نبرات … قصة بعنوان: وصمة صوت

وصمة صوت

وأنا أتخيل الكلمة، وهي قابلة للتردد، ومهيأة لتكون شائعة، وتخدش اهتزاز نفس سئمت أن تكون هشة بعدما تأملت أنه قد تتجاوز المفردة مناطق أفواه الآخرين، ولن يقولوها أو يتلاعبون بدلالتها، ومن أعينهم الوقحة لن تنساب،  وأنا أتجشم خوف الاستماع لصوت.. مجرد صوت،فأتخيل مقدرته أن يُذبل شيئاً في روحي المتشككة، وهي تود أن تبتلع كل الأصوات، و تتمنى لو أن الحياة خرساء.

آلمتها بيدي وعاندت رغبتها بالبكاء وهي تستنجد بي أن أتوقف، وأنا أخرس فمها المتساقط من الصفعات، ووالدتي تجر كتفي لكي أبتعد عنها، وكادت رأفة تأخذني لها، فلم أترك لنفسي فرصة للتراجع، ولجأت لكل المناطق التي أَعتمت رؤيتي المحاصرة على جرأتها وعدم إخباري بالذي قامت به، وخانتني أيام مودة لأخت تصغرني بثلاث سنوات بعد يتم أب سعى قلبها لي واحتويته، فتلاشى هذا أمامي الآن، ونار أسئلة والدتي أُحاول أن أطفئها وهي تعاود شدَّ يدٍ تُمزّق وجه ابنتها الصغير:”قل لي ماذا فعلت؟ أنا سأضربها بدلاً عنك، لكن أخبرني ماذا فعلت؟”.وبشرود امتزج برعونة صَوبت تأرجح قدمي على خاصرتها وسؤال والدتي الذي طمست إجابته وفي داخلي السحيق حَمّلتها جزءاً من ذنبها، فعادت بعد تجاهلي لها وهي تسأل “سعاد” تحاول فصلها عني، فبدأت بالصراخ على والدتي بأن تتركها لي: “أرجوك يا ولدي ستموت أختك بين يديك، سعاد ماذا أخذت منه؟ ماذا سرقت؟”. وبعينين امتلأتا برعب لم تتفهمه وغرقتا بالدموع طغى على ملامحها الهلع وهي تلوذ بقشة خلف ظهر والدتي، التي غرقت في موقف غير قادرة على انتشال ابنتها منه:”لم آخذ شيئاً.. لم أسرق شيئاً، ولم أفعل شيئاً يستحق كل ذلك؟”.ويدي التي صدئت قليلاً وهي تستلها من جديد من خلف ذعر خلقته لهم وأقربها لترهل سؤال استكملت فيه سَرَفي في الامتهان بسبب الذي فعلتهُ دون أن تعلم أبعاده في داخلي: “أرجوك يا ولدي هذه أختك”.. فانطفأت عيناي وأنا أغمضهما بحرق ممتلئ وأقول: “لن أفعل لها شيئاً”. ونسيت الكلمات المتبقية وهي تنزوي بوجهها أسفل مني، ولاحظت تورم عينها اليمنى، وتجاهلت جلدها المنتفخ وأنا أهمس لدمِ أنفها الذي سال من ضربة عشوائية بيدي حتى اقتربت من السقوط وهي تجيب “الجزائر” بعدما سألتها: “كنتِ في أي دولة؟”.

مضيتُ بالوقوف على تلك الهاوية التي لم أعلم عنها. أن تُسقط في ميزان أعين وأنت لا تشعر ولا يسمح لك أن تعرف أو أن تقول لماذا؟ امتداد تاريخي يُقيدك واحتفظت به الأيام لك على شكل مهانة يحاصرك ويتطور ضيقها ويخنقك ويحطم حلم وجود طبيعي تحاول أن تفرضه فتقول للآخرين أنا.. ما أنا عليه فقط، وتَكفر بكل التصنيفات المتشعبة والكلمات التي تختبئ تحت سِنّ يُصر بِصكه على إعادة ترتيب درجتك وإن لم تقبل بها، أو حتى توجد علامة واحدة تدل على رهان الاقتناع المسموح بهِ فتتشتت بين أمزجة مختلفة صَدِئة تتكسر أمام كل اختبارات التجربة،لكن قد تقضي عليك أحياناً، وتستسلم لصوت عارٍ لا يُدرك براءة فعل قديم لم تشهده ولا تعرف أحداً حضره، ولا يد شاهد ترتفع لتقر به، مجرد رياح قديمة امتدت وامتدت وأتت به أمامك الآن لتدفع ثمن دم يسري في عروقك ويربطك بالبعيد الذي تقربه نبرات أصوات مخادعة وتفاصيل وجه حقير يتغير إلى الكآبة الصامتة كلما رآك، وهمساتهم المتأخرة تتناثر لقدومك، فيحل الصمتُ الذي لا تعرف معناه لكن تُحِسه يخدش شيئاً في داخلك والمكان ينطفئ فجأة، وسؤال تتمنى أنت أن يوجه لك وأيضاًتسمعه أمامك ولا يسلك طرقاً جانبية منحدرة الوقوع للهمزات “أليس هذا هو؟” نعم هو . هو ابن الضريبة المتأخرة التي صَنفتهُ بشكل مختلف عن الجميع، وهو من أولئك الذين أذعنهم التقسيم لكل أجزائهم ووصموا بالذي يستحقون ، لكن الدنيا كلها لا تخجل منه سوى تخمة التمييز الذي أكلت الناس أو جزءاً من الناس الذين هم فقط يعملون بأيديهم فأهانوا صوت الأيادي  وأنا لا أعلم.

لم يغيرني الابتعاد عنها وقطع خطوة توقفت فوق عتبة باب ما زالت أماني الانتماء له لم تخفت وهج حنينه، وحتى الألم الذي أحيا به الآن ليس بمقدور أي ذاكرة أن تزيل أدفأ اللحظات معها، وأنا أخبئ لها شوقاًينتظر رؤيتها كأول مرة من تلك النافذة، فأنثره عليها كله، ولن أبقي شيئاً في داخلي طويته عنها في صميم النفس وحملتهُ على نظرة أخيها وهو يكشفه بموقف أخير أعاد ترتيب الاتجاهات، فلم تتصوب ناحيتها لي بل تجاوزتني رغم كل الود الذي جمعني فيه “عبدالرحمن”، لكني استسلمت لمحصلة الفكرة النهائية وهي تتكون في علاقة تمسكت أنا بها واشتد هو بساعده لي وأفضى كل ذلك إلى اللا شيء وهو يتحطم أمام الرغبة التي سمحت بصوت الجرأة، وأنا أقولها له مستغلاً خلو مجلس الرجال في بيته ومغادرة أبيه وضيوف لا ينفك وجودهم من ملازمة مجلسهم دائماً، والذي يعمر بواجبات الضيافة وعلى شكل عَصَبِ العائلة التقليدية المتمسك بنهج متأصل لجميع جوانب حياتهم حتى تفردهم بلهجة أبوا أن تزول من شفاههم وأن تُحَرّك قواعد بُنيتها الأيام كميراث أعطى صورة تذهب لخصوصية عادات اجتماعهم العائلي واللحمة الحاضرة لكل مناسبة، والتي ترفض أي عذر لغياب أحدهم عن مجلس “والد عبدالرحمن”، والذي يرونه شمساً تنير معنى تقاربهم وضوءاً لافتاًلطريق يصطفون له واقفين، ويدعو أيضاً بنوع مختلف من الفخر الذي أدى اقتحامي على مضض منهم لحياة عبدالرحمن كزميل عمل للتو ابتدأ منذ عام، وسور بيت جيرة لم يتهدم أمام يتم أب مازال والده يرعى غياب جاره الدائم، فَعظُمت محبتي لهم، ورباط اجتماعي يَثْبت في توهّم مخيلتي وأنا أقضي بعض ليال وأيام في بيتهم ولا آبه لكل ضيف يتجدد وجوده من أقاربهم وهو يتداعى لهمس الأسئلة وهي تخنقني في البدايات: “من هذا؟”، لوالد عبدالرحمن، وبصوت يشبه المرور السريع:”هذا أسعد ابن جاري محمود رحمه الله وصديق ابني عبدالرحمن وهو مثل ابني”، فأصبحت الأمثال التي أُشَبّه بها “مثل ابني” حماية لنفسه التي ترتبك، وكلما سمعوا مثل هذا الحديث استنكرت ملامحهم مضامينه،ويبدأ سيل جارف لاستغراب صامت، وأحاول صده بما توفر لي من استطاعة حتى أحولهُ للقعر الذي في داخلي، ثم أزيله بقربي على ظن التعمق برابط يجمعني بعبدالرحمن، وهيأت نفسي حقيقة كأخ من دمه صانعاً إطاراً لوجودي المستمر لتقبل صورة انتماء تربطني به، وإن جازفَ أي شي لتشويه ملامحها، لكني أعيد تزيينها كلما وسع ذلك،وانصهرت جدران بيتهم مع طبائعي الشخصية قبل اندماجي معأصحاب هذا البيت، حتى نافذة الغرفة اليمنى في الطابق الأول والتي تطل على فناء فسيح جداً قبل مجلس الرجال، ودوران هذه الأرض يتوقف للحظة لم ترد أن تثبت شيئاً سوى الجمال في عينيها، وهي تشرق علي أثناء توجهي لعبدالرحمن هناك، فوقفت للدهشة فجأة أمامها حفز ذلك ابتسامة لم تزلها من وجهها، وأرادت أن أعلم أنها لي ولم تجنح لعبور الهواء، واستراح ظل يدي لجرأته وأنا أرفعه لها، دلالة لصوت السلام الذي يلف روحي وينزع عني الأيام وكدرها فجأة وعيون ما زالت تبتسم ويدناعمة تلّوح قبل أن تضم  مزلاج النافذة وهي تغلقه بهدوء تاركةً لي رجفات خطواتي تتغير وأنا أعود لانتظار عبدالرحمن وضيوف أبيه الدائمين، واستنزاف اللحظة التي مرت على ماء وجه مرتبك يقتحم أنفاس رجال جالسين، وعمق عينيها يعود في مداهمة لي وأنا أتحسس أجزاء ذاكرتي داعياً لحفظ تفاصيلها التي أتت بخفة متناهية لقلبي المتراخي،فاصفرت ملامحي التي أرهبت قلق عبدالرحمن، ولم يمنعه اختلاسي لمكان بجانبه أن يحرك تمعنه بي وأنا أحاول أن أسند ظهري لمشقة غريبة تلف جسمي بسؤاله الخافت: “هل أنت بخير؟”. والمفارقة تأخذ بتكوينها لشعور مختلف ينشأ تجاه “عبدالرحمن”، واستند على تلك اللحظة الفارقة بانتماء له قد يتطور بوجهة مغايرة وقرب ملاصقته في ناظري يزداد،فضغطت على كتفه وابتسامة على وجهي تجد مكانها، وعيناه باستغراب تتسعان لي: “ليس بي شيء”، وعلى يدي اتكأت للتأمل الذي يحيطني وتنهيدة داخلية أعيدها لنفسي، ويقين ينشأ وأنا أحدد مصدر السكينة التي أحس بها وخيالي معلق هناك على يد رفعت لي هي أشد حناناً من تلفت عنق قلق عبدالرحمن علي الآن.

وجودي.. لطالما شعرت بالخوف من عدم معرفتي بمداه الحقيقي إلى أي مرحلة يصل! لكني أحسست به جيداً، وذلك بمقاومتي الدائمة لنظرات الآخرين وهم يقومون بتصنيف كل حضور لي مستنزف بالنسبة لهم،جاعلين آلة التحرك تعمل والأدوار تنقلب، فجأة أجد نفسي تغير مكانها دون أن أشعر لأحكام تطلق بصمت رافضين مناقشة لمز متطرف تداعى لهم مع عدم الاستطاعة على أن أبتعد عن توقعات لم أفرضها لهم،وأحاول الخروج عن إطار صورهم المتكررة وهم يحددون أبعادها المتناهية، وفي لحظة، خشيت أن أكونها، وأنا لا أعرفها، ولا يسمحون بصوت أدافع به عن خسارة سباق اجتماعي لم أُدْعَ له أصلاً، فقاومت كل أشكال الهزيمة الغائبة في نظري لكن لا أنكر أحياناً سقوطاً متداعياً في استنساخ شعور الانتماء الذي أتقمصه بنسخة متكررة اقتربت منها للتشوّه بإيماءات رأسي لحديث تافه أرهقني خوضه، وتوافق تام لرأي أجهل تفاصيل حُجَجٍ لم أنصت لها منذ البداية، ولرفضي أن أكون بهذا الشكل الذي أتقزز من ذاتي إذا استدعيتها لأراها فقد تراكم ثقل حضوري لمجلس والد عبدالرحمن وجيوش روادهم يتوالى، والذي لا يتوقف ولا يريد أن يحقق هدوءاً للمكان، ورغبة جامحة تدفعني لشبه انقطاع عنهم، لكن رؤيتي لنافذة تُوقد لي جَذوة دفء من عيون “ليلى” أعادت لي معنى التجاوز بابتسامة على أثرها، اخترت مكاني وهي تحدده عنواناًللحقيقة الوحيدة التي تشعرني بنفسي هنا، والذي شهد بذلك نافذة أغلقت على وداد لحظات يقف تحت نسائم روحها، واستطاعت أن تَفتح نافذة أخرى، ولطريق مهدته للذهاب إليها، وطوق رسائلها ترميه لأنجو بمشاعرها، وهي توسع هذا العالم الضيق وذراعاه تفتحان لي بموجات الحنين، تبعثها على يد أختي، وبأمل صغير تضعه في درب عودتي للبيت، وأنا ألاحظ ضحكات سعاد المسروقة لليل تأخر وقت نوم أقلقه تلاعبها بالكلمات: “زرت بيت جيراننا اليوم.. صديقك عبدالرحمن”، وغطاء السرير وهي تأخذه لمحاولات استفزاز بريئة آمنة من عدم غضب لم تعهده مني بل تشكلت بالحنان الذي أسكبه عليها وعلى والدتي حتى أصبحت لهم أباً يسعون له بشيء يشبه رد الجميل الذي أرفض حضوره بشدة في طرق تعاملهم لكسب رضاي، وأنا أغلق لحظات العمر عليهم: “لم تتوقف ليلى أخت عبدالرحمن في الحديث عنك وعن خلقك وتهذيبك ومدى محبة والدها وعبدالرحمن لك”، وغمزة من عينها وهي تتوقف عند لفظ محبتهم أربكتني، وبابتسامة المتجاهل لحديث سمعته جيداً طلبت منها أن تطفئ الضوء قبل أن آمرها بالخروج: “إن كنت تريد أن تنام فلا بأس سأتركك تنام”، وعلى سؤال أعادته للتأكد من رغبتي في النوم وذهابها عني، وأن لا تكمل حديثها، واستسلمت للمغادرة وهي تدس ورقة صغيرة تم طويها بمشبك صغير تحت وسادتي: “هذه رسالة من الآنسة ليلى”،وأغلقت الباب على رقيق الكلمات التي انسلت منها تلك الورقة التي رقصت بين يدي:

رأيت ابتسامتك..

الأماني كلها محصورة بين عينيك.

ليلى

ملحوظة: لا تخشَ من معرفة سعاد لمشاعري فهي صديقتي أيضاً.

وانتمت لي كلمة “أيضاً” لمكان يوضح المسافة التي تلاشت بيننا،والإيجاز الذي وقعتُ فيه وهو ينطق بكل أماني نفسها، وتحديد مسار خطوات سآتي إليها وأنا متيقن من أني لن أخطئه، ولن أتأخر في رد ينتظر إجابة، وأهزم هذا العالم بصوت رسالة أشرق عليها صباح زهري،وأنا أسلمها ليد سعاد، وفرح يتراقص من عينيها لي لا أعرف مصدره،لكني أتخيل كيف هو شعورها بعدما أوصيتها بسر مدركاً أن ثقتي لن تخيب في قلب أخت ستحفظه: “لا تخش يا أسعد.. ليلى إنسانة جميلة وتستحقك أيضاً”.

ابتسامتي.. صدىً لروحي..

أنتِ أجمل أماني القلب التي أريدها.

أسعد.

ملحوظة: خطّك جميل.

لم يعد ذلك التجاهل يُريحني لحديث أجد صعوبة في مشاركته وهو ينتقل بين أصوات المتحدثين في مجلس والد عبدالرحمن، والذي يكتظ كعادته أمام عدم اهتمامي حتى وإن ترقبت فسحة من خلاله أتسرب لهم على شكل إضافة قد تثري المعاني التي يتم تداولها بينهم، لكنه حاجز صعوبة غريب رفضها، وتوارت أسبابها. فقط الارتطام في كل محاولاتي هو الذي أحسست به، حتى شغف عبدالرحمن المتهالك أمام صمت يراه قد يطبق عليّ، فيؤذيني دون أن يشعر وهو يمهد لي مبادرة حديث أريدهُ ولا أريده بنفس الوقت: “حتى أسعد لديه علم واسع بهذا الأمر”، فترتبك كلماتي أمام باب أغلقه في لحظة أحدهم وهو يبتر حديثاً لم أكمله، ويمتد هو به بعدما رمى مفرداتي وخنق صوت لم تُسمَع نبرته جيداً، ويلتصق بي أسى أعجز عن وصفه، ليس بكبير ليقصم ظهري ولا هو يصغر في ناظري وأقدر على تجاوزه، فأهرب إلى شعور العمق الذي في داخلي.محاولات أبذلها الآن لتهدئته في فناء خارج مجلس لا تتسع بين جوانبه نفسي ومراقبة لنور قد يخرج من نافذة ضِقْتُ ذرعاً من إقفالها المحكم وإسدال ستائرها المستفز، وانتبهت للوهلة الأخيرة لعلم الكويت صغير عُلّق على عتبتهِ، واتكأت على سيجارة تشتعل في يدي وتحاول أن تخفف هزات شكوك قلب وشروداً يتبع دخاناً أبيض أنفثه، وتنازلت اللحظة الميتة عن إصرارها، وصوت يعيد لروحي لونه ويعانقه : “أسعد”؛ نبرة لها القدرة أن تلمس قلبي وتغنيني عن قلوب الأرض، فعَدوت لملامح أخذت كل انتباهاتي، وعيناي تطيلان في تمعّن تُريدانه، وأثره يحيطني حتى وصلت للشرود التام بها، فخشيتْ ارتباك التحديق بها يخرجني عنها،وبتلويحة من يدها لعلم الكويت ظلّت تُكرّرها حتى أفيق من إغمائي الواقف تحت عينيها، فابتسمت لها وهي تُودع هذا الشعور بإغلاق بعدما مَنحت الأشياء بريقها، ولا يشبهه إلا النوافذ في هذا الوقت، وهي تتزين بأعلام الكويت المتهيئة لاستثناء الأشهر “فبراير”، والذي يتفرد هذه السنة أيضاً بمرور ربع قرن على استقلال الكويت، واعتلت أسطح المنازل التي تعد خالية إلا في هذا الشهر، فترتفع رايات وصور حكام الكويت حتى في الطرق، وإنارات الشوارع تتشكل بالألوان الأربعة لعلم الكويت.كل شيء يزهو ويتجدد في هذا الوقت ذي البرودة المعتدلة، حتى كراسات الطلاب تأخذ واجهتها صور وطنية، والمرافق الحكومية تتزين في مداخلها للناس، وتروى حكاية هذا الوطن في كل مكان ولا يتوقف التلفاز في 25فبراير، تبدأ الأغاني والأوبريت الوطني يقدم عروضه المنتظرة من طلاب وطالبات وزارة التربية، وأخذت أعيد نظراتي لتلك النوافذ وأعتلي بعينيّللأسطح التي تجاورنا ونافذة “ليلى”، وعلم صغيرلا زال يتدلى منها،فيتضاعف معنى آخر حقيقي للانتماء، ويمتد الشعور ليشمل كل شيء، حتى عيون ليلى وطن ألجأ له، ويداي تلوذان بها، لا يشبه ليلى سوى البلاد.

ما الذي يشغل بالك؟

أمل قلبي يتسع لك.

ليلى.

ملحوظة: لم أتخيلك إنساناً مدخناً.

***

أريد أن أكون بجانبك هذا ما يشغلني!

سيمتلئ قلبي بكِ.

أسعد.

ملحوظة: لن أدخن أبداً بعد الآن.

لم تكن في صالحي الخطوات التي أصبحت ثقيلة بالندم لكل اللحظات التي يجرني إليها طريق مشيت فيه هناك على وجس خاطئ لا يريحني،وكشفته في إحدى المرات لعبدالرحمن بعد أنَفة لم تمنعني من البوح له على مضض: “هناك أشخاص من الذين يتوافدون عليكم باستمرار أشعر يا عبد الرحمن بكرههم لي”. عَزّ عليّ صوت الهوان الذي أحسسته بعد عبارتي له، ولم تُسعف تأكيداتهُ على تطمين شكوكي، وأرغمت نفسي على مجاراة مصادقة انتهيت منهاـ وكمية مخزون في الذاكرة يحمل أسى مواقف عديدة يناقضهاـ ويقفز أمامي: “أبداً هذا غير صحيح، أنت واحد منا أسعد”. واحد منكم! لو تعلم كم في القلب من أمانٍ لتحقيق هذه الكلمة الغائبة، ودعوتها لكي تحضر، وأتخيل في خاطري كم مقدار الثمن الذي أنا مستعد أن أدفعه، وتصورتُ حتى الأشياء التي أتجهز لأرغم نفسي عليها من أجل أن أشعر بصدق محتواها، وأنها ليست عابرة فقط.. آه لو استطعت أن أبوح بكل هذا لك الآن يا عبدالرحمن! فانتبهت لقيامه السريع ليقطع خيطاً من الشرود وحفاوة استثناء لزائر أغاظني.. صوت تهاليل وجه والد عبدالرحمن لقدومه وهو يطلق عبارات ترحيب اكتظت في المكان، ووقوف الحاضرين استعداداً للسلام عليه، والتوقف للحظات على كل يد تصافحه بعد تبادل حديث سريع لكل شخص على حدة، ثم ينتقل للشخص الآخر، ويكرر تفاعله حتى وصل ليدي الباردة، ليتنازل عن حرارة ضمها، واكتفاء فقط بملامسة خاطفة، دون أن ألفت انتباه عينيه، وملامح وجهه تَتَصّوب لهفة لعبدالرحمن الذي يقف بجانبي، واعتلى المكان صوت اللقاء الذي جمعهم به، وانطفاء يلمس كل ذرات جسمي، وأنا أستمع لتصدر صوت الضيف “علي” ابن عمهم الدارس في بريطانيا، والذي يستغل إجازة العيد الوطني بقدومه للكويت، وكل شيء يدار إلى الصمت ما عدا حديثه الذي تترقبه أعناق الحاضرين الملتفتة إليه بانتباه، والذي فاتتني كل محطاته، ولم أتوقف في أي موضع منها، واستكنتُ للتفاهة التي ألغتني، وذبل فيها وجودي الذي اخترته بيدي، واستوحشته حتى وصل التغاضي بمغادرة المكان مع فكرة توقفت عندها للحظات؛ أن أستأذن وحديث ضيفهم مازال يُسمع، فتمسكت بالخروج والجميع بمنأى عني، وشعور بضآلة نفس تذهب ولا يشعر بي أحد لغربة مكان لا يبالي بخلو حيزي فيه، وبانسحاب ذاتي المنهكة على سؤال أردده في طريق عودتي للبيت وأنا أفكر فيه: “لماذا أشعر بأقل مما استحق من اهتمام؟”.وسحبت أداة الإجابات الحادة حتى لا أجرح نفسي، وتجاوزت خوف ظنون من فرطها ستقضي عليّ لولا يد سعاد وهي تتوسط غرفتها، وبابها مازال مفتوحاً، وتعلم بقرب خطواتي منها، ومن دون لفت انتباه والدتي في صالة البيت ظلّت تُلوح بصمت برسالة تحملها، أنستني كل الذي شعرت به هناك، لكن لم تعلم عند لهفتها وهي تحمل رسائل ليلى الكثيرة أن هذه ستكون الأخيرة، وتعود على سعاد بالألم الذي لم تتوقعه، والكتف الذي ظلت سنوات تستند عليه مالَ وهو يقترب من حتفها، لتسقط عليها النهاية الصامتة، وجفاف وضوحها يحيط بيدي وهي تُسيل دماً سيبقى أثره على وجه سعاد كلما رأيته.

اشتقت لك

حاول أن تقترب.. لا تخف.

ليلى.

ملحوظة: أخبرتني سعاد بمشاركتها في حفل العيد الوطني والذي تم تصويره بتلفزيون الكويت وهي خائفة أن تخبرك.أرجوك لا تغضب منها.

ودون أسف لحروف رسالتها، وهي ممتلئة بالأشواق القادمة في وقت لم يكفِ ليبرر ردة فعل مجنونة تلبّستني لمواجهة تغافل أحدثتهُ سعاد بهذه المشاركة دون علمي، وتجاهل لغضب قد يكون، وأصبّه كله عليها وأنا أجرها لغرفتي في غياب حضور والدتي التي انتصف الوقت والألم وأنا ألحقه بضربات على وجهها، بعدما تراكم غضبي وتضاعف، وهي تخبرني بأن التلفاز سيبث الأوبريت هذا المساء، واشمئزاز لتبريرها لم يوقف غضبي، وتوهمت وهي تحاول إيقاف قطرات دم سالت من أنفها،أني فقدت كل طاقتي في الاستماع: “لم يكن في هذا الحفل ما يسيءلنا يا أخي.. فقط أغانٍ وطنية ودخولي كان عابراً، لم يتجاوز الدقيقة الواحدة، مجموعة من الفتيات تحمل أسماء الدول العربية، وأنا من ضمنهنّ”.

وتنامى حرصها التي ظلت تتمسك به لعدم إيذائها بسبب فهمي الخاطئ عن الذي حدث، وزادت من رجائها المتكرر بأن أحاول أن أرى الموضوع بشكل واضح، واقتطعت نهاية عبارتها بالتفاتة سريعة وهي تنزوي خلف ظهر والدتي وهي تقتحم موقفاً لم أرد أن تكون فيه: “ما الذي يحدث؟”،وإسراف لصراخ أعليتُ دويه محاولة مني بتعميق أسى ظهور أختي على التلفاز وأنها سيشاهدها الجميع، وخشيت من تسطيح والدتي كعادتها، أو أن تكون هي تعلم بمشاركتها، ففزعتُ لارتفاع صوتي ليُؤخذ هذا الموقف على محمل الجد: “ابنتك تشارك في حفل ممتلئ بالرقص والأغاني، والتلفاز قام بتصويره، وسيشاهده جميع الناس.. يا الله! ماذا سيقول الجيران؟ ماذا سيقول بيت عبدالرحمن وأهله؟”. وانتزعتْ كل دفاعاتي التي أردت أن أقنعها بها لأسباب ثورة بدأت تتفحص آثارها على وجه سعاد: “أختك ما زالت صغيرة يا ولدي، والناس هؤلاء الذين ذكرتهم كيف سيعرفون بالأمر؟ من سينتبه لها؟ وهي كما تقول لم تظهر كثيراً”. ذبتُ في التفاصيل التي بدأت أتخيلها؛ لو علم الناس بهذا وبعدم اكتراث والدتي ونظراتها العابرة التي ترى سعاد ذات 17 سنة صغيرة، وبدأ غضبي بمواساة الظن يستسلم لها، وقد بدأ يرحل ويكف يديه عن موقف رأيت أنه وقع وانتهى الأمر، ولن يخفف حدة ارتطامه إذا علم الجميع، فقد يكون فعلاً مرورها في الحفل عابراً ولن ينتبه له، ورغبة جامحة سيطرت علي لمشاهدته والتأكد بنفسي.

البلاد التي تطلب الأماني تزينت برقم 25 بدلالة ربع قرن مضى على استقلال الكويت في صدر مسرح رتبت صفوف الطلاب والطالبات،وامتلأت مساحة المكان بالكورال والمؤدين، حتى جُعِل العازفون أمام الجمهور مباشرة، وجاء التناسق المكثف للوحات العرض يواسي الألم الذي أشعر به، وتسمرت أمام التلفاز للتخفيف من شدة وطء مشاركة سعاد، والأماني كبيرة بأن يكون حضورها غير لافت لأحد قد يراها ويتعرف عليها، وظل قلبي فارغاً واللوحة الأولى في العرض تبدأ، وفي انتظار أن تظهر سعاد وتخرج من شاشة لم أتخيل في يوم من الأيام أني سأراها هنا فيها، لكن لحظات تَمَعّني انتهت لشعاع أنوار الأهازيج وهو يتخلل صداه لمنطقة معتمة في داخلي، واستعذبت تلك المعاني، وبدأت أنتفض انتماء لصوت مئات الطلاب وهم يفتحون عيون القلب لحب لم أتخيل أن مكانه فيّ سيتحرك هكذا، ويأخذني لبلاد حب، ويتمثل وجودها عمري كله الذي عشته، وخطوة أخيرة تستحق النهاية، وراحة بدأت بالمسير لي لعذوبة دخول الطلاب والطالبات بأسماء الدول العربية،مؤكدين انتماء الكويت العروبي، ومضى القلق بي وأنا أتخيل سعاد ستظهر الآن، وأتساءل: بأي شكل سأراها؟ لحظة مرت ولاقت لي خطوات سعاد البريئة وهي تحمل إشارة باسم “الجزائر” تقود طابوراً من طالبات تزيّنّ بلباس شعب الجزائر عليهن، وحنقي الذي أظهرته لها قبل قليل لم يقف بيني وبين عيونها التي ترقص لتقدمها أمام مسرح وصوت الأهازيج تجذب أيادي الحاضرين، وهي تصفق لها على مرور لم يطل حقيقة، لكن صورتها قريبة للشاشة، وباستطاعة المدقق بعلم مسبق أن يعرفها، وانتهت اللوحة ولم تنته رغبة في نفسي بأنني لا أريد أحداً أن يعلم بمشاركتها رغم الذي رأيته وأسعدني قليلاً.

طالَ أنين الغياب واستعصت بعده يد سعاد على كل تلويحة تحمل رسالة من ليلى، ولم يخطر ببالي أن حبل الوصل الذي ربطته ليلى من أجلي قطعته بيدي التي امتدت على أختي، وتوقفت بعدها نظراتها لي، ولم تعد تراني، وخذلني الضوء وأنا أضيئه وهو يتسلل معي لأيام، وأنا أفتح باب غرفتها، وظهرها تديره بتصنّع النوم بعدما شعرت بقدومي المتكرر، آلمت نفسي قبل أن أؤلمها، إحساس بالذنب تجاه قطرات دمها التي سالتيُمزقني بعدما خَفّت كل موجات الحنق، وقاومت مخاوفي من أن يعلم أحد، ويتلاشى كل ذلك باطمئنان للتأكيدات التي أحالتها لي نفسي بعد رؤيتي لمرورها السريع والأشياء الآيلة للعبور لن تنتبه لها عين، وما أكثرها حتى مروري تحت نافذة كَذبت كل ظنون المصادفات التي أهيئلنفسي لأن أرى ليلى خلفها، فأطلتُ اللحظات وهي تمر من تحتها مختبئاً وراء ظل النافذة لعل ملامح وجهها تستفيق لخيوط الشمس الضاربة، وخوف من أن يكشف انتظاري انتباه أحد مع كثرة خطوات الوافدين هناك، فيفسد علي اللحظة التي قررت تكوينها في داخلي بإصرار مثقل بالأمل الذي آمنت به، وقلبها سيسعني بكل جوانبه.. فتراجعت لاتخاذ الخطوة القادمة، وتنهيدة اللحظات العجاف جفت في جوف امتلأ هذا المساء الذي أخذت فيه كل انتباهات عبدالرحمن في بداية ليل صادف حضوراً قليلاً لمجلسهم، ووالده منشغل بهم عنّا،واختيار الصفحة الأولى لحديث هامس : “عبدالرحمن.. هل تعرفني جيداً؟”، وانطلقت الدلائل التي يَسردها بعمق بعدما أدرك جدية سؤالي دون أن تُفزعه توقعات لما خَلفه من أشياء مفاجئة له، وصوت استرساله أزهر بساتين روحي، وهو يلتقط من صفات يراها أجمل ورودها، ولم يكن في خاطر مخيلتي جماليات نظرته لي بهذا الشكل، واستعادته لذكريات أيام صدق جمعتني به، والتي أذابت جليد حروف استعصى عليه قولها:”أريدك أن تساعدني بأمر مهم.. أريد أن أخطب ليلى من والدك هذا المساء.. ما رأيك؟”. ألقى عليّ تردد ملامحه وجهه المتراجع والذي غمرته وحشة لم تستغرق كثيراً لتظهر على نظراته حتى وإن كانت بمقدار ضئيل، لكنها مؤلمة بهذا السكوت المتطرف الذي اجتاحه، وعيناه تتصوبان تجاه والده الجالس هناك، ويعيدها لي متكاسلة، وشعور بأنه انفصلَ عنّي فجأة، وانفلات عبارة أشاح في منتصفها بوجهه لريبة لم أستطع أن أحدد أسبابها، لكني أنصتُّ جيداً لصمته الذي طال بعدها:”هذا الموضوع يا أسعد ليس لي به أي رأي، هذا أمر أوله وآخره عند أبي”. لم أتوقع مع حياديته التي أحسست بها بطول المسافة التي امتدتبيننا الآن، وجعلني أرتبك لقرار الذي اتخذته، ولا فرصة أيضاً لتراجع لا أريده، ونتائج ابتعادي عن “ليلى” ستقضي علي، فجاهدت إرغام نفسي على تجاهل شعور حنق صغير لعدم تحمسه الذي غاظني به، وتساؤلات تجتاح تفكيري عن برود صوته في هذا الموقف وهو يوارب باباً يستطيع أن يفتحه وإن كان من أجل تصنّع للمجاملة لكنه تسلل للبعد الذي أشعر به الآن على الرغم من أنه يجلس بجانبي.

تناسيتُ نفسي عندما أحلت تشكيلها لكم، وأياديكم تعبث بحق أن أكون ما أريده من باب الاختيار الذي أقفلتم بابه غير سامحين بحدس يتراءى لي بمعني طبيعي للتشابه، وأن لي حق الاقتراب، فأتوَهّم أني أقترب.. وأقترب وأدس كلمة “مثل أبي” في منتصف حديثي، وتلقاها والد عبدالرحمن بعينين امتلأتا حناناً، وتناظرت مع ارتجاف أنفاس عبدالرحمن قبل سماعه لحديث هو يعرف إطلالته، وأفرط بسكوت خشيةعواقب توقعها، ولم يخبرني عنها، تاركاً لي النهاية التي لن يفوتني الندم على أحداثها، وقطرُ بدايتها يَهُلّ عليّ، فامتلأت بماء ذكرى جميع اللمزات التي خجلت من الظهور من قبل، ولم يكن أوضح من لسعة تُلهب قدمي والد عبدالرحمن ونار تحرق ساقيه، ووقوفهُ فجأة. تابعتهُ أنا أيضاً بقيامي له وفراغ يحيطني أمام “لا.. طبعاً”. بدت “لا” متسمة بالوضوح لكن “طبعاً” لم تكن لها الرغبة بأن أراها جيداً، وغشاوة فصلتني عن صوته العميق، فاقداً توازن ملامحي لانتهاك مفردة مكان تمنيتُ فقط الاقتراب منه والتطابق معه، والذي انقشع وكتف والد عبدالرحمن يغادر بينما احتجت لجهد كبير، وقلب آخر يتحمل وجع أذاه الذي أبى إلا أن يضاعفه لكن بشكل مختلف وهو يوجهه لي “لقد نسيت نفسك”.

إلى ما قبل النسيان ليتني أعود وأغتال فكرة الأمل قبل أن يداس بأقدامهالتي غادرت قبل قليل لمكان امتلأ بالخدعة المغشوشة التي أسرفت في تزيينها لنفسي، ولم أكن لهم سوى ظن شَوّهَ معالم وجهٍ يرونه، وتداعيتُ من أجله لقلق البحث عن حيز وسط اتساعات لم تكن لي. والآن صوت عبدالرحمن المتبعثر لطرائق يريد من خلالها أن يسلك مساراً يُخفف من خلاله ألماً لا يليق بأن أخرج بهِ من بيته وأنا أحمله، لكن نفسي أبت إلا أن تختلف الآن، وبدأت رغبة حقيقية باستعادتها بأن أضع حاجزاً استغربت من قدرتي على إيجاده، فعزلتُ عني صوت عبدالرحمن،واستنكرت خطواتي وأنا أغادر لوضوحه الذي أتى متأخراً وأشعرني به ،وامتنان أيضا يحيط بي لكومة الشكوك التي أزيلت من أمام عيني،وإغلاق نافذة لم يَلتفت لها عنقي حتى لو خلفها قمر، واقتربت من باب الخروج وهو يَتبعني، واتسعت الدائرة التي جعلت عبدالرحمن خارجها تاركاً عنده مشاعره المزيفة لي وتصنّعي الساذج بفرصة انتماء لهم، لكن نسخة من الحقيقة أردت أن يعرفها، وأن تلمسها يده التي يضعها على كتفي يحاول تهدئتي قبل أن أزيحها عني وعن كلماته التي لا أريد مشاركتي له بها حتى بالاستماع، فأوقفت حديثه المترهل، وبمنحى آخر لا أعلم كيف سَلكته وأخذتُ عبدالرحمن له: “حفل وزارة التربية للعيد الوطني.. شاركت به أختي سعاد”. لاحظت شرود عينيه، وحسبته يظن أني فقدت عقلي بعد رفض أبيه لي، وملامحه ترسم صوراً جَلية للاستفهام: “الحفل الذي تم بثه قبل أيام، ألم تشاهده؟ سعاد أختي كانت في إحدى لوحات الأوبريت الوطني”. فزاد فرط سكوت على سؤال وحيد امتلأ بالقلق: “أسعد ما بك؟”. وغَزت روحه المخاوف عليّ، ويده تحاول مسك كتفي من جديد، لكن تراجعت عن محاولة اقترابه مني: “احتفالات بمرور خمسة وعشرين عاماً على استقلال الكويت شاركت بها أختي..”،ولم يسمح لي باستمرار حديث مجهول بالنسبة له لم يفهمه، فأراد أن أصل إلى نقطة النهاية:

– “أسعد أرجوك أن لا تعيد هذه الكلمات.. الحفل الوطني شاركت به أختك سعاد فهمت كل ذلك.. لكن ما شأني أنا؟!”.

– “لا شأن لك”.

فلسفة كائن في منتصف الحكاية

نوره بابعير

ليس ثمة ما هو أكثر إرباكًا من أن تجد نفسك كائنًا في منتصف الحكاية. لا أول السطر لك، ولا خاتمته بيدك. أنت هنا، في الصفحة الممزقة بين الماضي والمجهول، تقف وحيدًا على جسر هشّ، لا تدري أهو طريق، أم مجرد فاصل زمني بين فقدين.

في منتصف الحكاية، لا يصفق أحد. لا الأبطال منتصرون، ولا الضحايا بوضوحهم متعاطف معهم. في هذا المنتصف، أنت لا تزال حيًّا بما يكفي لتحلم، لكنك مُتعب بما يكفي لتخاف من الحلم.
كأنك سطرٌ نسي الكاتب أن ينهيه.

الذين وُجدوا في البدايات، عاشوا دفءَ الفكرة الأولى، بهجة الاكتشاف، طفولة اللغة، انبهار العين بالبدايات.
أما الذين سينتهون في الخاتمة، فسيحملون لذّة الخلاص، ووضوح الغاية، وخفّة الختام.
لكن ماذا عن الكائن في المنتصف؟
ذلك الذي لا يتذكر متى بدأ، ولا يعرف إلى أين يسير، ولا لماذا لم يرحل بعد.

أنا كائن في منتصف الحكاية.

لي وجوه كثيرة، وأسماء سقطت سهوا من دفاتر الأيام. لا أملك صورة البداية، ولا حق المراجعة. كل ما لديّ، هو هذه اللحظة، بما تحمل من أسئلة عالقة، وبقايا لم تُفهم بعد.

في منتصف الحكاية، يصبح الإنسان في مواجهةٍ مع ذاته، دون أن ياخذ دور البطولة أو أقنعة الانكسار.
لا مكان هنا للبطولات الدرامية ولا للانهيارات المدوية. هناك فقط تلك التفاصيل الصغيرة التي تقتلك ببطء:
نظرة لم تفهمها، و صمتٌ طال أكثر من اللازم، كتاب لم تُنهه، مقعد فارغ ظلّ ينتظرك، وندم ثقيل لا يعرف اسمه.

في هذا المنتصف الرمادي، لا أحد يصفق لك لأنك استيقظت من سريرك رغم أن قلبك لم يخرج من ليله، لا أحد يحتفل بكونك لا تزال تقرأ، رغم أن بصيرتك قد تعبت.
لكنك، رغم كل شيء، لا تزال تمشي.

المنتصف هو فلسفة وجودية في حد ذاته.

هو سؤال: “من أنا الآن؟”بعد أن فقدت ما كنتَه، وقبل أن تُصبح ما ستكونه.
المنتصف هو لحظة النظر في المرآة دون توقع، أن تلمح وجهك الحقيقي، العاري من محاولات التجميل، والناجي من تعاريف الآخرين.
هو وقت إدراك أن الطريق لم يكن مستقيمًا، ولا معوجًا، بل كان أنت.

أعرف الآن لماذا يخشى الناس هذا الموضع من الحياة. لأن المنتصف لا يمنح إجابات. هو اختبار صامت للثبات، اختبارٌ للقدرة على العيش رغم اللايقين.

أن تكون في منتصف الحكاية، يعني أن تتقن فنّ الإصغاء إلى قلبك، وأنت لا تفهمه. أن تؤمن بشيءٍ ما، حتى وإن لم تُسمّه. أن تحبّ مسراتك المحركة لشعور سعادتك ، ليس لأنه الوقت المناسب، بل لأنك لا تملك إلا أن تُحب مسراتك الصغيرة حتى تكبر ، رغم ثقل الأشياء في بعض الأوقات .

في المنتصف، تعلّمت أن لا أنتظر الخاتمة لتمنحني معنىً، بل أن أزرع المعنى هنا، بين السطرين، بين تنهيدة وتنهيدة.
أصبحت أبحث عن المعجزة في التفاصيل: في ضحكةنقية ، في طعم الشاي، ورشفة قهوة ، في جملةٍ مكتوبة بصدق، في غيمةٍ تشبهني في مواقف إنسانية عابرة . أصبحت أكتفي بأن أعيش، لا كما تُروى القصص، بل كما تُعاش ببساطة، وبلا مجازفاتٍ مبهرة.

قد لا أكون البداية التي يُحتفى بها، ولا النهاية التي تُصفّق لها الجماهير. لكنني أنا، في منتصف الحكاية.
أصغي إلى الزمن،وأعيد ترتيب ملامحي، وأمشي، ولو تعثّرت.
أنا فصلٌ خامس، لا تعترف به الفصول الأربعة، لكن له نكهته، وظلاله، وسيرته التي لا تشبه سيرة أحد.

وأنت؟
أين أنت في حكايتك؟
هل ما زلت تكتب؟ أم علّقت القلم بانتظار شيء لا تعرفه؟
هل تُدرك أن المنتصف ليس مهلة مؤقتة، بل مساحة لتكون فيها إنسانًا كاملًا، حتى وإن كنت منقسمًا بين ما فات وما سيأتي؟

ربما الحكاية لم تكن يومًا عن البداية أو النهاية.
ربما كل ما يهم… هو هذا المنتصف.وانت بعد منتصفات حكايتك ؟

الحوارات , تُعلّمنا أن نكون بشرًا وأكثر إنصاتًا

نوره بابعير

يبقى الحوار هو المعبر الوحيد الذي يمكن أن يعبر من خلاله الإنسان من ذاته إلى الآخر. لكنه ليس مجرد تبادل للكلمات، بل هو مرآة تعكس عمق العقل الإنساني، وتقيس مدى نضجه وقدرته على الإنصات والفهم.

فالحوار، حين يكون نابعًا من عقلانية صادقة، يتحوّل من نقاش عقيم إلى رحلة كشفٍ متبادل، ومن معركة للانتصار إلى مساحة للاحتواء، ومن وسيلةٍ للإقناع إلى أداةٍ لاكتشاف الذات.

العقل لا يتحدث إلا إذا أُصغي له
يُولد الإنسان مزدحم بالرغبات والانفعالات، لكنه لا يُولد عقلانيًا. العقلانية تُكتسب، تُبنى ببطء، من خلال التجربة، الخيبة، السؤال، والانفتاح على الآخر. وعندما تتحقق هذه العقلانية، يصبح الحوار معها فعلًا وجوديًا، لا مجرد ممارسة اجتماعية.

الحوار بين العقول ليس حوار أفواهٍ وألسنة، بل هو لقاء بين رؤيتين للعالم. لقاء قد يكون ناعمًا ، وقد يكون عنيفًا كريحٍ تقتلع جذور الوهم من أعماق النفس. لكن في الحالتين، هو ضروري؛ لأننا، مهما ظننا أنفسنا مكتفين، نظل في حاجة إلى مرآة الآخر لنتأكد أننا ما زلنا نفكر… ما زلنا نُصغي.

بين منطقية العقل وشراهة القلب ..
الحوار لا ينشأ من العقل وحده، ولا من العاطفة وحدها، بل من التوازن بينهما. فالعقل الذي لا يعرف الرحمة، يتحول إلى آلة جافة، تقطع ولا توصل، تحكم ولا تفهم. والعاطفة التي بلا عقل، تهيم في الانفعالات، تصرخ ولا تُقنع، تحب وتكره بلا سبب.

وهنا تتجلى أهمية الحوار العقلاني: أن تُبقي قلبك حاضرًا دون أن تسمح له بأن يغرقك، وأن تُشغل عقلك دون أن تجعله سيفًا على رقبة الآخر. هو أشبه برقصةٍ بين كائنين، كل منهما يحمل ضوءًا وظلًا، ولا يتم اللقاء إلا إذا اتفقا على الإيقاع.

متى يتحول الحوار إلى صراع؟
عندما يفقد الحوار روحه العقلانية، ينحرف عن مساره ويتحوّل إلى حلبةٍ للصراع، لا أحد فيها منتصر. يحدث ذلك عندما يُقحم الإنسان الأنا في موضع الفكرة، فيغدو الدفاع عن الرأي معركة وجود، لا بحثًا عن حقيقة.

حينها لا يعود المهم “ما يُقال”، بل “من قاله” ويُغيب المنطق ليُستبدل بالتأويل المغرض، ويُستبعد الفهم لحساب التشكيك، ويُستبدل السؤال بالاتهام، والمقاربة بالخصومة.

العقلانية: ليست حيادًا بل التزام

قد يظن البعض أن الحوار العقلاني يعني البرود، أو عدم الانحياز، لكن الحقيقة أن العقلانية موقف. أن تتحاور بعقلانية يعني أن تُنصت حقًا، لا لترد، بل لتفهم. أن تزن الكلمات لا بمشاعرك فقط، بل بما تحمله من معنى ومغزى. أن تراجع نفسك إن أخطأت، وأن تعترف بأن رأيك قابل للتبديل.
الحوار العقلاني ليس ضعفًا، بل شجاعة. أن تصمت حين يجب، وتتحدث حين يلزم، لا لترتفع فوق الآخر، بل لتلتقي معه على أرضٍ واحدة، فيها من النور ما يكفي لكلاهما أن تبصرا.

في عالم يفتقر إلى الإصغاء

لقد أصبحت البشرية اليوم . الجميع يتحدث، القليل من يُنصت، وأقل القليل من يفكر بصدق. نعيش زمن “الردود السريعة” و”الحجج الجاهزة”، حيث يُختزل الحوار إلى جملةٍ مقتطعة، وتُلغى الاختلافات بانقطاع التواصل .

لكن في عمق هذا الضجيج، تظل العقلانية ضوءًا نادرًا، والحوار الصادق واحة للراحة وسط صحراء. لأن الحوار العقلاني لا يسعى للغلبة، بل للتقارب. لا يُطلق الأحكام، بل يطرح الأسئلة. لا يُقصي المختلف، بل يستدعيه إلى طاولة التفكير.

الحوار الذي نحتاجه
نحتاج اليوم إلى إعادة اكتشاف الحوار كقيمة، لا كأداة. أن نُعيد تدريب عقولنا على التفكير لا التصنيف، وعلى السؤال لا الافتراض. أن نُصغي، لا لأننا نُخطئ، بل لأننا نُريد أن نُصيب. فالحوار بين عقلانيات البشر هو جسرٌ هشّ، لكنه قادر، إن أُقيم بنيّةٍ صادقة، أن يصل ما تقطّع، وأن يُضيء ما اعتُبر ظلامًا، وأن يجعل من اختلافنا مصدرًا للثراء لا مدعاة للعداء. و تظل أعظم الحوارات هي تلك التي لا تترك فينا إجابات، بل توقظ فينا أسئلة جديدة… وتُعلّمنا أن نكون بشرًا، أكثر إنصاتًا، أكثر تفكيرًا، وأكثر تواضعًا أمام اتساع العقل الإنساني

“سر القبعة الطويلة: لماذا يعلو رأس الطاهي بهذا الشكل؟

نوره بابعير

في أروقة المطابخ، حيث تنبعث رائحة البهارات وتتمازج الأصوات بين تقطيع وسلق وقلي، يبرز رجل أو امرأة بقبعةٍ بيضاء، شاهقة، كأنها منارةٌ في بحرٍ يغلي. قبعة الطباخ ليست مجرد غطاء للرأس، بل هي رمز، تاريخ، وقصة طويلة من الانضباط والفن.

قد يتساءل البعض: لماذا هذه القبعة الطويلة؟ لماذا لا يكتفي الطباخ بقبعة صغيرة أو قطعة قماش تلفُّ رأسه فحسب؟
الإجابة تتعدى الوظيفة، وتكمن في الطبقات العميقة من الاحترام والتقدير لهذا الفن المتقن. فالقبعة وُلدت قبل قرون، يوم كان المطبخ مملكةً خفية، لا يدخله إلا الماهرون في لذة الطبخ.

الطول في قبعة الطباخ كان، عبر الزمن، علامةً على الرتبة. كلما علت القبعة، علت معها مكانة مرتديها. أما تلك الثنيات البيضاء التي تتراكم حولها كأمواج هادئة، فهي لم توضع عبثاً؛ بل يقال إن عددها كان يُمثل عدد الوصفات التي يتقنها الشيف، خصوصاً طرق طهي البيض، رمز البساطة والابتكار في آن.

لكن، لو تأملناها من زاوية أخرى، قد نجد في طول القبعة شموخاً يشبه شموخ الحرفيين، أولئك الذين يهبون حياتهم لإتقان صنعةٍ لا تُرى عظمتها إلا حين تتذوقها. إنها قبعة ترفع الرأس لا غروراً، بل فخراً بالتفاني، بالدقة، بالإبداع.

في عالم سريع، تتساقط فيه المعاني أمام العجلة، ما زالت قبعة الطباخ تقف، طويلةً، بيضاء، نقية. تذكرنا بأن الجمال يكمن في التفاصيل، وأن الفن لا يحتاج دوماً إلى فرشاة، بل أحياناً، إلى ملعقة… وإلى قبعة عالية، تحرس سرّ النكهة .

لم اكتف بما اكتب عن حكاية القبعة لدى الطباخ كنت اتساءل من أول شخص ارتداء القبعة حتى تشكلت علامة بارزة لدى الطباخين؟ أول من ارتدى قبعة الطباخ قبعة الشيف المعروفة و يُعتقد أنه الشيف الفرنسي الشهير ماري أنطوان كاريْم (Marie-Antoine Carême) في أوائل القرن التاسع عشر.

كاريْم كان من أوائل من نظموا قواعد الطبخ الفرنسي، ويُنسب إليه إدخال القبعة الطويلة البيضاء كرمز للنظافة والاحتراف في المطبخ. و كانت تختلف أطوال القبعات حسب رتبة الشيف في المطبخ، فكلما زادت خبرته، زاد طول قبعته.

أما من حيث الأصل التاريخي لفكرة قبعة الطهاة، فبعض الروايات وجدت أنها ترجعها إلى العصور الوسطى، حين كان الطهاة في البلاط الملكي يرتدون قبعات تميزهم، لكن كاريْم هو من رسّخ شكلها المعروف حالياً .

كيف كانت ردة فعل الآخرين تجاه قبعة الطباخ؟

عندما بدأ استخدام قبعة الطباخ في المطابخ الاحترافية، لم يكن الأمر مجرد تغيير في الزي، بل كان خطوة نحو ترسيخ الانضباط والنظام والاحترافية في بيئة العمل. في البداية، ربما لاقت الفكرة شيئًا من الغرابة أو الاستغراب، خاصة وأن ارتداء القبعة لم يكن شائعًا في بيئات الطهي التقليدية.

لكن سرعان ما بدأ العاملون في المطبخ، وكذلك الجمهور، بتقدير هذا العنصر الجديد. فقد كانت القبعة رمزًا للنظافة أولًا، حيث تمنع تساقط الشعر في الطعام، ورمزًا للمكانة ثانيًا، إذ إن طول القبعة كان يميز مكانة الطاهي وخبرته.

لقد تقبّل زملاء المهنة في المطابخ لهذه الفكرة و جاء مع الوقت فرض الطاهي الشهير “ماري أنطوان كاريم” هذا الزي كعلامة مهنية تدل على الهيبة والترتيب. و أما بالنسبة للجمهور، فوجدوا في هذا الزي ما يعكس الجدية والاحترام للمهنة، وسرعان ما أصبحت قبعة الطباخ من العلامات البصرية المرتبطة بالطهي الاحترافي. وهكذا، من كونها مجرد قطعة قماش على الرأس، أصبحت قبعة الطباخ رمزًا عالميًا، يحمل في طياته تاريخًا من التقاليد والانضباط، ويُعرف به أصحاب هذه المهنة أينما كانوا

فن الإنتباه للجمال

نوره بابعير

في زحمة الحياة، وانشغالاتها المتكررة، يضيع منا شيء ثمين لا يُقدّر بثمن: الإنتباه للجمال. ذلك الفن الرقيق الذي لا يُدرّس في المدارس، ولا يُلقَّن في المحاضرات، بل ينبت في أرواحنا كزهرة تحتاج إلى عين تلاحظها، وقلب يحتضن حضورها.

الجمال ليس صفةً مقصورة على الملامح أو الألوان. الجمال روح. يتجسد في التفاصيل الصغيرة التي تمرّ بنا كل يوم، في ابتسامة عابرة من غريب، في انعكاس الشمس على زجاج نافذة، في كلمات تقال بصوت دافئ، في رائحة الخبز صباحاً، في انسجام النفس مع تفردها ، في صمت الغروب، حين ينسحب الضوء بهدوء كما لو كان يستأذننا للرحيل.

ولكن كيف ننتبه للجمال؟ الانتباه ليس فعلاً آلياً، بل هو يقظة داخلية. هو قرار بأن لا نمر مرور العابرين. أن نكون حاضرين بكامل حواسنا. أن نسمح لأنفسنا أن تتباطأ قليلاً لنلتقط اللمحات العابرة التي تشبه الومضات، لا تبقى طويلاً، لكنها توقظ فينا شيئاً قديماً وأصيلاً.

هناك جمال في اللغة، في الكلمة التي تلامسنا دون أن تطرق. هناك جمال في الفن، حين يحكي عنّا دون أن يعرفنا. هناك جمال في الألم حتى، حين يعلّمنا كيف نرقّ، كيف نفهم، كيف نصغي. الجمال في كل مكان، لكنه لا يُرى إلا بالانتباه.

في زمن السرعة، فقدنا قيمة التأمل. اعتدنا أن نُستهلك، لا أن نعيش. نركض خلف كل شيء، ونفقد كل شيء في الركض. لكن لحظة توقف واحدة، لحظة إنصات إلى نغمة عصفور، أو تأمل في ظل شجرة، قد تكون كافية لتعيد ترتيب أرواحنا من الداخل.

ربما لهذا السبب نجد أن أكثر الناس سعادة هم أولئك الذين يُتقنون فن الانتباه للجمال. لا لأن حياتهم مثالية، بل لأنهم يرون الجمال رغم كل شيء. يلاحظونه في الأماكن المنسية، في المواقف العادية، ويمنحونه أهمية تستحقها.

لنُربِّ أنفسنا على هذا الفن النبيل. لننظر بعيون مندهشة، كأننا نرى الأشياء لأول مرة. لنصادق الجمال حين يمرّ، ونشكره حين يبقى.
فالحياة، في جوهرها، لا تقاس بطولها، بل بلحظاتها الجميلة التي انتبهنا لها، وتركناها تنقش أثرها في قلوبنا.

منزل البروفيسور نُشرت في عالم أدبي ما بعد يوليسيس وهو عالم لم تعد كاثر تشعر أنها تنتمي إليه.

في مقدمة كتاب Not Under Forty، وهو مجموعة مقالات نشرتها ويلا كاثر عام 1936، كتبت (عن عمد أو غير عمد) عبارتها الشهيرة: “لقد انكسر العالم إلى نصفين في عام 1922 أو ما يقاربه”، وهي وجهة نظر أدت، في أقل تقدير، إلى فصلها عن صفوف الفنانين والكتّاب الذين يُطلق عليهم عادة “الحداثيون”.

ومع ذلك، يبدو هذا الحكم متسرعًا للغاية. فقد انشغل الباحثون بتتبع جذور الحداثة إلى أوائل القرن التاسع عشر، ولا يزال المعنى المقصود من “ما بعد” في مصطلح “ما بعد الحداثة” محل جدل. وكل محاولة جديدة لتحديد ملامح الحداثة لا تؤدي إلا إلى تعميق ضبابية حدودها، كما أن موقع كاثر ضمن هذا التيار يبقى — وربما عن قصد — غير واضح.

رواية منزل البروفيسور لـ كاثر نُشرت لأول مرة عام 1925، في عالم أدبي ما بعد يوليسيس (رواية جيمس جويس)، وهو عالم لم تعد كاثر تشعر أنها تنتمي إليه. وتتمحور الرواية إلى حد كبير حول شخصية جودفري سانت بيتر، مالك المنزل المذكور في العنوان، والذي يجد نفسه في مرحلة يصبح فيها عمله وزواجه وعائلته، بل وحتى بيتيه، في حالة من التغير المستمر. ويلجأ إلى الذكريات، وخصوصًا ما يتعلق منها بأحب طلابه، توم أوتلاند، كوسيلة للتأقلم، وهي الذكريات التي تشكل جزءًا أساسيًا من حركة الرواية.

في كتابه كل ما هو صلب يذوب في الهواء، يكتب مارشال بيرمان أن الحداثة هي “وحدة متناقضة، وحدة التفكك: إنها تصبنا جميعًا في دوامة من التحلل والتجدد المستمر، من الصراع والتناقض، من الغموض والعذاب. أن تكون حداثيًا، يعني أن تكون جزءًا من كون، كما قال ماركس، ‘يذوب فيه كل ما هو صلب في الهواء’”.

وتشارك رواية ويلا كاثر، مثلها مثل أي عمل آخر على جانبي “الانقسام” الذي يفترض أنها أحدثته، في هذا الغموض، وفي استكشاف تجربة ثقافية تتسم بالوحدة من خلال الانقسام — بانكسار شامل. وعلى الرغم من تصريح كاثر بأنها “عادت إلى الوراء سبعة آلاف سنة”، إلا أن رواية منزل البروفيسور تحمل سمات عصرها، وتحكي قصة رجل محطم بأسلوب يعكس انكسار الزمن نفسه. وتنقسم الرواية إلى ثلاثة أقسام غير متساوية: “العائلة”، “قصة توم أوتلاند”، و” البروفيسور”، ويعكس هذا البناء التوترات التي وصفها بيرمان باعتبارها جوهر الحداثة، والأسلوب الذي يُنسب كثيرًا إلى الأدب الحداثي.

يشعر الأفراد بعدم يقين الحداثة بشكل مكثف على المستوى الشخصي، إذ كان من أبرز ضحايا تفكك الحداثة ـ وربما أكثرها حزنًا ـ تلاشي مفهوم الهوية المتماسكة. وتتناول كاثر هذه المسائل بحساسية ودقة طوال الرواية، مستخدمة البروفيسور كشخصية تأملية لتُظهر استحالة الإحاطة الكاملة بأي فرد، حتى الذات.

تُعد إحدى تأملات سانت بيتر في أوتلاند مثالًًا جيدًا على تقنية الرواية: ففي ذكرى محددة، وبعد أن تناول توم الغداء مع الأستاذ وزوجته، التقى لأول مرة بابنتيه، إحداهن ستصبح لاحقًا خطيبته. وقدم لهما حجرين خام من الفيروز كهدية عفوية وسخية. حاولت الأم منعه من تقديم هدية ثمينة، لكن صوته “كان حزينًا وجذابًا لدرجة أنه لم يكن هناك ما يُقال”.

بعد أن حُسمت المسألة، يتفحص سانت بيتر كلًا من الأحجار وتوم نفسه، ويتذكر: للأسفل، ليس إلى الفيروز، بل إلى اليد التي تمسك بها: راحة اليد القوية المليئة بالخطوط، الأصابع الطويلة القوية ذات الأطراف الناعمة، الخنصر المستقيم، والإبهام المرن ذو الشكل الجميل الذي ينحني مبتعدًا عن بقية اليد كأنه سيد نفسه. هذا المقطع مثال كلاسيكي على أسلوب “الرؤية المزدوجة” في الأدب الحداثي: فكما يرى البروفيسور، يرى القارئ، وتُنقل ملاحظاته مباشرة إلى القارئ، لتسهيل إصدار حكم مشترك حول يد صاحبها. فاليد مثيرة للإعجاب من الناحية الشكلية: تبدأ براحة قوية، ثم أصابع طويلة ذات أطراف ناعمة — ما ينقذها من القسوة أو الفظاظة. الخنصر مستقيم — ما يشير إلى النمو السليم وربما النزاهة أو العقلانية. لكن الإبهام هو المثير حقًا، ليس فقط بسبب مرونته، بل بسبب وصفه بأنه “جميل الشكل”، ثم يتطور الوصف ليُشخَّص — يصبح كأنه كائن مستقل، سيد لنفسه، رمزًا لنبالة روحية.

ينتهي المشهد بصيحة من سانت بيتر: “يا لها من يد!” ويخزن الصورة في ذاكرته كواحدة من أعمق ذكرياته عن توم أوتلاند. “ما زال يراها، مع الحجارة الزرقاء تستقر فيها”. وهكذا، يصبح الجزء رمزًا للكل؛ ذاكرة اليد تختزل الرجل كله.

لكن هذه الرؤية النقية التي ينقلها الأستاذ للقارئ ليست إلا وهمًا. فالانقسام المألوف بين الواقع والنفسية يظهر هنا بوضوح: فالمعطيات تتعلق بتوم، لكن التفاعل النفسي ينتمي إلى الأستاذ. وكما يوضح مايكل ليفنسون في Genealogy of Modernism: “في المعارضة بين الحقيقة وعلم النفس، فإن الاهتمام الأعمق يكون بالجانب النفسي”.

سكوت ماكغريغور، الطالب السابق للأستاذ وزميل توم، يقول: “لم يعد توم واقعيًا بالنسبة لي. أحيانًا أشعر وكأنه مجرد… فكرة براقة”. لا يرد البروفيسور حينها، لكن التأمل في اليد يُظهر أنه هو الآخر بدأ يرى توم على هذا النحو — سلسلة من الأفكار اللامعة التي تُجسد الحدث والشخصية في آن.

وكما يشير جيمس ماكسفيلد، فإن صورة توم المفضلة لدى البروفيسور هي صورة الفرد الحر الوحيد في الهضبة، لا ذلك الملتزم اجتماعيًا. وفي الفصول الأخيرة، يحاول سانت بيتر أن يُسقط هذه الصورة المثالية على نفسه.

لكن الوصف المثالي لليد يكشف بدوره عن تحريف للواقع: فقد نشأ توم فقيرًا، عمل في المزارع، وعانى على الأرجح من قسوة الحياة اليدوية. ومع ذلك، فإن يديه في وصف الأستاذ خاليتان من الندوب، خاليتان من الخشونة أو الانتفاخ — بأطراف ناعمة، كما لو أنه لم يعمل يومًا.

وبذلك، تصبح اليد رمزًا لـ”وحدة التفكك” — تذوب الحدود بين توم والأستاذ، ويصبح الفرق بينهما شبه معدوم. ورغم أن كاثر قبلت بإقصائها من معسكر الحداثيين — أو ربما تأكيدًا على ذلك — فإن منزل الأستاذ تتعامل مع نفس القضايا التي شغلت الحداثيين “الرسميين”، وبأساليب مشابهة، ما يذكرنا بأن الحداثة ليست تصنيفًا يقينيًا ولا ثابتًا كما يُعتقد غالبًا.

يبقى انقسام كاثر مهمًا لبعض الباحثين، لكن رواياتها المتأخرة تشير إلى أن الانقسام الحقيقي — بين ما نسميه الحداثة وما سبقها — وقع قبل عام 1922، وأن جميع من يعيش على هذا الجانب من الخط، سواء اعتُبر “حداثيًا” أم لا، يحمل آثار هذا التمزق وأعباءه.

مأدبة الإنسان في عقله

نوره بابعير

في عالمنا الداخلي، لا تقتصر مأدبة الإنسان على ما يراه الآخرون أو ما يعبر عنه بالكلام، بل توجد مأدبة أعظم وأعقد تحدث داخل عقله هي مأدبة سرية، عميقة و عامرة بالضيوف المتنوعين: أفكاره، مشاعره، مخاوفه، أحلامه، وذاكرته التي لا تهدأ. هذه المأدبة هي ساحة صراع مستمر بين تناقضاته لمصدر كل تساؤل وتأمل، بل أحيانًا بين الإلهام والضياع نفسه .

المأدبة العقلية: ما هي؟

المأدبة العقلية ليست مجرد وصف ، بل هي صورة حية لتجربة الإنسان مع ذاته. هي لحظة جلوس متأمل، حين يواجه الإنسان ما في داخله من أفكار متناقضة، من مشاعر متداخلة، ومن رغبات متصارعة.
في هذه المأدبة، يجتمع العقل والمنطق مع الشك والشكوك، يجتمع الحلم مع الخوف، وتتناقض الذاكرة مع الحاضر. وهذا الاجتماع ليس بالضرورة سلمياً، لكنه ضروري لكي تتشكل رؤية الإنسان لنفسه وللعالم.
حينما وصفت المتواجدة بالذاكرة ضيوف لانها هي زوايا المأدبة: و في مأدبة العقل، كل ضيف له دوره مثل الخوف: هو الصوت الذي يحذر، لكنه أيضًا يمنع أحيانًا الإنسان من المجازفة. مثل الأمل: هو النور الخافت الذي يشعل رغبة الاستمرار رغم كل شيء. مثل الشك: هو الذي يعيد النظر في كل يقين، فلا شيء يبقى كما هو و الذاكرة :هي المرآة التي تعكس الماضي، وتحمله معنا في الحاضر.و الضمير: هو الصوت الداخلي الذي يراقب ويدعو إلى الصدق والعدل .

أما عن الحوار الداخلي وأثره على الإنسان فهذا العمق يأخذنا إلى التفاصيل نحو الفكرية و الانتاجية القائمة على هذه المأدبة .
حين يقرر الإنسان “الجلوس إلى المأدبة”، أي مواجهة هذه الأصوات المختلفة، يبدأ حوار داخلي عميق. هذا الحوار يساعده على فهم أعمق لذاته، وإدراك أبعاده المختلفة. إنه حوار لا يهدأ، لكنه يمنح الإنسان القدرة على اتخاذ قرارات واعية، وتشكيل معنى لحياته. تبني في تحديات مأدبة العقل اعلم أن ليست مأدبة العقل سهلة. فهي تتطلب شجاعة، لأن الإنسان غالبًا ما يهرب من مواجهة مخاوفه أو شكوكه. والانشغال اليومي هو طريقة للهروب من هذه المواجهة. لكن الهروب يولّد فراغًا أكبر، لأن المأدبة تستمر مهما غاب الإنسان عنها.

كيف نجلس إلى المأدبة حتى نجد ضالتنا ؟
الجلوس إلى مأدبة العقل لا تتطلب مكانًا خاصًا، لكنها تحتاج إلى وعي وتركيز. يمكن أن يكون في لحظة هدوء صباحي، أو أثناء نزهة في الطبيعة، أو حتى في لحظة تأمل عابرة. المهم هو الانتباه، الاستماع، والسماح للأصوات الداخلية بأن تُسمع حتّى تستطيع أن تنضج بك كما تستحق مَن التفاتك لها ، في النهاية مأدبة الإنسان في عقله هي رحلة لا تنتهي، وليست هدفًا أو لحظة تتجدد يوميًا، بل تدعونا إلى مواجهة أنفسنا بصدق، وإلى خلق معنى في وسط الفوضى. ومن خلال هذه المأدبة، أكثر وعياً، وأكثر قدرة على العيش بتوازن داخلي يليق بحياة متلائمة مع وعينا فيها .

اليوم العالمي للشاي ” في مديح الشاي وأهله “

نوره بابعير

في ركن من أركان العالم، هناك قرية صينية تعانق الضباب، أو هناك مقهى هادئ في قلب المدن ، أو حتى في المجلس العربي حيث يتعاقب الضيوف وتتلاحق الأحاديث، وُلدت لحظة من التأمل، ترافقها رائحة الشاي الصاعدة في بخارٍ دافئ، تحكي قصة واحدة: وهي قصة الإنسان مع كأسه المفضل من الشاي .

في الواحد والعشرين من مايو كل عام،يحتفي العالم باليوم العالمي للشاي، ذلك المشروب العتيق الذي لا يعرف الحدود، ولا يعترف بالاختلافات. لكن لماذا سُمِّي هذا اليوم بهذا الاسم؟ وما سر اختيار هذا التاريخ تحديدًا؟

من يقرأ التاريخ يعرف أن الشاي.. أكثر من مجرد مشروب

قد نعتقد أن الشاي مشروب بسيط يرافق الصباحات الكسولة أو الأجتماعات العائلية، لكن الحقيقة أن الشاي هو حكاية حضارات،وتاريخ من التجارة، والسياسة، والثقافة. من الصين مهده الأول، حيث استُخدم طبيًا قبل أن يتحول إلى مشروب يومي، إلى الهند وسريلانكا وكينيا، حيث تحوّل الشاي إلى اقتصادٍ قومي ومعيشة لأجيال كاملة هناك الكثير من الوثائقيات تتحدث عن حكاية الشاي بتفاصيل أنيقة تبرز قيمة الشاي من بداية المزارعين إلى للجنة المتذوقين به .

إن اليوم العالمي للشاي، الذي أقرّته الأمم المتحدة رسميًا في عام 2019، لم يُطلق من فراغ، بل كان تتويجًا لسنوات التي كانت تحتفل بشكل غير رسمي و الذي بدأته بعض الدول المنتجة للشاي منذ عام 2005. لذلك تم اختيار 21 مايو لما جاء متزامنًا مع فترة حصاد الشاي في أغلب البلدان المنتجة، وهي المرحلة الأهم في دورة حياة هذا المشروب، و كأن البشرية أرادت أن تقول: “لنحتفل ونحن نقطف أوراق الشاي ”

الشاي عدة حكايات لنخوض بينهما حتى نعرف عن مزاياه المتعددة بين الأصابع… و ورقة حياة .

ليست كل أوراق تُحكى، ولكن أوراق الشاي حكت كل شيء. ففي ورقة صغيرة خضراء، تختبئ آلاف القصص: قصة مزارعٍ ينهض مع الفجر ليقطفها بحنان، وقصة سيدةٍ تصبها في فنجان الضيف باهتمام، وقصة شاعرٍ يغمس فكره في دفئها ليكتب بيتًا جديدًا .

لماذا نحتفل؟

وجدت أننا نحتفل بيوم الشاي هو اعترافًا بملايين البشر الذين يقفون خلف هذه الصناعة، من مزارعين وعمال ومصدّرين، ونحتفل احترامًا للثقافات التي نسجت طقوسًا فريدة حول فنجان شاي، من جلسات “الشاي المغربي” بالنعناع، إلى “الشاي الإنجليزي” مع الحليب، إلى “الشاي العدني” الغني بالتوابل جميعها ثقافة بلدان و تاريخ وحضارة .
فيكون هذا اليوم للوقوف مع القيم من الجانب التجاري ومن حقوق المزارعين، وحماية البيئة، لأن زراعة الشاي ليست فقط زراعة مشروب، بل زراعة علاقة بين الإنسان والطبيعة، بين الرغبة والهدوء، بين الاحتياج والجمال المتعة التي تحقق من قبل هولاء المزارعين هي سبب في انتشار الشاي بشكل دائم دون انقطاع .

الشاي لا يقبل السطحية بل هو لغة لا حد لها .

الشاي لا يُشرب فقط، بل يُتحدث به. كل حضارة صنعت لغتها الخاصة مع هذا المشروب: في الصين هو طقس تأمل، وفي اليابان فلسفة “تشانويو”، وفي العالم العربي رفيق المجالس والأحاديث.

الشاي لا يُطلب أحيانًا، بل يُفهم حضوره من نظرة، من طقس، من ساعة معينة. من قال إن اللغات فقط تُكتب وتُلفظ؟ ثمة لغات تُرتشف بهدوء

و في اليوم العالمي للشاي، نستمتع بأكوابنا من الشاي لا للاحتفال بمشروب، بل لنتأمل كم من الأشياء الجميلة في هذا العالم تنمو في صمت، وتُقطف بحب، وتُقدّم بدفء. نشرب إذن، لا لمجرد الارتواء، بل لنتذكر أن في تفاصيل الأشياء الصغيرة، تكمن أعمق المعاني

أما عن الشاي في دول الخليج فهو طقس للضيافة
وذاكرة البيوت…

في دول الخليج لا يُقدَّم الشاي فقط لمجرد الضيافة، بل بيان ترحيب وعربون مودة، وامتداد لذاكرة قديمة نسجتها المجالس الشعبية كان الشاي يُعدّ على الجمر، في إبريق نحاسي، وترافقه رائحة الهيل أو أعواد النعناع .
ويعرف أن الشاي الخليجي لا يُشرب على عجل، بل يُصبّ بتأنٍ، ويتكرر صبّه بكرمٍ لا يعرف الانقطاع من المجالس بل هو البداية الرسمية لكل حكاية . ولا ننسى أن “الشاي العدني” الذي انتقل إلى الخليج عبر الموانئ، واستقرّ في القلوب قبل الأكواب بطعمه الغني بالحليب والزنجبيل والقرنفل، أصبح خيارًا يوميًا لعشّاق النكهات القوية. بينما يحتفظ “شاي الكرك” بمكانته في المقاهي الشعبية، ومع الوقت قد تحول من مشروب تقليدي إلى رمز عصري للهوية الخليجية الحديثة

أصبح الشاي في الخليج ليس فقط مشروبًا، بل ركيزة من ركائز التواصل الاجتماعي، وامتدادًا حيًا للضيافة العربية الأصيلة التي تبدأ بالترحيب وتنتهي بالودّ .

إلى الذين يشربون الشاي…
أنتم عشّاق الذوق، وأصحاب مزاج يعرف متى يهدأ، ومتى يصغي، ومتى يكتفي بكأس شاي لتستقيم أمامه الدنيا.فلكم التحية، أنتم لا تشربون الشاي فقط، أنتم تصنعون به لحظة سلام و رقياً في المقام .

الأدب قوة أخلاقية خفية

نوره بابعير

ربما يتساءل البعض: كيف يمكن لنص مكتوب أن يُهذّب السلوك أو يُقوّم الأخلاق؟ الجواب لا يكمن في المباشرة، بل في الأثر البطيء العميق، و الذي يتركه الأدب في القارئ. عندما نقرأ “الكتب ” نحن لا نحفظ قوانين العدالة، لكننا نحيا مع الصراع الداخلي ، ونفهم جميع السلوكيات حينها و كيف يمكن لرحمةٍ واحدة أن تغيّر مصير إنسان. الأدب لا يعظ، بل يعايش. لا يفرض القيم، بل يُجسّدها في الحكاية.

الأخلاق في الأدب لا تنبع من الخطابة، بل من الإحساس؛ من تلك اللحظة التي يقرا فيها القارئ وتربك أفكاره دون أن يعرف السبب تمامًا لكنها حركة في ساكن العقل شيئًا من وعيها ، أو حين يشعر بخجلٍ داخلي لموقفٍ قرأه في سطرٍ عابر. هذا الخجل، هذا التأثر، هو بداية التحول الأخلاقي الحقيقي؛ لأنه ينبع من الداخل، لا من الخوف أو العقوبة. يشعر القارئ بحاجة إلى تغيير سلوك معين اتجاه ما يقرأ.

لان الأدب يتحول أداة للوعي الذاتي و الوعي ليس مجرد إدراك لما يدور حولنا، بل هو بالأساس إدراك لأنفسنا في هذا العالم، لفعلنا، لوجودنا، لما نفكر فيه ولماذا. في هذا السياق، يأتي الأدب كمنبه حاد بارز لهذا الوعي. حين نقرأ رواية فلسفية، أو نصًا شعريًا عميقًا، فإننا لا نكتفي بتلقي المعنى، بل ننخرط في إعادة إنتاجه داخليًا. نطرح الأسئلة: ماذا كنت سأفعل لو كنت مكان هذا البطل؟ لماذا شعرت بهذا الألم عند قراءتي للمشهد؟ هل أنا بريء تمامًا من الأنانية التي أدانها الكاتب ؟ لماذا نقرأ الفلسفة ؟هل نحن نحتاج إلى المزيد من الوعي و النضج ؟ لماذا نقرأ الادب هلّ أخلاقنا تقف على نبتة القراءة ومع الوقت تصل إلى حد الإشباع الذاتي ؟

يمكن في الأدب، تتكسر مرايا التبرير، ويُجبر الإنسان على مواجهة ذاته، وجهًا لوجه. الروايات الكبرى لا تريح القارئ، بل تقلقه، لأن القلق هو عمق الوعي، ومن دونه نعيش على هامش الوجود، في أمان قراءة مزيفة .

الأدب يوسع المدارك الإنسانية في كل قراءة لأدب مختلف، نحن لا نقرأ شخصيات فقط، بل نطل على عوالم جديدة، نعيش حياة أخرى دون أن نغادر مقعدنا. نقرأ تولستوي فنفهم روسيا القديمة، نقرأ نجيب محفوظ فنشعر باجواء الحارات المصرية، نقرأ دوستويفسكي فنغرق في دهاليز النفس البشرية. هذا التعدد لا يجعلنا أكثر ثقافة فحسب، بل أكثر تسامحًا، أكثر فهمًا للاختلاف، أقل يقينًا، وأكثر إنصاتًا.

الأدب يوسع المدارك لأنّه يعلّمنا أن الحقيقة ليست واحدة، وأن الخير والشر ليسا أبيض وأسود، بل طيفٌ من المعاني والدوافع والتعقيدات. وهذه الرؤية المتعددة تخلق إنسانًا أكثر تعاطفًا، أقل تطرفًا، أعمق إنسانية.

قراءة الأدب تربية داخلية مستمرة ،إذا كانت التربية الأخلاقية التقليدية تبدأ من التوجيه الخارجي، فإن الأدب يشتغل على الضمير الفردي. إنه لا يلقّن، بل يوقظ. لا يفرض القيم، بل يجعل القارئ يكتشفها بنفسه، في تجربة داخلية، تتكرر كلما فتح صفحة جديدة زادت رغبته فيَ إكمالها.

يظل الأدب هو البئر العميق الذي نلجأ إليه لا لنشرب فقط، بل لنرى انعكاس أرواحنا في مائها الساكن. ومن يقرأ بصدق، لا يخرج كما دخل. لأن الأدب، في النهاية، لا يُقرأ، بل يُعاش .

الفلسفة فن يُمنح للأشياء معناها الحقيقي

نوره بابعير

تمر بنا الأشياء كما تمر الريح وتنثر الأشياء معها و لا نتوقف عندها، لا نسألها ولا تسألنا بل نستمر ، نأكل، نلبس، نُحب، نعمل، نحزن ونفرح، دون أن نتساءل: لماذا؟ كيف؟ وما المعنى؟ أما حين تتدخل الفلسفة، لا كعلمٍ للنخبة، بل كفن إنسانيّ عميق يُعيد إلينا قيمة الأشياء التي نسينا أن ننظر إليها بوعي. الفلسفة تفتح أعين القلب ، لا تُعطينا إجابات جاهزة، بل تفتح أعيننا على الأسئلة المنسية. لماذا نخاف ؟ لماذا نشعر بالأشياء في وسط الزحام؟ و ما معنى السعادة؟ و ما حدود الحرية الناضجة في الإنسان والعديد من تلك التساؤلات الواعية ؟

كل تلك المفاهيم، التي نمارسها دون تأمل، تُعيد الفلسفة صياغتها أمامنا، فتغدو الأشياء التي بدت عادية، محمّلة بالمعنى، ومفعمة بالدهشة. تصبح الفكرة طعامًا للروح، ويصبح التفكير حاجة لا تقل عن التنفس.

قيمة المعنى في عالم تحكمه السرعة، و السطحيات، وصناعة الصورة، تبرز الفلسفة كفعل مقاومة. تُعيد الاعتبار للباطن، للمغزى، لما هو خلف القشرة. الفلسفة لا ترفض المادة الناتجة عنها ، لكنها تسأل: ما وراءها؟

كوب شاي ، لحظة الصمت، كتاب عتيق، شروق أو غروب الشمس، كلها أشياء يومية، لكن الفلسفة تُعلّمنا أن ننظر إليها كمرآة للوجود. أن نتعمق في خطواتنا، لنفهم أن الأشياء الصغيرة قد تحمل أجوبة الأسئلة الكبرى.

الفلسفة تمنح الإنسان مرآة لذاته ، ما أثمن شيء في حياة الإنسان؟ هو ذاته. لكن الذات لا تُكتشف من الخارج، بل من الداخل. و تأتي الفلسفة، لا لتقول لنا من نكون، بل لتدفعنا اكتشاف ذلك بأنفسنا مجرد ما نفهم غاية الفلسفة في إحياءها لقيمة الأشياء تفتح لنا آفاق واسعة .

لذلك حين يتأمل الإنسان معنى وجوده، وحدود حريته، وغايته من الحياة، لا يعود مثل السابق ، بل يصبح عميق أكثر وعياً ، وهذا الوعي هو ما يجعل كل لحظة أكثر امتلاء، وكل علاقة أكثر صدقًا، وكل قرار أكثر مسؤولية. الفلسفة تُهذّب الرغبات وتُضيء وتقوي حواسنا اتجاه بعض الأشياء ، الفلسفة لا تقتل الشعور، بل تُهذّبه. تجعلنا نُحب بعمق، لا بتعلق. نرغب دون أن نستعبد. نفرح دون أن نُفرّط. نحزن دون أن ننهار. لأنها تُنير لنا طبيعة الإنسان، وتكشف كيف يكون التوازن فنًّا نابعًا من الفهم.

حين نفهم لماذا نرغب، ولماذا نغضب، ولماذا نُخطئ، نصبح أكثر تصالحًا مع ذواتنا. وحين نصبح كذلك، تصبح الحياة نفسها أكثر رحابة.

” الفلسفة لا تعزلنا عن الحياة.. بل تُعيدنا إليها أجمل مما كنا”

الفلسفة هي أدب وأسلوب الحياة، وضمير العقل، ولغة القلب حين يُريد أن يُفكّر. تعلّمنا أن لا شيء عابر. أن وراء كل تفصيل صغير حكمة، وأن الحياة، رغم صخبها، تستحق أن تُعاش بعينٍ متأملة، وعقل واعي متسائل، وقلب لا يكتفي عن البحث عن المعنى.

الأشياء تُقاس بثمنها، لذلك تُعيدنا الفلسفة إلى قيَمها. فتُعلّمنا أن القيمة لا تُشترى، بل تُدرك. وأن أجمل ما في الأشياء… هو ما لا يُرى بالعين، بل يُبصر بالعقل.