القراءة وتحوّلات الإنسان

نوره بابعير

في حياة الإنسان لحظات لا تصنعها الأحداث الكبرى، بل تصنعها جملة في كتاب، أو فكرة تقع على القلب . القراءة ليست هواية، وليست مجرد عادة ذهنية، إنها فعل داخلي عميق، يشبه التهذيب الروحي. الإنسان الذي يقرأ لا يبقى كما هو، لأنه يُعاد تشكيله سطرًا بعد سطر، وفكرة بعد فكرة.

القراءة ليست مجرد استقبال للمعلومة، بل هي دعوة إلى حوار داخلي، إلى مساءلة الذات والعالم. إنها لحظة يتوقّف فيها الزمن الخارجي، ليبدأ زمن آخر؛ زمن التأمل والتخيّل والانفعال. نقرأ لا لنكتسب معرفة فقط، بل لنعبر إلى أماكن لم نصلها، لنتحدث مع أرواح لم نلتقِ بها، ولنشعر بما لم يحدث لنا، لكننا نعيشه كأنه حقيقي.

في أولى مراحل وعيه، يكون الإنسان كتلة من الأسئلة، من الانفعالات الغامضة، من الإحساس المتكرر بالعجز عن الفهم. القراءة تأتي لتمنحه المفردات، لا لتشرح له العالم فقط، بل ليعيد بناءه من الداخل. الطفل الذي يكتشف الحكايات لا يعود كما كان. العاشق الذي يقرأ الشعر يرى لذة الشعر بعينٍ أخرى. الحائر الذي يقرأ الفلسفة لا تهدأ حيرته، لكنها تتحوّل من فوضى إلى سؤال ناضج.

وحدها القراءة تزرع فينا القدرة على النظر إلى الحياة بأكثر من زاوية. إنها لا تغيّر الواقع، لكنها تغيّر من يرى الواقع. تقوّم العقل، وتلين القلب، وتفتح النوافذ في جدران الذات. إنها تُهذّب، لا بالقوة، بل بالتماس العميق بيننا وبين تجارب الآخرين، أفكارهم، رؤاهم، وهزائمهم أيضًا.

نقرأ لنعرف، لكننا نقرأ أكثر لنشعر. في الرواية، نعيش حيوات لا نملكها. في الشعر، نستعير لسانًا أبلغ مما نملك للتعبير عمّا لا نستطيع قوله. في كتب السيرة، نختبر قدرة الإنسان على السقوط والقيام. في الفلسفة، نطرح الأسئلة التي لا يجرؤ الكثيرون على مواجهتها. في كل قراءة، هناك باب يُفتح في داخلنا، وغالبًا لا يُغلق أبدًا.

قد يقال إن الكتب لا تغيّر العالم، لكن من ينكر أنها تغيّر الإنسان؟ والإنسان هو من يصنع العالم. من قرأ عن العدالة، لا يمكنه أن يحتمل الظلم بسهولة. من غاص في عوالم الفكر لا يمكنه أن يقبل الجهل كما هو. من قرأ عن الشجاعة، عن المعنى، عن الألم، عن الحب، لا يمكنه أن يعود فارغًا كما كان. إننا، بغير قراءة، نظلُّ في سطح ذواتنا، نعيش في حدود التجربة المباشرة. أما القراءة، فهي توسّع تلك الحدود، تجعل الداخل أعمق، والخارج أكثر وضوحًا.

ليست القراءة مجرد معرفة تُكتسب، بل هي وعي يُعاد بناؤه. إن الإنسان حين يقرأ، لا يبحث فقط عن إجابات، بل يصير أكثر وعيًا بأسئلته، وأكثر شجاعة في مواجهة تعقيده الداخلي. يصبح أكثر قدرة على الإصغاء، وعلى الشك، وعلى الإيمان أيضًا – لا الإيمان الأعمى، بل ذلك الذي يأتي بعد أن نعرف كم أن الحقيقة أوسع من أي إطار جاهز.

ومن أجمل ما في القراءة، أنها فعل حر. لا يُفرض ولا يُشترى. هي ذلك الوقت الذي نهبه لأنفسنا، لا لنستعرض معلومات، بل لنتنفس ببطء في زمن يركض. في ظل عالم يتكدس فيه الضجيج، تأتي الكتب كصوت خافت لكنه عميق. صوت لا يصرخ، لكنه يبقى. في زحام الأيام، نقرأ لنستعيد توازننا، لنفهم ما لم يُفهم، ولنتذكّر من نكون.

القراءة لا تغيّرنا دفعة واحدة. إنها أشبه بالماء الذي ينحت الصخر قطرة بعد قطرة. نقرأ اليوم، ونظن أن شيئًا لم يتغير، لكن بعد شهور، وربما سنوات، نجد أننا لم نعد أولئك الذين كنا من قبل ، صرنا أكثر إنصاتًا، أقل حكمًا، أكثر امتلاءً، وربما، أكثر حزنًا، لكن ذلك الحزن الجميل الذي لا يُهين، بل يعلّم.

ربما لا نحتاج أن نقرأ لنكون مثقفين، بل لنكون إنسانيين أكثر. لأن القراءة، في أعمق تجلياتها، ليست تكديسًا للمعرفة، بل رفقة هادئة تذكّرنا بأننا لسنا وحدنا في هذا الطريق المعقّد،وأن بين السطور أناسًا يشبهوننا أو يختلفون عنا، لكنهم يمنحوننا فرصة أن نكون أكثر فهمًا، وأكثر حياة

أدب الأنا وإرنستو ساباتو

أدب الأنا

بناء على استرداد الفرد، وتجربته المُحددة التي لا تقبل التحول، كان من المنطقي أن يلجأ ممثلو التمرد المعاصر إلى الأدب للتعبير عن أنفسهم؛ لأن هذا الواقع المعاش يُمكن أن يظهر في الرواية والدراما فحسب؛ لكن الأمر هنا لا يرتبط بذلك الأدب الذي يتسلى بوصف المشهد الخارجي أو العادات البرجوازية، وإنما بأدب الأمور الفريدة والشخصية.

يجزم فلاديمير فيدلي، في بحثه البارز «مقال عن المصير الحالي للآداب والفنون» بأننا نشهد أفول الرواية والدراما؛ لأن فنان اليوم «يعجز عن تسليم نفسه تماماً إلى الخيال الإبداعي»، بسبب هوسه بأناه الذاتية. لا يَقدر كُتَّاب القرن العشرين على تخطي هذه الأنا؛ لأن مصائبهم واضطراباتهم الشخصية تُنومهم مغناطيسيّاً، فيتحاورون إلى الأبد مع ذواتهم داخل عالم الأشباح، على عكس روائيين عظماء من القرن التاسع عشر؛ على عكس كتاب كانوا يخلقون عالماً ويُظهرون كائناتُه الحيّة من الخارج مثل بلزاك؛ أو على عكس روائيين مثل تولستوي، الذين طالما أعطوا انطباعاً بأنهم الرب نفسه.

يؤكد نقاد كثيرون أن القرن التاسع عشر هو القرن العظيم لفن الرواية. من ناحيتي، أنا مستعد لقبول أن القرن التاسع عشر هو القرن العظيم لفن روايةِ.. القرنِ التاسع عشر.

تُمثل كلمة رواية اليوم شيئاً مختلفاً جدّاً عما مثلته في القرن الماضي. لا يرتبط الأمر بأن الكاتب يعجز عن تخطي أناه الشخصية كي يقدم وصفاً موضوعيّاً للواقع، وإنما بأنه لم يعد يهتم بالأمر أصلاً، أو أنه على الأقل لم يكن يهتم به حتى وقت قريب جدّاً إلى أن بدأت تنبثق توليفة جديدة بين الذاتية والموضوعية وهي سلف التوليفة الروحانية الشاسعة، التي سنشهدها كأحد أشكال تخطي الأزمة المعاصرة (لو سمحت القوى المادية الرهيبة التي تدير اللعبة لنا بهذا الأمر بطبيعة الحال).

يُخبرنا البطل في رسائل من تحت الأرض(): «ما الذي قد يتحدث عنه رجل شريف بأقصى درجات المتعة؟ الإجابة: عن نفسه. إذاً، سأتحدث عن نفسي»، وفي كل أعمال دوستويفسكي سيتحدث عن نفسه، سواء تنكر في صورة سافروجين أم إيفان أم ديميتري كارامازوف أم راسكولنيكوف، أو حتى جنرالة أو حاكمة.

يظهر هذا الانتقال نحو الذات في كل الأدب المعاصر العظيم، فأعمال مارسيل بروست عبارة عن ممارسة شاسعة للذاتية. فيرجينيا وولف، وفرانتس كافكا، وجويس، بحواراتهم الداخلية، أو حتى ويليام فوكنر.. إن كل هؤلاء لديهم ميل إلى إظهار الواقع بداية من الذات. تقول إحدى شخصيات جوليان غرين: «إن كتابة الرواية في حد ذاتها رواية، مؤلفها هو البطل. يحكي قصته الشخصية، وإذا جسد بنفسه مهزلة الموضوعية، فهو إما مبتدئ، وإما أحمق، لأننا لا ننجح أبداً في الخروج من ذواتنا».

يبدو هذا الخلاف مع العالم الخارجي ملحوظاً في أعمال دوستويفسكي، التي تُعد من أوجه كثيرة بوابة إلى الأدب الحالي، فنحن لا نعرف أبداً إذا ما كانت شخصياته المنغمسة في ذواتها تحيا داخل قصر جميل أم مكان حقير. يُخبرنا في مرات قليلة إذا ما كانت تمطر أو إذا ما كان الجو مشمساً؛ أو أننا نعرف الأمر بمشقة عبر جملة أو اثنتين، أو لأن هذه الأمطار أو هذه الشمس تشكل -ويا للطريقة التي تُشكل بها!- جزءاً من الهم أو المشاعر التي تغرق فيها الشخصية في تلك اللحظة، فيصبح المشهد الخارجي حالة روحانية.

طالما كانت مهمة تصنيف الإنتاج الأدبي في صورة أنواع مسعى مآله إلى الفشل. فيما يتعلق بالرواية، عانت من كل الانتهاكات أو، كما قال فاليري مشمئزّاً: «كل الانحرافات تخصها»()، أو شيء من هذا القبيل. صار عصرنا تبجيلاً جديداً للأنا. ثمة رواية لفوكنر اسمها «بينما أرقد محتضرة». ثمة واحدة أخرى اسمها «الصخب والعنف»؛ لأنه لم يعد ضروريّاً ولا حتى ملائماً أن يُحكى العالم بوساطة راوٍ عليم وقادر كليّاً. ربما الرواية، كما يقول شكسبير عن الحياة:

قصة

يحكيها أحمق

ملآن بالصخب والعنف.

التذوق الحسي للفن والجمال: حين تتكلم العين وتُصغي الروح

نوره بابعير

غالباً التفكير يعيد للأشياء هيبة أعماقها يبيّن الخفايا المبطنة في المعنى نفسها فيبقى الإنسان عالقاً في صحبة التفكير ، فيجد نفسه بين تفكير ناقد يحلّل للأشياء وجودها به ويترك الأخريات تأخذ أنصافها من غيرها . لذلك حينما تتكاثر الأفكار حول المواضيع تبقى رهينة البقاء حتى تجد جدواها من البحث عن المعنى وتبقى المفاهيم اساس يقود للعقل طريق فكرهُ .
لذلك غالباً ما يلامس العقل أفكاره بأشياء تلحُ عليه الاطلاع نحوها والأخذ بالانطباع من خلفها ، وهذا ما يجعلني دائماً أكتب عن الفن والجماليات و الحس مما ادرك الاثر الذي تستطيع أن تغير مجرى الانسان الذاتي إلى حس ذوقي يترك من بعده التهذيب الاخلاقي .
تهميش الفن عند البعض ليس إهمالاً منهم بقدر الجهل والتوسع للمفهوم الذي يحمله الفن للمعنى الحقيقية في حياة الإنسان . الفن في المعرفة و الثقافة والأتساع الفلسفي هو ليس مجرد مادة تُعرض ، ولا الجمال هو مشهداً يشاهد ، بل أنهما تجربة داخلية تبدأ من الحواس ، لكنها واسعة لا يمكن أن تنتهي عندها ، أن يتذوق الإنسان الفن ، هو لا يستخدم بصره دون سمعه ولا يمكن له أن يستخدم سمعهُ دون بصره وما إلى ذلك ، بل هو يُجنّد كل ما في كيانه من المشاعر و الذكريات و الخيال وهذا يولد التذوق الحسي ، بصفة تبين للإنسان مفهومها أن ما وصّل إليه من هذا الفن هو أرقى الأشياء لتفاعلك الإنساني مع الجمال .
التعمق في التفكير يولد التساؤلات المفرطة و الذي لا يرضيها إلا الفهم ، حينَما تتساءل عن التذوق الحسي نبدأ في محاولات عديدة لتفسر التذوق الحسي سواءً من منظورك أو من منظور الآخرين تبحث عن المعنى الناتجة من خلق الكلمة ما هو التذوق الحسي ؟ قد يكون هو الاستجابة الشعورية العميقة التي تحدث في النفس و عندما تتعرض لمثير جمالي مثل لوحة فنية أو قطعة موسيقية أو مبنى معماري، أو عادات بشرية تميز الأساليب بين شخص وأخر ، حتى لو كانت تقتصر على زهرة في طريق، أو مشهد طبيعي بسيط. هو ما يجعل العين تُضيء عند رؤية لون متناغم، يلامس القلب و يخفق لسماع نغمة موسيقية تتسلل دون استئذان و يخلق شعور الدهشة لأشياء غير معتاد عليها فتنفض ركودها وتستبدلوا بالتذوق الحسي العميق ليفسر كل ما شعر به الإنسان من تلك اللحظة وتميزت من زاوية شعوره .
ثم تعوّد للتفكير مرّة اخرى تنغمس في المفاهيم الواسعة لهذا الوصف تجد أنه شعور خفي لا يمكن لك أن تشرحه بالكلمات لكنهُ فعلاً يعاش بالكامل ، حينما يقف عند للوحات فنية أو الميول إلى مقطوعة موسيقيّة أو تأملات في الطبيعة ، هو يعلم تماماً ما الذي يعنيه من هذا الوقوف و الاكتساب الذي أضيف له من حراك الذوق الحسي حينها .
حينَما نرى أن الفن يتشكل على مدى حواسنا، نستطيع أن نضعه بوصف جسوراً للحواس تعبر الأشياء من وجهتهُ ، الفن يتشرب حواسنا لكنه لا يبقى على سطحيتها ، العين لا تكتفي برؤية الخطوط والألوان إذا تحدثنا عن الأعمال الفنية ، بل تترجمها إلى مشاعر ، والأذن لا تسمع فقط الالحان بل تلتقط المعاني من خلف الإيقاع، واليد حين تلامس خامة فنية لا تكتفي بإدراك الملمس بل تُحسّ بالحرفية التي صنعتها ، بالزمن الذي عبرها و احتفظ فيها في أعمال فنيّة و هنا، يتحول التذوق من مجرد “إدراك” إلى “إحساس”، ومن مجرد “نظر” إلى “رؤية داخلية”. فالجمال ليس شيئًا نراه فقط، بل شيء نُحسّ به، ونتفاعل معه على مستوى أعمق.

ما زال التذوق الحسي قابل لطرح التساؤلات ، هل التذوق الحسي فطري أم مكتسب؟

هو سؤال فلسفي قديم و اختلف فيه الفلاسفة والنقاد: هل نحن نولد بحسّ جمالي فطري، أم أننا نتعلم التذوق؟ في الواقع، ربما يكون كلاهما الأمرين صحيحان . فثمة إحساس فطري يجعلنا ننجذب للجمال منذ الطفولة و طفل صغير يتأمل فراشة ملونة أو يُصغي بانبهار لصوت الناي – لكن هذا الحسّ يظل خامًا حتى تصقله التجربة، والثقافة، والمشاهدة.
من يقرأ الادب و الشعر كثيرًا، تتشكل لديه ذائقة لغوية مرهفة، ومن يزور المتاحف ويتأمل الأعمال الفنية، تتسع رؤيته للجمال، ويبدأ في تذوق ما لم يكن يراه من قبل. وهكذا، و يصبح التذوق الحسي مهارة تُنمّى، لا موهبة فطرية فقط.
أما إذا تواجد التذوق يصيح الجمال قيمة شعورية كيف ؟ الجمال ليس دائماً ما هو “متناسق” أو “مألوف”. أحياناً يكون الجمال في الغرابة، في كسر الروتين في المفارقة. أو قطعة فنية قد تكون مربكة بصرياً، لكنها توقظ فينا مشاعر غير متوقعة. وهنا يأتي دور الذوق الحسي في استقبال الفن بروح متفتحة، لا تكتفي بما تعرفه مسبقاً، بل تجرّب وتغامر وتُنصت إلى الجديد.التذوق الحسي لا يبحث عن “الإعجاب السريع”، بل عن الأثر البعيد. عن ذاك الشعور الذي يصيبك حين ترى شيئًا لا تعرف لماذا أحببته، لكنك أحببته بقوة. عن المشهد الذي يظل عالقًا فيك بعد زمن طويل.

من المفترض أن يكون التذوق الحسي هو تربية للنفس و ليس ترفاً ثقافيًا، بل ضرورة إنسانية. تهذيب للمشاعر، وتوسيع لأفق الحياة. فالحياة، رغم صعوبتها، تصبح أكثر احتمالاً حين نراها بعيون تعرف كيف تلتقط الجمال حتى في التفاصيل الصغيرة. اقرأ لوحة. استمع إلى مقطوعة. امشِ في معرض، أو شاهد فيلماً فنياً، لا لتُعجب به فقط، بل لتتركه يتسلل إليك، ويُعيد ترتيبك من الداخل. لأن التذوق الحسي في جوهره، ليس فقط ما نُحب… بل ما يجعلنا أكثر إنسانية، وأكثر اتصالاً بالمعنى الأعمق لما نراه ونعيشه .

فلسفة الذوق ” حينَما يتشكّل الإنسان بالجمال “

نوره بابعير

فلسفة الذوق ” حينَما يتشكّل الإنسان بالجمال ”

للذوق فلسفة عميقة مما نعتقد لأنها تنتج من خلال أفكارنا الواعية ثم تتشكل بين الاخلاقيات و التهذيب الذاتي اتجاه الذوق الفردي و الذوق العام بين البيئة والإنسان . لذلك ، قد نظن أنّ الذوق” هو أمر بسيط أو ثانوي، لا يتجاوز اختيار اللباس أو تفضيل نوع معين من الطعام أو الموسيقى. لكن حين نتأمل نتعمق لهذا المفهوم، نكتشف أنه يتجاوز كل ما هو سطحي، ليغدو تعبيرًا جوهريًا عن ذات الإنسان، بل وسيلة لفهم العالم والوجود.

الذوق هو أنعكاس مرآة للذات .

الذوق ليس مسألة شكلية يهتم الإنسان من خلال المظهر فقط ، بل هو جوهر يتشكل داخل النفس، ويتجلّى خارجها في السلوك والتفضيلات والأسلوب العام في الحياة. عندما نقول عن شخص ما إنه “ذو ذوق رفيع” فإننا لا نصف فقط أناقته أو اختياراته الفنية، بل نشير ضمنيًا إلى رقيه الأخلاقي ووعيه الثقافي وهذا الترابط العميق بين الذوق والأخلاق ليس جديدًا، بل هو جزء من الإرث الفلسفي والإنساني الذي تعامل مع الجمال بوصفه قيمة مرتبطة بالحق والخير، ودائماً الفلسفة تأخذ من التفكير حقها في مفهوم المعنى ومدى بقائها في حياة الإنسان وتأثيرها عليه لذلك كلما تأمل الإنسان نحو الذوق يجد هناك طرقات مترابطة بين المعنى و التأثير الناتج عليه اتجاه حياته .

فطرة الذوق ومساحة التكوين..

قد يولد الإنسان بميل فطري إلى الجمال والتناغم، لكن الذوق يُصقل بالتربية، ويتشكل بالتجربة، ويُهذّب بالقراءة والفن والتفاعل مع محيط راقٍ. فالشخص الذي ينشأ في بيئة تقدّر الجمال، وتعلّم احترام الآخر، وتغذي الحس الفني لديه، يكون أكثر قدرة على تطوير ذوقه وتوسيعه. فإن الذوق ليس ثابتًا بل قابل للنمو، مثل أي بعد من أبعاد الوعي الإنساني ، لان نمو الذوق قد يعتمد على وعي العقل في مفهومه وقد يكتسب من خلال البيئة التي يعيش بها . فيحتاج الإنسان إلى انتباه عميق ليحرك الرغبة الناضجة في بناء الذوق المتلائم مع قيم ذاته وقدرات وعيه .

الذوق في الفلسفة: ما وراء التفضيلات ..

غالباً مفهوم الذوق من زوايا متعددة. يساهم في تغيير الفكر والتفكر اتجاه المعنى للذوق فيصبح اختلاف الاّراء يعود إلى ذلك الانطباع الفكري والحسي للمعنى ، مثل إيمانويل كانط اعتبره أن الحكم الجمالي، الذي يُعد تعبيرًا عن الذوق، وبانه لا ينبع فقط من الشعور، بل من عملية عقلية تأملية. وقد رأى أيضاً أن الذوق يحمل طابعًا “كونيًا” بمعنى أنه يتجاوز الأذواق الفردية نحو إحساس مشترك بالجمال.

أما ديفيد هيوم شدد على أن الذوق يمكن تهذيبه وتطويره، لكنه أقر بانه هو بوجود تباين بين الأفراد. وعلى الرغم من أن الناس يختلفون في تفضيلاتهم، إلا أن هناك مبادئ عامة للجمال يمكن الاتفاق عليها، مثل التناسق، التوازن، والبساطة.

ينمو الذوق في جذور الاخلاق وسلوك ..

إذا تاملنا في تصرفات الناس بتفاصيل دقيقة نجد أن الذوق لا يظهر فقط في الملابس أو ترتيب المنزل، بل في أبسط تفاصيل الحياة: في طريقة السلام، في اختيار الكلمات، في نبرة الصوت، في احترام خصوصية الآخرين في أبدا الاراء والعديد من الأفعال التي لها صلة بإبراز الذوق اتجاه شخصها و إن الذوق الحقيقي هو ذلك الذي يتجلى في التعاملات اليومية، ويعكس احترام الإنسان لذاته أولًا، ثم لمن حوله وهذا الأمر جداً دقيق قد يتنبا له الإنسان المهتم في اختلاق ذات انيقة المظهر الداخلي قبل الخارج يدرك القيمة الناضجة من هذا الميول أو المكتسب من حوله . الشخص الراقي في ذوقه لا يجرح بكلمة، ولا يرفع صوته في وجه الآخرين، لا يتعدى على خصوصية الآخرين، يدرك التأدب مع ذاته قبل الآخرين ، لأنه يرى في كل فعل انعكاسًا لجوهره الداخلي. إنه يُراعي مشاعر الناس دون تكلّف، ويمارس الاحترام كعادة فطرية، لا كقناع اجتماعي الشخص الواعي دائما يحرص أن يمثّل ذائقته بالطريقة الملائمة مع وعيه .

للذوق تأثير في تكوين الهوية ..

يتشكل الذوق عبر التفاعل مع الثقافة، والاطلاع، والتجربة، ثم يساهم في تكوين الهوية الشخصية والذهنية. فالذوق لا يختصر في “ما نحب” بل يشير إلى لماذا نحب ما نحب؟وما القيمة التي تمنحها أذواقنا لذواتنا. اعتقد أن التساؤلات الذاتيّة لها دور في حراك الدوافع و الفهم اتجاه أذواقنا الفكرية و الحسية و الفعلية، تلك العادات والانطباعات الصادرة هي تمثل داخلنا في أطار هويتنا الثقافية و البيئيّة و المكتسبه من تجارب الحياة اليومية .
و المجتمعات التي ترتقي بذوق أفرادها، تكون أكثر تحضرًا، لأنها تنتج أفرادًا يقدّرون الجمال،ويحترمون النظام ويتواصلون برقي. بينما غياب الذوق، أو تسطيحه، يؤدي إلى الفوضى البصرية، والسلوكية، وحتى الفكرية تجرد الإنسان من أخلاقياته وسلوكياته المفترض أن تتواجد به كانسان ملم بانسانيته

الذوق في أنصاف الـزمن و التّيه من نافذة التقليد

حالياً في وسائل التواصل الاجتماعي تُفرض علينا يوميًا آلاف الصور والمقاطع والمؤثرين، أصبح الذوق مهددًا بالسطحية والنسخ و لم يعد كثير من الناس يختارون بناءً على ذائقتهم الحقيقية، بل بناءً على ما يفرضه “ الوقت ”. وهذا يشكّل خطرًا على الهوية الفردية، إذ يُفقد الإنسان خصوصيته، ويجعله تابعًا لأذواق الآخرين دون وعي ، لكن لا ننسى أن ما زال هناك من يحرص على تشكيل ذوقه الخاص، بقراءة الأدب، والتأمل في الفن، وملاحظة الجمال في تفاصيل الحياة اليومية، لا في مظاهرها الصاخبة. وهؤلاء هم من يُعوّل عليهم لإعادة الاعتبار للذوق كقيمة إنسانية وثقافية.

الذوق كفعل فلسفي وحضاري وانساني.

الذوق ليس رفاهية، ولا مختصّ بجودة قيمة للنخبة، بل هو فعل يومي يعكس درجة وعي الإنسان بنفسه وبالآخرين. حين نرتقي في ذوقنا، فإننا نرتقي في إنسانيتنا. نغدو أكثر رهافة في الشعور، وأكثر اتزانًا في ردود الأفعال، وأكثر قدرة على التمييز بين ما يليق وما لا يليق تصبح القابلية في الأشياء و رفضها تفتح أفاقنا الأخرى من الأذواق المختبأة في مسار حياتنا ، حتى الانسجام الذي قد يفرض بقائهُ علينا يعيدنا إلى المبدأ الذوقي القائم عليه ، مجرد الفهم في مراحل الذات وانغماسها في الذوق هنا كل إنسان بفطرته يقدر يشكل فلسفته الخاصة اتجاه مفاهيمه للذوق وانسجامه معها في اداء حياته .

الأهم من ذلك أن نفهم بأن الذوق هو فلسفة شخصية، واختيار وجودي، يعكس كيف نرى أنفسنا، وكيف نريد أن نُرى وأن نترك الاثر من ذلك العبور لكل ما يصدر منا .

فن الجمال في حياة الإنسان

نوره بابعير

” الجمال أسلوب حياة يعزز من جودة الإنسان وعلاقاته ومشاعره”

في عمق ضجيج الحياة وتسارع وتيرتها، يظل الجمال ركيزة أساسية تهب الإنسان لحظات من السكينة والتأمل. و”فن الجمال” ليس رفاهية كما يظنه البعض، بل هو حاجة نفسية و روحية تعزز التوازن الداخلي، وتمنح للحياة معناها الإنساني العميق.

منذ أزمنة بعيدة، يسعى الإنسان إلى تجميل محيطه، سواء من خلال الفن أو العمارة أو الملبس و الزينة وقد اعتبر الفلاسفة الجمال هو من أحدى فروع الفلسفة، لما له من أثر عميق في تشكيل الذائقة والسلوك والخلق و التهذيب فليس غريبًا أن نجد الجمال متجذرًا في تفاصيل الحياة اليومية؛ من ترتيب المنزل، إلى تنسيق الألوان، بل وحتى في الكلمة والتصرف والإبداع والإنجاز.

الجمال لا يُقاس بالمظهر وحده، بل هو أوسع من ذلك بكثير فهو يكمن في الأخلاق، في التعامل الراقي، في الكلمة الطيبة، وفي البساطة التي تعكس رقيًّا داخليًا. وكلما ازداد وعي الإنسان بقيمة الجمال في سلوكياته، ارتقت علاقاته بالآخرين، وازدادت جودة حياته الشخصية والاجتماعية والإبداعية .

و أن تذوّق الجمال سواء عبر الفن أو الموسيقى أو الطبيعة له تأثير إيجابي في تقليل مستويات التوتر، وتعزيز الشعور بالسعادة والرضا والانتماء و هذا ما يسعى إليه الإنسان لدمج مفاهيم الجمال في أنظمة التعليم، والهندسة المعمارية، وتصميم الأشياء العامة ، ليفهم الإنسان قيمة هذه المفاهيم و الأنظمة اتجاه جودة الحياة .

فن الجمال ليس رفاهية كما يُظن، بل هو أسلوب حياة ينعكس على طريقة تفكير الإنسان، ونظرته للكون، وتفاعله مع الآخرين. وعندما نبني في النفس عادة حب الجمال، نزرع فيها قيم الذوق، والإبداع، والتقدير، والسلام الداخلي.

و يظل الجمال رسالة صامتة من الحياة هادئة ، تقول لنا إن في التفاصيل قد نجد دهشة تستحق التأمل، وأن في كل لحظة فرصة لاكتشاف معنى أعمق للوجود .

للعلاقات تاريخ انتهاء | قصة بعنوان: ذو شأن عظيم

ستمر به لحظة يُسَائل فيها نفسه، ويقرر بعدها أن يكون شخصًا غير الذي اعتاده، سيضاعف من مجهوده في السنة الأخيرة له في الثانوية، ثم سيتخرج بمعدل عالٍ، سيحتفي به من في المدرسة، سيعلّق اسمه في لوحة الطلاب الأوائل والمتفوقين، وسيشيد به أحد المعلمين أمام والده حين يلتقيه، سيخبره أنه أب لطالب متفوّق، الجميع هنا يحبه، وأنه سيكون ذا شأن عظيم مستقبلًا.

  سيفرح والده، سيعود دون أن يعطيه هدية نجاح أو تخرج كما سيحصل عليها أقرانه، ولكيلا يلعب هو دور الضحية، سيردد أنه ليس الوحيد الذي لم يحصل على تقدير كافٍ من والديه، بل إن غيره لم يحتف به.

  سيتجَاهله الجميع في اليوم التالي من انتهاء العام الدراسي، لكن والدته ستظل تردد لأشهر قصة تفوقه أمام صديقاتها، وستحجب الأمر عن قريباتها اللواتي تخشى حسدهن، ستمر الإجازة سريعًا، وسيذهب إلى الجامعة في غير تخصصه الذي يريده، لن يعرف أحد من عائلته التخصص الذي يرغب فيه، وسيشكك بعدها فيما إن كان هو يعرف بدوره، سيفاضل بين هذا التخصص أو ذاك، وسيتظاهر أنه يرغب في التخصص الذي قُبل فيه، لربما يكون هو التخصص الذي سيقوده لأن يكون ذلك الشخص، ذا الشأن العظيم.

  سيقضي سنوات في التفكير في شأنه العظيم، وسوف يتساءل: عظيم في ماذا؟ وإن كان قد قال له ذاك المعلم، إلا أنه لم يحدد في أي مجال سيكون ذا شأن عظيم، أي طريق عليه أن يسلكه ليصل إليه، ما هو ذاك الشأن على أي حال!

   وحين يسترجع طفولته لا يعثر على أية أمارات تَدلّه على ذلك، كان الأكثر تفوقًا، لكنه كان الأقل حظًا، الأقل فرحًا، الأقل صداقة، والأقل تلقيًا للحب، لكن حين يعود الأمر بينه وبين إخوته، فهم جميعًا، لا ينالون إلا ذلك القدر الشحيح من الحب، يقتسمونه فيمَا بينهم، فلا يكاد يبدو أنه تم تقديمه.

  ثلاثة إخوة كانوا، هو ثاني الأبناء ترتيبًا بعد أخيه الأكبر، ثم يأتي أخوهم الأصغر الذي تأخر أعوام قبل مجيئه.

  كانوا إخوة لبعضهم أكثر مما هو مفترض، يلعب كل واحد منهم دور أحد والديه للآخر؛ يعطي كل منهم ما يملكه لأخيه، ويطلب هذا من والديه ما يريده ذاك، ويبرر الأول تصرف الأخير، ويقفون جميعًا صامتين، ليغطوا على الفعل الخاطئ لواحد منهم.

  حين يفكر في الأمر أكثر مما ينبغي له، يبقى مرتبكًا، تُرى هل سيقوده التفوق لذلك الشأن؟ سيفقد ثقته في ذلك، فما إن يبدأ سنواته الجامعية حتى يبدأ بالتعثر، سيتعثر في مادتين في السنة الأولى، ثم في أربع في السنة الثانية، ستزيد وستنقص في السنوات القادمة، وحين يتخرج بعد ست سنوات في تخصص كان من المفترض أن ينهيه في أربع، سيعرف أن الجميع قد مضى بحياته، لن يعرف والديه أنه قد تجاوز المقرر منه بعامين، ولكن كلمته ستكون كافية لهم لتصديقه، أو كافية على الأقل ليشعروا أنهم قد سألوا، وبإجابته هذه، تجنبوا هم التفكير فيما يمر به، وفيما يجب عليهم تقديمه له، لكن إن لم يكن هناك ما يقدمونه له في سنوات دراسته الماضية، فماذا يمكنهم تقديمه له في السنوات الجامعية؟ سنوات دراسية أدرك بنهايتها أن التفوق لم يعد طريقًا يقوده نحو ذاك الشأن العظيم.

  ستمضي الفترة التي سيقضيها بعد الجامعة في البحث عمّا يميزه، سيفكر كيف يفتتح مشروعًا يقوده نحو الثراء السريع، مشروعًا يبدأه صغيرًا ثم يقوده ليكون عظيمًا، وبمال المكافأة الذي كان يجمعه، سيفتتح محلًا يبيع فيه أغلفة واكسسوارات للهواتف المحمولة، لن يستطيع الاستمرار فيه طويلًا، سيكتشف أنه لم يكن ذلك العمل هو طريقه نحو الثراء، بالكاد كان يستطيع تغطية تكاليف إيجار المحل الذي قام باستئجاره، وفي نهاية العام، سيبدأ بجَرد لكل ما في المحل، ثم سيأخذ كل ما تبقى معه للبيت ليعرضه لاحقًا للبيع في أحد المواقع بثمن زهيد.

  سيقرر في الأخير أنه يجب عليه أن يجد مشروعًا يقوم به من البيت، دون دفع إيجارات تجعله يسعى طوال الشهر لتأمينها لا لكي يربح من مشروعه، وقد وجد الفكرة، وجدها من شيء كان يفعله لمن حوله بالمجان، خدمات إلكترونية! لطالما كان يقوم بالتسجيل لهذا أو ذاك في موقع ما، ولطالما فتح حسابات للكثيرين في جهات أو قدم لهم فيها، وأصلح لمرات عديدة هواتف من حوله، سيكون الأمر سهلًا عليه، والعمل الذي لم يمر عليه قبل ذلك سيتعلمه مع مرور الوقت.

  سيبدأ بإنشاء التصاميم التي سيعرض فيها خدماته، سيرسلها لكل من يَعرف، سيشاهدها أقاربه ومعارفه وأصدقاؤهم ممن يحفظون رقمه لطلب خدماته.

  سيتجاهلها الجميع، وسيتوقفون عن طلب خدماته، ستبقى إعلاناته ورقم الأعمال مهجورًا إلى أن ينقطع الخط لعدم استخدامه، سيعرف أن بعضًا منهم أصبح يذهب إلى مكاتب الخدمات لينجزوا ما كانوا يطلبونه منه، وآخرين قد استقروا على مقدم خدمات غيره، سيعرف أنهم يفضلون أن يدفعوا لغيره على أن يدفعوا له نصف ما يدفعونه هناك، سيتفاقم شعوره بالحنق تجاههم، وسَيُقنع نفسه أنه على الأقل قد ارتاح من عناء العمل دون تقدير منهم.

  ستمضي ثلاث سنوات بعد انتهاء مرحلته الجامعية، ستختلط عليه الأيام فلا يعرف أن السبت هو الأربعاء، سيتلقى الكثير من رسائل إعلانات الوظائف من أصدقائه الموظفين، وممن يعرف من أقاربه أنه ما زال عاطلًا عن العمل، سيقدم هنا وهناك، سيلاحظ أن الكثير منهم أصبح يعيد إرسال كل ما يصادفه له، وسيلومونه على تقصيره وعدم سعيه للبحث عن وظيفة، سيظن البعض الآخر منهم أنه تروق له جلسة البيت دون عمل، لن يقول لهم: إن تلك الإعلانات الوظيفية التي يرسلونها له تتطلب تخصصات غير تخصصه، أو خبرة لا يمتلكها، أو أن هذه العروض الوظيفية قد فات موعد التقديم عليها.

  سيستمر في التقديم في كل ما يجده، ستنخفض درجة تَطلبه، سيدرك أنه لا يمتلك رفاهية اختيار الوظيفة التي يرغب بها، ولكثرة ما أصبح يقدم عليه من الوظائف، سيجهل أي وظيفة هي التي قدّم عليها وجاءته منها طلب للمقابلة، سيسافر لمدينة ثانية ليجري المقابلة، ستصله رسالة الرفض ما أن ينزل من رحلة العودة، سيصاب بخيبة لإدراكه أنه خسر الكثير من المال دون جدوى، وسيبقى محبطًا لوقت طويل قبل أن تصله مقابلة وظيفية أخرى، وبتثاقل وتردد سوف يسافر لإجرائها هذه المرة أيضًا، ولكن هذه المرة سيُقبل فيها، وسيعود من جديد للتعجل في الحياة التي شعر أنها فاتته حين كان الكثيرون قد سبقوه إليها، الحياة التي تجعله يتطلّع إلى الأمام باحثًا عمن تجاوزه في حياتهم دون النظر للخلف ليرى من كان معه.

   سينتقل لمدينة أخرى لأجل الوظيفة، سيقضي شهرين عند أحد أقاربه، ثم سيبحث عن شقة يستأجرها، سينتقل لها ثم سيعود للبحث عن الشأن العظيم، وحين تقترح عليه والدته أن يتزوج ليجد من تُؤنس وحدته سيوافق مباشرة، فلربما كان معها الشأن العظيم، أليس وراء كل رجل عظيم امرأة؟

  سيختار له والداه إحدى قريباتهم، سيوافق عليها، وسيقرر أن يستخرج قرضًا للزواج، وسيصرف كل ما يملكه ليتم الزواج في مدينته، سيتزوج بعدها وسيسافر ليقضي شهر العسل في المدن التي حوله، سيكون غارقًا في سعادته كما هو غارقٌ في ديونه، وستكون حياته الزوجية رغم بعض الأمور التي سيتجاهلها حياة مثالية في العام الأول، وجيدة في العامين التي تليها، وستبدأ بعدها زوجته بمطالبته بالخروج للتنزه أو التسوق عوضًا عن بقائها وحيدة في البيت، بينما يذهب هو للعمل، سيخبرها أنه يذهب ليعمل لا للتنزه، وأنه بالكاد ينتظر وقت انتهائه من العمل ليعود للبيت لكي يرتاح، لا لأن يخرج من جديد، سيحتَدّ النقاش بينهما، سيتنازل حين يدرك أنها لا ترى أحدًا هنا ولا تعرف غيره، سيتحامل على تعبه في البداية، ثم سيشعر أنها لا تقَدّر تنازلاته ومجهوده الذي يقوم به كفاية، ستتفاقم المشاكل، ستعود إلى عائلتها، وستصلح العائلتان فيما بينهما، ثم سيعود الاثنان لبعضهما معتذرًا كل واحد عن تصرفه، وبعد أن يجرب كل واحد منهما الحياة دون الآخر، ستعود العلاقة كما كانت في بدايتها.

   ستمدد رقعة الرتابة لتحاوط أيامه، لتعود من جديد لاعتياديتها، سيتجاهل الاثنان تقصيرهما تجاه الآخر، سيخونان بعضهما، سيخونها بالجسد وستخونه بالفكرة، وسيعود الاثنان لبعضهما دون أن يعرف أحد عما فعله الآخر، لكنهما حينها سيقدّرَان قيمة بعضهما، متأخرين.

   وفي إجازة يسافر فيها مع زوجته سيحاول سدَّ الفجوة التي اتسعت بينهما، وحين يعود من السفر قبل انتهاء الإجازة بثلاثة أسابيع، سيكون البيت هو المكان الذي يقضي فيه جلّ وقته، ستعود معها النزاعات بينهما من جديد، وسيقرران الانفصال في النهاية.

  ستعرف زوجته بعد قرار الانفصال بشهر أنها تحمل جنينًا في بطنها، وسيعودان للعيش معًا، ستنجب الطفل الأول، وستصبح كل الخلافات مركونة في زاوية يتجاهلان النظر إليها، سيتغاضيان عن أي مشكلة تَعقب ذلك لأجل الطفل، وستصبح حياتهم روتينية تمامًا، هي تنشغل برعاية الطفل وهو ينشغل بالعمل، سيدرك حينها أن لا شأن عظيم سيأتي من هذه الحياة التي تتكرر كل يوم دون حَدث فارق فيها، لكنه سيقبل بها، سيقبل بالحال الذي أصبح عليه، ممنيًا نفسه، أن كثيرًا من العظماء لم يصبحوا ذوي شأن إلا في نهاية حياتهم.

  سيتجاهل بعدها جملة المعلم التي كانت ملحّة في سنواته الماضية، سيتظاهر أنه قد بدأ في تناسيها، سيكبر وتكبر زوجته، ويكبر أبناؤه، سيحاول أن ينمي أي هواية أو موهبة يرى بذورها في أبنائه، سيسعى ليمرر رغباته التي لم يستطع تحقيقها فيهم دون أن يدرك، محاولًا أن يكون أحد أبنائه هو من يقوده للشأن العظيم، سيتخلى أحد أبنائه عن تلك الهواية في مرحلة مبكرة من عمره، وسيتخلى الآخر عنها في مرحلة متأخرة يتحسر فيها والده على الوقت الذي قضاه في تنميتها، ستبدأ اهتماماتهم بالتغير، سيحاول، مرة أخيرة، في تنمية الاهتمامات التي طرأت عليهم فجأة، ثم سيتوقف عن المحاولة، ستتحطم آماله في الأول، وسيمضي الثاني حياته دون حدث يُذكر.

  وحين تنتهي سنوات عمله، سيتقاعد ويبقى في البيت دون شيء يشغله، سيعرف أن زملاءه ما هم إلا محض زملاء لا أصدقاء، وسيختفي تواصله معهم تدريجيًا.

  سينقص راتبه بعد التقاعد، وسيقلص من التزاماته، سيتخلى عن فكرة المزرعة التي كان قد قرر شرائها بعد التقاعد، وسيشعر حينها بعدم حاجته للكثير من الأشياء التي كان يرى أنها ضرورية.

   سيبحث عن شيء ما يملأ فراغ وقته الذي خلا فجأة من كل شيء، ولن يجد، سيحاول أن يعود للعمل، سيخبرونه أنهم لم يعودوا بحاجة لخدماته، سيكتفي حينها بالجلوس في البيت، وسيكثر بعدها من زيارة أقاربه.

  سيموت والداه وأحد إخوته، سيبدأ بعدها بالتلفت إلى الماضي أكثر مما كان معتادًا، سيعتب في كل مرة على أبنائه لعدم زيارتهم له، سيزورهم هو وزوجته، وستنزعج عائلاتهم لكثرة زياراتهم، سيتوقف بعدها مكتفيًا بزياراتهم حين يرغبون، سيُرزَق ابنُه الأكبر بحفيده الأول، ثم بعد عام بحفيده الثاني، سيحاول أن يعيد فيهم أبنائه، سيغدق عليهم بكل الحب الذي لم يعد يطلبه منه أحد، سيشعر حينها بفارق السنوات الكبير بينهم، وبين اهتماماته واهتماماتهم، وسيجهل الكثير مما يعرفونه، سيحاول مجاراتهم في البداية، ثم سيتوقف عن محاولاته، سيرضى بما بقي له من حياته، وسيترك كل شيء يسعى إليه دون أن يسعى له.

   سيرى الجميع يبتعد حين لا يبادر إليهم، سيدرك أنه قد كَبر على كل شيء إلا الموت حين يرى الذين يعرفهم يموتون تباعًا عامًا تلو الآخر، سيمضي في عزاءاتهم فاقدًا لكل شيء، مسترجعًا كل ما مضى من حياته، وسيبقى منتظرًا دوره، ستموت زوجته قبله بعامين، وسيبقى حينها بمفرده، سيعيش مع نفسه لأول مرة منذ زمن طويل، وحينها ستعاوده تلك الفكرَة الملحة، سيحاول فيما تبقى من عمره أن يفعل شيئًا يجعله ذا شأن عظيم، وإن كان ذلك في سنواته الأخيرة، لكن كل شيء سيكون قد شَاخ معه، سيبدأ في التقاط أفكار زارته متأخرة، سيبدأ في محاولات إتمام هذه أو إنجاز تلك، سيموت في أثناء محاولاته، وسيدفن في المقبرة التي دفنت فيها زوجته ومن مات من أقاربه، وسيضيع قبره بين قبور متشابهة لن يفرّق بينها أحد.

وفي المعارض عقولاً ناهضة وثقافة واسعة

نوره بابعير

وفي المعارض عقولاً ناهضة وثقافة واسعة
معارض الكتب تحدث العقول الناضجة المستنيرة الراغبة في مجال العلم و المعرفة الهادفة في أتساع وعيها إلى مدى البعيد و الشغوفة بالإبداع الثقافي بين الفكر و الفكر الأخر بين التوافق وَ الاختلافات بين التواصل في المخيّلات و تعمّق فيَ الفلسفات بين تساؤلات مجهولة و أجوبة مدروسة بينَ الحوارات الثمينة وَ الورشات الحكيمة تسيّر الأقدام وكلها شغفًا فيَ الاكتساب بالنهوض الدائم بالتوسع الناتج عَن الغزارة التوعوية فيَ المجالات المسرحية و الأفلام السينمائية و الموروث التاريخي و ما يخص معرفته وبين إلكترونيات و وسائل الاجتماعية والإعلام ، تصنع المحتوى من المحتويات لتخرج بزوارها البارعين في الإختيار الناجحين بقضاء أثمن الأوقات .
تبقى الثقافة طريقًا طويلًا تضع الحقائب في أيادي باحثيها ليكملوا تِلْك المسافات الفارغة بأثر علمها، تخلق الأتزان في علم و أساسيات الفهم فيَ رصانة العقل الواعي و العقل المحتاج إلى هذا الوصول من الوعي المكتمل.
تِلْك التجربة الذي تتسع في المساحات الثقافية تجعلنا في إطلاع مزهر يخلق في النفوس منابت ثمارها تستطيع من خلالها تفهم العقول الملائمة معها و المنافسة لها ،تلك الخطوة تجعل القراء و الزوار فيها شيئًا من الضوء يُرافِق العقول في مسائل السطور وضوءً يرافق الذهول في مفارق الحضور ، رغم أن المعارض ذات أوقات محددة الأيام إلا أنها تستطيع أن تغير حقولنا بقفزات واعية و قد تبني في الأطفال جوانب قيمة وفي الإعلام إزدهار مكانها .

لماذا نقع في الحبّ؟ ستندال يتحدث (عن المراحل السبع للرومانسية)

يُعتبر الحب أحد أكثر المواضيع خصوبة في الأدب والموسيقى وجميع الفنون. كان كورت فونيغوت يعتقد أنه يُسمح للإنسان بالوقوع في الحب ثلاث مرات فقط خلال حياته. وقد وُصف الحب بأنه يتطلب شجاعة، ويُعتبر وسيلة للتعافي من الأحزان، وأفضل وسيلة للحد من الندم. بالنسبة لتشارلز شولز، مبتكر شخصيات الفول السوداني، فإن الحب ببساطة يجعل الحياة أكثر جمالًا. لكن ما هي الطريقة التي يؤثر بها الحب على القلب بالضبط؟

في عام 1822، قام الكاتب الفرنسي ماري هنري بييل، المعروف بلقب ستاندال (23 يناير 1783 – مارس 1842)، بتأليف عمله “عن الحب”، الذي يعد دراسة خالدة تهدف إلى تحليل المشاعر الإنسانية بعمق وبطريقة عقلانية. وقد تم اكتشاف هذا العمل مرة أخرى بفضل إشارة عابرة في مذكرات سوزان سان، التي اشتهرت بتعبيرها الساخر: “لا شيء غامض، لا علاقة إنسانية. إلا الحب.”

انطلق ستيندال في بناء جسر فني يربط بين “الحساسية العميقة والتحليل البارد”، حيث ابتدأ بتصنيف الأنواع الأربعة الأساسية للحب:

هناك أربعة أنواع مختلفة من الحب:

1. الحب الرومانسي. هذا هو شعور الراهبة البرتغالية، ومشاعر هيلويس تجاه أبيلارد، وحب قائد فيسيل، وحب دركي سينتو.

2.الحب المهذب الذي نما في باريس حوالى عام 1760 يظهر في مذكرات وروايات تلك الحقبة، مثل مذكرات كريبيلون ولوزون ودوكلو ومارمونتيل وشامفورت والسيدة ديبيناي.

لوحة مزخرفة، تمتزج فيها الألوان الوردية مع الظلال، حيث لا يوجد مكان لأي شيء غير لطيف على الإطلاق – لأن ذلك يُعتبر انتهاكًا للأخلاق والذوق الرفيع والدقة. الرجل المثقف يعرف مسبقًا كل القواعد التي يجب عليه اتباعها في مراحل هذا النوع من الحب، والذي غالبًا ما يبدو أكثر رقيًا مقارنةً بالحب الحقيقي، لأنه يخلو من العواطف أو المفاجآت، ويكون دائمًا مدروسًا. إنه يمثل صورة مصغرة هادئة وجميلة مقارنة بلوحة زيتية لأحد أفراد عائلة كاراتشي؛ بينما الحب العاطفي يأخذنا بعيدًا عن مصالحنا الحقيقية، فإن الحب المؤدب يحترم دائمًا تلك المصالح. ومن المؤكد أنه إذا أزلنا الغرور، فلن يتبقى الكثير من الحب المؤدب، ولا يستطيع الشخص الضعيف أن يدفع نفسه للأمام.

3. الحب الجسدي هو مغامرة فريدة، كأنك في رحلة صيد مثيرة، حيث تقابل فتاة من قرية ريفية، جميلة كزهرة تنمو بين الأشجار، تسرع بخفة ورشاقة عبر الغابة. إن هذا النوع من المتعة هو بمثابة الشعلة التي تضيء درب العواطف، ومع أن قلبك قد يكون جافًا وكئيبًا، فإن هذه اللحظة هي البداية الحقيقية لحياتك العاطفية، حيث تتفتح الأبواب أمامك في سن السادسة عشرة.

4. الحب المدفوع بالغرور. معظم الرجال، خصوصًا في فرنسا، يسعون لامتلاك امرأة أنيقة كما يمتلك المرء حصانًا رائعًا، كنوع من الرفاهية التي تناسب الشباب. الغرور إذا تم إبرازه قليلًا أو تم تحريكه بشكل طفيف، يمكن أن يؤدي إلى إثارة الحماس. في بعض الأحيان، قد يكون هناك عشق جسدي، لكن هذا ليس دائمًا، وغالبًا ما تفتقر المتعة الجسدية. كما قالت دوقة شولن: “لا تتجاوز الدوقة الثلاثين في نظر البرجوازي”، ويتذكر حاشية الملك العادل لويس الهولندي امرأة جميلة من لاهاي، لم تستطع مقاومة سحر أي دوق أو أمير. لكن وفقًا لمبادئ التسلسل الهرمي، كان يتم إرسال دوقها بعيدًا بمجرد وصول الأمير إلى البلاط، مما جعلها تشبه رمزًا للأقدمية في السلك الدبلوماسي!

أكثر أشكال هذه العلاقة المملة سعادة هو عندما تتزايد المتعة الجسدية مع مرور الوقت، مما يؤدي إلى ذكريات تشبه الحب. هناك شعور بالجرح في الكبرياء وحزن في الرضا؛ وكأن الخيال الرومانسي يسيطر عليك، مما يجعلك تشعر كما لو كنت مريضًا بالحب وحزينًا، لأن الغرور دائمًا ما يتنكر في شكل شغف عظيم. ومع ذلك، هناك أمر واحد مؤكد: بغض النظر عن نوع الحب الذي يولد الملذات، فإنها تصبح حية وذكرياتها تجذب الانتباه، فقط من لحظة الإلهام. في الحب، على عكس معظم المشاعر الأخرى، يكون تذكر ما حصلت عليه وما فقدته دائمًا أفضل مما يمكن أن تتوقعه في المستقبل.

أحيانًا في الغرور – الحب، أو العادة، أو اليأس من العثور على شيء أفضل، يؤدي إلى صداقة من النوع الأقل جاذبية، والتي ستتباهى حتى باستقرارها، وما إلى ذلك.

على الرغم من أن المتعة الجسدية تعد شعورًا طبيعيًا ومعروفًا للجميع، إلا أنها تعتبر ذات أهمية أقل لدى الأشخاص الحساسين والعاطفيين. فإذا تعرض هؤلاء للسخرية في غرف الرسم أو تأثرت مشاعرهم بمؤامرات العالم، فإنهم يكتسبون فهمًا لملذات لا يمكن الوصول إليها من قِبل أولئك الذين يسيطر عليهم الطمع أو المال فقط.

بعض النساء النبيلات والحساسات لا يفهمن مفهوم المتعة الجسدية، حيث نادراً ما يختبرنها. بل يمكن القول إن شعور الحب العاطفي قد طغى تقريباً على ذكريات الملذات الجسدية.

يوجد رجال يعتبرون ضحايا لأهواء الكبرياء المدمرة، مثل كبرياء ألفيري. هؤلاء الرجال، الذين قد يظهرون قساوة نتيجة لخوفهم المستمر مثل نيرون، يميلون إلى الحكم على الآخرين بناءً على معاييرهم الخاصة. لا يمكنهم الاستمتاع الجسدي إلا من خلال قسوة يمارسونها على رفقاء متعتهم، وهذا ما يمنحهم شعوراً زائفاً بالأمان.

بدلاً من تحديد أربعة أنواع فقط من الحب، يمكننا الاعتراف بوجود ثمانية أو عشرة تمييزات. قد تتنوع طرق الشعور كما تتنوع طرق الرؤية، ولكن الاختلافات في المصطلحات لا تؤثر على الحجج التالية. كل نوع من أنواع الحب الذي سيتم ذكره لاحقاً يمر بمراحل الولادة، والحياة، والموت، أو يصل إلى الخلود وفقاً لنفس القوانين.

في فصل بعنوان “عن نشأة الحب”، يوضح ستيندال كيفية تطور الحب. ومن الجدير بالذكر مفهومه للتبلور، الذي يعتبر نوعًا من الجنون، حيث صورت سيلفيا بلاث هذا المفهوم بشكل رائع. فالمثالية الإسقاطية تدفعنا إلى رؤية أحبائنا بطريقة تجعلنا نغمر إنسانيتهم الكاملة في نسخنا الرومانسية الانتقائية للواقع.

إليكم ما يحدث في الروح:

1. الإعجاب.

2. تفكر، “كم سيكون من الممتع أن تقبّلها، أن تقبلك،” وهكذا…

3. الأمل. تلاحظ كمالها، وفي هذه اللحظة يجب على المرأة أن تستسلم حقًا، من أجل المتعة الجسدية القصوى. حتى أكثر النساء تحفظًا يحمر وجههن خجلاً في هذه اللحظة من الأمل. العاطفة قوية جدًا، والمتعة حادة جدًا، لدرجة أنهن يخونن أنفسهن بشكل لا لبس فيه.

4.يبدأ الحب كفجر جديد، حيث يتجلى في لحظات من السعادة واللذة، حين تلتقي الحواس جميعها في تناغم ساحر. إنه الإحساس العميق بالمشاركة والامتزاج مع كائن محبوب، يجلب لك الفرح ويرد لك الحب بالمثل.

5. تبدأ مرحلة التبلور الأولى. إذا كنت متأكدًا من مشاعر امرأة تجاهك، فإنك ستشعر بالسعادة في تقديم آلاف المزايا لها، وستكون ممتنًا بشكل لا نهاية له. في النهاية، قد تفرط في تقديرها بشكل مبالغ فيه، وتراها كهدية نزلت من السماء، غير معروفة حتى الآن، لكنها بالتأكيد لك.

اترك حبيبك مع أفكاره لمدة أربع وعشرين ساعة، وهذا ما سيحدث:

في مناجم الملح بمدينة سالزبورغ، يتم إلقاء غصن شتوي جاف خالٍ من الأوراق في أحد المناجم المهجورة. وبعد مرور شهرين أو ثلاثة، يُستخرج هذا الغصن مغطى برواسب لامعة من البلورات. الغصن الأصغر، الذي لا يتجاوز حجم مخلب طائر القرقف، يصبح مزينًا بمجموعة من الماس المتلألئ، مما يجعل من المستحيل التعرف على الغصن الأصلي.

العملية التي أطلقت عليها اسم التبلور هي تجربة عقلية تستخرج من الأحداث المختلفة دلائل جديدة حول كمال الحبيب.

تستمع إلى مسافر يتحدث عن بساتين البرتقال المنعشة بالقرب من البحر في جنوة خلال فصل الصيف: آه، ليتك تستطيع أن تشعر بهذه البرودة!

[…]

تنبع الظاهرة التي أطلقت عليها اسم التبلور من طبيعة الإنسان، التي تجعلنا نشعر بالسعادة وترسل الدم إلى أذهاننا. كما ترتبط هذه الظاهرة بالشعور بأن مستوى المتعة يعتمد على كمال الحبيب، بالإضافة إلى فكرة “إنها لي”.

ستيندال يوضح مفهوم التبلور من خلال تشبيه بصري، حيث تمثل مدينة بولونيا اللامبالاة بينما ترمز روما إلى الحب الكامل. يبدأ المسافر رحلته من بولونيا، حيث يكون غير مبالٍ، ثم يتنقل عبر أربع مراحل من التبلور: الإعجاب، والاعتراف، والأمل، والبهجة، لينتهي به المطاف في روما وهو محب، بعد أن زادت بشكل كبير من مزايا المحبوب. يُقال إنه رسم هذا المخطط على ظهر بطاقة لعب أثناء توجهه إلى منجم الملح في سالزبورغ.

هذا ما يحدث بعد ذلك لتثبيت الانتباه:

6. يتسلل الشك إلى قلب العاشق. في البداية، تثير عشرات النظرات أو بعض التصرفات الأخرى آماله وتؤكد مشاعره. ولكن، بعد أن يتجاوز الصدمة الأولى، يبدأ في الاعتياد على حظه الجيد، أو يتصرف بناءً على فكرة مستمدة من العدد الكبير من النساء اللواتي يمكن الفوز بهن بسهولة. يبدأ في طلب المزيد من الأدلة الإيجابية على الحب، ويسعى لتعزيز قضيته بشكل أكبر.

يُواجه الشخص الذي يبدو واثقًا جدًا تجاهلاً أو برودة أو حتى غضب. في فرنسا، هناك نوع من السخرية يوحي بأنه يُقال له “تظن أنك أفضل مما أنت عليه بالفعل”. قد تتصرف المرأة بهذه الطريقة إما لأنها في مرحلة التعافي من شرب الكحول وتخضع لمتطلبات الحياء، التي قد تخشى أنها أساءت إليها، أو ببساطة بدافع الحكمة أو المغازلة.

يبدأ العاشق في فقدان ثقته في الحظ السعيد الذي توقعه، ويقوم بتحليل أسباب أمله بطريقة نقدية.

يحاول تعويض ذلك من خلال الانغماس في ملذات أخرى، لكنه يدرك في قرارة نفسه أنها لا تعني شيئًا. مما يؤدي إلى شعوره بالخوف من وقوع كارثة كبيرة، فيبدأ الآن بتوجيه انتباهه بالكامل. وهكذا تبدأ:

7. التبلور الثاني هو عملية يتم فيها ترسيب طبقات من الماس تُظهر أنها “تحبني”.

طوال الليل الذي يلي ولادة الشك، يمر العاشق بلحظات متكررة من الشك القاسي، ثم يحاول تهدئة نفسه بقوله: “إنها تحبني”، ليبدأ في إدراك سحر جديد. لكن سرعان ما تهاجمه مشاعر الشك مرة أخرى، فيتجمد في مكانه. ينسى أن يتنفس، ويهمس: “لكن هل تحبني؟” بين الشك والفرح، يقتنع العاشق المسكين بأنها قادرة على منحه سعادة لا يستطيع العثور عليها في أي مكان آخر على وجه الأرض.

إن تميز هذه الحقيقة، والطريقة للوصول إليها، مع وجود تحديات كبيرة من جهة، ورؤية للسعادة التامة من جهة أخرى، هو ما جعل التبلور الثاني أكثر وضوحًا بكثير من الأول.

يتأرجح عقل العاشق بين ثلاث أفكار:

1. إنها مثالية.

2. إنها تحبني.

3. كيف يمكنني الحصول على أقوى الأدلة الممكنة على حبها؟

أكثر اللحظات ألماً في الحب خلال الطفولة هي عندما تدرك أنك كنت مخطئاً في شيء ما، مما يستدعي تدمير كل ما بنيته من أحلام. يبدأ الشك في التبلور في ذهنك ويتسلل إلى مشاعرك.

على الرغم من ذلك، لا يُعتبر التبلور أمرًا سلبيًا بالضرورة. في الحقيقة، يشير ستيندال إلى أنه قد يكون العنصر الأساسي في مرحلة التعلق في الحب، كما حددتها عالمة الأنثروبولوجيا البيولوجية هيلين فيشر بعد حوالي قرنين من الزمن.

يضمن التبلور الثاني استمرارية الحب؛ حيث تشعر أن الخيارات المتاحة أمامك تقتصر على كسب حبها أو فقدان الحياة. إن الفكرة القائلة بالتوقف عن الحب تبدو غير منطقية عندما تكون قناعاتك ثابتة في كل لحظة، فتتحول الأشهر إلى عادة. وكلما كانت شخصيتك أكثر قوة، تضاءلت الرغبة في التذبذب.

[…]

تستمر عملية التبلور طوال فترة الحب تقريبًا دون انقطاع. وتتمثل هذه العملية في أنه كلما كانت هناك مشكلات بينك وبين شريكتك، تقوم بتكوين صورة مثالية وهمية. من خلال الخيال فقط، يمكن أن تبدو شريكتك مثالية. بعد لحظات القرب، تخف حدة المخاوف المتكررة عبر حلول أكثر واقعية. لذلك، فإن السعادة لا تبقى على حالها، فهي تجدد نفسها يوميًا، كما لو أن كل يوم يحمل زهرة جديدة.

يعتمد تحليله العقلاني للحب على نوع من التحذير المطمئن، حيث يقر بالفكرة الشائعة بأن الحب ليس شيئًا يمكننا التحكم فيه أو التخلص منه. “كما ذكر ستيندال:

الحب يشبه الحمى التي تظهر وتختفي دون أي ارتباط بالإرادة. هذا يميز الحب الهادئ عن الحب العاطفي. إن جاذبية الحبيب ليست مجرد مسألة تقدير شخصي، بل تعتمد أحيانًا على الحظ. وأخيرًا، لا يوجد عمر محدد للحب.

يُقال إن الحب في مراحل متأخرة من العمر يكون عادةً أكثر عمقًا واستمرارية مقارنةً بالحب في سن الشباب.

بالنسبة للأطفال الصغار، يظهر الحب كأنه نهر واسع يجرف كل ما في طريقه، مما يجعلهم يشعرون بوجود تيار مستمر. وعندما يصل الشخص الحساس إلى سن الثامنة والعشرين، يبدأ في فهم أن السعادة التي يمكن أن يحصل عليها من الحياة تأتي من الحب؛ ومن هنا يبدأ صراع عميق بين الحب وفقدان الثقة. يتشكل هذا الصراع ببطء؛ لكن أي تجربة تنجو من صعوبتها الشديدة، حيث تواجه الروح أخطر التحديات، ستكون أكثر إشراقًا واستمرارية بكثير من تجارب فتاة في السادسة عشرة، التي لا تعرف سوى السعادة والفرح. وبالتالي، فإن الحب في المستقبل سيكون أقل بهجة، ولكنه سيكتسب عمقًا عاطفيًا أكبر.

 

أورانوس رواية العوالم الشاسعة اللا نهائية

يُعد مارسيل إيميه، الكاتب الشعبي في القرن العشرين، من أصحاب القدرة النادرة على رسم صورة الحالة الإنسانية بدقة. كان يدرك الوحشية الهائلة في النفوس البشرية وضعف الإنسان – بل ضعف يتجاوز ذلك في بعض الأحيان… ومع ذلك، لم يُدن الإنسان أبدًا. في رواية أورانوس التي نشرت عام 1948، يحكي الكاتب بروح الدعابة عن معاناة قرية فرنسية في زمن ما بعد التطهير؛ وهي رؤية تختلف كثيرًا عن الخطابات الرسمية.

«أنا لا أدعي أنكم منافقون، لكن هناك عصور يصبح فيها القتل واجبًا، وأخرى تأمر بالمنافقة. إن العالم مصمم بشكل متقن. الإنسان يمتلك بداخله مواهب لن تزول.»

ليس كما لو أن قريتهم، التي دُمرت ثلاثة أرباعها جراء قصف عند التحرير، خرجت سالمين من ويلات الحرب وأربع سنوات من الاحتلال الألماني. إذ اضطر كل سكان بلومونت، سواء كانوا مثقلين بضميرهم أم لا، إلى أن يشقّوا طريقهم في فرنسا المُحررة والمطهرة جزئيًا. فلا أحد هنا نسي الإعدام العلني لخبير اعتبره خائنًا، حيث تم تثقيب عينيه قبل إجباره على الركوع حول القرية. ففي الصحف والمراسم الرسمية، تبدو الحقيقة لا جدال فيها: الفرنسيون، تحت قيادة الجنرال ديغول، قاوموا ببسالة وهزموا نذل النازي ومتعاونيه غير المستحقين. لكن في خفايا البيوت، تبدو الحقيقة أكثر تعقيدًا… وهذا هو الفارق تحديدًا بين الخطاب الرسمي والرواية غير الرسمية التي يُثيرها مارسيل إيميه.

آرشامبو، وهو مهندس يحظى باحترام زملائه، وإن كان محترمًا أقل بين أبنائه، لا يخفي موقفه: فقد آمن بفائدة التعاون مع المحتل، ولا زال يؤمن به “قاسيًا كالحديد”. ومثل كثير من سكان بلومونت، كان من أنصار مارشال، “دون صخب”، لكن ليس بدرجة تدعو للتوبيخ عند التحرير. لذا، يشاهد آرشامبو بإنزعاج مشهد النظرات الزائفة والابتسامات المتملّقة من زملائه الوطنيين، الذين هم ليسوا أكثر مقاومة منه ولكنهم حريصون على الانضمام إلى روح العصر الجديد. ويلاحظ، مع زيادة انزعاجه، أنه يُظهر نفس ميوله متى ما احتاج الأمر لإخفاء آرائه الحقيقية، فيكتفي بالصمت أو بهزة رأس أو ابتسامة توحي بلا لبس للطرف المقابل بأنه يتماشى مع الرأي السائد.

ولا بدّ من الإشارة إلى أن الوقت ليس مناسبًا للتفاخر في قرية يعيش فيها النشطاء الشيوعيون في قمم أخلاقهم ومستعدون للإبلاغ عن أي مواطن يرتكب حتى أدنى مخالفة. وفي خضم هذه الأفكار، وأثناء عودته إلى منزله ذات مساء، يُوقفه في فناء عمارتنا رجل يعرفه على الفور: ماكسيم لون، الموظف السابق في مصنعه والذي عمل أثناء التعاون لصالح صحف تفتخر بانتمائها لقضية هتلر. محكوم عليه بالإعدام حكمًا اعتباريًا، ومطلوب ومطارد، يطلب ماكسيم لون ملاذًا. آرشامبو، مدفوعًا بالشفقة ومضطرًا للظروف، يمنحه مأوى… فليكن ما يكن.

في الوقت نفسه، تدور النقاشات بنشاط في مقهى Le Progrès، حيث يبدو صاحب المقهى ليوبولد، الذي يستهلك اثني عشر لترًا من النبيذ الأبيض يوميًا، معجبًا بمسرحية راكسين منذ أن أصبح الأساتذة يعقدون دروسهم في مقهاه بعد هدم الكلية. وإذا شك البعض في نزاهة صاحب المقهى في زمن الحرب والسوق السوداء، فإنه يدعي براءة نفسه، حيث “وظّف يهوديًا كعامل تقديم”. والدرريون يعلمون، رغم ذلك، بأن هذا الشخص كان ابن أخيه الذي لم يكن يهوديًا… ولكن لا بأس، فكلٌ يرتب أموره كما يستطيع ليلعب ورقة المقاوم منذ البداية.

في بلومونت، يُخترع الناس القصص أو يتباهون بها، أو إن لم يتوفر لهم بديل، يصمتون. خاصةً إذا كانوا على مقربة من أذن ناطق بنشاط سياسي من اليسار المتطرف. هؤلاء يأتون في صور متعددة: جوردان، الشيوعي المتعصب، وران غينيه، العضو الوفي للجنة الفرعية المحلية للحزب الشيوعي، أو حتى فرومنتان، الاشتراكي النضالي، الذي يحلق فوق معاصريه في سماء الأفكار السياسية، “مفتون بالخطوط الكبرى والمخططات والأفكار العرضية”. ومنذ تدمير أجزاء من القرية، اضطر هذا التجمع البشري إلى تقاسم المساحات – حيث على بعض العائلات أن تتشارك شققها مع الذين دُمروا وتشاطر واقع الجوار الجديد الذي غالبًا ما يكون مزعجًا.

تحت اختبار الزمن: الرواية التي تثير الجدل

رُوِيَت مبكرًا جدًا، والرواية تثير الضيق. الأسطورة لدى فرنسا الغاليسية، المُطهرة من عناصرها “النجسة” بدأت تتشكل، لكن مع Uranus، جاء مارسيل إيميه ليفتت آثار الإجلال الوطني.

بجرأة، يُعيد إيميه فتح الجرح الذي لا يزال ينزف… ويُذكر بروح الدعابة بدلاً من الحدة أنه لا وجود لرواية بالأبيض والأسود.

لقد أظهر مارسيل إيميه من قبل براعته في الكتابة الروائية قبل الحرب العالمية الثانية، لكن الحرب الأخيرة بدون شك منحتَه مادة أدبية لا تُقدر بثمن. فمنذ ثلاثينيات القرن الماضي، كان يستمتع برسم قسوة العلاقات الإنسانية على خلفية الانقسامات السياسية (كما في La Jument Verte، حيث كان المحافظون والجمهوريون “يضربون الحديد” في زمن البُولونجية)، ولم يكن ليحلم بأفضل من ذلك.

 نشرت الرواية مبكرًا جدًا، مما أثار استياء البعض. بينما بدأ الأسطورة الخاصة بفرنسا الغاليسية، الخالية من “عناصرها النجسة”، تظهر، جاء مارسيل إيميه مع أورانوس ليضعف قوة التأليه الوطني. بتحدٍ، يُعيد فتح الجرح الذي لا يزال موجودًا… ويُذكر بروح الدعابة وليس بالدقة اللاذعة أنه لا يوجد سرد يُقدم الأمور بأبيضها وأسودها.

كما تُشير الرواية، فإن المقاومات والمشاركات في التعاون لم تكن إلا سلوكيات هامشية. ففي البداية، كان الهدف الأساسي هو البقاء على قيد الحياة قبل الانخراط في السياسة. لكن هذه النظرة المذلة للفرنسي المتوسط السلبي – بل المستسلِم – استغرقت وقتًا لتبرز وتُحدث تشققات في أسطورة المقاومة الفرنسية. ولم تتصدَّ هذا التصور حتى بعد نحو عشرين عامًا من الحرب، بفضل هجمات متكررة من قِبل مؤرخين وصحفيين غاصوا في الأرشيفات؛ إذ أحدث عرض الفيلم الوثائقي Le Chagrin et la pitié (الذي سُمح بعرضه على التلفزيون عام 1981 فقط) تحولًا صارخًا في الرواية الرسمية وصدم الجمهور بشدة. من خلال تسليط الضوء على التناقضات في سلوك الفرنسيين تجاه المحتل، بادر إلى بدء مرحلة تاريخية جديدة، تُعرف بـ”الذاكرة المكسورة” كما أسماها المؤرخ هنري روسو.

في رواية Uranus، لا يقول مارسيل إيميه الكثير غير ذلك – بأسلوب أكثر رصانة – حين يعبِّر بلفظيات آرشامبو:

«كانت تلك الموجة من المنافقة، التي كنت أظنها ستجتاح فرنسا، قد اتخذت الآن في عيني أبعادًا رائعة. سواءً زعمت الصحافة بأكملها أنها تتجاهل حقيقة وجود ملايين الأفراد ممن يحملون هذا الرأي، أو قَلَّصت عددهم إلى بضع عشرات الآلاف من الحمقى والخونة؛ كان هذا بمثابة كذبة عملاقة.»

مدح الضعف

ومع ذلك، ولضمان ألا ينغمس القارئ الذي ليس مولعًا بالسياسة، لن نخوض في تفاصيل الجدل التاريخي حول نظام فيشي. فكلمة السياسة بالنسبة لمارسيل إيميه تُستخدم في المقام الأول كذريعة لرسم الحالة الإنسانية، وعنصر ديكور يُثري المواقف والحوارات، وهو الفن الذي يتقنه الكاتب. شخصياته تتحدث ببساطة، مستخدمة لغة يومية تبدو وكأنها تنبع من فم ممثل مثل غابان أو بورفيل… (والتي ستتناسب تمامًا مع أداء ديبارديو ومارييل، في تجسيد شخصيتي ليوبولد وآرشامبو في فيلم أورانوس للمخرج كلود بيري). هذا الكلام الشعبي، الذي يمتزج فيه “مظهر المتعجب بملامح ورقية” مع “نوع من قزم كوازيمود المُنهَك من الإدمان على الكحول”، أبقى دائمًا مسافة بين مارسيل إيميه وزملائه. لقد وُصف بأنه فظ جدًا ولم ينكر يومًا ارتباطه بحركة أدبية، فلم يُقبل خلال حياته من قبل محترفي الأدب، وبعد وفاته بعشر سنوات، تعرض لهجوم شرس من المؤرخ باسكال أوري الذي اتهمه – في مقال نشرت صحيفة Le Monde – بتبنيه “لأناركية الازدراء، التي تسخر من الحالة الإنسانية بنظرة خالية من اللين وتتزين بقناع ساخر”.

ومن الظلم أن يُنتقد مارسيل إيميه على أنه يحتقر الإنسانية؛ ما لم نُلقي اللوم أيضًا على فلوبير القاسي الذي يهاجم شخصية تشارلز بوفاري ويثقل صفحة تلو الأخرى على فريدريك مورو في L’Education sentimentale. وإن كان يرسم صورة لضعفنا وركوننا وخياناتنا المخزية، فإنه غالبًا ما يغفر تلك الزلات.

فمثلاً، يفقد جان غينيه، الشيوعي المتزمت، توازنه أمام ذراع وردية لفتاة صغيرة، ويأمل ابن مونغلات الفظة، المتعاون الذي لا يُصلح، في فتح محل أحذية مع تلك الفتاة، أو يبوح المتعصب جوردان في رسالة إلى “أمه الصغيرة الحبيبة” بمخاوفه في انتظار موجة ثورية جديدة.

يرى بعض القراء أن رواية أورانوس تأتي كمحاولة لإعادة تأهيل خفية لنظام فيشي، من خلال شخصيات مارشالست مسموعة ينمّي إليها الكاتب مودة. ويعتبر باسكال أوري من بين المنتقدين الذين يرون في الرواية “إدانة ساخرة لعملية التطهير”، في حين يرى مارسيل إيميه نفسه مُكتفيًا بوصف فترة قاسية على أهله، عندما يكون الخطأ الوحيد لهم هو ضعفهم وقلة بطولة تصرفاتهم. كما أنهم لا يغفرون له – بحسب نقاد آخرين – نشره خلال الحرب في صحف متعاونة مع الألمان، رغم أنه لم يُظهر يومًا تعاطفًا مع حكومة فيشي؛ فقد كان ينشر فيها أخبارًا أو خواطر عابرة. ولا يغفرون له أيضًا نضاله، إلى جانب جان أنوي وفрансوا مورياك، للحصول على عفو لبراسياش عام 1945. وفي برنامج إذاعي على إذاعة فرنسا كولتشر عام 1991، دافع ميشيل لوكيور، الذي كتب مقدمة ونظم نشر أعمال مارسيل إيميه ضمن سلسلة “La Pléiade”، عن الكاتب الذي اُتهم بكل اللوم – لاسيما اتهامه بـ”الأكل من كل صحن” – من قبل صحفية تبدو بريئة زائفًا:

«لو كنت نجارًا أو بائع زجاج، كان بإمكانك الاستمرار في حياتك دون أن يؤثر ذلك على السياسة. أما إذا كنت صحفيًا، فكل ما تبقى هو الصحف المتعاونة.»

كان لا بدّ من العمل، باختصار. وإنما يجب على قرّاء مارسيل إيميه أن يهتموا بعمله الأدبي الجليل، الذي تركه لنا، والذي تُعَدُّ أورانوس بلا شك إحدى القطع الرئيسية فيه.

«ما هو مخيف حقًا ليس زخم الأفكار مع كل أخطائها وتشوشها. الخطر الحقيقي يكمن في بؤس واختناق العقول.» كما يقول مارسيل إيميه.

عن فلسطين رؤية تحليلية

عن المؤلفَين

إيلان بابيه ونوام تشومسكي، وهما اثنان من أبرز العلماء والمفكرين، تعاونا لإنتاج العمل اللافت “عن فلسطين”. ويجلب كلا المؤلفين ثروة من الخبرة والمعرفة إلى النقاش، مما يُثري السرد بمنظورَيهما المتميزَين حول الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني.

إيلان بابيه، مؤرخ إسرائيلي، يشتهر بتحليله النقدي لتاريخ إسرائيل الحديث. وُلِد في مدينة حيفا، وقد دأب بابيه على تحدي السرديات السائدة، خاصة تلك المتعلقة بقيام دولة إسرائيل عام 1948. وقد أكسبه بحثه المكثف والتزامه الصريح بكشف الحقائق التاريخية شهرة دولية، مما جعله شخصية بارزة في مجال دراسات الشرق الأوسط.

أما نوام تشومسكي، فهو عالم لغويات وفيلسوف وناشط سياسي بارز، وناقد ثابت لسياسة الولايات المتحدة الخارجية، ومدافع عن العدالة في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. وُلِد في فيلادلفيا، ويمتد تأثيره الفكري إلى ما هو أبعد من علم اللغة، ليشمل مجموعة واسعة من التخصصات. وقد جعلته انتقاداته للإعلام والسلطة corporatية والسياسات الحكومية شخصية محورية في الأوساط التقدمية حول العالم.

ويُعد التعاون بين بابيه وتشومسكي في “عن فلسطين” اتحادًا بين عقلين بارعين يجمعان خبرات متكاملة. فمعرفة بابيه الدقيقة بتاريخ إسرائيل، إلى جانب الرؤى الجيوسياسية الواسعة لتشومسكي، تخلقان تآزرًا يُضفي عمقًا وتفصيلًا على تحليلهما للقضايا المعقدة المحيطة بفلسطين.

وفي مسيرتَيهما، واجه كلا المؤلفين انتقادات وجدلًا بسبب آرائهما الصريحة. فقد واجه بابيه، على وجه الخصوص، ردود فعل عنيفة داخل إسرائيل لتحديه الرواية التقليدية المتعلقة بتأسيس الدولة. كما أن انتقادات تشومسكي لسياسة الولايات المتحدة الخارجية جعلته شخصية مثيرة للجدل، رغم أن تأثيره كمفكر عام لا يزال قويًا.

ويأتي كتاب “عن فلسطين” كثمرة لالتزام مشترك من بابيه وتشومسكي بالانخراط في تعقيدات الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. ولا يُعد تعاونهما مجرد مسعى أكاديمي، بل يعكس إيمانًا مشتركًا بقوة المعرفة في تعزيز الفهم، وفي نهاية المطاف، الإسهام في إيجاد حل أكثر عدلًا وإنصافًا للقضايا العالقة في المنطقة.

التحريف التاريخي والنكبة:

يتناول الكتاب موضوع “التحريف التاريخي”، من خلال تحدي السرد التقليدي المحيط بالنكبة، أي التهجير الجماعي للفلسطينيين أثناء تأسيس دولة إسرائيل في عام 1948. وتتمثل مساهمة إيلان بابيه في هذا السياق في إعادة فحص دقيقة للوثائق التاريخية والشهادات، كاشفًا عن رواية أكثر تعقيدًا وغالبًا ما تكون مزعجة للأحداث. يُقارن بابيه بين اكتشافاته والرواية الصهيونية السائدة، مقدّمًا منظورًا يطعن في الأعراف الراسخة.

أحد الجوانب المحورية في مراجعة بابيه التاريخية هو تركيزه على دور “التطهير العرقي” في نشأة إسرائيل، حيث يجادل بأن تهجير الفلسطينيين لم يكن مجرد نتيجة للحرب، بل كان جهدًا ممنهجًا ومتعمدًا لإنشاء دولة ذات أغلبية يهودية. ورغم أن هذا المنظور مثير للجدل، إلا أنه أثار نقاشات مهمة داخل الحقل الأكاديمي التاريخي، إذ يختلف بشكل جذري مع التفسيرات الصهيونية التقليدية للنكبة.

وبالمقارنة مع مؤرخين آخرين مثل بني موريس، فإن نهج بابيه يمثل انحرافًا حتى عن “المؤرخين الجدد” الذين، رغم مراجعتهم لبعض السجلات التاريخية، لم يستخدموا دائمًا مصطلح “التطهير العرقي” لوصف أحداث عام 1948. يناقش الكتاب هذه التفسيرات المختلفة من خلال طرح مساهمة بابيه المميزة في هذا الجدل المستمر حول النكبة.

دور الفاعلين الدوليين ومسألة العدالة:

يستكشف بابيه وتشومسكي موضوع التدخل الدولي في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، من خلال تحليل أفعال القوى والمؤسسات العالمية. وينتقدان بشدة دور الولايات المتحدة، مشيرين إلى دعمها الثابت لإسرائيل وما يترتب على ذلك من آثار على السعي نحو العدالة في المنطقة. وتتمثل مساهمة تشومسكي في هذا السياق في تحليله الأوسع للسياسة الخارجية الأمريكية، من خلال وضعها في سياق توازنات القوى والمصالح الجيوسياسية.

يتناول الكتاب مفهوم “عملية السلام” ودورها في تكريس الوضع القائم، حيث يرى المؤلفان أن هذه العملية، التي تديرها قوى دولية نافذة، غالبًا ما تكون ستارًا يُخفي الأسباب الجذرية للصراع. ينتقدان اتفاقية أوسلو والمفاوضات اللاحقة، ويؤكدان أنها فشلت في معالجة القضايا الجوهرية المتعلقة بالعدالة وتقرير المصير الفلسطيني.

وعلى خلاف بعض الأكاديميين الذين يتبنون رؤى أكثر دبلوماسية، فإن نقد بابيه وتشومسكي ينبع من تحليل أعمق لبنى القوة واختلال التوازن في العلاقات الدولية. وبدلًا من الاكتفاء بالمناقشات السطحية حول مفاوضات السلام، يقدم الكتاب فهمًا عميقًا للتحديات التي تفرضها القوى الجيوسياسية أمام تحقيق العدالة للفلسطينيين.

مفهوم الصهيونية وتطوره:

يناقش الكتاب أيضًا موضوع الصهيونية من خلال تتبع تطورها التاريخي وطبيعتها المتغيرة. يستعرض بابيه وتشومسكي التاريخ المعقد للصهيونية منذ بداياتها الأيديولوجية وحتى تجسيدها في إقامة دولة إسرائيل. وتبرز مساهمة بابيه في نقده لطبيعتها الإقصائية وتأثيرها على الشعب الفلسطيني.

يركز الكتاب على التوتر الكامن بين فكرة “إسرائيل الديمقراطية” والطابع الديني أو الإثني للدولة، مقابل مبادئ الحكم الديمقراطي. يرى بابيه أن المشروع الصهيوني منذ بدايته كان يحمل عيوبًا جوهرية لا تزال قائمة بل تعمقت مع الوقت. هذا الطرح يختلف عن التفسيرات المعتدلة التي تحاول التوفيق بين الطموحات القومية الصهيونية والقيم الديمقراطية.

وعند مقارنته بمفكرين مثل أ.ب. يهوشوع أو عاموس عوز، الذين يميلون إلى موقف تصالحي أكثر تجاه الصهيونية، فإن بابيه وتشومسكي يقدّمان تقييمًا نقديًا يدفع القارئ إلى التساؤل حول الأسس التي يقوم عليها المشروع الصهيوني. يتجاوز طرحهم مجرد استعراض تاريخي، إذ يقدمان فهمًا معاصرًا لانعكاسات الصهيونية على الصراع المستمر.

دور الإعلام في تشكيل التصورات:

يتناول بابيه وتشومسكي دور الإعلام في الصراع، من خلال تحليل نقدي لكيفية تشكيل السرديات الإعلامية للرأي العام. يطرح تشومسكي، الناقد الإعلامي المعروف، مفهوم “صناعة القبول” لتوضيح كيف تساهم وسائل الإعلام في إسرائيل وحول العالم في بناء رواية معينة. يستعرضان كيف يؤثر تأطير الإعلام للأحداث على الرأي العام، وبالتالي على القرارات السياسية.

من الجوانب المهمة التي يتم تناولها، تصوير العنف والمقاومة؛ حيث يرى المؤلفان أن الإعلام غالبًا ما يصور المقاومة الفلسطينية على أنها إرهاب، بينما يتجاهل العنف البنيوي للاحتلال. وتوفر أفكار تشومسكي، المستندة إلى كتابه المشترك مع إدوارد هيرمان “صناعة القبول”، أساسًا لفهم كيفية استمرار التحيزات الإعلامية في دعم بنى السلطة القائمة.

وبالمقارنة مع التحليلات السائدة لتغطية الإعلام، فإن نقد بابيه وتشومسكي يقدّم عدسة نقدية للقارئ للتشكيك في تأطير الإعلام للصراع. يشجّع الكتاب القراء على أن يكونوا أكثر وعيًا وانتقائية في استهلاكهم للمعلومات، وعلى التفكير في تأثير الروايات الإعلامية على الخطاب العام حول النزاع.

تحديات وإمكانيات النشاط الأكاديمي:

من الموضوعات الأخرى التي يناقشها كتاب عن فلسطين دور المثقفين والأكاديميين في الدفاع عن العدالة والتغيير. يتأمل كل من بابيه وتشومسكي، بصفتهما أكاديميين، في التحديات والإمكانيات التي يطرحها ما يمكن تسميته “النشاط الأكاديمي”. يناقشان المسؤوليات الأخلاقية التي تقع على عاتق الباحثين في مواجهة انتهاكات حقوق الإنسان، وضرورة التحدث علنًا ضد الظلم.

تضفي تجارب بابيه الشخصية، بما في ذلك المضايقات التي تعرض لها داخل إسرائيل بسبب آرائه، بعدًا واقعيًا لهذا الموضوع. فهو يؤمن بأهمية أن يتجاوز الأكاديميون حدود الجامعة ويتفاعلوا مع المجتمع، مسلطًا الضوء على الواجب الأخلاقي المتمثل في قول الحقيقة. أما تشومسكي، فتعكس التزامه الطويل بالنشاط السياسي هذه الفكرة من خلال حديثه عن التداخل بين العمل الفكري والسعي لتحقيق العدالة.

وبالمقارنة مع النظرة المحافظة التي ترى أن الأكاديمي يجب أن يكون محايدًا ومنفصلًا عن القضايا الاجتماعية، يدعو بابيه وتشومسكي إلى أن يستخدم الأكاديميون معارفهم للمساهمة في التغيير الإيجابي. يحفّز هذا المحور القرّاء على التأمل في الدور المحتمل للبحث الأكاديمي في التصدي للمظالم البنيوية، والدعوة لحل عادل للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.

تشومسكي حول فلسطين:

تعكس مساهمة نعوم تشومسكي في عن فلسطين التزامه الطويل بالتحليل النقدي والنشاط السياسي. فهو يستند إلى خلفيته في اللسانيات والنظرية السياسية ليقدّم رؤيته الفريدة في قضايا الصراع.

يُرجع تشومسكي الصراع إلى دعمه الأوسع لتحليل السياسة الخارجية الأمريكية، حيث يرى أن الولايات المتحدة دعمت إسرائيل دائمًا سياسيًا وعسكريًا، مما ساهم في تكريس الوضع القائم. هذا يتماشى مع تحليلاته العامة لبنى القوى العالمية ودور الدول المهيمنة في رسم السياسات الجيوسياسية.

يتناول تشومسكي “عملية السلام” وما يرى أنه حدودها وفشلها. ينتقد مفاوضات أوسلو معتبرًا أنها لم تُعالج القضايا الجوهرية كالعدالة وتقرير المصير للفلسطينيين، مؤكدًا أن المصالح الجيوسياسية تقف عائقًا أمام الحلول الجذرية.

كما يناقش دور الإعلام في تشكيل فهم الناس للصراع، حيث يطبّق نظريته حول “صناعة القبول” موضحًا كيف تساهم التغطيات الإعلامية في تصوير الفلسطينيين كمعتدين بينما تُخفي عنف الاحتلال البنيوي.

وفيما يخص الصهيونية، يقدّم تشومسكي تقييمًا نقديًا لتطورها التاريخي ومآلاتها، متسائلًا عن مدى توافقها مع المبادئ الديمقراطية. ويرى أن طبيعتها الإقصائية تسببت في تفاقم معاناة الفلسطينيين.

بابيه حول فلسطين:

إيلان بابيه، المؤرخ الإسرائيلي، يقدم صوتًا مميزًا في On Palestine، من خلال تركيزه على مراجعة التاريخ وتفكيك الروايات السائدة.

يعتبر محور المراجعة التاريخية للنّكبة جوهريًا في مساهمته. إذ يفحص الوثائق والشهادات التاريخية بعناية ليكشف عن سردية معقدة، يرى فيها أن التهجير كان ممنهجًا لا عرضيًا. ويُعد استخدامه لمصطلح “تطهير عرقي” نقطة محورية أثارت نقاشًا أكاديميًا واسعًا.

ينتقد بابيه الصهيونية كمشروع إقصائي، ويُحلل تطورها وآثارها طويلة المدى على الفلسطينيين. يذهب أبعد من الطروحات المعتدلة ليقدم قراءة معاصرة لجذور الصراع.

يناقش أيضًا دور القوى الدولية، خاصة الولايات المتحدة، في تطورات الصراع، معتبرًا أن عملية السلام لم تعالج القضايا الأساسية بل ساهمت في إخفائها.

ويسلّط الضوء على تجربته الشخصية كمثقف مُلاحق داخل إسرائيل بسبب آرائه، مما يعزز من دعوته لدور فاعل للأكاديميين في المجتمع.

ردود الفعل على الكتاب:

أثار كتاب عن فلسطين نقاشًا واسعًا في الأوساط الأكاديمية والسياسية والجماهيرية. فقد نال الثناء من قبل مؤيديه الذين أشادوا بتحليله العميق ومراجعته الجريئة للتاريخ وتقديمه لرؤية جديدة للنّكبة والصراع المستمر.

لكنّه أيضًا تعرض للانتقاد، خاصة من أنصار الرواية الصهيونية التقليدية الذين اعتبروا أن الكتاب ينطوي على تحامل ضد إسرائيل ويفتقر للتوازن، وهو ما يعكس الانقسام الأيديولوجي العميق المحيط بالقضية.

وجد الكتاب جمهورًا مهتمًا بالرؤى البديلة، خاصة بين من ينتقدون التغطية الإعلامية السائدة للصراع. لكنه واجه في المقابل مقاومة وربما رقابة في بعض السياقات السياسية، خصوصًا داخل إسرائيل، حيث يُنظر إلى مضمونه كتهديد للروايات الرسمية.

وتعكس ردود الفعل هذه الطبيعة المستقطبة للصراع وصعوبة إيجاد حوار منفتح ونقاش دقيق في سياق كهذا.