المدونة

بيل دا كوستا غرين أمينة المكتبة التي لا تملك ترف ارتكاب الأخطاء

«أمينة المكتبة الشخصية»…

«الفضاء بين أركان العمارة التي شكّلتها الحقائق»

ومن خلفك الموسيقا التصويرية يمكن لك أن تقرأ بيل دا كوستا غرين (بيل ماريون غرينر) مبدعة مجموعة المخطوطات الشهيرة في مكتبة بيربونت مورغان، والمرأة التي يكتنف حياتها الكثير من الأسرار، أو تحاور فرشاتها التاريخية السحرية، فتلك هي رواية «أمينة المكتبة الشخصية» للكاتبتين ماري بنديكت وفكتوريا كريستوفر موراي، الصادرة والمترجمة إلى العربية حديثاً.

ليس جديداً، ومن ثم لن يكون مثيراً، ولا أصيلاً، إذا ما قرأنا الرواية على أنها ترصد الظلمَ الرهيب والألم الذي عانى منه الناس من ذوي البشرة الملوّنة، والذي تسبّبت فيه العنصرية الممارسة على الأفراد داخل الولايات المتّحدة الأمريكية ككل… كثيرة هي الأعمال التي رصدت تفاصيل وأوجاع وآلام السود وبعدة أنواع من الكتابة والفنون: الرواية، القصة، الشعر، المسرح، السينما، الموسيقا والأغاني، الرسم… فما الجديد هنا؟

نبدأ من هذا السؤال: كيف ساعدت امرأةٌ أمريكية بسيطة العملاقَ، وربما السيئ الذكر، جي بي مورغان في بناء مجموعته الفنّية، وتجميع تلك المخطوطات الضخمة، من دون أن يعرف أيّ أحدٍ سرّها؟

ونضيف أننا أمام رحلة صعود شاقة، كما أننا أمام بطل روائي نموذجي يمكن أن نسقط عليه صفة المخلّص لأسرةٍ كانت تبحث عن وجودها، بغض النظر عن كونها ملونة وقررت أن تعيش بوصفها أسرة بيضاء، فلم أفكر في لونها عندما «كانت بيل على درجات سلم جامعة برينستون تلملم طيّات تنورتها الثقيلة… لقد سمعت صوت أمها تقول: «بيل، تحلّي دائماً بأخلاق السيّدات»، تنهّدت وقالت في نفسها: لو كنت سيّدة لما قرّرت الرَّكضَ…»… تماماً الجملة الأخيرة هي ما كنت أفكر فيه.

ولتكون سيدةً، كان القرار الذي اتخذته بأن تترك وراءها أصولها مؤلماً، والخوف من التعرّض للانكشاف الذي يحفّ بهذا الاختيار مرهقاً ومؤلماً أكثر. يمكن لنا بين سطور الرواية وأحياناً بشكل صريح أن ندرك كيف كان عليها كلَّ يوم أن تخرج من منزلها، وأن تقدّم عرضاً مضاعفاً تُكافأ عليه بأضخم الجوائز في النهار، لكنها، عندما تعود إلى المنزل في الليل، تخلع «زيّها»، وتضع رأسها على الوسادة لتدرك أنّها لا تزال سوداء.

أصعب الأشياء التي يمكن أن تحدِث شرخاً في عمق تفكيرك أن تكون بين خيارين لا يتوانى كلّ منهما عن حشد أقوى الأدلة على صوابه، فلكلٍّ قوة حضوره، كما أن لكلٍّ استفزازيته، فهل يمكن أن نسم ريتشارد غرينر (والدها) بالأنانية إذ تخلى عن عائلته لمبدأ آمن به لأجل أمته أو قومه أو شعبه؟ وهل نستطيع أن نسم جينيفيف (والدتها) بالانهزامية وحصر نضالها في عائلتها البيولوجية وترك عائلتها الكبيرة ومن ثم أمتها أو قومها أو شعبها في سبيل مصلحة أسرتها الشخصية؟… بين هذين الخيارين تسقط أشياء وترتقي أشياء، لكنّنا ساقطون مع التي تسقط، ومرتقون مع التي ترتقي، فيما نتأرجح ما بين هذين السقوط والرقي… نحن نعيش أحداث رواية نشعر فيها ومعها بأننا معلقون ما بين السماء والأرض، ما بين السقوط والرقي… وهذه ميزة أخرى يمكن أن تجعلني أجرؤ على القول إنها رواية استثنائية.

بيل دا كوستا غرين، وريتشارد غرينر، وجينيفيف فليت، وجي بي مورغان، وجاك مورغان، وبرنارد بيرينسون، وآن مورغان، وإلسي دي وولف، وإليزابيث ماربوري، وجونيوس مورغان، تقريباً هذه معظم شخصيات الرواية، وهي شخصيات عاشت حقيقة، ولكلٍّ منها عوالمها، لكنها هنا كلها تدور في فلك شخصيتنا الرئيسية بيل دا كوستا غرين.

يرصد السرد أيضاً علاقات الجنس المتوترة بين بيل وبيرينسون وبين بيل ومورغان، لكن الأهم هي تلك الهالة التي يرسمها المتفوّقُ لذاته، والتي لا تلبث أن تظهر هشاشتها مع أول موقف إنساني، أو أول خفقة قلب، أو أول كشف حقيقي يظهر عزلتها العميقة؛ لقد كان مورغان الاقتصادي العملاق هشاً، كما كانت هالته تترنح أمام خفقات قلبه، فيما كان بيرينسون ساقطاً بكل ما يعنيه السقوط الأخلاقي من معنى وهو خبير الفن الإيطالي في عصر النهضة والأكاديمي المبجل… فأمام نِسوية بيل، لا لونها، تسقط ذكورية الاثنين مورغان وبرنارد بيرينسون… كما سقطت ذكورية الأب أيضاً بمغادرة عائلته وإنشاء عائلة أخرى في الشرق الآسيوي ما وراء البحار، وإن كان يشارك بيل في كونهما ضحية العنصرية، ورغم كونه لم يتنازل عن الدفاع عن حق قومه في المساواة والعدالة مع الأبيض، ودفع لأجل ذلك ما ظننا نحن أنه ثمن كبير: خسارة عائلته؟

تنهي بيل سرديتها الناجحة والراقية مهنياً ولكن المتعبة والمتعثّرة حياتياً، بالتصميم على إبقاء الجوانب الأكثر خصوصية في حياتها مخفيّة، لكنها تمنحنا فرصة ملء الفجوات، وحتى لا نجنح كثيراً، ولأنها تصر على أن تتحكم في سرديتها، لا تفتأ تعدل مسارات قراءتنا وإن كان ذلك على نحو استفزازي وجريء أحياناً، لكنه استفزاز إيجابي… من البداية كان واضحاً أنّ بيل لم ترغب في أن يتم اكتشاف هويّتها الحقيقية ليس في عالم الرواية فحسب، بل لنا نحن القراء أيضاً.

وبعيداً عن رحلة البطلة وسقطاتها وصعودها، لافتٌ هذا الزخم المعلوماتي الذي يخص أفضل الأعمال الفنية والتحف، الأمر الذي لم تهمل الرواية نسج تفاصيله، من اللوحات الشهيرة «تطوّر الحبّ» لجان أونوريه فراغونارد، إلى لوحة بورتريه لرجل مورسكي، إلى لوحات رامبرانت ولا سيما البورتريه الذهبية للعجوز الذي اشتعل رأسه شيباً، إلى كتاب (موت آرثر) للسيّد توماس مالوري في نسخة طابعة وليام كاكستون، إلى نسخة سوينهيم وبانارتز من ديوان شعر فيرجيل، اللذين كانا من أوائل المستخدمين للآلة الطابعة في القرن الخامس عشر، إلى إنجيل الملك تشارلز الأوّل، وساعة نابليون، ودفتر ملاحظات دافنشي، وأوراق شكسبير، وعلبة نشوق الإمبراطورة كاترين العظيمة، ورسائل الرئيس جورج واشنطن. وجواهر عائلة ميديشي الإيطالية، ولوحات ورسومات ماتيس، ومنحوتات رودان، ونسخ كاكستون، وكتاب الساعات لميملينج…

لكن اللافت أكثر على المستوى البنائي كان نهايات الفصول، في عمقها، وتكثيفها، ورونقها، وملمسها، ونغمتها المتفردة، وفي كونها أخيراً ترسم خطوات سيدة الرواية بلا استثناء بيل دا كوستا غرين في تقدّم سرديتها:

  1. لقد أوصيته بإجراء مقابلة معك لينتدبكِ شخصياً أمينةً لمكتبته.
  2. أصبحتُ المرأة البيضاء المعروفة باسم بيل دا كوستا غرين.
  3. سأجعلُ من مكتبة بيربونت مورغان، في حدّ ذاتها، التحفة الفنيّة التي تستحقّها.
  4. هذا المكتب سيكون بمنزلة القاعدة المثالية، التي يمكن من خلالها إطلاق حجر الأساس لمكتبة بيربونت مورغان الفريدة.
  5. سابقاً، كانت تعتريني رغبة في النجاح. أما الآن، فلم يعد من الممكن أن تكون تلك الرغبة مجرّد لهفة بسيطة؛ لا بد لي من الالتزام بالنجاح.
  6. الأعداء يمكن أن يكونوا خطرين بشكل خاصّ على فتاة ذات بشرة ملوّنة تسمى بيل ماريون غرينر؛ لأنّها تعبر العتبة إلى العالم الأبيض الأوسع باسم بيل دا كوستا غرين.
  7. «دعينا نتنقّل في أرجاء قاعة الرقص، فلدي بعض الأعداء الآخرين الذين أريدك أن تلتقي بهم».
  8. لقد كنت أدرك أنّ ماما لا تزال حقاً تنظر إليّ على أنّني ابنتها.
  9. لقد بنت آن حياة لنفسها، وأنا أخطّط لأن أفعل الشيء نفسه.
  10. أردت أن يفهم الجميع أنّ مكتبة بيربونت مورغان فريدة من نوعها، وأنّ أمينتها استثنائية.
  11. يجب أن أتصالح مع نفسي بشأن حقيقة أنّ الشكوك التي تحوم حولي لن تختفي أبداً.
  12. سمحت لنفسي بإلقاء نظرة أخيرة عبر المروج قبل أن نجتمع ونبدأ رحلتنا شمالاً إلى المنزل الوحيد الذي تركناه.
  13. «إنّ الاسم المنحوت فوق أبواب هذه المكتبة هو اسمي، وليس اسمك. أنا لا أريد تذكيرك بذلك مرّة أخرى».
  14. فزت بالفعل بجائزة المزاد، وآمل أن أكون قد فزت بثقة السيّد مورغان الكاملة معها.
  15. «حسناً يا سيّد بيرينسون، يبدو أنّ ما وقع لا يعتبر بالتعرّف الدقيق بك؛ فمن الظاهر أنّني أعرفك منذ أن كنت في العاشرة من عمري».
  16. كنا محاطين بالثرثرة والموسيقا، بقينا صامتين. لم أدرك ما يفكّر فيه، لكنّ فكرتي الوحيدة كانت تعلن الآتي: يجب أن أتعرّف إلى ذلك الرجل.
  17. فقلت: «نعم سألتقيك يا برنارد».
  18. أيقظتني كلماته، وفي الوقت نفسه أدركت أنّني تهت إلى الأبد.
  19. أنا امرأة عصرية ولي مهنة أديرها باستقلالية، ولست بحاجة إلى أن تشرح لي أيّ شيء يا حبيبي. فأنا حسناؤك…
  20. «أنت أمينة مكتبتي الشخصية، ويجب أن تتذكّري دائماً أنّك ملكي».
  21. حدّق فيّ وهمس: «أنت إنسانة استثنائية!».
  22. ثم ابتسمت، وانغمست بسرور في النوم في أحضان برنارد بيرينسون، أو أياً كان اسمه.
  23. لقد تهت بين إيطاليا وبرنارد.
  24. ليس لديك ترف ارتكاب الأخطاء يا آنسة غرين.
  25. «تلقيت للتو برقية. لقد أرسل فيها برنارد تحياته لك، لكنّه، في نهاية المطاف، لن يتمكّن من المجيء إلى لندن».
  26. إنّني والسيّد مورغان نتشارك رابطاً لا يمكن كسره، وأنا لن أدع أيّ شخص أو أيّ شيء يفتكّ ذلك مني.
  27. قصّة ماما وما باحت به أيقظني. إنّني أدرك تضحياتها، وأقبل بحتمية ذلك الاختيار لنا جميعاً، وفي المستقبل سأنتبه وأكون حذرة أكثر.
  28. شعرت بنخب الانتصار وأنا أقف أمامهم؛ امرأة صاحبة بشرة ملوّنة في عالمهم الأبيض.
  29. هل سأندم على ما قلت من كلمات؟
  30. لقد تحدث معي كما لو أنّه كان السيّد وأنا كنت—. توقّفت أفكاري عند هذا الحدّ، فأنا لا يمكنني أن أسمح لنفسي بالتفكير في ما لا يمكن تصوّره.
  31. لكنّ الليلة مخصّصة لنا أنا وهو فقط، كما كنا دائماً، ومثلما أودّ دائماً أن نكون.
  32. «أعطاك السيّد مورغان الفرصة، لكنّ كلّ جزء من نجاحك يعود إليك، فأنت بيل دا كوستا غرين».
  33. في لحظة علمت ما يجب عليّ القيام به؛ فلكي أتقدّم لا بد لي من العودة إلى الوراء.
  34. فضغطت على يد بابا، ثمّ أغمضت عينيّ، محاولةً تذوّق كلماته، واستيعاب أمله.
  35. وارتميت في حضنه الذي كان ينتظرني.
  36. «حسناً يا آن. لتكن أسرارنا آمنة بيننا».
  37. لقد رأيت أخيراً عمق خيانة برنارد، وسمحت لنفسي بالاعتراف بها؛ فلماذا يبدو ظاهر كل شخص مختلفاً عن حقيقته؟
  38. أبقيت عيني ثابتتين على الطريق الذي كان أمامنا، فأنا لن أنظر أبداً إلى الوراء.
  39. سيكرّم جاك نسبه، تماماً مثلما سأكرّم والدي وأسلافي السرّيين.
  40. حان الوقت لترك مكتبة مورغان بوصفها مؤسسةً خاصة بك، وتحويلها إلى ما كان يجب أن تكون عليه: مؤسسة عامة تكريماً لوالدك».
  41. «سأكون راضية تماماً، ويشرّفني أن أعمل مديرةً لمكتبة بيربونت مورغان ما حييت».
  42. فهل سيعود شخص ما، في يوم من الأيام، إلى الوراء في الوقت المناسب لاكتشاف قصّتي، ويطالب بفخر بتبنّي حقيقتي بوصفي أمينةَ مكتبة شخصية لجي بي مورغان صاحبة بشرة ملوّنة كان اسمها بيل دا كوستا غرين؟

هذا ما فعلته ماري بيندكت وفكتوريا موراي وجوداً بالقوة (كتابة)، وهذا ما فعلتٌه وأدعو غيري إلى فعله وجوداً بالفعل (قراءةً).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *