنا (DNA)، ولكن الظروف المحيط بكل منا شكَّلتنا بطريقة مختلفة، وعليه فإن طريقة تفكيرنا بالعالم تختلف. وفي كل مرةٍ أشرع فيها بكتابة رواية، أكون شخصًا آخر، لأني في بعض الأحيان أكون متعبًا من نفسي. يتيح هذا الخيار لي الهرب. أنظر إلى الكتابة كأنها عالم خيالي بديل، ولو لم يكن للمرء ملجأ خيالي، فلماذا عساه يكتب؟

 

المُقابِل:

استفسار آخر عن رواية «أرض العجائب الحارّة». ثمة نوع من التناسق فيها وصفة رسمية إلى حدٍ ما، كما أنها تتميز بنوع من الدقة غير الموجودة في أعمالك اللاحقة مثل «يوميات طائر الزنبرك». هل تغيرت أفكارك عن وظيفة وأهمية النسق الروائي في مرحلة ما؟

 

هاروكي موراكامي:

نعم. لم تنشر أول روايتين لي خارج اليابان، وهذا نابع من رغبتي في ذلك، فهي أعمال غير ناضجة، وأراها كتب صغيرة من وجهة نظري. كانت أعمالٌ رديئة، إن صح التعبير.

 

 

المُقابِل:

ما المشكلة فيها؟

 

هاروكي موراكامي:

كنت أحاول في أعمالي الأولى تقويض/تفكيك الرواية اليابانية التقليدية، وما أقصده بالتقويض/التفكيك هنا، أي إلغاء تقاليدها الداخلية والمحافظة على إطارها المرجعي/شكلها الخارجي. تعيَّن علي بعدها ملأ هذا الإطار بمحتويات جديدة وأصلية. واكتشفت طريقة التعبئة الناجحة في كتابي الثالث، مطاردة الخراف الجامحة في عام 1982. ساعداني أول كتابين في الوصول إلى الكتاب الثالث، وليس أكثر. أعتبر رواية مطاردة الخراف الجامحة البداية الأساسية لأسلوب كتابتي الخاص.

ومنذ ذلك الوقت، يزداد عدد صفحات كتبي الواحد تلو الآخر، وتصير بُناها أكثر تعقيدًا مع الزمن. كلما كتبت كتابًا جديدًا، أسعى لتدمير البنية السابقة التي استخدمتها، ولبناء شيء جديد. وأضع في كل مرةٍ موضوع جديد أو قيود جديد أو رؤية جديدة في داخل الكتاب. أبقى واعيًا طوال الوقت للبنية. وإذا تغيرت البنية، يتعين علي تغيير الشكل النثري بالتوازي. أما إذا كررت ما أفعله دائمًا تمامًا، فسيصيبني هذا بالملل.

 

المُقابِل:

ولكن كما تغيرت كثير من عناصر كتابتك، بقي بعضها حتى هذه اللحظة. تٌروى أعمالك دائمًا بضمير المُتكلم. ويوجد في كل رواية شخصية رجلٍ متعدد العلاقات الجنسية، وفي كل الروايات تكون علاقته تجاه النساء سلبية بحيث تكون هاته النساء تعبيرًا عن مخاوفه وأوهامه.

 

هاروكي موراكامي:

في كتبي وقصصي، تكون النساء أوعية أو شخصيات مُضيفة إلى حد ما، وتكون وظيفتها أن تسمح لأمر ما بالتجسد عبر شخصياتها. تصير المرأة في هذه الحالة نظامًا يجب تجريبه. تُقاد شخصية البطل في أعمالي دائمًا إلى مكانٍ أو كشفٍ ما عبر هذا الكائن الوسيط، وتكون رؤاه ومعرفته عن العالم معروضة للقارئ عبر المرأة نفسها.

 

 

المُقابِل:

أتقصد استخدام فكرة المرأة وسيطًا كما كانت في العصر الڤيكتوري؟ وسائط جسدية؟

 

هاروكي موراكامي:

أنظرُ إلى الجنس على أنه… التزام روحيّ، فلو كان الجنسٌ ماتعًا، ستشفى جروحك، وسيصير خيالك خصبًا. أرى في الجنس طريقًا وممرًا إلى المناطق العُليا من العقل، إلى أماكن أفضل. وبناءً على هذا، تكون شخصيات النساء في قصصي وسيطة ومُبشِّرة بالعالم القادم، ولهذا تكون هي من تأتي إلى البطل، وليس هو من يذهب إليهنّ.

 

المُقابِل:

يبدو أنه يوجد نوعان متمايزان من النساء في رواياتك: أولئك اللواتي يكون فيها البطل على علاقة جدية معهن، وغالبًا ما تختفي هذه النساء وتلاحقهن الذاكرة وأولئك اللواتي يأتين متأخرات في حياة البطل ويساعدنه في البحث أو على النسيان. وتميل نساء النوع الثاني ليكنّ صريحات وغريبات أطوار وواضحات جنسيًا، ويتفاعل الكاتب معهن بدفء وحس فكاهي أعلى مما يتفاعل مع النساء المفقودات واللواتي لم يتمكن من التواصل معهن على أي مستوى من المستويات. ما الهدف من استخدام هذه القوالب؟

 

هاروكي موراكامي:

غالبًا ما تكون شخصية البطل في أعمالي عالقة بين العالم الروحي والعالم الحقيقيّ. تكون النساء -أو الرجال- في العالم الروحي هادئات وذكيات وحكيمات ومتواضعات. أما في العالم الحقيقي، فالنساء نشيطات جدًا وخفيفات وحاضرات، ولهن حس فكاهي واضح، وتنقسم الشخصية بين هذين العالمين المتمايزين ولا يعود بإمكانها الاختيار. أعتقد أن هذه إحدى أهم المواضيع الرئيسة في أعمالي. ويمكنك أن تجدها جهارًا نهارًا في رواية «أرض العجائب الحارّة»، حيث ينقسم عقل البطل فعليًا وجسديًا. الأمر نفسه ينطبق على الغابة النرويجية، حيث توجد فتاتان ولا يمكن للبطل أن تختار فيما بينهنّ، منذ بداية الرواية وحتى آخرها.

 

 

 

المُقابِل:

أتعاطف دائمًا مع الفتاة ذات الحس الفكاهي. من الأسهل السماح للقارئ بالدخول في علاقة يكون الحس الفكاهي فيها هو العامل الرئيس، ويكون من الصعب أن تقنع القارئ بشخصية تحمل مفهومًا جديًا عن علاقة الحُب. في الغابة النرويجية، كنت أقف في صف ميدوري طوال الوقت.

 

هاروكي موراكامي:

أعتقد أن كل القراءة يشاطرونك الرأي، فأغلبهم سيختارون ميدوري، كما أن البطل يختارها في نهاية المطاف، ولكن يبقى جزء كبير منه في العالم الآخر، ولا يمكنه تركه، فهو جزء لا يتجزأ منه. لدى كل البشر جزء مريض في عقولهم. ذلك الفضاء جزء منه. لدى كل منا جزء عاقل في أدمغتنا وجزء مجنون. ويوجد تفاوض دائم بين هذه الأجزاء، حسبما أرى. ويتبدّى الجزء المجنون من دماغي واضحًا لي وأنا أكتب… لا أعتقد أن كلمة مجنون هي الأنسب هنا. الجزء غير العادي أو غير الواقعي. عليّ العودة إلى العالم الواقعي بالطبع، وأن أختار الجزء العاقل، ولكنّي إذا لم أمتلك الجزء المجنون أو الجزء المريض، فلن أكون هنا. لأعيد صياغة ما أقول: تدعم شخصية البطل امرأتين، وبدون أي منهنّ، لا يعود بإمكانه المواصلة، وتعتبر رواية «الغابة النرويجية» خير مثال على ما أفعله في كتاباتي.

 

المُقابِل:

تبدو الآن شخصية ريكو في «الغابة النرويجية» أكثر غموضًا، فأنا لا أعرف كيف أصنفها لأن لها موطئ قدمٍ في العالمين معًا.

 

هاروكي موراكامي:

ريكو نصف عاقلة ونصف مجنونة. وكأنها ترتدي قناعًا إغريقيًا، لو نظرت إليها من جانب ما، فهي تبدو شخصية تراجيدية، ولو نظرت إليها من الجانب الآخر، فهي شخصية كوميدية، وهو ما يجعلها تمامًا شخصية رمزية. أحب شخصيتها جدًا. كنتُ مسرورًا جدًا عندما كتبت شخصية العزيزة ريكو.

 

 

 

المُقابِل:

هل تشعر بانجذاب خاص إلى شخصياتك الكوميدية، مثل ميدوري[4] وماي كاشارا[5]، أكثر من انجذابك إلى الشخصيات مثل ناوكو[6]؟

 

هاروكي موراكامي:

تستهويني كتابة الحوارات الكوميدية، فهي ممتعة، ولكن لو كانت كل شخصياتي كوميدية، فستكون أعمالي مملة. أستخدم الشخصيات الكوميدية كطريقة لأحافظ على استقراري العقلي، فوجود حس فكاهيٍ أفضل ما يفعل ذلك. ولكي تكون ذا حسٍ فكاهيٍ يُوجب عليك أن تكون خفيفًا. عندما تكون جادًّا، فقد تكون غير مستقرٍ، وهنا مشكلة الجدية. أما إذا كنت ذا حسٍّ فكاهي، فأنت مستقر، ولكن لا يمكنك خوض الحرب مُتبسِّمًا.

 

المُقابِل:

كتب كثير من الكُتّاب هواجسهم وأعادوا كتابتها دون إرادتهم، تمامًا مثلما فعلتَ أنت. فأعمال مثل «أرض العجائب الحارّة» و«رقص رقص رقص» و«يوميات طائر الزنبرك» و«سپوتنيك الحبيبة» تطلب أن تقرأ كما لو أنها أعمال مختلفة لنفس الموضوعة: رجل فقدَ أو تُركَ من شخص آخر يثير رغبته، ويصير بعدها مجذوبًا بعدم قدرته لنسيانها إلى عالم موازٍ يبدو وكأنه يقدم له إمكانية استعادة ما كان قد فقده، إمكانية يعرف هو (والقارئ) أن الحياة كما يعرفها يستحيل أن تقدمها. هل توافقني على هذا التوصيف؟

 

هاروكي موراكامي:

نعم.

 

المُقابِل:

ما مدى مركزية هذا الهاجس في أعمالك؟

هاروكي موراكامي:

لا أدري لِمَ أواصل كتابة هذه المواضيع. يوجد شخصية في كل كتابات جون إيرفنگ دائمًا تكون قد فقدت عضوًا من جسدها. لا أدري لم يواصل الكتابة عن الأجزاء المفقودة، رُبَّما هو لا يعرف أيضًا. ينطبق الأمر نفسه عليّ. يفتقد بطل روايتي على الدوام لأمرٍ ما، ويأخذ في البحث عنه، مثل الكأس المُقدَّسة أو مثل شخصية فيليپ مارلو.

 

المُقابِل:

لن تحتاج إلى مُستقصٍ إلا إذا فقدت أمرًا ما.

 

هاروكي موراكامي:

تمامًا. عندما يفقد بطل روايتي أمرًا ما، تقع على كاهله مسؤولية البحث عنه. يصير البطل مثل أوديسيوس، حيث يواجه الكثير من الأمور الغريبة في رحلة البحث.

 

المُقابِل:

في طريق عودته إلى البيت.

 

هاروكي موراكامي:

عليه أن ينجو من تلك التجارب، وفي النهاية يجد ما كان يبحث عنه، ولكنه لا يعود متأكدًا ما إذا كان ما وجده هو ما فقده. هنا تكمن الموضوعة الثانوية في أعمالي. من أين تأتي هذه الأفكار؟ لا أعلم، إلا أنها تناسبني، وهي القوة الدافعة لقصصي: الفقد والبحث ثم العثور. وتكون خيبة الأمل هي الوعي الجديد بالعالم.

 

المُقابِل:

خيبة الأمل بوصفها طقسٍ للعبور؟

 

هاروكي موراكامي:

هذا ما أعنيه. تصير التجربة بحد ذاتها معنىً. وقد تغير البطل في أثناء خوضه لهذه التجربة، وهذا هو محور العمل. ليسَ في ما وجده، بل في ما صار إليه.

 

المُقابِل:

أود سؤالك عن ترجمة أعمالك، بما أنك أنت نفسك مترجم، خصوصًا لإدراكك للخطورة التي تنطوي عليها الترجمة. كيف تختار مترجمي أعمالك؟

 

هاروكي موراكامي:

لدي ثلاثة مترجمين مُفضلين، والقاعدة عندي: من يأتي أولًا، يحصل على فرصة الترجمة. نحن أصدقاء وصريحون ولذلك فهم يقرؤون أعمالي، ثم يقرر أحدهم بأن العمل أعجبه وأنه يود ترجمته، وأعطيه له. وبصفتي مترجمًا، أعلم أن الحماس للترجمة أهم جزء في العملية، لأن المترجم مهما كان مُحترفًا، لو لم يكن يُحب الكتاب لدرجة عالية، فستكون الترجمة رديئة. تتطلب الترجمة جهدًا ووقتًا كبيرين.

 

المُقابِل:

ألا يتقاتل المترجمون الثلاثة على أعمالك فيما بينهم؟

 

هاروكي موراكامي:

البتّة. لكل واحد منهم تفضيلاته في النهاية، ولكل منهم شخصية مُختلفة. عند الحديث مثلًا عن رواية «كافكا على الشاطئ»، أُعجب بها فِل، ولكن جاي لم يكن متحمسًا لها. فِل شخص متواضع ومؤدّب. أما جاي فهو صاحب شخصية قوية وشديد الانتباه إلى التفاصيل. ألفريد بوهيميّ إلى حدّ ما ولا أعرف مكانه في هذه اللحظة، فهو قد تزوج امرأة ناشطة من ماينمار. تعتقلهم الحكومة بين الفينة والأخرى. ألفريد شخص لطيف وحُر كما يجب أن يكون أي مُترجم، إلى الحد الذي يجعله يغير في النص الذي يترجمه أحيانًا. هذا هو أسلوبه.

 

 

المُقابِل:

كيف تتعاون مع مترجميك؟ حدّثني عن سير العملية.

 

هاروكي موراكامي:

يسألونني عن كثير من الأمور في أثناء الترجمة، واقرأ العمل لأول مرة عند تجهيز المسودّة الأولى. أقترح عليهم تعديلات أحيانًا. النسخة الإنجليزية لرواياتي تحمل أهمية كبيرة لأن بعض الدول الصغيرة، مثل كرواتيا وسلوڨينيا، تترجمها عن الإنجليزية لا عن اليابانية، وهذا يوجب أن تكون الترجمة دقيقة. أما في أغلب دول العالم فتترجم أعمالي عن النصوص اليابانية الأصلية مُباشرةً.

 

المُقابِل:

هل يعكس تفضيلك لترجمة الكتاب الواقعيين مثل كارڨر وڨيتزجيرالد وإيرفنگ ذوقك القرائيّ؟ أم أن ترجمتك لهم تساعدك في كتابتك كطريقة لغمس نفسك في أسلوب كتابي يختلف عنك؟

 

هاروكي موراكامي:

كل من ترجمتُ لهم كتبوا أعمالًا تعلمت منها أمرًا أو اثنين. وهذا هو أهم ما في الموضوع. أتعلم كثيرًا من الكُتّاب الواقعيين، لأن عملهم يتطلب نوعًا من القراءة النقدية المتروية لتكون قادرًا على ترجمته، وبإمكاني أن أرى أسرارهم. لو كنت أترجم الأعمال ما بعد الحداثية لكتاب مثل دون ديليو أو جون بارث أو توماس پينشون، فسيحصل صدام… جنوني ضد جنونهم. أُحب أعمالهم بدون منازع، ولكني عندما أترجم، أختار الكُتب الواقعيين.

 

المُقابِل:

غالبًا ما يُشار إلى أعمالك على أنها أكثر وأسهل الأعمال اليابانية الأدبية وصولًا ومقروئية لدى القارئ الأميركي إلى الدرجة التي صرت فيها أنت نفسك تحمل لقب أحد أشهر الكتاب الغربيين اليابانيين. أودّ سؤال عن رأيك بعلاقتك بالثقافة اليابانية؟

 

 

هاروكي موراكامي:

لا أريد الكُتابة عن أجانب في أراضي أجنبية غريبة، بل أريد الكتابة عنَّا. أريد الكتابة عن اليابان وعن الحياة فيها. وأرى هذا مُهم بالنسبة لي. كثير من الناس أخبروني بأن أعمالي ذات مقروئية عالية عند الغربيين، وقد يكون هذا صحيح، إلا أن قصصي تخصني، وليست مُغرْبَنة.

المُقابِل:

كثير من مرجعياتك وإشاراتك التي تبدو غربية بالنسبة للأميركيين هي في واقع الأمر جزء لا يتجزأ من المشهد الثقافي الياباني، مثل البيتلز.

 

هاروكي موراكامي:

عند كتابتي عن أناس يأكلون الهامبرغر من ماكدونالدز، يستعجب الأميركيين ويسألون عن سبب أكل هذه الشخصية للهامبرغر بدلًا من التوفو، وما لا يدركونه أن أكل الهامبرغر في اليابان أمر طبيعي للغاية.

 

المُقابِل:

هل بمقدورك الادّعاء بأن أعمالك تصور حياة اليابان الحضرية المُعاصرة بدقة؟

 

هاروكي موراكامي:

الطريقة التي تتفاعل فيها الشخصيات وتتحدث وتفكر في أعمالي يابانية للغاية. لم يعترض أي قارئ ياباني إطلاقًا على إعمالي تحت ذريعة أن قصصي تختلف عن حياتهم. أحاول على الدوام الكتابة عن اليابانيين. أريد الكتابة عنّا وعن تطلعاتنا. هذا هو موضوعي حسبما أظن.

 

المُقابِل:

ذكرت قبلًا في إشارتك إلى «يوميات طائر الزنبرك» بأنك كنت مهتمًا بوالدك وبما حصل معه وبكل جيله، ولكن الغريب هو غياب أي عنصر أبويّ في الرواية، وفي أي من أعمالك أيضًا. كيف يظهر اهتمامك بأبيك في الكتاب؟

 

هاروكي موراكامي:

كتبت كل رواياتي تقريبًا بضمير المتكلم. تتمثل وظيفة بطلي الأساسية في مراقبة الأمور تحدث من حوله، وبالتالي فهو يرى ما عليه رؤيته، أو ما يفترض به رؤيته.  تشبه شخصية بطلي شخصية نيك كاراواي في رواية «گاتسبي العظيم». فهو محايد، وللحفاظ على حياديته، عليه التخلص من علاقته القريبة والتحرر من أي علاقة عائلية رأسية.

أعتبر هذا ردّي على الحقيقة القائلة أن «العائلة» تؤدّي دورًا أساسيًا في الأدب الياباني التقليدي. أردت أن أصور بطلي على أنه فرد مُطْلَق ومُستقل. وشخصيته بوصفه جوّالًا في المدينة تساهم في بناء هذا التصور عنه. بطلي شخصية تختار الحُرية والعُزلة بدلًا من الحميمية والروابط الشخصية.

 

المُقابِل:

وأنا أقرأ قصة «الضفدع الخارق ينقذ طوكيو» في مجموعتك القصصية الأخيرة، والتي يحصل فيها أن دودة فضائية عملاقة تسكن تحت طوكيو تُهدد بتدميرها، لم أتمكن من التوقف عن التفكير في المانغا وأسلوب أفلام الوحوش اليابانية القديمة. كما توجد أيضًا في اليابان أسطورة تقليدية عن السمكة القطة العملاقة التي تسكن في خليج اليابان وتستيقظ مرة كل خمسين عامًا مُسببة زلزالًا. هل لهذه الإشارات أي أثر عليك؟ ماذا عن المانغا؟ هل لأي من ذلك علاقة بأعمالك؟

 

هاروكي موراكامي:

كلا، لا أعتقد بوجود علاقة. لست من معجبي المانغا المهووسين ولم أتأثر بأي مما قلت.

 

المُقابِل:

ماذا عن الفلكلور الياباني؟

 

هاروكي موراكامي:

في صغري، سمعت الكثير من القصص اليابانية الفلكلورية والقديمة، ولمثل هذه القصص أهمية كبرى في وقت ترعرع المرء. قد تكون فكرة الضفدع الخارق من مستودع القصص الفلكلورية. للأميركيين مستودع قصصهم وللألمانيين والروسين وهلم جرًّا. ولكن يوجد مستودع قصص مُشترك يمكن للكل أن يرده، مثل رواية الأمير الصغير وماكدونالدز والبيتلز.

 

المُقابِل:

مستوع الثقافة الشعبية العالمية.

 

هاروكي موراكامي:

للسرديات أهمية بالغة في كتابات اليوم. لا ألقي بالًا بالنظريات. لا أهتم بالمفردات. ما يهمني فقط هو السرد والسرد فقط. لدينا الآن نوع جديد من الفلكلور والذي نتج عن عالم الإنترنت. كأن في الأمر كناية ما. لقد شاهدت فيلم «المصفوفة The Matrix» وأراه كقصة فلكلورية للعقل المُعاصِر، ولكن الناس في اليابان قالوا بأنه مُمل.

 

المُقابِل:

هل شاهدت قبلًا فيلم هايو ميازاكي «المخطوفة Spirited Away»؟ يبدو لي أن ثمة تشابهات بينه وبين أعمالك، خصوصًا أنه أيضًا يتلاعب بالمواد الفلكلورية بطرق معاصرة. هل تستمع بأفلامه؟

 

هاروكي موراكامي:

كلا. لا أحب أفلام الأنمي. تابعت جزءًا قصيرًا من الفيلم، ولكنه لم يستهوني. ولا أستمتع بهذا النوع من الأعمال. عندما أكتب رواياتي، تحضرني صُورة، وتكون تلك الصورة راسخة للغاية.

 

المُقابِل:

هل تذهب إلى السينما عادة؟

 

 

هاروكي موراكامي:

نعم. طوال الوقت. مُخرجي المفضل فنلنديّ واسمه آكي كوريسماكي. أعجبتني كل أفلامه، لخروجه عن المألوف طوال الوقت.

 

المُقابِل:

بالإضافة إلى كونهِ طريف.

 

هاروكي موراكامي:

طريف للغاية.

 

المُقابِل:

ذكرتَ آنفًا أن الحس فكاهي مُهم في المحافظة على الاستقرار العقلي. هل تراه مفيدًا في أي أمرٍ آخر؟

 

هاروكي موراكامي:

أريد لقرائي أن يضحكوا بين تارة وأخرى. يقرأ كثير من اليابانيين كُتبي وهم يستقلون القطار. يقضي موظفو الياقات البيضاء المتفانون[7] في اليابان ساعتين يوميًا في عمليات التنقل، ويستغلونها في القراءة. ولهذا تطبع أغلب رواياتي في كتابين (جزئين)، لأنها ستكون ثقيلة إذا طبعت في كتابة واحد. تصلني رسائل من قراء يشتكون من أن رواياتي تجعلهم يضحكون وهم في القطارات! الأمر محرجٌ لهم. هذه الرسائل هي الأحب إلى قلبي. بها أعلم أنهم يضحكون وهم يقرؤون كتبي، وهذا أمر جيد. أحب دفع الناس للضحك كل عشر صفحات مرة.

 

 

المُقابِل:

أهذه صيغتك السرية؟

 

هاروكي موراكامي:

لا أحسب الأمر تمامًا، ولو تمكنت، فسيكون عظيمًا. أحببت قراءة أعمال كيرت فونگت وريتشارد بروتيگان في سنين الجامعة. تمكنوا من إظهار حسهم الفكاهي مع أن أعمالهم كُتبت بقدرٍ كبير من الجديّة. تستهويني هذه الكتب. المرة الأولى التي قرأت فيها فونگت وبروتيگان، تفاجأت أن مثل هذه الكتب موجودة أصلًا! كان الأمر أشبه باكتشاف العالم الجديد[8].

 

المُقابِل:

ولكنك لم تحاول أن تكتب أعمالًا مثلها؟

 

هاروكي موراكامي:

أرى هذه الحياة المدينية الحضرية على أنها مهزلة. أجهزة تلفاز بأكثر من 50 قناة، والأغبياء في الحكومة… نحن نعيش ملهاة، ولذلك أحاول أن أكون جديًا، وكلما زدت من جديتي، صرت هزليًّا أكثر. كنت جادًا للغاية وأنا في التاسعة عشرة من عمري بين عامي 1968 و1969. كانت أوقاتًا جديّة، واعتاد الناس وقتها فكرة المثالية.

 

المُقابِل:

من المُدهش أن روايتك «الغابة النرويجية»، والتي تدور أحداثها في تلك الفترة، أن تكون أقل أعمالك فكاهة.

 

 

 

هاروكي موراكامي:

يمكن أن تستنتج من ذلك أن جيلنا جيل جديّ، ولكن عندما تتذكر تلك الأيام ستراها هزلية للغاية! عشنا أوقاتًا غريبة، ولذلك فنحن _جيلي_ معتادون على الأمر.

 

المُقابِل:

يعد عدم جلب الاهتمام إلى العناصر الفانتازيّة في قصتك أحد أهم القواعد المحورية للواقعية السحرية، ولكن تجاهلت هذه القعدة: شخصياتك تُعلق دائمًا على غرابة خط سير القصة وتحفز القارئ ليلاحظها. ما الهدف من ذلك؟ ولماذا؟

 

هاروكي موراكامي:

سؤالك لذيذ. دعني أفكر فيه… أعتقد أن هذا ينبع من ملاحظتي لغرابة العالم. يختبر أبطالي ما أختبره في أثناء كتابتي للقصة، وهو ما يختبره القارئ أيضًا خلال قراءته لأعمالي. يكتب غارثيا ماركيز وكافكا أدبًا… أدبًا كلاسيكيًا، أما قصصي فهي حقيقية ومعاصرة وتحتوي في داخلها تجربة ما بعد حداثية. فكِّر في قصصي على أنها موقع تصوير أفلام، بحيث تكون كل الأدوات المساعدة على تصوير الفيلم موجودة… الكتب في الأرفف على الحائط، ولكنها مزيفة، فالحيطان مصنوعة من الورق. من ناحية الواقعية السحرية، تكون الحيطان والأرفف حقيقية، ولكن لو كان أي شيء زائف في رواياتي، فأحب أن أشير إلى أنه زائف. لا أريده أن يؤدي دوره كعنصر حقيقيّ.

 

المُقابِل:

لنواصل استخدم استعارة موقع تصوير الفيلم، ألا يُظهر سحب الكاميرا إلى الوراء قليلًا باقي الاستديو؟

 

هاروكي موراكامي:

لا أريد إقناع القارئ بأن الحيطان والأرفف حقيقية، أريده أن يراها كما هي. أرغب بتذكير القارئ بأنه يقرأ قصة، قصة زائفة. لكنك حين تختبر الزائف على أنه حقيقي، يصير حقيقيًا. يصعب الشرح أكثر من ذلك.

في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، قدّم الكتّاب للقراء العالم الحقيقي كما هو، وكذا كانت مهمتهم. في رواية «الحرب والسلام» يصف تولستوي أرض المعركة للدرجة التي يراها القارئ أمامه حقيقةً. لا أريد أن أكتب بهذه الطريقة. لن أتظاهر بأن المشهد حقيقيّ. نعيش في عالم زائف، ونشاهد أخبارًا مسائية زائفة ونخوض حربًا زائفة. حكومتنا زائفة. إلا أننا نعثر على الحقيقي في هذا العالم الزائف. وعلى قصصنا أن تكون هكذا، أن نمشي في وسط مشاهد زائفة، ولكنا نحن، وفي أثناء مشينا بين هذه المشاهد، حقيقيون. المواقف حقيقية، بمعنى أن ثمة التزام يتولد… وعلاقة حقيقية معها. هذا ما أريد الكتابة عنه.

 

المُقابِل:

نجدك في أعمالك تعاود كتابة تفاصيل الحياة العادية والمملة.

 

هاروكي موراكامي:

تستهويني التفاصيل. كان تولستوي يكتب التفاصيل بشمولها، أما أنا فأركّز كتابة التفاصيل على مساحة غاية في الصغر. بوصفك لتفاصيل الأمور الصغيرة، يصير تركيزك مشحوذًا أكثر، ولكن في حالة تولستوي، يحصل العكس، تصير الحالة غير حقيقية. هكذا أريد لكتاباتي أن تكون.

 

المُقابِل:

أن تركز عن قرب إلى الدرجة التي تتجاوز فيها منطقة الواقعية ومنطقة الحياة اليومية بحيث يصير الابتذال غريبًا؟

 

هاروكي موراكامي:

كلما اقتربتَ أكثر، تبتعد عن الواقع أكثر. هذا أسلوبي.

 

المُقابِل:

ذكرتَ آنفًا أن كافكا وغارثيا مركيز يكتبون الأدب، وهذا يأتي على النقيض من أعمالك، ألا تعتبر نفسك كاتبًا للأدب؟

 

 

هاروكي موراكامي:

أكتب الأدب المُعاصر، والذي يختلف تمام الاختلاف عما كتبوه. في عصر كافكا مثلًا، لم يكن لديهم إلا الموسيقى والكتب والمسرح، أما الآن فلدينا الإنترنت والأفلام وتأجير أشرطة الفيديو والكثير من وسائل التسلية. صارت المنافسة على انتباه الناس عالية في عصرنا، والمعضلة الرئيسية التي تواجهنا جميعًا هي الوقت: في القرن التاسع عشر، كان لدى الناس – أتحدث عن الطبقة الغنية – الكثير من الوقت ليضيعوه، ولذلك كانوا يقرؤون الكُتب الكبيرة. اتجهوا إلى الأوبرا وجلسوا فيها لثلاث أو أربع ساعات. سيكون من العظيم لو قرأ الناس رواية «موبي ديك» أو أعمال دوستويفسكي، ولكن لا وقت لديهم. نتيجة لكل ما قلته، لقد تغير وجه الأدب جذريًا، وصار علينا أن نمسك الناس من تلابيبهم وأن ندفعهم للقراءة. صار كتاب الرواية المُعاصرون يلجؤون إلى تقنيات من أجناس وأنواع فنية أخرى مثل الجاز وألعاب الفيديو غيرها في أعمالهم. أعتقد أن ألعاب الفيديو الآن الأقرب إلى الروايات من أي أمر آخر.

 

المُقابِل:

ألعاب الفيديو؟

 

 

هاروكي موراكامي:

نعم. عن نفسي، لا أحب ألعاب الفيديو، ولكني ألاحظ التشابهات بينها وبين الرواية. أشعر في أثناء كتاباتي بأني أصمم لعبة فيديو، وفي الوقت نفسه، أشعر بأني اللاعب. صممت برنامجًا، وصرت في داخله، ولا يعرف ساعدي الأيسر ما يفعله ساعدي الأيمن. ثمة انفصال واقع. شعور بالانشطار.

 

المُقابِل:

هل تحاول أن تقول بأن وعلى الرغم من عدم معرفتك لما يحصل من أحداث في أثناء الكاتبة، إلا أنّ جزءًا منك يعرف ما سيحصل؟

 

 

هاروكي موراكامي:

بشكل غير واعي أعتقد. لحظة انغماسي في الكتابة، أعرف بشعور المؤلف وأعرف بشعور القارئ، وهو ما يمنحني سرعة في الكتابة، لأني أرغب بمعرفة ما سيحصل تاليًا بقدر ما يرغب القارئ، ولكن يجب عليك إيقاف تدفق التيار في بعض الأحيان، مثلًا، لو كان سريعًا للغاية، سيتعب الناس وسيملّون. ينبغي لك أن تساعدهم على التوقف في بعض المراحل.

 

المُقابِل:

وكيف تفعل ذلك؟

 

هاروكي موراكامي:

يراودني شعور. أعرف أن الوقت صار مُناسبًا للتوقف.

 

المُقابِل:

كيف تستفيد من الجاز والموسيقى بشكل عام في أعمالك؟

 

هاروكي موراكامي:

بدأت بالاستماع إلى الجاز منذ كنت في الثالثة عشرة من عمري، وللموسيقى تأثير كبير قوي عليّ: الأوتار، الألحان، الإيقاع، وتعينني موسيقى البلوز على الكتابة. رغبت في الماضي بخوض تجربة الموسيقى، ولكني لم أتمكن من العزف على الآلات بدقة، فصرت كاتبًا. ثمة تشابه بين كتابة رواية وعزف آلة موسيقية: أبدأ أولًا بعزف المُقدّمة، ثم آخذ بالارتجال، وبعدها تكون الخاتمة.

 

المُقابِل:

في مقطوعات الجاز التقليدية، تُعزف المُقدّمة مرة أخرى في الخاتمة، هل تفعل المثل؟

 

هاروكي موراكامي:

بين الفينة والأخرى. أنظر للجاز على أنه رحلة… رحلة ذهنية. رحلة لا تختلف عن الكتابة.

 

المُقابِل:

من هم مغنو الجاز المفضلين لديك؟

 

هاروكي موراكامي:

كثيرون! أحب ستان گيتس وگيري موليگان، لأنهم كانوا في سنين مراهقتي من أفضل الموسيقيين. أحب أيضًا الاستماع إلى مايلز دافيز وتشارلي باركر. ولو سألني لمن أستمع أكثر، فستكون إجابتي: مايلز في فترة الخمسينات والستينات. طالما كان مايلز بديعًا، والتزم بثوراته الفنية… أحبه جدًا.

 

المُقابِل:

هل تستمع لكولترين؟

 

هاروكي موراكامي:

نعم ولا. فهو يبالغ أحيانًا، ويصير ملحاحًا.

 

المُقابِل:

هل تستمتع لأي أنواع موسيقية أخرى؟

 

 

 

 

هاروكي موراكامي:

أحب الموسيقى الكلاسيكية، وخصوصًا الموسيقى الباروكية[9]. وفي كتابي الجديد «كافكا على الشاطئ»، يستمع بطلي إلى موسيقى راديوهيد وپرينس.

 

المُقابِل:

كما هو متوقع.

 

هاروكي موراكامي:

قرأت قبل فترة الملاحظات على ألبوم Kid A لراديوهيد، وقال أنه مُعجب بكتبي، وكنت فخورًا جدًا بهذا.

 

المُقابِل:

هل لك أن تخبرني ببعض المعلومات عن «كافكا على الشاطئ»؟

 

هاروكي موراكامي:

أكثر كتبي تعقيدًا حتى اللحظة. أكثر تعقيدًا من «يوميات طائر الزنبرك»، ويكاد يكون مستحيلًا شرحه.

في الرواية قصتين تسيران بالتوازي. بطل الرواية صبي عمره 15 سنة، واسمه الأول كافكا. في القصة الأخرى، يكون بطل القصة قد بلغ 61 سنة من العمر، وأميّ: لا يقرأ ولا يكتب. كائن بسيط، ولكن بوسعه التحدث مع القطط. أما كافكا الطفل، فيكون والده قد لعنه… لعنة أوديبية: ستقتلني أنا أبوك، وستمارس الجنس مع أمك. ويهرب الطفل من والده ليهرب من اللعنة، ويذهب إلى مكان سحيق، ويبدأ باختبار عالم غريب للغاية وغير واقعي، عالم يشبه الأحلام.

 

 

المُقابِل:

من ناحية المبنى، فهي تشبه «أرض العجائب الحارة ونهاية العالم» وتحاول التنقل بين العالمين، بين الفصل والآخر، بين القصتين؟

 

هاروكي موراكامي:

أصبت. في البداية كنت أحاول كتابة جزءٍ ثانٍ لـ «أرض العجائب الحارة ونهاية العالم»، ولكن قررت لاحقًا كتابة قصة مختلفة تمامًا، إلا أنهما تتشاركان الروح نفسها. وموضوع الرواية وجود العالم الحالي وعالم آخر وكيف يمكنك التنقل بينهما.

 

المُقابِل:

يشوقني ذلك لقراءة الرواية لأن «أرض العجائب الحارة ونهاية العالم» هي الرواية المفضلة لدي من بين أعمالك.

 

هاروكي موراكامي:

والمفضلة لي أيضًا. رواية «كافكا على الشاطئ» طموحها السماء أيضًا، لأن الأبطال في كل أعمالي يكونون في سنين العشرين أو الثلاثين، ولكن في هذا الرواية، يبلغ البطل 15 عامًا فقط.

 

المُقابِل:

مثل هولدن كولفيلد[10]؟

 

هاروكي موراكامي:

أصبت. استمعت جدًا بكتابة القصة، حيث تذكرت نفسي وأنا في الخامسة عشرة من عمري. أرى أن الذاكرة أهم مورد لدى الكائن البشري، لأنها وقود الروح، تحترق، فتشرح صدرك. ذاكرتي تشبه الخزانة: بها العديد من الأدراج، وإذا رغبت في العودة إلى سن الخامس عشر أفتح درجًا مُحدّدًا، وأرى المشاهد التي رأيتها وأنا طفل في كوبه. أشم الهواء وألمس الأرض وأرى خضار الأشجار. ولهذا أردت كتابة هذه الرواية.

 

المُقابِل:

لتعود إلى تصوراتك عن العالم وأنت في الخامسة عشرة من عمرك؟

 

هاروكي موراكامي:

نعم.

 

المُقابِل:

ما أهمية نشأتك في كوبه وليس في أي مكان آخر في اليابان على أسلوبك الجديد في الكتابة؟ تسبق كوبه سمعتها بأنها مدينة عالمية مركزية.

 

هاروكي موراكامي:

الناس في كيوتو أغرب من الناس في كوبه! فهم محاطون بالتلال، وبالتالي عقليتهم تختلف.

 

المُقابِل:

ألم تولد أنت في كيوتو؟

 

هاروكي موراكامي:

بلى، ولكننا انتقلنا إلى كوبه وأنا في الثانية من عمري، وعليهِ، فأنا من كوبه. مدينة بحرية متاخمة لقطاع من التلال. لا أحب طوكيو، فهي مدينة مسطحة وواسعة وشاسعة. لا أحب الذهاب إليها.

 

المُقابِل:

ولكنك تعيش فيها! أجزم أن بإمكانك العيش في أي مكانه تحبه.

 

هاروكي موراكامي:

لأن هذا المكان يمنحني فرصة أن أكون مجهولًا. الأمر نفسه ينطبق على نيويورك. لا أحد يعرفني في أي مكان. بمقدوري أن أستقل القطار، ولا يتعرف عليّ أحد. لي منزل في قرية صغيرة في ريف طوكيو، والكل يعرفني هناك. كلما خرجت للمشي، يعرفني الناس، ويكون الأمر مزعجًا أحيانًا.

 

المُقابِل:

ذكرت قبلًا ريو موراكامي. يبدو أنه له خطة كتابية تختلف تمامًا عنك.

 

هاروكي موراكامي:

أكتب أنا بالأسلوب ما بعد الحداثي، أما هو فيكتب في الاتجاه السائد. ولكني عندما قرأت روايته «أطفال خزانة النقود»[11] لأول مرة، صدمني العمل وقررت أن أكتب رواية قوية مثلها، وبعدها بدأت في كتابة «مطاردة الخراف الجامحة». بيني وبينه تنافس من نوعٍ ما.

المُقابِل:

هل تربطكما صداقة؟

 

هاروكي موراكامي:

تربطنا علاقة جيدة. لسنا أعداءً، على الأقل. فموهبته طبيعية وقوية. كما لو أن لديه بئر نفط قريب في عقله. أما أنا، فبئري غائر في الأعماق، وكان علي أن أحفر وأحفر. تعبت كثيرًا وأستغرق الأمر مني وقتًا، ولكني وصلتُ إليه، وبعدها صرت أقوى وأكثر ثقة بنفسي. صارت حياتي منسقة ومرتبة. استمتعت بالحفر على هذا العمق.

 

العدد 170، 2004.

پاريس ريڤيو

ترجمة: أنس سمحان

——————————————

[1]  حركة احتجاجات واسعة استمرت في اليابان منذ عام 1959 إلى عام 1960 ضد معاهدة الأمن بين اليابان والولايات المتحدة، والتي تسمح بوجود قواعد أميركية على الأراضي اليابانية وتعد أكبر الاحتجاجات الشعبية في تاريخ اليابان الحديث – المترجم.

[2]  أو مطاردة خروف بري – المُترجم.

[3] جنس أدبي يشبه في تكوينه أدب الجريمة (أدب التحقيقات) – المُترجم.

[4]  شخصية من الغابة النرويجية.

[5]  شخصية من يوميات طائر الزنبرك.

[6]  شخصية من الغابة النرويجية.

[7]  استخدم الكاتب كلمة salaryman، وهي كلمة تشير إلى الموظفين العاملين بمرتب نظامي في آخر الشهر، وفي الثقافة الشعبية اليابانية تشير الكلمة موظفي الياقات البيضاء ذوي الولاء العالي لشركات تشغيلهم ويعلمون لساعات طويلة، وترتبط أحيانًا فكرة «الموت تحت ضغط العمل» بموظفي الياقات البيضاء – المُترجم.

[8]  أميركا الشمالية والجنوبية  – المُترجم.

[9]  أسلوب فني أطلق على أشكال فنية متنوعة وساد أوروبا وأميركا اللاتينية واستعمل الاصطلاح عادة للإشارة إلى فن العمارة والتصوير للأشكال الغريبة والمعوجة وغير المتناسقة – المُترجم.

[10]  بطل رواية الحارس في حقل الشوفان – المُترجم.

[11]  الاسم العربي غير واضح خصوصًا أنّي لم اقرأ الرواية. اسمها الإنجليزي Coin Locker Babies – المُترجم.

يقظة امرأة وقضية إثبات الذات

على مرّ العصور واجهت المرأة في مجتمعنا والمجتمعات الأخرى، قضية واحدة هي قضية إثبات الذات. التعامل مع المرأة ككيان مستقل عن الرجل، كيان له رغباته وطموحاته في الحياة. وتناولَ الكثير من الكُتاب العرب والأجانب هذه القضية بمؤلفاتهم مثل «مدام بوفاري» لغوستاف فلوبير و»أنا حرة» لإحسان عبد القدوس، وكانت رواية «يقظة امرأة» للكاتبة الأمريكية كيت شوبان، ترجمة زينب بني سعد وإصدار دار جدل، من أبرز الروايات التي تناولت وضع المرأة في المجتمع الأمريكي في أواخر القرن التاسع عشر، وهي الفترة التي انطلقت فيها الدعوات لتحرير المرأة من أغلال القيود الاجتماعية، ففي تلك الفترة كان المجتمع الأمريكي شبيها إلى حد بعيد بالمجتمع الفيكتوري، فلم يكن للمرأة مستقبل خارج إطار الزواج، وبطلة كيت شوبان امرأة حاولت إثبات ذاتها في مجتمع الرجال، فقررت أن تحارب القيود الاجتماعية، وتفعل ما تحب، تنهي علاقتها بزوجها الذي كان كل ما يشغل فكره وضعه المالي، والخروج أمام المجتمع في أحسن صورة، وكذلك قررت التمسك بهوايتها الرسم والعمل على تنميتها، فهل كان الحب سبباً في إيقاظ روح إدنا بونتيلييه؟ هل يدفعنا الحب للشعور بذواتنا؟
«بدأت السيدة بونتيليه تدرك مكانتها في هذا الكون ككائن بشري. وتدرك صلاتها كفرد مع العالم فيها ومن حولها. قد يبدو هذا الإدراك وكأنه عبء ثقيل الوطأة يحل على روح امرأة شابة في الثامنة والعشرين، ولربما أكثر إدراكاً. مما تجيزه الروح القدس بكل سرور عادةً لأي امرأة. غير أن بداية حدوث الأشياء في هذا العالم، هي بدايات غامضة، معقدة، مضطربة، ومثيرة لقلق بالغ لا محالة. عجباً، كيف أن قلة منا، نحن البشر، نجا من مثل هذه البدايات! وكم من الأرواح هلكت في اضطرابها «.
تقول مترجمة الكتاب زينب بني سعد وأنا أرجحُ رأيها: مع أن صحيفة مورننغ تايمز واشنطن خلصت في مراجعة الرواية إلى إن «ما تسبب في يقظة إدنا هو رجل، وهذا الرجل هو روبرت ليبرون» لكن لو أمعنا النظر سندرك أن يقظة إدنا تشكلت على يدها هي بنفسها. كانت هي الوسيلة إلى هذا الإدراك، جسدها، فنها، معارفها. والوقت الذي تقضيه في الطبيعة، هرباً من السلطة الذكورية الخانقة».
إذن فمسألة أدنا ليست مسألة حب بقدر ما هي بحث عن الذات، وفك لقيود المجتمع ونعاين في الرواية أن روبرت لبيرون يسافر مباشرة عند بداية تطور العلاقة بينهما، فإذا كانت المسألة مسألة حب فقد تستطيع البطلة العودة إلى حياتها الزوجية الرتيبة مباشرةً بعد سفر حبيبها إلى المكسيك، إنما هي عملت على تهذيب ذاتها من خلال التمسك بالرسم كموهبة، كذلك تركها لمنزل الزوجية والسكن في ما سمته بـ(عش الحَمام) والتخلص من علاقة زوجية أقل ما يقال عنها (مُحتضرة).
«في يوم من الأيام، سوف ألملم شتات نفسي لفترة من الوقت، وأفكر، في محاولة لتحديد شخصية المرأة التي أنا عليها. لأنني وبكل صراحة، أجهل أي شخصية من النساء أنا. وبكل الأعراف والتقاليد التي أعرفها، أعتبر مثالاً سيئاً جداً لبنات جنسي، لكن بطريقة ما، لا يمكنني الاقتناع بأني سيئة.. لا بد أن أفكر في ذلك».
رواية «يقظة امرأة» رواية سهلة وسلسلة لكنها مليئة بالأسئلة الوجودية، تصنف من الأعمال التي تمت المطالبة بحظرها، لكن لم يتم حظرها من أي جهة رسمية وظلت منسية لما يزيد على نصف قرن، منذ أن نشرت في عام 1899 إلى أن لفت الأنظار إليها الناقد كينيث إلبي في عام 1956 وسماها الرواية المنسية، ولم تلبث بعد ذلك أن أصبحت من مقررات الدراسة في الجامعات والمعاهد العليا، جنباً إلى جنب مع الأعمال الكبرى في الأدب الإنكليزي.
كيت شوبان (ولدت كاثرين أوفلاهرتي في 8 فبراير/شباط 1850-22 أغسطس/آب 1904) مؤلفة أمريكية استكشفت قصصها القصيرة ورواياتها، الحياة الجنوبية قبل الحرب وبعدها. تعتبر اليوم رائدة في الأدب النسوي المبكر. اشتهرت بروايتها «يقظة امرأة» وهي تصوير لكفاح المرأة من أجل الذات والتي كانت مثيرة للجدل إلى حد كبير خلال حياة شوبان.

كاتبة من العراق

قراءة لكتاب «الآلهة لا تبتسم لمن يهمل القدماء»… أو وردة للموتى

لو قُيِّضَ للأسلاف أن يُلْقُوا نظرةً على مصير ما خَلَّفُوه بعد رحيلهم، لو أُتيحَ لهم أن يُبْدوا رأيَهم بخصوص ما فعله الأحفاد بـ»التَّرِكَة» لَتَعَدَّدَتْ ردود الأفعال: موتى يُزيحون التراب عن محاجرهم، تُؤرْجِحُ الريح أسمال أكفانهم، منهم مَنْ يُرسل إيماءات انزعاج وتذمر، وهذا الذي يُفَجِّرُ عَبَرَات التَّأَثُّر ابتهاجاً، وتلك السيدة هناك (كيف نُمَيِّزُ جِنْسَ الأموات؟) كَأَنَّهَا تَرْفَعُ عقيرتها بالصراخ ولا صوت!
يَعِنُّ لِي أَن أتخيل هذا المشهد (مع تَعَسُّف سُيرياليٍّ طبعا) حين أُلقي نظرةً على طوبوغرافيا القراءات التي انصبَّت على قديم الثقافة العربية؛ ولسنا نعدم التذمر والغبطة والصراخ الذي تَعُوزُه الأصداء. كم من قراءةٍ أخلفت الموعد مع الومضات التي يُرسلها القديم، وكم من قارئ لم يهتد لليد التي تهبه خريطة الكنز في ليلِ النص ذي العَتْمَة المُرَكَّزَة؛ كَأَنَّ تاريخ قراءة القديم تاريخُ سُوْءِ فَهْمٍ متجدد لإشاراته؛ وكَأَنَّ كل مُجالسة للأسلاف لإقناعهم بأن يصيروا معاصرين لنا تنتهي بوعد لا يتحقق. ما العمل لكي نظفر بابتسامة الأسلاف العنيدة؟ أن نرهفَ السَّمْع للمستقبل في ندائهم، يقول البعض. أن ننفصلَ عنهم ليكون اتِّصَالُنَا بهم اتصالَ الأنداد لا الأشياع، يردد البعض الآخر. أن نُحَفِّزَهم على الانخراط في احتفال المعرفة المَرِحة، في رَقْصَة الفكر، يقترح طرف ثالث.
«الآلهة لا تبتسم لمن يهمل القدماء»:
تُبْدي الآلهة تَبَرُّماً من الذين لا يلتفتون إلى القديم، تُفْصِح عن غيظها إزاء انكفائهم المُريب على ذواتهم، تُبْدِي استنكارها تُجَاه مَنْ لا يؤرقهم «هَوَان الآباء والأجداد». الآلهة في هذا المشهد القاتم تتنازل عن شرطها: «عليك ألا تلتف» لِتَأْتِيَ بشرط بديل: «وأنتَ تعبرُ في عالم يَضُجُّ بنداءات تَصُمُّ أذنيك، اِلتفتْ صوب الهَسيسِ الذي يُرْسِلُه الأسلاف كي تستحق مجالستهم». لا معنى إذن للمسؤولية (مسؤولية القراءة بما هي استحقاق لصداقة الموتى) خارج تجربةِ مَنْ تَقَدَّمَنَا، كما يُعَلِّمُنَا جاك دريدا فيلسوف «الجذور المعلقة في الهواء»!
إن كل قارئ لقديم الثقافة اليوم، يقف ضداً على النسيان أمام قبور الموتى ليضعَ إكليلَ الورد وينصرفَ بتواضعٍ وخجلٍ. يغدو كل جهدٍ تأويليٍّ في إيقاظ الموتى (وجعل أصدائهم تمتد ضد الفناء) طقسَ استحضارٍ سحريٍّ يجعلهم معاصرين لنا بشكل أو بآخر. بمسؤولية لا تخلو من مرح عارفٍ، ويقظةٍ متجدِّدةٍ، وخِفَّةٍ في التقاط احتمالات المقروء، يستجيب الباحث محمد السَّاهل لنداءات قديم الثقافة العربية في نماذجها العالية: التوحيدي، والمتنبي، وأبو نواس، وقيس بن الملوح.. مُوَقِّعاً في مقالاته على استحقاق متعةِ الكَشْفِ عن المَنْسِيِّ، والعثور على العابر الذي غالبا ما يُبْخِلُ بضوئه حينَ يَتَوَلاهُ الأحفاد العميان.

الكاتب: حمدي تقوا – كاتب مغربي

المصدر- صحيفة القدس العربية

دموع على الكتب!

يقول سقراط:
اذا أردت أن أحكم على انسان ، فاني أسأله كم كتابا قرأت وماذا قرأت ؟..
ويقول الفيلسوف والشاعر الأمريكي امرسون :
الكتب هي الاثار الأكثر بقاء على الزمن.

ويقول هنري دايفيد ثورو.:
الكتب هي ثروة العالم المخزونة ، وأفضل ارث للأجيال والأمم.
ويقول ديبارو:
الكتاب صديق لا يخون.
ويقول فنسنت ستاريت:
عندما نجمع الكتب نجمع السعادة.

____________

انتشر في السنوات الأخيرة مقطع فيديو لعالم عراقي يبكي بحرقة على كتبه التي اضطرته ظروفه المتعثرة إلى بيعها…

ومع الأسف أن كثيرًا من الناس لم يتعاطفوا معه كما يليق بمعاناته وظنّوه من الذين يبالغون في أحزانهم ويحرصون على أن يكون صوت شكواهم أكبر من حجم معاناتهم…ولكن من يعرف قدر الكتاب والعلاقة الروحية التي تنشأ بينه وبين صاحبه لا يستغرب هذا الحزن النبيل ولا يتعحب من الدموع التي ذرفها هذا العالم النبيل على كتبه…

كيف وقد قال المتنبي قديمًا:

وخير مكان في الدنى سرج سابح
وخير جليس في الزمان كتابُ!
وقال أحمد شوقي:
أَنا مَن بَدَّلَ بِالكُتبِ الصِحابا
لَم أَجِد لي وافِيًا إِلا الكِتابا
صاحِبٌ إِنْ عِبتَهُ أَو لَم تَعِبْ
لَيسَ بِالواجِدِ لِلصاحِبِ عابا
كُلَّما أَخلَقتُهُ جَدَّدَني
وَكَساني مِن حِلى الفَضلِ ثِيابا
صُحبَةٌ لَم أَشكُ مِنها ريبَةً
وَوِدادٌ لَم يُكَلِّفني عِتابا
رُبَّ لَيلٍ لَم نُقَصِّر فيهِ عَن
سَمَرٍ طالَ عَلى الصَمتِ وَطابا
إِن يَجِدني يَتَحَدَّث أَو يَجِد
مَلَلاً يَطوي الأَحاديثَ اقتِضابا
تَجِدُ الكُتبَ عَلى النَقدِ كَما
تَجِدُ الإِخوانَ صِدقًا وَكِذابا
فَتَخَيَّرها كَما تَختارُهُ
وَادَّخِر في الصَحبِ وَالكُتبِ اللُبابا
صالِحُ الإِخوانِ يَبغيكَ التُقى
وَرَشيدُ الكُتبِ يَبغيكَ الصَوابا
إلى آخر قصيدته العصماء التي قدم بها مذكرة دفاع عصية على النقض دافع فيها عن الكتاب وانتصر له ممن لم يعرفوا له قدره ومكانته العظيمة. فلا عجب إذن أن نرى عيني ذلك العالم الحزين وهن مغرورقات بالدموع وملؤهن الشجن و الأسى. وهو ليس أول عالم يبكي كتبه فقبله بكى العلماء كتبهم ومكتباتهم وهذه قصة من مئات القصص المشابه ذكرها العلامة ياقوت الحموي المتوفى ٦٢٦هـ في كتابه معجم الأدباء وقال: حدث أبو زكريا التبريزي و قال: رأيت نسخة من «كتاب الجمهرة» لابن دريد باعها أبو الحسن الفالي بخمسة دنانير إلى القاضي أبي بكر ابن بديل التبريزي وحملها إلى تبريز، فنسخت أنا منها نسخة، فوجدت في بعض المجلدات رقعة بخط الفالي فيها:

أنست بها عشرين حولا وبعتها …
فقد طال شوقي بعدها وحنيني
وما كان ظنّي أنني سأبيعها …
ولو خلّدتني في السجون ديوني
ولكن لضعف وافتقار وصبية …
صغار عليهم تستهلّ شؤوني
فقلت ولم أملك سوابق عبرة …
مقالة مشويّ الفؤاد حزين
«وقد تخرج الحاجات يا أمّ مالك …
كرائم من ربّ بهنّ ضنين»
فأريت القاضي أبا بكر الرقعة والأبيات فتوجع وقال: لو رأيتها قبل هذا لرددتها عليه، وكان الفالي قد مات!.

انتهت القصة.

وقال ياقوت الحموي معلقا على هذه القصة:

والبيت الأخير من هذه الأبيات تضمين قاله أعرابيّ في ما ذكره الزبير بن بكار عن يوسف بن عياش قال: ابتاع حمزة بن عبد الله بن الزبير جملا من أعرابي بخمسين دينارا ثم نقده ثمنه، فجعل الأعرابي ينظر إلى الجمل ويقول:
وقد تخرج الحاجات يا أم مالك … كرائم من ربّ بهنّ ضنين!
فقال له حمزة: خذ جملك والدنانير لك، فانصرف بجمله وبالدنانير.!.انتهى

فما أقسى الحاجة والافتقار !

وقد أُجبر العلماء على التضحية بكتبهم التي قضوا معها أجمل وأهدأ وألطف أيامهم وساعاتهم!

وأخيرا أود أن أنبه القارئ الكريم أن هذه الأُلفة مع الكتاب لا تشمل الكتاب الإلكتروني فالعلاقة مع الكتاب الإلكتروني -من وجهة نظري-علاقة مادية صرفة قائمة على المنافع المتبادلة…بينما الكتاب الورقي هو ابنك الشرعي الذي ترى ملامح خطك وتعليقاتك التي تعكس شخصيتك ووجهة نظرك على جوانبه وتزداد حبًّا له كلما ازداد بقاؤه عندك لأنه يحكي لك عن لحظات من ماضيك الجميل لا تود نسيانها!.

الكاتب: عبدالكريم المجهول

زفايغ: الكاتب الذي حلم بعالم من غير حدود

الكاتب المنفي قتل نفسه يائساً بعد صعود النازية.

قبل أن يموت، قال: أن البرازيل أصبحت ما يحلم بأن تكونه أوروبا.

قبل خمسة وسبعين عاماً، في فبراير ١٩٤٢، انتحر الكاتب الأكثر شعبيةً في أوروبا في بيت صغير في بلدة بيتروبوليس (Petropolis)، حوالي ١٠،٠٠٠ كم عن موطنه الأصلي ومكان ولادته: فيينا. في العام السابق لوفاته، أكمل زفايغ دراستين متناقضتين – عالم الأمس: مذكرات أوروبي، مرثية لحضارة استهلكتها الحرب، والبرازيل: بلاد المستقبل، نموذج متفائل لعالم جديد.

النمسا-هنغاريا قدمتا لزفايغ أنموذجاً للتعددية الثقافية في مواجهة الوطنية

ولد زفايغ عام ١٨٨١ لعائلة يهودية مثقفة وثرية في فيينا، عاصمة الامبراطورية الهابسبورغية متعددة الأعراق، حيث يعيش النمساويون ، الهنغاريون، السلاف، اليهود وغيرهم جنباً إلى جنب. كان الحاكم آنذاك فرانز-جوزيف الأول متعدد اللغات، وهو الذي أصدر مرسومًا في بداية حكمه ينص على أن “جميع الأعراق في الإمبراطورية لها نفس الحقوق، ولكل عرق حقاً مصوناً في إستخدام جنسيته ولغته الأصلية”.

كان فرانز-جوزيف عنيدًا ومتصلب الرأي، وحين لا ننظر لحكمه برومانسية، نجد أنه قدم لزفايغ أنموذجاً للتعددية الثقافية، في الوقت الذي كانت أوروبا تستهلك نفسها بالنَفَس القومي والوطنية.

بدأ زفايغ بكتابة “عالم الأمس” بعد مغادرته النمسا عام ١٩٣٤، متوقعاً تفشّي النازية في بلاده.

وأكمل مسودته الأولى للكتاب صيف عام ١٩٤١ في نيويورك، وقام بتسليم النسخة النهائية من كتابه – الذي قامت زوجته “لوت ألتمان” بطباعته – قبل يوم واحد من انتحارهما.

في ذلك الوقت، كانت الإمبراطورية الهابسبورغية قد “اختفت من غير أثر” كما كتب، وتم تخفيض مرتبة فيينا إلى مجرد بلدة ألمانية. أصبح زفايغ عديم الجنسية: “لا أنتمي لأي مكان الآن، أنا غريب أو – في الغالب – ضيفاً في كل مكان.”

إن مذكرات زفايغ ملهمة في عرضها للطبيعة المربكة للنفي. المدن التي كانت تحتفي بزفايغ، صارت تحرق كتبه؛ العهد الذهبي من “الأمن والازدهار والراحة” مهّد طريقاً للثورة، عدم الاستقرار الاقتصادي والقومية، “الوباء الذي سمم زهرة ثقافتنا الأوروبية”. الوقت ذاته تم اختطافه: “كسرت جميع الجسور بين اليوم والأمس وقبل الأمس”.

استقر زفايغ في بيتروبوليس، شمال ريو دي جانيرو – سميت المدينة على بيدرو الثاني، آخر إمبراطور للبرازيل.

(الصورة: Emma Bridget Byrne)

من دون أي أثر

من أكثر الأشياء التي كانت تقلق ستيفن زفايغ، هي فقدان بلد لغته. عبّر زفايغ: “إنه لعار معذب” في أن الأيديولوجيا النازية ظهرت وولدت من خلال اللغة الألمانية. مثل الشاعر “بول سيلان”، الذي انتحر في باريس، شعر زفايغ أن لغة شيلر، غوته، وريلك قد احتلت وشُوّهت من قبل النازية بشكل لا يمكن إصلاحه الآن.

يكتب زفايغ عن زمن بإمكانك فيه زيارة الهند والولايات المتحدة من غير جواز أو فيزا

في “عالم الأمس”، يصف زفايغ سهولة السفر من دون حدود بين الدول قبل عام ١٩١٤ – عن زيارة الهند والولايات المتحدة من غير الحاجة إلى جواز أو فيزا – وهو وضع غير مقبول لأجيال ما بين الحروب (الذين ولدوا أثناء الحروب أو بينها).

الآن زفايغ، مثل جميع اللاجئين، يواجه ذل التفاوض مع البيروقراطية غير العملية. يصف زفايغ “فوبيا البيروقراطية” لديه حين يطلب منه موظفو الهجرة تزويدهم بإثباتات إضافية للهوية، حتى أنه سخر مع صديق مهاجر عن مسماه الوظيفي “كنت كاتباً، والآن خبير في شؤون الفيزا”.

كان زفايغ واحداً من أكثر كتاب أوروبا شعبيةً في العشرينات والثلاثينات من القرن التاسع عشر، حتى أن صناع الأفلام تبنوا أعماله – أصبحت روايته “الخوف” فيلماً لروبيرتو روسيليني “لا باورا”. (Photo credit: Alamy)

مع انتشار قوات هتلر في أنحاء أوروبا، انتقل زفايغ من محل إقامته في باث، المملكة المتحدة، إلى أوسينغ، نيويورك.

كان زفايغ مجهولاً إلى حدٍ كبير للناس هناك باستثناء زملائه المهاجرين، الذين يفتقدون العلاقات الاجتماعية والملاءة المالية التي يمتلكها، ولجؤوا إلى الاستعانة بكرمه البالغ في العديد من المرات. لم يشعر زفايغ أبداً أنه في منزله عندما كان في الولايات المتحدة – اعتبر الأمركة (Americanisation) الدمار الثاني للثقافة الأوروبية تلو الحرب العالمية الأولى – وتمنى العودة إلى البرازيل، التي احتفت به خلال جولة محاضرات قدمها عام ١٩٣٦.

قد تكون رواية “رسالة من امرأة مجهولة” الأكثر رواجاً بين روايات زفايغ، والتي صارت فيلماً لماكس أوفولس عام ١٩٤٨، بطولة جوان فونتان ولويس جوردان. (Photo credit: Alamy)

البرازيل: بلاد المستقبل، ليست إلا احتفاءً بدولة أبهر جمالها وكرمها ستيفن زفايغ بشدة. كان زفايغ منبهراً بالبرازيل، وعاتب نفسه بسبب جهله و”غروره الأوروبي”. في كتابه، يصف زفايغ ويحدد تاريخ واقتصاد وجغرافية وثقافة البرازيل، لكن القيمة الأساسية للكتاب تأتي من منظوره الأوروبي الذي اكتسبه عن قارته.

لا يوجد فاصل لوني، لا فصل، لا تصنيف متعجرف – زفايغ

أصبحت البرازيل، في وصف زفايغ، كل شيء يتمنى أن تكونه أوروبا. حسية، ثقافية، هادئة ومنفرة للنزعة العسكرية والمادية.

(يدعي كذلك أن البرازيليين يفتقدون الشغف الأوروبي بالرياضة، وهي ملاحظة غريبة، حتى في ١٩٤١).

البرازيل دولة حرة من “المتعصبين عرقيًا”، “مشاهدها المحمومة ونشوة عبادة البطل”، “قوميتها المجنونة وإمبرياليتها”، “غضبها الانتحاري”.

أشاد “ويس أنديرسون” بزفايغ في اللقطات الختامية لفيلم “The Grand Budapest Hotel”، الذي يقول أنديرسون عنه أنه مستلهم من الكاتب. (Credit Fox Searchlight)

في ألوانها وإيقاعاتها، كانت البرازيل مختلفة بشكل كبير عن صورته المضطهدة لفيينا الهابسبورغية، لكن يبدو أن جمال هويتها الهجينة يبرر نظرته لها. في البرازيل، كان أحفاد المهاجرون الأفريقيون، البرتغاليون، الألمان، الإيطاليون، السوريون، واليابانيون يختلطون مع بعضهم البعض بكامل الحرية: “تعيش كل هذه الأعراق بتجانس تام مع بعضها البعض”.

تقدم البرازيل درساً “للحضارة” الأوربية في كيفية التحضر: “في الحين الذي تحكم فيه عالمنا القديم محاولات مجنونة لخلق سلالات بشرية نقية، مثل خيول وكلاب السباق، كانت الدولة البرازيلية قد بنيت على مر العصور على مبدأ التجانس الحر وغير المكبوت… يتحرك شيئاً بداخلك حين ترى الأطفال بألوان بشرة مختلفة – شوكولا، حليب، قهوة – يخرجون من المدرسة يداً بيد، لا يوجد حاجز لوني، لا فصل، لا تصنيف بغيظ… لمن نقوم هنا بالتباهي بنقاوة العرق المطلقة؟”

“الجنة”

أصبحت هذه الأنشودة شعبية بشكلٍ كبير لدى العامة، وحضر آلاف البرازيليين محاضرات زفايغ، بينما كان مسار رحلاته يطبع يومياً في جميع الجرائد الرئيسية.

لكن الكتاب تلقى النقد: يشير بروشنيك (Prochnik) إلى أن جرائد البرازيل الرئيسية نشرت – لثلاثة أيام متتالية – مراجعات سيئة لكتابه، تتهم زفايغ بتجاهل الابتكارات الصناعية والحداثية في البرازيل.

جعل احتفاء زفايغ بالبرازيل منه ذو شعبية عالية، العديد من المواقع سميت باسمه هناك (Credit: Wikipedia/Eduardo P)

 

من أكثر الأشياء جدلاً كان مديح زفايغ لديكتاتور البرازيل، غوتيلو فارغاس. في عام ١٩٣٧، أعلـن فـارغاس دولة جديدة (Estrada Novo) بنظام جديد مستلهم من الحكم السلطوي في البرتغال وإيطاليا. أغلق فارغاس البرلمان البرازيلي وسجن المثقفين اليساريين، والذين افترض بعضهم أن زفايغ قد دفع له مقابل مديحه، أو عرضت عليه الفيزا على الأقل.

قننت حكومة فارغاس استقبال المهاجرين اليهود على أساس عرقي – لكنها استثنت زفايغ لشهرته.

هذه الحلقة من حياة زفايغ توضح سذاجته السياسية. بطبيعته الهادئة والمتصالحة، خاف زفايغ من التحريض على العداء في لحظة حاسمة (انضم فاغراس أخيراً إلى الحلفاء في الحرب العالمية الثانية عام ١٩٤٢). بحثًا عن العزلة، خبأ ستيفن ولوت نفسهما في مدينة بتروبوليس الراقية، والمستوطنة سابقاً من الألمان، ٤٠ ميل (٦٤ كيلو) خارج ريو.

آمن زفايغ بعالم من غير حدود، لكن الحدود هي من عرّفته

“إنها جنة”، كتب زفايغ عن المناظر الطبيعية الخلابة لجبال الألب، والذي “يبدو على أنها مترجمة من اللغة النمساوية إلى اللغة الاستوائية”. هدف زفايغ إلى نسيان كتبه وأصدقائه القدامى، والبحث عن “الحرية الداخلية”.

أثناء كرنفال في ريو، علم زفايغ بتقدم النازية في الشرق الأوسط وآسيا، وهبط عليه الشعور بالموت. شعر زفايغ أنه لن يكون حراً أبداً، حراً من الخوف على وجه التحديد. “هل تصدقون فعلاً أن النازيين لن يأتوا إلى هنا؟” كتب، “لا شيء بإمكانه إيقافهم الآن”.

آمن زفايغ بعالم من غير حدود، لكن الحدود هي من عرّفته: “أزمتي الداخلية في ذلك هي أنني غير قادر على التعريف بنفسي عن طريق جواز سفري، الذات الخاصة بالمنفى”.

زفايغ المطارد من الأشباح (“نحن مجرد أشباح – أو ذكريات”)، كتب في رسالة انتحاره “ولقد استنفدت كل قواي في سنوات التيه الطويلة”.

كتب ستيفن ولوت في استقالتهما: “ليس لدينا حاضر أو مستقبل… قررنا، برابطة الحب، أن لا نتخلى عن بعضنا”.

قمت بزيارة بيت زفايغ الصغير في بيتروبوليس، والذي أصبح الآن “متحفاً نشطاً”، بحسب تريستان ستروبل، الذي يعمل هناك بالخدمة الوطنية كخادم للتذكار النمساوي للهولوكوست.

أراني تريستان شاشة تفاعلية بها صور لجميع اللاجئين الذين قدموا للبرازيل بين عام ١٩٣٣ و ١٩٤٥، مسلطةً الضوء على مساهماتهم.

“كانت هذه الفترة خسارة عظيمة على الحياة الثقافية الأوروبية”، يقول تريستان، “لكن للبرازيل والدول الأخرى، كان استقبال اللاجئين أمراً إيجابياً بشدة”.

العقد الأشد ظلاماً للعالم القديم جلب النور إليهم الآن.

 

كتبها: بنيامين رام، ٢٢ فبراير، ٢٠١٧. (BBC)

ترجمة: سالم الشهاب

السخرية بين الحداثة وتجلياتها

بانصرام الزّمن وتطوّر الحادثات، اتّجه العالم في سعيه إلى التعرّف على كلّ ما حوله، ومشى في سبيله إلى تقديس كلّ ما يفتح له موالج المجهول ويمنحه مفاتيح أقفال ما غاب عن فهمه وعلمه، خفرًا فخورًا بكلّ ما قد وصل إليه من مكتشفاتٍ ومخترعاتٍ، وإن كانت في الحقيقة هيكلًا فارغًا أجوفًا.

هذه المسافة التي قطعها الإنسان من نقطة جهله الأولى التي كان عليها، إلى المناطق التي أضاءت في عقله ومهّدت الطريق أمامه ليسبر غور العالم من حوله؛ باعدت في المقابل بين الإنسان وذاته، وأطفأت مناطق وعي فيه كان يسترشد بها إلى فهم نفسه وما يعتملها من شعور وغيره، وبات الإنسان الحديث في نظر العالم آية في العلم والتمدن والتحضر، لكن أحدًا لم يعرف أنه كذلك صار عبرةً في دخيلة نفسه وخبرته بذاته.

شعورٌ مبهم

كان من تداعيات جهل الإنسان بنفسه خلق هوة سحيقة بين عقله وقلبه، وفجوة هائلة بين إنسانية الإنسان وآليته، وانقطع مع ذلك حبل الوصل بين ذبذبات الشعور وخلايا استقبالها، فبات الإنسان إما آلة تعقل وتعمل لتتقدم، أو خردة لا قيمة لها، وتداعت أبنية المشاعر ومعانيها، حتى صارت عقبة تعيق الإنسان عن ممارسة حياته الطبيعية نحو العقل والتحديث، كتلةً معقدةً مبهمة لا يدري لها أول من آخِر، تشغله عنها الحياة نهارًا ثمّ تهاجمه كالعفريت ليلًا، تتسرب كلصّ على هيئة حزنٍ على ملاذ الحياة التي لا يحصلها، أو تطرق باب سكونه بغضب كلما سارت الأمور كما لم يخطط لها، أو في صورتها الأسوأ: شوكةُ ندمٍ تخنق حلقه ألمًا نهاية فقد ما لا يمكنه استرجاعه أبدًا.

لم تُخلِّ العقبة صغيرًا ولا كبيرًا، ولم يعتق بُهم الشعور عالمًا ولا جاهلًا. الجميع أمام ذواتهم سواء.. كإنسان الكهف الأول، الذي حاول بما يشبه الفضول أن يستكشف النار للمرة الأولى غير عارف بأن أول سماتها أنها.. تلسع!

فما كان منه -الإنسان الذكي المتحذلق- إلا أن حاول دهسها، أو تجاهلها بما يفتح عليه كلّ طريق للوصول غيرها، فاخترع في سبيل ذلك مخترعات وابتدع لأجل ذلك الحيل، وكأنت أسوأ الحيل النفسية وأقساها: السخرية. قناع أسود يخفي هشاشته خلف صلابة واهية، يتحايل بها المرء على كل شعور مبهم يعتمله ليتخلص منه منتشيًا بإنجازه وسعيدًا بتجاوز عقبته تلك، وما كان عارفًا أن كل ما ألقاه خلف ظهره في فجوات سخريته يعود ليظهر مرة أخرى ومضخمًا عشرات المرات، إما في ادعاءات تمرّد على كل شيء، أو عنوان في جريدة: انتحار شابٍ لأسباب مجهولة! 

واجهةٌ برّاقة

مع انخراط العالم في حداثته وادعائه تقديس الإنسان وتكريس العلم لذاته وتذليل الحياة لاحتياجاته؛ تجاهل الناس لخطاباته الرنانة هذه تبعاتها، ولم يدركوا أن ضريبة الغاية التي أُشربناها هو دعس قيمة الإنسان الحقيقية بما لا يخدم صورة التقدم المطلوبة، سواء كانت قيمته هذه فيما يحمل من قيم أو يحتمل من شعور، ولما كانت قيمه وشعوره لا تعني أحدًا وعائقًا ليس إلا؛ تُركت هناك على أرصفة التخلف والضعف، ونُبذت كما تُنبذ ذبالة المصابيح الصدئة التي اهترأت لشدة ما أنارت، ثم حين لم يلتفت إليها أحدٌ.. انطفأت.

وغدا الإنسان حيُّ الشعور مجرد ضعيف ساذج، ورقيقًا ليس خليقًا بجدةِ الحياة وسيرها، وكغريق يترك نفسه يأسًا للموج؛ انقاد لأعراف مجتمعاته وعاداتها ومعاييرها، وليصبح قويًا كفاية لا يستصغره ولا يستضعفه أحد؛ استعاض عن كل شعور بواجهة السخرية البراقة، تلك التي تورّث في النفس أنفة كاذبةً واستغناء فارغًا وقوة وهمية للتجاوز، وصار في كلّ حالاته مجرد مسخ منها؛ حزينًا ساخرًا، متألمًا ضاحكًا، يائسًا هازئًا، يسخّر كل طاقاته لتطويع شعوره بما يخدم منظره الجيد بين أقرانه، وسمعته الحسنة المواكبة لسير “الروشنة”، غابت المساحات الفاصلة بين شعور وآخر، كلها صور باهتة مموهة لشيء لا تعرف ماهيته الحقيقة، لا حدود لجد وهزل، ولا لعقل ولا منطق، وغدت كل تجليات حس الإنسان منحصرة في ضحكة وتعليق ساخر يدعي بهما ما ليس عليه أصلًا، ويتلبس ثيابًا ليست له ابتداءً.

استشراء الأزمة

لم تتوقف حيلة السخرية على كونها مهربًا من شعور المرء، يتّخذ منها غطاء لحقيقة خوفه مما قد يعيق سير حياته أو يشعر كينونته أمام غيره بالتهديد، إنما باتت هي الطريقة الفعلية للتعبير عن كلّ شيء، وانسحب ذلك على كل أركان الحياة بدءًا بمعتقد الإنسان وانتهاءً بمواضيع سمره المعتادة، فتهدمت المقدسات في نفوس أصحابها لما أصبحت عليه من مادة للتندر وما دخلها من صور السخرية المعتادة، حتى العمل بات مثارًا من مثاراتها وميدانًا لها، الزواج، معاناة الشباب، مخاطر الانحراف، أزمات المجتمع، كلّ شيء بات حل نقاشاته ينتهي بالاستهزاء، كل المعاني والقيم مادة للتندر، الحديث الجاد بات “كآبة” وتم تحويل دفة الاهتمام كليةً إلى ما يعرف بالـ “كوميك” وصار هو اللغة الوحيدة التي يجيدها المعاصرون، لا يفقهون غيرها ولا يعرفون سواها متنفسًا لمجامل الحياة ودركاتها.

النتيجة

كان مآلًا حتميًا لكلّ تلك التجليات أن ينتج جيل مشوهٌ لا يقف عند جهله بشعوره ونفسه فقط؛ إنما يتخذ منهم منحدرًا ينزل به إلى دركات التجاهل والتهكم والسُخرة، وتسطح عقله ليكتفي من الحياة بظاهرها؛ ذاك الذي يخدر فيه شعور المسؤولية ويعمق من البحث خلف التجاهل والعيش بلا متاعب ومشاقّ بائنة، وكأنها حلِقٌ فارغةٌ بلا ثوابت؛ مركزها كلّ ما دون المعنى وأقطارها متباينة، فوضى شعورية فكرية هنا لا تدع مجالًا لأدنى اتزان، موازين مقلوبة هناك، والإنسان ضحيةٌ وجلاد، يرفع سوطه على بني جنسه فترتد ضربته عليه، وكأنى بنا في مسرحية هزلية عنوانها الضحك، الكلّ فاغرٌ فاه مقهقهٌ، ولا أحد يحوش الدموع المحتبسة خلف الأضواء أو حتى ينتبه لها.

أخيرًا، حلول الخروج من الأزمات المعاصرة المكينة من مجتمعاتنا ما هو إلا محاولات واهنة ربما تردد أصداؤها في صمٍ أو تحدث دويًا بعدما تندثر أجيالها، لكننا نحاول أن نتلمس في العتمات ثقوب ضوء نتبعها نحن أو يتبعها من يأتي بعدنا، وأظن أن حلول أزمة كهذه تبدأ بعودة الإنسان إلى قيمته الأصيلة وضبط بوصلة سعيه لتبحث عن المعنى لا عن الفراغ، ليطلق لبشريته العنان في حدود ما وضعه خالقها من ضعف ونقص لا كعيب وإنما كجزء من ماهيته، ولتكسر دورانه اللامجدي مع عجلات الحياة بلا زاد ثابت من معتقد يقدسه ووعيه ينبهه وفكر يضبطه، بهذا أقول.. ربما يعرف المرء لنفسه قدرها ويحفظ عليه حياته قبل أن تصير إلى فناء.

الكاتب: عائشة عادل

المصدر: مدونة أثارة

فرصة أخرى: رحلة إلى العمى

الفصل السادس

           البصيرة

         “كما لو أن العقل يتذوق طعم المسرات”

في زحمة الأصدقاء، شعرت بالدهشة للحية جويل رينولدز واستدارة توم بيلزيل الذي تخيلت أنه ممشوق وجميل المظهر، لكن في الغالب كنت مفتونًا بالوجوه، وبالتغيير الكبير في الوجوه التي كانت مألوفة ذات يوم. رغم ذلك، الوجوه مخيفة تقريبًا بالنسبة لي، حيث إن كل التفاصيل ليست موجودة، لذلك أرى الفم بدون شفاه وبياض العينين دون الرموش. عندما يكون الضوء قويًا كما كان هذا الصباح خارج الكنيسة، يبدو الوجه قاسيًا ومبالغًا فيه مثل الرسوم الكاريكاتورية. أعتقد أنني أميل إلى تفسير هذا على أنه تقدم العمر لدى أصدقائي. مع مرور الوقت، قد أجد أن خمسة عشر عامًا لم تكبرهم سنًا كما أعتقد.

هذه الرؤية المشوهة المبكرة عادت إليَ بعد وقت قصير في درس من إنجيل مرقس عندما شفى المسيح الرجل الأعمى في بيثيسدا. بعد أول وضع للأيادي في الأسفار المقدسة، نظر بيثيزدان للناس كأنهم أشجار تمشي، كان في المرحلة الثانية التي رأى فيها كل رجل بوضوح، وأنا ما أزال في المرحلة الأولى، ولكن الوجوه التي رأيتها في البداية لم تكن ضئيلة، وليست بيضاوية مع خط للفم ودائرة للعين مثل رسم كاريكاتوري لثربور. كانت بشعة، مثل أشجار تمشي، لم تكن هناك أسنان، أو كانت الأسنان مبالغًا فيها، وكانت فتحات الأنف مثل غرف التفتيش. أتذكر عبارة من ميلتون: “عين اليوم البهيجة”. العديد من صور أول أيامي المبصرة كانت ذات جودة رائعة. لحسن الحظ، لم يدم هذا التشوش الغريب طويلًا، وأصبحت وجوه الأصدقاء أكثر وضوحًا يوميًا كما أتذكر.

الوجوه تثير الكثير من التساؤلات، نحن نفترض أن الوجه هو الوسيلة الأساسية للاتصال البشري. إن مصطلح “وجها لوجه” هو مصطلح أساسي في اللغة. في أدب المجتمع الذي درسته منذ فترة طويلة، يشير إلى أن العلاقات الفردية هي أساسية في بناء مجتمعات تقليدية قوية، ماذا بعد ذلك للمكفوفين؟ هل لأنهم لا يرون الوجوه هم مستبعدون من المجتمع؟ من الواضح أنه لا. لا يحتاج المكفوفون إلى مواجهة بعضهم البعض على الرغم من أنهم في كثير من الأحيان يفعلون ذلك، يتجهون نحو الصوت كبادرة احترام أو محاولة للتوافق. بالنسبة لهم، إن العلاقة الخاصة تعتمد إما على صورهم الداخلية من الأصوات أو على بعض الأحاسيس. رغم أن الوجوه ثمينة جدًا بالنسبة لي، لنفسي أو لمجتمعي، إلا أنني أدرك أن للمكفوفين شكلهم الخاص من العلاقات المباشرة.

خارج الكنيسة، اشترت شيرلي نوع من زهور الكمبوديوم الذي يتم بيعه لسبب ما، المنزل الآن مليء بالزهور. لدينا زنابق عيد الفصح، والتوليب الأحمر محفوظ بوعاء وسلة ربيعية أرسلها كيفن وديبي، والورود من حديقة فيبي.

الاثنين، 31 مارس. بين 4:30 و 6:00 ص، كان الألم يأتي لعيني ولكن ليس لفترة طويلة. لقد لاحظت أنني بينما أضع الرقعة على العين ليلًا، لم تعد المساحات العائمة الضبابية التي تنتقل عادة عبر الخيال ذات لون أبيض أو رمادي ولكنها كانت ألوان متناوبة، كالأحمر أو الأزرق أو الأخضر أو الأصفر أو الألوان جميعها مختلطة. يبدو الأمر كما لو أن العقل يتذوق طعم المسرات.

كلما أغمض عينيّ، أظل أرى الرسوم المتحركة، شخصيات صغيرة تتقافز مثل رجال شرطة كيستون، يلوّحون بعنف بأذرعهم ورؤوسهم ووجوههم الملتوية، لأنهم يختبئون في حقول الألوان، وهي زاهية للغاية، وأنها تميل إلى المجيء قبل النوم أو الاستيقاظ.

يجب أن تكون الحقول العائمة مرتبطة بالمدخل المفاجئ للألوان في النظام المرئي، بحيث يتم سلبها لفترة طويلة. اختبر فالفو مرضاه بالنظام المنسق بهذه الطريقة: “كنت أرى بشكل دوري للقطع الملونة من الكريستال والفسيفساء المتماثلة”. ولكنها ليست ببساطة نتيجة لرؤية الألوان الجديدة، حيث إن بعض المكفوفين أيضًا يجربونها، وهي بالنسبة لهم لا تشكل تأثيرًا مرئيًا بل ذكرى مكررة، لقد رآهم صديقي وطالبي جوديث الأعمى. وقد أطلق عليهم ثوربر”زياراته المقدسة”، وهي عبارة عن فيض من الألوان يشبه إلى حد كبير بعض لوحات براك. وصفها هال بأنها “منطقة مستديرة من الضوء الوردي أو البرتقالي الفاتح يدور حول المجال المرئي”.

بالطبع هال الذي يستمتع بالخيال الشديد، يستمتع أيضًا بأحلام تكنيك ولور التي شعر أنها كانت تهرب من حالة عمى عيناه، على غرار الذكريات المستعادة. وكتب: “في كل مرة أعود فيها إلى الوعي، أفقد بصري مرة أخرى”. يبدو أن الألوان في الأحلام يجب أن تكون مسألة شخصية، بالنسبة لي، لم يعد لون الأحلام مع حقول اللون هذه إلا مع استعادة البصر.

أما بالنسبة للرسوم المتحركة، فإن الأدب النفسي على البصر المستعاد مليء بمثل هذه الظواهر. يصف فالفو هذه الظاهرة بأنها “خلاصة الهلوسة للتجارب المرئية الجديدة”. يفرّق علماء النفس الآخرون بين ثلاثة أنواع من الهلوسة: بسيطة، مثل البريق، ومربعات ودوائر هندسية، وشخصيات مهيكلة. في أوقات مختلفة أثناء وبعد الجراحة، كنت قد جربت كل ذلك. نظرًا لأنهم يتناقصون بمرور الوقت، يوجز فالفو إلى أنهم يمثلون “عملية كما لو كان مخزونًا عقليًا من الصور التي حرم منها المريض لسنوات يعيد ملء نفسه”.

المصدر: كتاب فرصة أخرى: رحلة إلى العمى

(الفصل السادس)

المؤلف: روبرت هاين

تعالوا إلى عالم الرواية

سأقول شيئًا، أنا قارئ يحب القصة جدًا، ويعشق الرواية؛ تعجبني روايات نجيب محفوظ وقصص يوسف إدريس وفانتازيا أحمد خالد توفيق، وأرتحل مع همنجواي في عوالم الحروب التي كان مراسلاً عنها، وأتماهى مع واقعية ماركيز السحرية، وأستمع للتراث الذي يستحضره محمد المنسي قنديل في كل أعماله، وأغوص مع تشيخوف وعوالمه الإنسانية المستوحاة من بيئته الروسية قبل الثورة البلشفية، وأظنُ أنّ الروس هم ملوك الرواية رغم وجود المبدعين الآخرين هناك على الضفاف الأخرى في القارة الأوروبية وقارة أمريكا اللاتينية بالذات، لكن الروس غاصوا في جنبات النفس البشرية أكثر من غيرهم – تجد هذا مجسّداً في روايات دوستويفسكي – فقدّموا سرداً إنسانياً رائعاً.

وقد نتساءل: لماذا يجب أن نقرا القصة / الرواية؟

لأننا سنقرأ حياتنا وحيوات الآخرين مسطّرَةً على الأوراق، فما حياتنا إلا قصص ذات أنواع؛ منها الكوميدي ومنها التراجيدي، وهناك الأكثر ميلودرامية.

ذات مرة قال لنا الدكتور الرائع عبد الحميد الحسامي- أستاذ الأدب والنقد بجامعة الملك خالد: “في داخل كل واحد منّا قصة”!

لكني أقول بل قصص متشعّبة ومشتجرة مع بعضها البعض ذات نهايات متعددة، ولو راجع كل واحد منا حياته لوجد أنه قد عاش قصصاً قصيرة كثيرة، وسمع عن قصصٍ أكثر، بحيث لو سطّرها على الأوراق – هذا إنْ كان كاتباً قصصياً- لوثّق لعوالم كثيرة.

لو عدنا لجغرافيتنا العربية لوجدنا أنّ الفن السائد هو الشِعر وليس الرواية، والمشهور لدينا أنّ “الشِعر هو ديوان العرب”؛ فنحن العرب قد نهتز للشِعر أكثر من القصة / الرواية وذلك لأن الشِعر خطابي ذو نبرة عالية، في حين القصة / الرواية صامتة!

لكن الرواية هي ديوان العالَم بأسره، ونحن –كما أعتقد– جزء من هذا العالَم!

وقد نسأل: ما الفرق بين القِصَص – بكسر القاف- والقـَصَص – بفتح القاف؟

جاء في لسان العرب: «القَصَصُ: الخبرُ المَقْصوص، بالفتح، وُضع موضع المصدر حتى صار أَغْلَبَ عليه، وقصّ عليّ خبَره يقُصُّه قَصّاً وقَصَصاً: أَوْرَدَه، يُقال قَصَصْت الرؤيا على فلان إِذا أَخبرته بها، أَقُصُّها قَصّاً، والقَصُّ: البيان، والقَصَصُ، بالفتح: الاسم، قال تعالى:{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3]، أَي: نُبَيّن لك أَحسن البيان، والقِصَص – بكسر القاف – جمع القِصّة التي تُكتب« (ابن منظور، 1414هـ، 7/73-74).

عن فن القصة / الرواية سألني صديق – ذات يوم -: ما الفائدة المرجوة من قراءة الروايات؟

فأجبت:

فضاء القصة أو الرواية متنفس جميل، ينقلك لتعيش عوالم أخرى حقيقية منها أو خيالية، ويجعلك تتفاعل مع بيئات مختلفة، وتتعرف على ثقافات تلك البيئات، وتعايش نماذج من البشر (وربما الآليات!) منها ما تعرفها وتدب على شوارع بلدك، بل ربما في حارتك الضيقة نفسها، وأخرى لم تعرفها إلا من خلال ما قرأت من سرد، لأنها غريبة قد لا تخطر ببالك وجودها!

وهذه الغرابة في العمل الذي بين يديك ربما دفعتك إلى أن تتساءل: كيف فكّر الكاتب بهكذا قصة؟

المؤكد أنه لا يوجد كاتب روائي نسج خيوط روايته من فراغ محض، لا بد من نقطة في واقع حقيقي أو واقع في ذهنه – تراكم من قراءاته السابقة- انطلق منها لصنع ذلك العمل الغريب، وهنا يكمن إبداعه الذي أذهلك؛ أظن أن رواية “أولاد حارتنا” لنجيب محفوظ تقدم نموذجاً لذلك.

في فضاء القصة / الرواية تكون مع إبداعات الكتّاب أنفسهم في نقل هذه العوالم إليك أنت المتلقي عبر الأوراق والممتد على السرير في استرخاء تقرأ ذلك العمل القصصي شاعراً بتلك المتعة عندما تجد أبطال تلك القصص “تتنطط” أمامك على الأوراق.

أنا لا أعتقد أنّ أحدنا لم يقرأ رواية أو قصة على الإطلاق، أضعف الإيمان الروايات التي كانت مقررة علينا في المدراس!

إنّ فن السرد فن جميل، لكنه يريد الأسلوب الرشيق الذي يجذبك منذ الصفحة الأولى لتغوص في تفاصيل تلك الرواية التي بين يديك، (أو في شاشة كمبيوترك إذا كانت pdf!)

وحتى الروايات المترجمَة لا تفقد جمالها بسبب الترجمة، بل على العكس، إنّ مطالعتك لأي رواية بلغتك الأم يجعلها أقرب إلى وجدانك؛ لأنها ستكون بتعابير تألفها، خاصةً إنْ أجاد مترجمها صياغة تلك التعابير بعربيةٍ سلسة.

أقول: اقرأوا ما يكتبه غيرنا، لتعرفوا كيف يفكرون، بل كيف يعيشون في هذا العالَم الذي لا تنتهي عجائبه!

ارتادوا هذا العالَم السحري، وعيشوا في رحاب هذا الفن الجميل، فن القصة / الرواية بكل أشكالها.

الكاتب: عبدالحفيظ العمري

المصدر: مجلة المحطة

وجه اللغة

من بين ذلك أنني كتبت يوماً أن «كلّ متكلِّم يُعبِّر باللغات الأجنبية انطلاقاً من لغته التي يُمكِن التعرُّفُ إليها عن طريق نَبرة شاذّة أو لفظ أو تركيب». كلام واضح، مقبول إلى حَدّ ما، لكنني أضفت- مباشرة- بعد ذلك: «وأيضاً عن طريق النظرة وَسِمات الوجه (أجل، للغة وجه)». ترى ما عساني كنت أعني بوجه اللغة؟ تملَّكني الشعور لمدّة بأنها عبارة لا تخلو من تهوُّر، وتخوَّفت أن يستفسرني أحد القرّاء عمّا قصدت، أن يقول لي مثلاً: هل يختلف وجهك عندما تتحدَّث بالفرنسية أو بالعربية؟ وكيف الحال عندما تتحدَّث بالإنجليزية التي لا تتقنها تماماً؟

مجرَّد تخمينات… لكن، أتيحت لي الفرصة مرّة أو مرّتين أن ألاحظ، لا أقول صحّة حدسي، وإنما إمكانية استئناف البحث في هذه المسألة. قرأت مؤخَّراً مقالاً عنوانه «ضَيْف غيرُ مَدعُوّ»، لشاعرة يابانية (يُوكُو تَاوَادَا)(1) تعيش في برلين وتكتب بلغتها الأصلية وأيضاً بالألمانية. من جملة ما لاحظت أن «العديد من الألمان يَبدون مَرِحِين عندما تُتاح لهم فرصة التحدُّث بالإنجليزية، فكأن هذا يسمح لهم بان يتحرَّروا من ضرورة تحسين أدائهم، ومن وسواس السيطرة على النفس، وهما أمران أصبحا مرتبطين باللغة الألمانية». روت- في هذا السياق- أن أحد معارفها، وهو تشيكي يعيش في كاليفورنا، يفضِّل كثيراً، حين يزور ألمانيا، التحدُّث بالإنجليزية على التحدُّث بالألمانية. «فما دام يتحدَّث بالإنجليزية، يُعامَل بلُطف على أساس أنه قادم من أميركا، لكن عندما ينتقل إلى الألمانية، تجعله نبرته الخفيفة يُصَنَّف حالاً في فئة «أوروبا الوسطى» […] ؛ يفقد حينئذ وضع الضيف […] ولا يُسمح له بدخول صالون اللغة الألمانية».

إذا كانت هذه تجربة الزائر التشيكي، فما هي حالة الشاعرة اليابانية؟ «فيما يخصّني يمكن أن أقول إن «النبرة» تبدو في وجهي أكثر مما هي عليه في نُطقي، فمهما تكن اللغة التي أتحدّث بها فإن مظهري الخارجي يكفي لتصنيفي فوراً. أُدْعَى بلُطف إلى الدخول إلى الصالون العائلي لأن ليس ثمة- فيما يخصّني- احتمال بأن أتحوَّل إلى امرأة أجنبية حتى النّخاع، لا يُكتَشف بسرعة أنها كذلك.».

تضيف الشاعرة: «ومع ذلك، هناك أشخاص من البورجوازية المثقَّفة لا يَكُفّون عن مقاطعتي بملاحظات من نوع: «مُذهِل حديثك الجيد بالألمانية!»، إلى درجة أنني أشعر في النهاية أنني مُقصاة، ولا أعود قادرة على الاستمرار في الكلام. أو لا ينفكّون يسألونني هل أعرف هذه الكلمة الألمانية أو تلك. بشكل عام يكشف اختيار هذه الكلمات- بالذات- أنه لم يسبق لهم أبداً أن تعاملوا فعلاً مع لغة أجنبية. يبدو جليّاً أن وضع شخص ليس منهم، وليس أيضاً أجنبياً، يثير الانزعاج.». لن تتكلَّم لغتي: ظاهرة تتخفّى في التفاصيل.

قبل ما يقرب من عشرين سنة، كنت- لمدّة قصيرة- في كامبريدج بالولايات المتحدة، حيث جامعة هارفارد. ذات صباح كنت متّجهاً إلى المكتبة (ماذا ستفعل في هارفارد إذا لم تزر المكتبة يومياً؟)، وإذا بي أبصر، عن بعد، مغربياً قادماً جهتي. لم أكن أعرفه، ولم أرَه قبل ذلك، لكنني علمت أنه من المغرب، ويمكن أن أضيف أنني نادراً ما أخطئ في تخميني. كيف أتعرّف إلى مغربي قبل أن ينبس ببنت شفة (لا بد من توضيح ذلك، لأنه إن تَحَدَّثَ لا مجال حينئذ للتردُّد)؟ أهي قسمات الوجه، كآبة مستسلمة، طريقة مشي ببطء، نعم ببطء، كأنه يتجوَّل؟

كان يقترب مني رويداً. ما العمل في هذه الحالة؟ متابعة طريقي. في تلك الأثناء قلت لنفسي إنه لا شكّ يحنّ إلى طبخ بلاده، إلى طعام أهله البعيدين، وتذكَّرت ما قاله الحسن اليُوسِي عن الطريقة المُثلى لعلاج المغربي عندما يمرض (ربما يقصد عندما ينهار عصبياً): «أطعِموه الكُسْكس». وبينما كنت أدير هذه الوصية في ذهني، اقترب مواطني بحيث صرنا جنباً إلى جنب. ركَّزت نظري على نقطة في الفضاء أمامي وتابعت السير، وإذا بي أسمع: سي عبد الفتاح! لا شكّ أنه كان يعرفني، ربَّما دَرَس في الكلّيّة التي كنت أشتغل فيها. قد أكون تضايقت حينئذ، وبدت عليّ علامات اضطراب، وعلى الأرجح لاحظ ذلك لأنه قال لي على الفور: «اسمح لي سي عبد الفتاح، بغِيت غِير نَدْوي معاك شويا بَلعَرْبِية (أريد فقط أن أتحدَّث معك شيئاً ما بالعربية)».

الحنين إلى الوطن حنين إلى اللسان. كان بحاجة إلى التحدُّث بلغة الأم، ضرورة قصوى، شكل من التداوي والعلاج. تبادلنا بضع كلمات، نزلَت برداً وسلاماً عليه، وعليَّ كذلك. تغيَّر وجهه، صار له وجه آخر، وجه يشعّ بهجة وسروراً.

اسم المؤلف: عبدالفتاح كليطيو

المصدر: أزمنة – عن مجلة الدوحة