عن فلسطين رؤية تحليلية

عن المؤلفَين

إيلان بابيه ونوام تشومسكي، وهما اثنان من أبرز العلماء والمفكرين، تعاونا لإنتاج العمل اللافت “عن فلسطين”. ويجلب كلا المؤلفين ثروة من الخبرة والمعرفة إلى النقاش، مما يُثري السرد بمنظورَيهما المتميزَين حول الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني.

إيلان بابيه، مؤرخ إسرائيلي، يشتهر بتحليله النقدي لتاريخ إسرائيل الحديث. وُلِد في مدينة حيفا، وقد دأب بابيه على تحدي السرديات السائدة، خاصة تلك المتعلقة بقيام دولة إسرائيل عام 1948. وقد أكسبه بحثه المكثف والتزامه الصريح بكشف الحقائق التاريخية شهرة دولية، مما جعله شخصية بارزة في مجال دراسات الشرق الأوسط.

أما نوام تشومسكي، فهو عالم لغويات وفيلسوف وناشط سياسي بارز، وناقد ثابت لسياسة الولايات المتحدة الخارجية، ومدافع عن العدالة في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. وُلِد في فيلادلفيا، ويمتد تأثيره الفكري إلى ما هو أبعد من علم اللغة، ليشمل مجموعة واسعة من التخصصات. وقد جعلته انتقاداته للإعلام والسلطة corporatية والسياسات الحكومية شخصية محورية في الأوساط التقدمية حول العالم.

ويُعد التعاون بين بابيه وتشومسكي في “عن فلسطين” اتحادًا بين عقلين بارعين يجمعان خبرات متكاملة. فمعرفة بابيه الدقيقة بتاريخ إسرائيل، إلى جانب الرؤى الجيوسياسية الواسعة لتشومسكي، تخلقان تآزرًا يُضفي عمقًا وتفصيلًا على تحليلهما للقضايا المعقدة المحيطة بفلسطين.

وفي مسيرتَيهما، واجه كلا المؤلفين انتقادات وجدلًا بسبب آرائهما الصريحة. فقد واجه بابيه، على وجه الخصوص، ردود فعل عنيفة داخل إسرائيل لتحديه الرواية التقليدية المتعلقة بتأسيس الدولة. كما أن انتقادات تشومسكي لسياسة الولايات المتحدة الخارجية جعلته شخصية مثيرة للجدل، رغم أن تأثيره كمفكر عام لا يزال قويًا.

ويأتي كتاب “عن فلسطين” كثمرة لالتزام مشترك من بابيه وتشومسكي بالانخراط في تعقيدات الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. ولا يُعد تعاونهما مجرد مسعى أكاديمي، بل يعكس إيمانًا مشتركًا بقوة المعرفة في تعزيز الفهم، وفي نهاية المطاف، الإسهام في إيجاد حل أكثر عدلًا وإنصافًا للقضايا العالقة في المنطقة.

التحريف التاريخي والنكبة:

يتناول الكتاب موضوع “التحريف التاريخي”، من خلال تحدي السرد التقليدي المحيط بالنكبة، أي التهجير الجماعي للفلسطينيين أثناء تأسيس دولة إسرائيل في عام 1948. وتتمثل مساهمة إيلان بابيه في هذا السياق في إعادة فحص دقيقة للوثائق التاريخية والشهادات، كاشفًا عن رواية أكثر تعقيدًا وغالبًا ما تكون مزعجة للأحداث. يُقارن بابيه بين اكتشافاته والرواية الصهيونية السائدة، مقدّمًا منظورًا يطعن في الأعراف الراسخة.

أحد الجوانب المحورية في مراجعة بابيه التاريخية هو تركيزه على دور “التطهير العرقي” في نشأة إسرائيل، حيث يجادل بأن تهجير الفلسطينيين لم يكن مجرد نتيجة للحرب، بل كان جهدًا ممنهجًا ومتعمدًا لإنشاء دولة ذات أغلبية يهودية. ورغم أن هذا المنظور مثير للجدل، إلا أنه أثار نقاشات مهمة داخل الحقل الأكاديمي التاريخي، إذ يختلف بشكل جذري مع التفسيرات الصهيونية التقليدية للنكبة.

وبالمقارنة مع مؤرخين آخرين مثل بني موريس، فإن نهج بابيه يمثل انحرافًا حتى عن “المؤرخين الجدد” الذين، رغم مراجعتهم لبعض السجلات التاريخية، لم يستخدموا دائمًا مصطلح “التطهير العرقي” لوصف أحداث عام 1948. يناقش الكتاب هذه التفسيرات المختلفة من خلال طرح مساهمة بابيه المميزة في هذا الجدل المستمر حول النكبة.

دور الفاعلين الدوليين ومسألة العدالة:

يستكشف بابيه وتشومسكي موضوع التدخل الدولي في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، من خلال تحليل أفعال القوى والمؤسسات العالمية. وينتقدان بشدة دور الولايات المتحدة، مشيرين إلى دعمها الثابت لإسرائيل وما يترتب على ذلك من آثار على السعي نحو العدالة في المنطقة. وتتمثل مساهمة تشومسكي في هذا السياق في تحليله الأوسع للسياسة الخارجية الأمريكية، من خلال وضعها في سياق توازنات القوى والمصالح الجيوسياسية.

يتناول الكتاب مفهوم “عملية السلام” ودورها في تكريس الوضع القائم، حيث يرى المؤلفان أن هذه العملية، التي تديرها قوى دولية نافذة، غالبًا ما تكون ستارًا يُخفي الأسباب الجذرية للصراع. ينتقدان اتفاقية أوسلو والمفاوضات اللاحقة، ويؤكدان أنها فشلت في معالجة القضايا الجوهرية المتعلقة بالعدالة وتقرير المصير الفلسطيني.

وعلى خلاف بعض الأكاديميين الذين يتبنون رؤى أكثر دبلوماسية، فإن نقد بابيه وتشومسكي ينبع من تحليل أعمق لبنى القوة واختلال التوازن في العلاقات الدولية. وبدلًا من الاكتفاء بالمناقشات السطحية حول مفاوضات السلام، يقدم الكتاب فهمًا عميقًا للتحديات التي تفرضها القوى الجيوسياسية أمام تحقيق العدالة للفلسطينيين.

مفهوم الصهيونية وتطوره:

يناقش الكتاب أيضًا موضوع الصهيونية من خلال تتبع تطورها التاريخي وطبيعتها المتغيرة. يستعرض بابيه وتشومسكي التاريخ المعقد للصهيونية منذ بداياتها الأيديولوجية وحتى تجسيدها في إقامة دولة إسرائيل. وتبرز مساهمة بابيه في نقده لطبيعتها الإقصائية وتأثيرها على الشعب الفلسطيني.

يركز الكتاب على التوتر الكامن بين فكرة “إسرائيل الديمقراطية” والطابع الديني أو الإثني للدولة، مقابل مبادئ الحكم الديمقراطي. يرى بابيه أن المشروع الصهيوني منذ بدايته كان يحمل عيوبًا جوهرية لا تزال قائمة بل تعمقت مع الوقت. هذا الطرح يختلف عن التفسيرات المعتدلة التي تحاول التوفيق بين الطموحات القومية الصهيونية والقيم الديمقراطية.

وعند مقارنته بمفكرين مثل أ.ب. يهوشوع أو عاموس عوز، الذين يميلون إلى موقف تصالحي أكثر تجاه الصهيونية، فإن بابيه وتشومسكي يقدّمان تقييمًا نقديًا يدفع القارئ إلى التساؤل حول الأسس التي يقوم عليها المشروع الصهيوني. يتجاوز طرحهم مجرد استعراض تاريخي، إذ يقدمان فهمًا معاصرًا لانعكاسات الصهيونية على الصراع المستمر.

دور الإعلام في تشكيل التصورات:

يتناول بابيه وتشومسكي دور الإعلام في الصراع، من خلال تحليل نقدي لكيفية تشكيل السرديات الإعلامية للرأي العام. يطرح تشومسكي، الناقد الإعلامي المعروف، مفهوم “صناعة القبول” لتوضيح كيف تساهم وسائل الإعلام في إسرائيل وحول العالم في بناء رواية معينة. يستعرضان كيف يؤثر تأطير الإعلام للأحداث على الرأي العام، وبالتالي على القرارات السياسية.

من الجوانب المهمة التي يتم تناولها، تصوير العنف والمقاومة؛ حيث يرى المؤلفان أن الإعلام غالبًا ما يصور المقاومة الفلسطينية على أنها إرهاب، بينما يتجاهل العنف البنيوي للاحتلال. وتوفر أفكار تشومسكي، المستندة إلى كتابه المشترك مع إدوارد هيرمان “صناعة القبول”، أساسًا لفهم كيفية استمرار التحيزات الإعلامية في دعم بنى السلطة القائمة.

وبالمقارنة مع التحليلات السائدة لتغطية الإعلام، فإن نقد بابيه وتشومسكي يقدّم عدسة نقدية للقارئ للتشكيك في تأطير الإعلام للصراع. يشجّع الكتاب القراء على أن يكونوا أكثر وعيًا وانتقائية في استهلاكهم للمعلومات، وعلى التفكير في تأثير الروايات الإعلامية على الخطاب العام حول النزاع.

تحديات وإمكانيات النشاط الأكاديمي:

من الموضوعات الأخرى التي يناقشها كتاب عن فلسطين دور المثقفين والأكاديميين في الدفاع عن العدالة والتغيير. يتأمل كل من بابيه وتشومسكي، بصفتهما أكاديميين، في التحديات والإمكانيات التي يطرحها ما يمكن تسميته “النشاط الأكاديمي”. يناقشان المسؤوليات الأخلاقية التي تقع على عاتق الباحثين في مواجهة انتهاكات حقوق الإنسان، وضرورة التحدث علنًا ضد الظلم.

تضفي تجارب بابيه الشخصية، بما في ذلك المضايقات التي تعرض لها داخل إسرائيل بسبب آرائه، بعدًا واقعيًا لهذا الموضوع. فهو يؤمن بأهمية أن يتجاوز الأكاديميون حدود الجامعة ويتفاعلوا مع المجتمع، مسلطًا الضوء على الواجب الأخلاقي المتمثل في قول الحقيقة. أما تشومسكي، فتعكس التزامه الطويل بالنشاط السياسي هذه الفكرة من خلال حديثه عن التداخل بين العمل الفكري والسعي لتحقيق العدالة.

وبالمقارنة مع النظرة المحافظة التي ترى أن الأكاديمي يجب أن يكون محايدًا ومنفصلًا عن القضايا الاجتماعية، يدعو بابيه وتشومسكي إلى أن يستخدم الأكاديميون معارفهم للمساهمة في التغيير الإيجابي. يحفّز هذا المحور القرّاء على التأمل في الدور المحتمل للبحث الأكاديمي في التصدي للمظالم البنيوية، والدعوة لحل عادل للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.

تشومسكي حول فلسطين:

تعكس مساهمة نعوم تشومسكي في عن فلسطين التزامه الطويل بالتحليل النقدي والنشاط السياسي. فهو يستند إلى خلفيته في اللسانيات والنظرية السياسية ليقدّم رؤيته الفريدة في قضايا الصراع.

يُرجع تشومسكي الصراع إلى دعمه الأوسع لتحليل السياسة الخارجية الأمريكية، حيث يرى أن الولايات المتحدة دعمت إسرائيل دائمًا سياسيًا وعسكريًا، مما ساهم في تكريس الوضع القائم. هذا يتماشى مع تحليلاته العامة لبنى القوى العالمية ودور الدول المهيمنة في رسم السياسات الجيوسياسية.

يتناول تشومسكي “عملية السلام” وما يرى أنه حدودها وفشلها. ينتقد مفاوضات أوسلو معتبرًا أنها لم تُعالج القضايا الجوهرية كالعدالة وتقرير المصير للفلسطينيين، مؤكدًا أن المصالح الجيوسياسية تقف عائقًا أمام الحلول الجذرية.

كما يناقش دور الإعلام في تشكيل فهم الناس للصراع، حيث يطبّق نظريته حول “صناعة القبول” موضحًا كيف تساهم التغطيات الإعلامية في تصوير الفلسطينيين كمعتدين بينما تُخفي عنف الاحتلال البنيوي.

وفيما يخص الصهيونية، يقدّم تشومسكي تقييمًا نقديًا لتطورها التاريخي ومآلاتها، متسائلًا عن مدى توافقها مع المبادئ الديمقراطية. ويرى أن طبيعتها الإقصائية تسببت في تفاقم معاناة الفلسطينيين.

بابيه حول فلسطين:

إيلان بابيه، المؤرخ الإسرائيلي، يقدم صوتًا مميزًا في On Palestine، من خلال تركيزه على مراجعة التاريخ وتفكيك الروايات السائدة.

يعتبر محور المراجعة التاريخية للنّكبة جوهريًا في مساهمته. إذ يفحص الوثائق والشهادات التاريخية بعناية ليكشف عن سردية معقدة، يرى فيها أن التهجير كان ممنهجًا لا عرضيًا. ويُعد استخدامه لمصطلح “تطهير عرقي” نقطة محورية أثارت نقاشًا أكاديميًا واسعًا.

ينتقد بابيه الصهيونية كمشروع إقصائي، ويُحلل تطورها وآثارها طويلة المدى على الفلسطينيين. يذهب أبعد من الطروحات المعتدلة ليقدم قراءة معاصرة لجذور الصراع.

يناقش أيضًا دور القوى الدولية، خاصة الولايات المتحدة، في تطورات الصراع، معتبرًا أن عملية السلام لم تعالج القضايا الأساسية بل ساهمت في إخفائها.

ويسلّط الضوء على تجربته الشخصية كمثقف مُلاحق داخل إسرائيل بسبب آرائه، مما يعزز من دعوته لدور فاعل للأكاديميين في المجتمع.

ردود الفعل على الكتاب:

أثار كتاب عن فلسطين نقاشًا واسعًا في الأوساط الأكاديمية والسياسية والجماهيرية. فقد نال الثناء من قبل مؤيديه الذين أشادوا بتحليله العميق ومراجعته الجريئة للتاريخ وتقديمه لرؤية جديدة للنّكبة والصراع المستمر.

لكنّه أيضًا تعرض للانتقاد، خاصة من أنصار الرواية الصهيونية التقليدية الذين اعتبروا أن الكتاب ينطوي على تحامل ضد إسرائيل ويفتقر للتوازن، وهو ما يعكس الانقسام الأيديولوجي العميق المحيط بالقضية.

وجد الكتاب جمهورًا مهتمًا بالرؤى البديلة، خاصة بين من ينتقدون التغطية الإعلامية السائدة للصراع. لكنه واجه في المقابل مقاومة وربما رقابة في بعض السياقات السياسية، خصوصًا داخل إسرائيل، حيث يُنظر إلى مضمونه كتهديد للروايات الرسمية.

وتعكس ردود الفعل هذه الطبيعة المستقطبة للصراع وصعوبة إيجاد حوار منفتح ونقاش دقيق في سياق كهذا.

الطيور تسقط ميتة

تحتل الطيور في عناوين الروايات مكانة خاصة كرمز للغموض أو لما لا يُفهم. فهي تموت في البيرو، أو تختبئ لتموت، وتمنح عند دافني دو مورييه وهتشكوك عنوانًا جنسيًا للتهديد والجريمة. إنها ضحايا أو جلادون، نادرًا ما تكون غير ذات دلالة. حمامة باتريك زوسكيند ليست سوى عين كاشفة ومقلقة.

يعطي فيكتور بوشيه لروايته المذهلة عنوان لماذا تموت الطيور، بدون علامة استفهام. فالعنوان ليس سؤالاً، ولن يقدم الكتاب تفسيرًا. إنها طيور سقطت من السماء، هكذا ببساطة، طيور ميتة سقطت بالآلاف على شواطئ النورماندي خلال بضعة أيام، وهذا الحدث هو ما يدفع الراوي لبدء تحقيقه. مرور الخبر بصمت تقريبًا في وسائل الإعلام، ونسيانه بسرعة دون أن يثير تساؤلاً، يغرق الراوي في حالة من عدم الفهم على مستويات متعددة. خصوصًا أن أول “مطر من الطيور الميتة” حدث في بلدة نورماندية قضى فيها طفولته، حيث لا يزال والده يقيم.

الراوي يحمل اسم فيكتور بوشيه، ويمكننا أن نفترض بشكل معقول أن ذلك نوع من المزج بين الذاتي والمتخيل. اسم “بوشيه” له أهمية خاصة في الرواية، وسنعود إليه لاحقًا. والراوي يشترك على الأقل مع المؤلف في نفوره من كتابة أطروحته، التي يشعر بالملل منها. ملاحقة الطيور الميتة تشكل تحقيقًا أكثر إثارة بكثير. ها هو أخيرًا هدف يمكن السعي إليه، طريقة لانتشال نفسه من الركود، لاستعادة زمام مصيره. فالراوي يعيش مرحلة اكتئاب، انفصل عن صديقته، وأسرته مفككة بالكاد تعطي أخبارًا. طالب في باريس، يجد نفسه على متن رحلة نهرية مخصصة للمتقاعدين، متجهًا إلى النورماندي. فركوب القطار لم يكن ليحمل المعنى ذاته: لفهم سر المطر الغريب من الطيور الميتة، عليه أن يتبع مجرى نهر السين. التفسير لا بد أن يكون على الضفاف.

يسير فيكتور بوشيه بعكس التيار في اختياره لهذا الدافع السردي، إذ يجعل الراوي ينزل مع النهر ليصل إلى الجذور. الرحلة بطيئة كما هو حال الرحلات النهرية، تتخللها محطات ثقافية ووجبات مشتركة مع ركاب غرباء، لطفاء أحيانًا ومزعجون أحيانًا أخرى. كونه الشاب الوحيد وسط كبار السن، يشعر الراوي بانفصاله عن المجموعة، لكنه في الوقت ذاته جزء من رحلة تدفع الجميع في نفس الاتجاه، ولو لأسباب مختلفة.

السين، بمنعطفاته وميله الطفيف، يشكّل الصورة المثلى لرحلة باحث عن أسرار الموت الغامض. هذه ليست جريمة على النيل مع محقق لا يخطئ، بل هي موت في نهاية السين مع محقق متردد، حزين وتائه. وكان من السهل، انطلاقًا من هذا الوضع، أن يكتفي الكاتب بسرد الرحلة بهدوء، وأن يرصد مجموعة المتقاعدين في مغامرتهم، ويكرر الكليشيهات عن جيفرني وروان. لكن فيكتور بوشيه يتجنب كل هذه الفخاخ ببراعة. فيغادر الراوي المجموعة في محطة روان، ليعود إلى كبار السن الحقيقيين في حياته: المجنونة مادلين التي تهذي في الكاتدرائية، ووالده الذي يمضغ في منزله ببونسكور – موقع أول سقوط للطيور – فكرة انحدار فرنسا.

يقدّم فيكتور بوشيه رواية شديدة الحساسية، تتنازع فيها الاستعارة مع حبكة أوسع وأكثر تركيزًا في آن. الهدف الأول – لماذا تموت الطيور – لا يتغير، لكنه يكشف شيئًا فشيئًا عن تساؤل أكثر حميمية: لماذا تموت الأشياء؟ لماذا انفصل الوالدان؟ لماذا غادرت الحبيبة تاركة فقط بضع كلمات مقتبسة من ميشو؟ تعود ذكريات الطفولة ومشاعرها: غطاء السرير المرسوم عليه تان تان يركض خلف قطار، شجارات الوالدين في السيارة والطفل محاصر في المقعد الخلفي، غثيان البحر على متن قارب والده وانتظار الوصول للميناء.

حساسية الرواية لا تقوم على التباكي، بل على إشارات ثقافية موزونة، تستند إلى خلفية حضارية يونانية. الأب هو أوليس من الأقاليم، والراوي لا يملك سوى دفتر “كليرفونتين” كدرع يسجل عليه ملاحظاته بدقة، يرسم عليه أحيانًا مخططات أو يسرد كلمات تصف شعوره كطفل لوالدين مطلقين، وكطالب دراسات عليا هارب، وعاشق مرفوض.

فالمرء إما باحث أو ليس كذلك. والراوي قد تدرب على التحقق من المصادر، على البحث واستكشاف النصوص. في يوم مضطرب، بعد أن غادر الرحلة النهرية وبكى بين أحضان حبيبته، ينغمس في حياة وأعمال فيليكس-أرشميد بوشيه، الذي يحمل اسمه. وهذه، على الأرجح، أكثر أجزاء الرواية إثارة ودهشة. نترك للقارئ متعة اكتشاف الخلاف بين بوشيه وباستور حول نظرية “الخلق التلقائي”. ومرة أخرى، تلتقي القصة الشخصية مع الاستعارة – هذه المرة العلمية. آه، لو كان بإمكاننا أن نولد من لا شيء! لكن النظرية دُحضت في وقتها، والنسب الذي كان يُرجى أو يُتخيل، تبين أنه خادع.

تتخلل الرواية إشارات أخرى كثيرة، ترسم مسارًا أدبيًا وتاريخيًا. توقّف الأب في غيرنزي، جزيرة نفي فيكتور هوغو. اسم بوشيه الذي ربما ألهم فلوبير في خلق شخصية “بيكوشيه”. فلوبير وببغاؤه. فيليكس-أرشميد بوشيه الذي عمل على تأليف كتاب عن الطيور. كل شيء يتداخل بسلاسة ووضوح وتحكم تام. حتى الإشارة إلى حملة ماو لمحو الطيور الصينية للقضاء على المجاعة. صحيح أن ظاهرة سقوط الطيور غذّت نظريات المؤامرة، لكننا نعرف كيف ولماذا تموت الطيور وتسقط بهذا الشكل الجماعي أحيانًا. يكفي جولة قصيرة على الإنترنت لاكتشاف الجواب.

لكن فيكتور بوشيه لا يعطينا حلًا لهذا اللغز في روايته. لأن ما بدأ به لم يكن سوى نقطة انطلاق خادعة. النهاية التي يصل إليها مختلفة، أكثر إنسانية، وأكثر حساسية. لماذا تموت الطيور رواية أولى ناضجة، مليئة بالعاطفة. رواية بعيدة عن الاستعراض، لا تعتمد على الموضات أو التصنع، بل تقول بصدق ما نحن عليه: كائنات ضائعة قليلاً، تبحث في ما يسقط من السماء عن مبرر لحياة تزحف على الأرض.

‏رحلة في عوالم حميد الرقيمي: قراءة في عمى الذاكرة

‏رواية مخيفة، فيها من الحب والحرب ما يكفي لتبقى عالقًا، متقرفصًا بين أروقتها حتى آخر ورقة. وأنا أقرأ مستهل صفحاتها الأولى، شعرتُ أنني في مواجهة تتطلب شرفة هادئة ونفسًا عميقًا، وربما جاهزيةً مكتملة الأركان للدخول إلى عالمٍ طويل، وهذا ما حدث بالفعل. في تلك اللحظة، لم يكن لي إلا أن أُسلم أشرعتي لحميد، حيث تودي بي قريحته. كنتُ مطمئنًا على نفسي، وفي رفاهيةٍ وأنا أتنقل مع شخصيات روايته، أعيش معهم غربة المكان، وخوف المستقبل، وقلق الأسئلة المبتورة.

‏الريبة التي توشحت “سالم المجهول”، دفء الجد الذي ملأ رأسه جنون البشرية كلها، صدفة “عبده حمادي” وحياة كوخه الذي احتضن الشتات والتيه والشرود الطويل لـ”يحيى” القادم من اللا شيء، كوخٌ تسربت من خلاله الكثير من الحيوات والكثير من الآمال إلى قلبه، وجعل منه لافتًا وملفتًا لزملائه، ولـ”يافا” تحديدًا، الفتاة التي كسرت في فمه جمود الريف، ليصبح عاشقًا مشدوهاً متلهفًا، صخبُ حنينه يلوي شوارع صنعاء حتى انتهى به القدر، مع تفاقم تخوم الحرب في المدينة، إلى اقتناء حماقة لا يغفرها الزمن: الانتقال إلى يافا التي تسكن شملان، الملتهبة بالصراع والموت، للاطمئنان عليها فحسب، متجاهلًا فكرة ما قد يلحق به وبـ”النبيل عبده حمادي” من قذيفة أو رصاصة طائشة قد تمحو وجودهما إلى الأبد، وهو ما حدث بالفعل. إذ اعترض جنونهما طريق “يافا” التي نزحت إلى المجهول، فيما قذيفةٌ وزعت جسد “عبده حمادي” إلى أشلاءٍ صامتة، دون أن يوحي شيءٌ منها بقوام رجلٍ كان يمشي على الأرض.

‏وأنا أقرأ براعة حميد في عمى الذاكرة، وقفتُ مراتٍ عدة متعجبًا من طراوة هذا الرجل، وعلاقته مع اللغة والكلمة، وكيف يكتب بهذه الغزارة إلى درجة يخال إليك وأنت تقرأه أن قلبه ليس إلا محبرةً تضخ الكلمات والأحاسيس التي تهوي بك إلى عالمٍ لم تكن تتوقعه. لا أنكر أنني عشتُ وشاطرت شخصيات عمى الذاكرة أرواحهم العليلة، وألم الهجرة والبقاء خارج الحدود، بعد أن خذلهم الزمن داخل البلد، وكيف أرغمتهم صيرورة الحياة على بدء رحلة جديدة من الضياع والموت المؤجل.

‏ثلاث ليالٍ وأنا أقرأ حميد، وفي كل لحظة تزداد لوعتي التصاقًا بما كتب، وبما سيكتبه أيضًا. حميد الرقيمي كاتبٌ من النوع الذي ما إن تقرأه حتى يلقي على كاهلك مسؤولية المواصلة، حتى وإن كانت الوجهة إلى أوروبا والطريق شائكًا بالموت. سيربّت على كتفك بجنون السطر الأول، ويمسك بيد قلبك ليعبر بك صحاري طويلة، ويجبرك على الغرق دون أن تشعر بذلك. ولا تفسير لهذا أكثر من كونه حميد الدهشة، والمنجم الطويل الذي ينبض أدبًا وقصيدة.

‏رواية ماتعةٌ للغاية، وهذه الثالثة لحميد الرقيمي التي أقرؤها بشغف، بعد حنين مبعثر والظل المنسي.

‏خالص التوفيق، يا حميد الخصال..!

‏بقلم: عتصم الجلال

المزاوجة بين الواقع والخيال في المجموعة القصصية “عشرة أيام في عين قسيس الإنجيلي ”  للكاتبة السعودية “رجاء البوعلي”

المزاوجة بين الواقع والخيال في المجموعة القصصية “عشرة أيام في عين قسيس الإنجيلي ”  للكاتبة السعودية “رجاء البوعلي”

بقلم:  حامد أحمد الشريف

من المعلوم أن الخيالَ ركنٌ رصينٌ في الإبداع لا يكون إلا به، مهما تعددت أوجهُهُ أو تغيرت المهارات التي يعتمد عليها، وبقدر اتساع هذا الخيال يكون حجم الإبداع، وذلك يعنى أن قيمة المهارة ترتبط طرديًا بكمية الخيال التي عجنت به وأبعدته عن الواقعية، ويُستثنى من ذلك المهارةُ التي تقترن قيمتها عادة بمدى تطابقها مع الواقع ، كالمدرسة الواقعية في الفنون التشكيلية، وكذلك رسم الوجوه “البورتريه” أو الكتابات الواقعية كالسير الغيرية والتاريخ ونحوِهما، ولكن يعيب كلَّ ذلك؛ عدم القدرة على توظيف المهارة واستخدامها لإيصال أفكار وفلسفات الفنان أو الكاتب نفسه، إن لم يكن صاحب المهارة قادرًا على مزج الخيال بالواقع، وبالتالي افتقارها للمغازي والأعماق المثرية، واقتصارها على قيمة جمالية سطحية لا تدوم طويلًا، أي إن إحياء المهارات وتدسيمها واستدامتها يقترن على الدوام بالخيال.

ذلك ما يدفعُنا للقول بشكل مبسط إن الخيال هو التفاصيل الجديدة التي يشتغل عليها المبدع ويحطم بها الأغلال ويمنح من خلالها قيمةً إضافية للواقع الـمُحاكَى، وهو بهذا الوصف يمنح المبدعَ القدرةَ على قول كلمتِه الفصلِ واستظهارِ أفكاره وفلسفاته وتوظيف مهاراته لإيصال صوته، بينما لا يكون له ذلك في حال كان الواقع مستحوذًا على مهارته واستكان تحت جدرانه.

وحتى لا نبتعد كثيرًا نخصص حديثنا عن الكتابة الإبداعية فنقول إن الكاتب المبدع هو من يستطيع تضميخ كتاباته بفلسفاته وأفكاره وإخراجها من السطحية، مستخدمًا الخيال كوعاء يحقق له كلَّ ذلك، ومن هنا ظهر أدب السرد بكافة أشكاله وألوانه، أي إن نسبة الخيال تشكل قيمة حقيقية للقطع النثرية والشعرية أيضًا، ترتفع قيمتها بازدياد نسبته وتنخفض بانخفاضها ويستثنى من ذلك السير الذاتية التي تستغني إلى حد ما عن الخيال، وتعتمد على عواملَ أخرى في استظهار قيمتها، وإن كان بعضهم يعتقد أن الانتقائية في سرد الواقع، وتسليط الضوء على مفاصل معينة، واستعادته بعد فترات انقطاع زمنية طويلة، وكذلك التفسيرات والتأويلات والاستشهادات الممنهجة، تُعد جزءًا من الخيال الذي يمنح مثل هذه السرديات الواقعية قيمة تخييلية إضافية، خلاف أن الفضائحية والقيمة الحكائية العالية تمنحها قيمة مؤقتة تدفع للقراءة الأولى وتختفي بعد ذلك أو تقل، ما يغنيها إلى حد ما عن الخيال المحض في صياغتها الكتابية، وفي الأمر تفصيل أكبر لا يعنينا في هذه الوقفة.

وبالعودة إلى قيمة الخيال والواقع للمرويات السردية، نجد أنهما صنوان لا ينفصلان فأي منهما لا يستغنى عن الآخر، فالسرد لا يقوم بدون واقع معين ينطلق منه، والواقع لا قيمةَ له بدون الإضافات التخييلية، وإن كان ذلك جانب تنظيري قد لا يؤمن به بعض المبدعين؛ ممن استطاعوا تدوين سرديات واقعية إبداعية تصف تجربتهم الحياتية ويكاد ينعدم فيها الخيال، من دون اختلال قيمتها الحكائية، واستدامة حضورها في أذهان المتلقين، ويمكننا تلمُّسُ ذلك في مرويات الكاتب المصري المبدع إحسان عبدالقدوس وكذلك الكاتب المصري المبدع إبراهيم أصلان، وغيرهما من المبدعين الذين استطاعوا تدوين الحكاية الواقعية كما هي بدون تصرف في وقت منحوا كتاباتهم قيمة كبرى من خلال تضمينها لأفكارٍ ومغازيَ عميقة وفلسفات، استنطقوها في وصفهم المجتزئ وجعلوا من كتاباتهم تلك أنموذجًا للكتابة الواقعية الراقية التي تُخضع الواقع لسلطان الخيال، وتوظفه لإيصال مستهدفات الكاتب القيمية بطريقة مقنعة ومقبولة، وبالتالي فهي لا تبتعد كثيرًا عن الأدب السردي الخيالي إن لم تتطابق معه.

إن هذه القيمة التي حفلت بها كتابات إحسان عبدالقدوس وإبراهيم أصلان وغيرهما من المبدعين العالميين – رغم واقعية مروياتهم وعدم تقيدها باشتراطات القصة- ، شكلت تحديًا كبيرًا لأقلامهم نجحوا في تجاوزه، بينما أخفق كثيرون عند استنساخهم لهذه التجارب الإبداعية، فظهرت كتاباتهم سطحية ممجوجة لا قيمة لها، ولعل ما أعان هؤلاء المبدعين الأوائل على تجاوز هذه الصعوبة؛ خبراتهم الحياتية الكبيرة، واعتناقهم كثيرًا من الأفكار الفلسفية المتجردة، وامتلاكهم ناصية اللغة، وحرفيتهم الكتابية العالية، وقدرتهم الحكائية المميزة التي منحتهم القدرة على نقل الواقع بهذه الطريقة الصعبة، وهم يتعمدون إهمال الخيال، أو لنقل تقليل نسبته مع الاحتفاظ بقيمة كتاباتهم.

الآن يمكننا تركُ كل ذلك والذهاب باتجاه كتابنا “عشرة أيام في عين قسيس الإنجيلي” للكاتبة السعودية المبدعة “رجاء بالعلي” الصادر عن منشورات جدل في مائة واثنان وستون صفحة من القطع المتوسط، ولقد اضطررت لتدوين هذه المقدمة الطويلة، لإيصال الفكرة التي منحت هذه المجموعة القصصية المكونة من خمس عشرة قصة قصيرة قيمتها الحقيقية على الأقل من وجهة نظر شخصية، وكان أكثر ما ميز هذه المجموعة خلطُها بين القصص الخيالية المعتادة والقصص الواقعية السيرية التي تظهر فيها الكاتبة بشحمها ولحمها وفكرها وفلسفتها المباشرة، وإن كانت مجرد إضاءات على مواقف معينة تعرضت لها الكاتبة وسردتها كما هي بواقعيتها، ويمكن حصرها في قصص “عاملتي الأفريقية” و”شقة في الملحق الأخير” و ” عشرة أيام في مركز عين قسيس الإنجيلي” وكذلك القصة الأكثر أهمية “عيني على نعش” و”سيدة المكتب الجديدة”، وإن كانت نسبة الخيال الموظف قد ارتفعت في هاتين القصتين، ولم تكن كالحكايات الواقعية في الثلاثِ الأُوَل.

وبالعودة للقصص السيرية الواقعية الخمس نجد أنها تشابهت في إهمالها للخيال إلى حد ما، وتقليلها من حضوره، ونقلت لنا واقعًا معينا عاشته الكاتبة وأخبرتنا بكل تفاصيله الدقيقة، وكان يمكن لنا تناولُه ضمن أدب السيرة، وإن كانت مقتطفات وليست حياة كاملة وهذه الخاصية الشذرية بالمناسبة لا تخرجها من أدب السيرة، فالسيرة الذاتية إنما اتصفت بهذه الصفة من خلال سردها للوقائع الحقيقية وتجنيبها للخيال ولا يشترط في ذلك أن تكون طويلة أو قصيرة أو أنها تمثل الحياة كاملة أو جزءًا منها، وهو ما نقلته لنا هذه الحكايات الخمس، بداية مع العاملة المنزلية التي وصفت لنا الكاتبة تجربتها معها كاملة من وقت حضورها حتى مغادرتها، واتخذت نفس الأسلوب في وصف حياتها في السكن الجامعي بكل تفصيلاته وعلاقاته المضطربة، وختمت هذه المرويات السيرية بحكايتها الطويلة نسبيًا عن تلك الأيام التي قضتها في لبنان من خلال مركز مسيحي انخرطت فيه مدة عشرة أيام. ويمكن إضافة قصة “عيني على نعش” التي أسهبت الكاتبة من خلالها في التحدث عن والدها ومنحته القيمة التي يستحقها وجددت إيمانَنَا بمقولة “إن كل فتاة بأبيها معجبة” وكانت قد فردت لها مساحة كبيرة للحكي تقدر بسبع عشرة صفحة ولم يتفوق عليها غير قصة “عشرة أيام..” التي وردت في خمس وعشرين صفحة.

إن قصة “عيني على نعش” وكذلك القصة الأخيرة “سيدة المكتب الجديدة” يمكن اعتمادهما كحلقة وصل بين الواقعي والمتخيَّل، فحكمها يختلف إلى حد ما عن بقية القصص الواقعية، إذ إن نسبة الخيال في “عيني على نعش” ترتفع إلى حد ما بداية من العنوان الذي لم يذكر الوالد يرحمه الله صراحة وإنما استخدم عنوان تخييلي له دلالاته السردية ويستخدم عادة في القصة القصيرة الإبداعية، بما له من إشارات سيميائية ذات قيمة كبيرة تبتعد به عن الواقع، رغم ارتباط الحكاية بذكرى موت الوالد، وبالتالي استطاعت منحه مساحة تأويلية أكبر، وأحضرت حاسة النظر لتأكيد هذه المغازي العميقة التي يحتملها العنوان، وهي بذلك قد وظفت الخيال في السرد، طالما أنها استطاعت دفعنا للتفكير في الحالة الوجدانية والفكرية والفلسفية، التي غالبًا ما نعيشها ونحن ننظر لأي نعش، حتى لو لم يكن لنا علاقة بالراقد بداخله، وأتت الحكاية بعد ذلك وجدانية، تعبر بالفعل عن علاقتها بوالدها بكل تفصيلاتها، بينما كانت الحكاية الأخيرة “سيدة المكتب الجديدة” حلقة وصل بين الخيال والواقعية في متنها، عندما استلهمت الكاتبة تجربتها الشخصية في قيادة فريق العمل، بوصفها الأنثوي، وأخذتها لأبعاد تخيلية وإن بنسب معتدلة حتى توصل مستهدفات القصة الفهمية بعيدًا عن تجربتها الشخصية، حيث إن التفاصيل لم تكن كلها واقعية رغم اتكائها على الواقع، وهي مزاوجة جميلة بين الواقع والخيال.

وبالعودة للحديث عن الواقع غير المتخيل الذي استطاعت الكاتبة نقله بطريقة أدبية ماتعة وحافظت على استدامة حضوره في وجدان القارئ وحاكت من خلاله أدب عظماء السرد العربي الواقعي، فنحن نتحدث عن الثلاث القصص الأولى، وإن تفاوتت قيمتها فهي تبلغ أوج عظمتها في القصة التي ظهرت في غلاف العمل، ونقلت لنا الواقع كما هو بدون حضور الخيال، إذا ما اعتمدنا على الصراع الموصوف والحدث المتوالد خلال عشرة أيام، فكل الأحداث والصراعات واقعية بتفاصيلها الزمانية والمكانية وبشخوصها من بدايتها حتى نهايتها، ولكن حصافة الكاتبة حضرت هنا، من خلال منحها قيمة إضافية من دون المساس بهذه الثوابت الواقعية فكان تداخلها في السرد بالتأويلات والإشارات وتوظيف المواقف في إيصال كثير من أفكار وفلسفات الكاتبة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، فكانت هذه المساحة الواقعية غنيةً جدًا بهذه التجاذبات الفهمية، التي أظهرت إبداع الكاتبة وجعلتنا لا نكاد نفرق بين الواقع والخيال، أي أنها استطاعت الجمع بين الواقع غير الموظف والمواقف التخيلية الموظفة، لإظهار بصمة الكاتب وإيصال أفكاره، وهذا المزج الفني شكَّل قيمةً حقيقية لهذه القصة تحديدًا، فبتنا نتعامل معها كأنها خيال صرف، ونحن نقف على المغازي العميقة والرسائل التي تريد إيصالها في كل منعطفاتها السردية، وتوظيفها لضمير المتكلم بطريقة تحاكي الروايات الإبداعية، في وقت نعجب من واقعيتها وسردها لأحداث عايشتها بالفعل، وكان ذلك نجاحًا كبيرًا للكاتبة استطاعت من خلاله المزج بين الواقع كقيمة تثير فضول المتلقي وتخاطب غرائزه المعرفية كما أسلفنا، وفي ذات التوقيت توظف هذا الواقع لقول ما تريد بطريقتها التخيلية، وهي تجربة ثرية تستحق السرد والتناقل بقيمتها الواقعية، عندما نجد كثيرا من المحاذير الاجتماعية تم تجاوزها، كانتقال فتاة سعودية مسلمة من بيئة محافظة للعيش في دير مسيحي بمفردها وما يترتب على ذلك من تجاوزات تتعلق بهذا الانتقال، إذا ما ربطناه بالأيديولوجية الدينية الرافضة لهذا التمازج غير المؤطَّر، بين الثقافة المسيحية والثقافة الإسلامية، وكان يمكن للكاتبة الاعتمادُ على هذا الواقع فقط لمنح الحكاية قيمةً كبيرة، ولكنها كما ذكرت سابقًا وظفته بطريقة رائعة لإيصال فلسفاتها باستخدام ضمير المتكلم الحكاء، الذي يبحر في التأويل والتفسير وحديث النفس ويتجاوز الواقع كثيرًا، بهدف إيصال رؤية الكاتب.

هذا النجاح الكبير الذي وقفنا عليه في الأيام العشرة حضر، وإن بنسبة أقل في قصة “العاملة” وكذلك قصة “الشقة” فكلتا هاتين القصتين نُقلت غالبًا بدون تدخل كبير من الكاتبة، واكتفت باستخدام أسلوب الاستفهام المعزز للمعاني المستهدفة، وترك فهمها لحصافة القارئ، وبالتالي انحصر تدخل الكاتبة في بث هذه الاستفهامات وتركها بدون إجابات محددة، مما قلل من قيمة الخيال وحصره في أضيق نقطة ممكنة، في وقت لم تفقد تلك الحكايات قيمتها، نظرًا للأسلوب الكتابي الأخاذ المعتمد على تقنية السرد الحكائي الجميل، الذي يعتمد على استحضار القارئ وتشويقه وإثارته وإمتاعه ودفعه للمتابعة بغض النظر عن أصل الحكاية، وهو الأسلوب الذي ينبغي أن يكون عليه السرد بالفعل، عندما يقل تأثير المتن الحكائي المتخيل والواقعي، وتنحصر أهمية المروية في أسلوبيتها البديعة، وبالتالي فإن هذا العمل يعد أنموذجًا يحاكي الكتابات القديمة التي نهض بها أسلوبها الكتابي البديع وفاق خيالها ومتنها الحكائي الواقعي.

إن حديثنا عن هذه القصص الواقعية الخمس بدرجات واقعيتها المختلفة ونِسَب الخيال المتدنية لا يمنعنا من الحديث عن بقية القصص الخيالية العشر؛ التي ارتفعت فيها نسبة الخيال بشكل كبير، واختزل الواقع كما جرت العادة في نقاط ضوء بسيطة، ينطلق منها السرد ويتحول لبقعة ضوء كبيرة تحتضن صراعًا معينًا وشخوصًا وأزمنةً وأمكنةً وأسلوبًا كتابيًا ينسج كل ذلك، ويرفع من قيمة تلقيه في المنظور الخيالي، وبالطبع نجحت الكاتبة في كل ذلك وبتنا نطالع قصصًا قصيرة متخيلة مكتملة الأركان لا ارتباطَ صريحًا بينها وبين الكاتبة، وهي المواصفات التي يشترط وجودها للتعامل مع القصة كجنس أدبي، يحمل هذه المواصفات وكان بوسع الكاتبة الاقتصارُ على هذه القصص العشر فقط، وإصدارها في مجموعة قصصية، لكنها أرادت بالفعل أخذنا معها لتبيان قيمة الخيال المتذبذبة، وعدم قدرته على إسقاط الحكاية والتقليل من قيمتها في حالة انخفاض نسبته، طالما كان القلم بأَيدٍ إبداعية أمينة، فكان المزج بين هذين النوعين من القصص مقصودًا بالفعل، حتى لا ينظر للقصص الواقعية على أنها عجز عن الخيال وسطحية في التناول، واستخدامها أيضًا في إظهار قيمة قلم الكاتبة وقدرته على منح المروية الواقعية قيمة إضافية اعتمادًا على الأسلوبية لا المتن الحكائي التخييلي، وذلك يشير بوضوح إلى أن هذين النوعين من القصص لم يأْتيا اعتباطًا، وإنما بقرار من الكاتبة بهدف خلق قيمة معينة للعمل.

في هذه القصص العشر الخيالية تم تناول بعض الصراعات الناتجة عن أحداث معينة، تستلزم ردود أفعال مختلفة تخلق لنا حكاية ما، كقصة “جاثوم الحب” التي أتى عنوانها بعيدًا كليًا عن متنها الحكائي، عندما ارتبطت الحكاية بإجراء عملية جراحية لإزالة ورم خبيث من المخ وتسليط الضوء على فترة الإفاقة التي تعقب استعادة الوعي بعد التخلص من تأثير جرعة المخدر الكبيرة، وهي الفترة التي عادة ما يحجز المريض في غرفة مخصصة لهذا الغرض تسمى غرفة الإفاقة ولا يسمح لأقربائه وأصدقائه بالتواصل، خشية تجاوزه في الحديث وفضحه بعض أسراره، والجميل في هذه الحكاية أن الكاتبة لم تنظر إليها من هذه الزاوية، وإنما منحت المريض اللاقط الصوتي، وسمحت له بالتعبير عن الحالة الذهنية والوجدانية التي يعيشها، إلى أن يحين خروجه من هذه الغرفة، وهي بالفعل فترة متخيلة ذات قيمة كبيرة لوقوعها بين عالم الوعي واللاوعي، وبالتالي لا يمكن وصفها بطريقة واقعية ويكون الخيال هو الوسيلة المثلى لدخولها وتوقع المونولوج الداخلي، الذي يدور داخلها وهو حوار مهم جدًا نظرًا لصدقه وتخلصه من كل التأثيرات التي تفسده فيما لو كان في العالم الواقعي، ما يعني أن الكاتبة استطاعت باقتدار امتطاء صهوة الخيال ووصلت بواسطته إلى الأماكن التي يستحيل أن يصل إليها الواقع.

  هذه الفكرة التي اعتمدت في صياغة قصة “الجاثوم” تكررت أيضًا مع بقية القصص التخيلية، باعتماد الخيال مَرْكبًا يتم الانتقال بواسطته للمناطق التي لا نصلها بأقدام الواقع، رغم حاجتنا لسبر أغوارها، والوقوف على تفاصيلها المغيبة، كقصة “متعة” التي أوقفتنا على المشاعر المتقلبة التي تنتاب المطلَّقة بعد حصولها على صك طلاقها، استطاعت الكاتبة هنا توظيفَ الخيال لفضح الواقعية المزيفة التي تسلط الأضواء على سعادة المطلقة إن تم الأمر وفق رغبتها، أو الحزن والألم إن كرَّسَ ظلمَ الزوج وخذلانه لها، فنجدها من خلال هذه الحكاية تغوص في حادثة الطلاق، وتستظهر المتناقضات التي تحفل بها، عندما تجمع بين النقيضين؛ السعادة والتعاسة، في قلب صاحبته، لتنطلق من لحظة التنوير هذه للأخذ بأيدينا وإطلاعنا على الإحساس الصادق الذي تعيشه المرأة بعد قرار كهذا، وبالطبع استطاع الخيال النهوض بهذه المهمة على أكمل وجه، وهو ينقل المونولوج الداخلي الذي تعيشه امرأة مرت بنفس التجربة وترك له إيصال المشاعر الحقيقية والتأثيرات الاجتماعية والنفسية والأخلاقية المواكبة، والتشابك المجتمعي مع هذه الحالة، وصولًا لدهشة النهاية الرائعة التي لخصت لنا المعاناة الحقيقية التي تعيشها المرأة وهي تعتقد أنها تخلصت بقرار الانفصال من كل أحزانها وحانت لحظة الفرح التي تنتظرها في وقت قد يحدث فيه العكس.

هذا الخيال قادنا أيضًا لسبر أغوار أحد المواقف المهمة، التي قد يعيشها أحدنا عند وقوع حريق يقضي على كل ممتلكاته المادية، ويستبقي له أرواح عائلته، فمثل هذا المشهد غالبًا ما يوصف من خلال القيمة الإنسانية الثمينة الباقية، ويتم تجاهل الخسائر المادية التي يمكن تعويضها، وهي حقيقة بالفعل، لكن الخسائر المادية لها قيمتها أيضًا، وتأثيراتها الحياتية المهمة، فأراد خيال الكاتبة من خلال قصة “الحريق” أخذنا معه للتعرف على هذا الإحساس الذي ينتاب الإنسان غالبًا عندما تستعيده تفاصيل الحياة وتهزه قيمة مفقوداته المادية، ولا يسمح له الواقع بالتعبير عن هذا الإحساس طالما نجا الإنسان الأكثر أهمية بكثير، وقد أجادت الكاتبة بالفعل في كشف هذا الموقف، مستخدمة مركب الخيال الذي طاف بنا على تلك المشاعر الصادقة التي يصعب التصريح بها.

         الخيال أيضًا قادنا في قصة “وجه الليل” ليُجَدِّف بنا وينقلنا لشاطئ شبه مقفر لا تصله مراكب الواقعية بسهولة، عندما حدثنا عن الفراغ العاطفي الذي تعيشه المرأة عند إعطاب شريكها الرجل وفقده للأهلية الزوجية، وكتمها لهذه المشاعر في صدرها إما اعتدادًا بأنوثتها أو تماهيًا مع حيائها أو هروبًا من عقدة ضعفها أو بسبب عدم جدوى الحديث عنها عند غياب الحلول الممكنة، كان الخيالُ وسيلتَنا للدخول لهذه المنطقة المحظورة، واستطاعت الكاتبة باقتدار التعبير عن هذه الأحاسيس المغيبة لأنثى لا يمكن فصلها عن عاطفة جياشة تعد سر حياتها، والجميل أن الخيال قادنا هنا للوقوف على صراع من نوع مختلف عندما وقعت بطلة الحكاية في شراك عاطفة مضطربة غير واضحة المعالم لا تحقق قيمتها المفترضة كأنثى مرغوبة، بسبب تقدم عمر زوجها وعدم قدرته على الحركة وعجزه التام عن ممارسة دوره الإنساني كزوج، في وقت جمعتهما الاهتمامات المشتركة المتعلقة بإبداعاتها الكتابية التي تحيله إلى صديق مقرب لا يمكن الاستغناءُ عنه، ولعجز الواقع عن إظهار هذه المشاعر؛ أتى الخيال ليعبر بصدق عن إحساس هذه الأنثى، التي جربت المشاعر الحقيقية بوجود زوج سابق وأبناء أحبتهم، قبل أن يقضي الموت عليهم جميعًا ويغيبهم من حياتها وتستبدل بهم هذه الحياةَ البائسة.

الخيال أيضًا نقلنا معه إلى منطقة وعرة عادة لا يطرقها الواقع عند وقوفه على انجذاب أنثى محافظة لشاب يستهويها، ولا يرتبط معها بعلاقة، ولا يمكنها الإفصاح عن هذه المشاعر لأي سبب كان، وهو إحساس موجود بالفعل تشعر به أغلب الفتيات؛ لكنه لا يظهر عادة للعلن؛ انسجامًا مع فسيولوجية الأنثى المتمنِّعة رغم رغبتها، وكذلك استحالة مبادرتها بإبداء مشاعرها حفاظًا على كرامتها، خشية أن تُصْدمَ بشاب قد لا يقيم وزنًا لمشاعرها، أو تحسبًا لأي ظرف لا يسمح لهذه العلاقة بالنضوج والوصول إلى النهاية الطبيعية المرتقبة، أتى الخيال هنا ليصطحبنا معه ويقول كلمته، بعد أن تجرد من كل المحاذير المعيقة عن الإفصاح ، وأطلعنا على تلك المشاعر المغيبة التي تعيشها الأنثى في كل حين وتحترق بداخلها، في رحلة ماتعة قضيناها مع قصة “رسائل كوب الشاي”.

في قصة “عُطب أمومي” كان الخيال مضمرًا داخل النص، عندما اكتفت الكاتبة بسرد حكاية كاملة عن الإشكالية التي تعاني منها تلميذات المدارس، وهي التي تقودنا في نهاية الحكاية لمعرفة أن سوء الوالدين أو الأم تحديدًا يتسبب في السوء الكبير الذي نراه من هؤلاء التلميذات ونحاسبهن عليه بينما الأَوْلى محاسبة الأم والأب فالأبناء نتاجهم السيِّئ أو الجيد.

الخيال في قصة “هرة” أخذ بعدًا مختلفًا عندما ترك لنا متابعة حكاية واقعية اعتيادية عن أصحاب القناعات المتفلِّتة، ممن يروجون للنسوية، أو ممن يتصادمون مع المجتمعات المحافظة في قناعاتهم السلوكية البعيدة عن أي ضابط أخلاقي أو ديني، لنجد الخيال قابعًا يترصدنا في قفلة الحكاية المدهشة حتى يوصل لنا الرسالة أو العمق الذي تستهدفه هذه الالتقاطة، عندما بين لنا أن هؤلاء المنحازين لأفكارهم الشاطحة غير الواقعية عادة ما يسقطون في أول المنعطفات، ويتخلون عن هذه القناعات، ويمكننا اكتشاف ذلك من خلال مراقبة سلوكياتهم الواقعية بعيدًا عن تنظيرهم، وأتى الخيال ليطلعنا على هذه التناقضات من خلال قفلة الحكاية، متوقعًا قدرتنا على الغوص في أعماق النص، وعقد مقارنة بين هروب بطلة الحكاية من الإشكالية التي تعاني منها إناث القطط في انشغالها بالذكور، وجَلَدِها في البحث عنهم ومعاشرتهم بدون أي ضابط، مما دفعها لاستئصال رحم قطتها المسكينة التي كانت تمارس الحياة بالفطرة التي خلقها الله عليها، في وقت قاتلت من أجل قبول هذه التصرفات البوهيمية من الفتيات وتحريضهن عليها رغم أنها منافية للفطرة، وكأن الخيال يريد إفهامنا أن أصحاب الأفكار التصادمية يعودون عنها إذا تماسَّت مع مصالحهم.

وفي قصة “مونامور” أو الحب العميق والرومانسية اللطيفة، نجد أننا في منطقة محرمة يصعب أن يسردها لنا الواقع السيري، فذهبت الكاتبة باتجاه الخيال كي تطلعنا على واحدة من قصص الحب العذري عند بداية نشأتها في قلب طفلة ترى في أحد أقاربها حلمها المستقبلي، وتصف لنا ذلك الشعور الذي عادة ما يلازمها إلى أن يُقضى عليه فيموت أو يدفن حيًا، عندما تقودنا تصاريف الحياة لاختيار البديل الممكن بدلاً من المستحيل المتاح.

وأيضًا في قصة “سلام أمي” يأتي الخيال مضمرًا، فيترك للمتلقي الوصول إليه، مع متابعته لحكاية واقعية اعتيادية، تخبرنا عن النزاعات المذهبية التي يزرعها ويقودها الكبار، ويقع في حبائلها الصغار، وكانت فلسفة الكاتبة عميقةً جدًا، تتخطى المشهد الموصوف فأركان هذا المشهد وهم الأطفال والأمهات؛ يمكن اعتبارهم المجتمع بكل مستوياته، إذ إن المرجعيات الدينية يمكن أن تكون هي الأم المحرضة، والأطفال يمكن أن يكونوا الأتباع بكل مراحلهم العمرية، وهذا ما لا يمكن الإفصاح عنه بالحكايات الواقعية، ويكون الخيال منقذًا لنا من هذه الإشكالية ويمكنه قيادة المشهد للمستهدفات الفهمية من دون أي محاسبة.

وأخيرًا في قصة “المشهورة” تأخذ الكاتبة بأيدينا لتطلعنا على الفرق بين المظهر والجوهر، وتطلب منا عدم الاغترار بالزخرفات الشكلية، التي يلجأ لها البعض مخفيًا الحقيقة التي يعلمها بعض القريبين منه، وكأنها تريد لنا عدم الاحتكام للواقع المشاهَد، الذي عادة ما يخفق في إظهار الصورة كاملة، وأن علينا استكمالها بأنفسنا، من خلال إشغال الخيال، وتوظيف قدراتنا العقلية، لاستكمال النواقص التي لا تكتمل الاستفادة الحقيقية بدونها، وهذا جانب مهم من المعرفة الإنسانية لا ينهض به الواقع المزيف عمدًا، ويأتي الخيال ليفضحه ويعيد ترتيب المشاهد بشكل صحيح ومقنع.

وخلاصة القول: إن أهم ما يمكن التقاطه من هذه المجموعة القصصية خلاف قيمتها الكتابية وأسلوبيتها الرائعة وتشويقها وإثارتها ومتعتها، هو مقاربتها بين الخيال والواقع، في تلقي المشاهد اليومية، وتقريرها بأن استفادتنا الحقيقية تقتضي هذه المزاوجة الإبداعية بين الخيال والواقع، وأنه وحده القادر على إعادة رسم المشاهد الواقعية بما يتناسب مع مستهدفاتها الفهمية.

     المصدر: جريدة الجزيرة

البرج المقلوب: الفلسفة في صميم الواقع

‘البرج المقلوب’: الفلسفة في صميم الواقع

الكاتب العراقي كه يلان محمد يبحث في كتابه في الظروفِ إعلان موتِ الفلسفة بعد أن صار العلم بديلاً لها.

غنوة فضة – دمشق – يبحث الكاتب العراقي كه يلان محمد (1981) في كتابه “البرج المقلوب” مكتبة جدل 2024، في دور الفلسفة في عالمنا المعاصر؛ عالمِ التطور العلمي. والكيفية التي جعلت دورها على المحك، والظروفِ التي دفعت لإعلان موتِ الفلسفة بعد أن صار العلم بديلاً لها.

وأشار إلى رأي الباحث والفيلسوف الأميركي جون ديوي (1859-1952) في قوله: “إن كلمتي الديمقراطية والعلم أسدلتا الستار على مهنة الفلسفة”. ينطلق الباحث نحو الأحاديث التي تقول بوصول الفلسفة إلى دربٍ مسدودٍ، مؤكداً بأنَّ كل ما يدور على هذا الصعيد لا يعدو عن كونهِ افتراضاً خاطئاً؛ وهو هنا يشير إلى تصدي برتراند راسل لمحاولات تشيع الفلسفة في مقبرة التاريخ من خلال رصده لتوالي الإصدارات الفلسفية، والمناقشات والأطروحات التي تبحث في شؤونٍ حياتيةٍ راهنة، وقولهِ بعدم صوابية الاعتقاد بموت الفلسفة، مشيراً إلى أن ذلك يدفع للتساؤل حيال السعادة، وكذلك حيال قلقِ المكانة لدى الفرد في عالم اليوم، وخوفه من المستقبل، وتجلياتهِ لمفهوم الحب أيضاً..

من هنا يتطرق محمد إلى ما قدمهُ الكاتب السويسري آلان دو بوتون (1969) الذي يعدّ نهجهُ بمثابةِ عيادةٍ فلسفية؛ وذلك عبر استخلاصه آراءَ الفلاسفةَ وسِيرهم، وتقديمها كوصفةٍ للتهدئة من حدة انفعالاتِ المرءِ في عالمٍ تحوّلَ إلى سوقٍ كبيرٍ. لذا فإن التغيرات التي حجبت وظيفة الحواس والتفكير، جعلت الواقع يفرضُ حاجات فكرية عدة، فضلاً عن خطر عودة التيارات العنصرية، وهو ما يجعل من الفلسفة عزاءً وحيداً، وضرورة لا محيد عنها.

وفي هذا السياق، يشير مؤلف “كهف القارئ” إلى التزام الباحث المغربي سعيد ناشيد (1969) بالميثاق الفلسفي الذي يفندُ انعدام الصلة بينه وبين الحياة الواقعية، ذلك أنه وجد في دراسة الفلسفة أهميةً من خلال قدرتها على تعزيز الإرادة لمواجهة أكثر ظروف الحياة قسوة. وإذا غاب هذا الهدف؛ فإن متابعة الفلسفة تصبح مضيعة للوقت. لكن ناشيد في الوقت ذاته، يشير إلى أن معظم دارسي الفلسفة يعيشون وهم امتلاك المعرفة؛ ويطلق عليهم لقب “ضحايا ثقافة النصوص” ما يعني عدم إدراكهم وظيفة الفلسفة على مستوى الحياة الواقعية، وهو هنا لا يريد إلغاء تجارب المتصوفة والحكماء، ولا إضافاتهم للتراث الإنساني. لكنه يجد أن تلك الممارسات لا تعوّضُ عن مهمة الفلسفة في الإرشاد إلى إعمالِ الفكرِ، وتعميق الفهم لمحدداتِ السلوك البشري.

هكذا يستمر كه يلان محمد في بحثه عن دور الفلسفة في مواجهة أزمات الواقع. وفي فصلٍ آخرَ من كتابهِ، يبدأ بمقولة “مع الفلسفة وليس ضد الدين” يشير إلى أن العلاقة بين الفلسفة والدين لم تكن علاقةً وديةً؛ وعلى الرغم من وجود محاولاتٍ لرأب الصدع بين الاتجاهين على غرار ما كان يصبو إليه ابن رشد (1126-1198)، إذ وَجد أن قراءة النص الديني والتبصرَ بهِ يتطلب الانفتاح على الفلسفة البرهانية، وإلا فإن الفهم سيكون مبتوراً وبعيداً عن المقاصد النصية. إلا أن الأمر تعدى في العلاقة بين الفلسفة والدين لإقامة المحارق للفلاسفة بمباركة رجال الدين المتواطئين مع السلطة. ربما كان يُراد من هذا المناخ المثخن بالصراع للقول بأن الفلسفة والإلحاد وجهان لعملة واحدة “فمن ينشر الحكمة الفلسفية لن يكون إلا ملحداً بالضرورة” وفي هذا الكلام يقول الكاتب محاولةٌ للتضليلِ والتلاعب بالعقول، لأن معظم الفلاسفة كانوا معارضين للقشور والمظاهر الاستعراضية في الدين وتطويعه لمآرب شخصية، ومحاولات توظيفه كغطاءٍ للأنظمة السياسة.

هكذا يُظهرُ الكاتب الفلسفة بجوهرها الذي لا يعدُ بعالمٍ خالٍ من الأزمات، وتسودهُ تطلعات الإنسان الساعي إلى السعادة، بل إن دورها في الخروج بالعقل من منطقة الكسل. ويكون ذلك حين تغادرُ الفلسفةُ برجَهَا العاجي، وتستعيدُ روحها السقراطية. حينها تمسي شأناً حياتياً، قبل أن تكون مفاهيم مجردة أو فعلاً يخص النخب. هكذا تكتسب الفلسفة قيمتها؛ عندما تفتح الطريق للتأمل، وتستوحي الحكمة من معطيات الواقع، وحركة الزمن، وتحمي العقول من البلادة والوهم. ولا يتوقف الكاتب عند علاقة الفلسفة بالفكر والواقع، بل يتعداه لدراسة علاقتها بالفن، وعلاقة الفن بالواقع من جهة أخرى، فالفن يبلغ مدى أكثر عمقاً بكثير من تلك التي تبلغها الفلسفة بفضل المخيلة الفعالة؛ ويُدرِجُ في سبيل ذلك أمثلة؛ كروايات سارتر مع شريكته دي بوفوار، ويعدها نموذجاً حياً للصوت الوجودي الذي يُكسب العمل الفني صلابته، أما تلك القيمة النفعية والأداتية؛ فهي تفسدُ الروحَ في العمل الإبداعي، وتغرقُ الكاتبَ في وهم تغيير المجتمع. لذا لا يمكن أن تكون الفلسفةُ بديلاً عن الأدب، ولا يصح العكس أيضاً، بل يتقاطعُ كلاهما في الرغبة بالخروج بالإنسان من ضيق الاهتمامات المادية نحو رحابة التفكيرِ وتذوقِ الافتراضات في المخيلة.

المصدر: ميدل تيست

“الادب بين الايجابيه والسلبية”

حنين العصيمي

**”الأدب بين الإيجابية والسلبية”**

في اختيارك للكتب والأفلام التي تتابعها، هل تفضل اختيار الكتب المأساوية، السوداوية، ذات النهايات الدرامية الحزينة، أو الأفلام المليئة بالمعاناة والدموع؟ هل تفضل رؤية شرور الدنيا المتجسدة بالخيانة، الغدر، الكراهية، الفقر، الجوع، الظلم، الانكسارات العاطفية، وقصص الغرام المستحيلة، الفراق، الموت، القهر، وغيرها من المآسي الأخرى… أعني ، أليس الواقع مليئًا بكل ذلك أصلًا؟

نظرة واحدة على الواقع اليوم وستجد كل ذلك وأكثر… ملايين الضحايا، ملايين الفقراء، ملايين المحطمين مع اختلاف الأسباب…
والقصص التي ترتعد لها فرائصك وتكون بمثابة مادة خام لصنع أكثر الأفلام رعبًا وحزنًا…
بل والأسوأ أنها حقيقية تمامًا وخالية من ادعاء الممثلين، وصنع الكاميرات، وألوان المساحيق، وتهذيب وزخرفة الحروف…
بل إن أبطالها أشخاص حقيقيون من لحم ودم تعرفهم أو قابلتهم أو سمعت عنهم من مصادر مختلفة… بل وربما تكون قصتك أنت.

في إحدى النوادي الأدبية التي حضرتها،
وفي نقاش مع الزملاء ، ذكر أحدهم أنه يفضل الكتب التي تجعله يصطدم بالواقع! وفي حقيقة الأمر، بلى، خاصةً إذا كان هذا الواقع يستحق تسليط الضوء عليه، أو كانت قضية مأساوية منسية تستحق الطرح…
والأمر سيان بالنسبة للأفلام السينمائي الخ ..

لكن إن كان الواقع يميل إلى السوداوية، والكتب وغيرها من الفنون المختلفة سوداوية أيضًا، فأين المفر؟ أليس من واجب الأدب والفن بأنواعه أن يكون المهرب والملاذ الآمن الذي ينتشلنا من رمادية العالم، من همومنا اليومية ومسائلنا الشائكة؟ أليس من المفترض أن يكون هو المخرج السري الخاص بنا، الذي يجعلنا ندخل عالمًا أقل ظلمة، ويجعلنا نصدق بأن العوض موجود، وأن النهايات السعيدة من نصيب الأشخاص الطيبين الذين ناضلوا على مدار الأحداث، وأن الحبيبين يلتقيان في آخر القصة لأن الحب دائمًا ينتصر، أو أن الجائع سيشبع لا محالة ما دام يعمل ويأمل، وأن الحزن لا يدوم، والفرح يتجدد ليشمل العالم أجمع، وحبل الكذب قصير يلتف على رقبة صاحبه ويخنقه في النهاية، والأشرار الظلمة لا يصفق لهم، بل يتم نبذهم واحتقارهم، أما عن نهايتهم فهي قاسية وعادلة كفاية، لأن القدر يتربص بهم وبأعمالهم، فظلمهم يتبعهم مهما طال الزمن أو قصر…

ألن يولد هذا شيئًا من الأمل أو بريق الأمل في نفس القارئ… ذلك الأمل الذي نهرب إليه ونستظل بظله.. ونستأنس بوجوده .

– حنين العصيمي

وفِي شدائد الأفكار هزائم الأفعال

نوره بابعير

وفِي شدائد الأفكار هزائم الأفعال

ربّما فاصلة تُصنع الغرابة في كل شيء لكنها تقود السّير على قوة جسورها ، تفرّق الفَهْم بين المبدأين ، هناك من يُنهي الفهم وأخر يبتدأ مع تلك النهاية التي تمثلت فيها كل الأشياء على أنها في أطراف فهمها ، لكن تشبثت في حقائق تكاثرت من منابت وحيها .

الفَهْم وحدهُ من يفسر المعنى المخبأة في جدار الكلمات و تلامس العقل على مَدَى انتقائها ، تلك التساؤلات التي تطرح من العقل لم تكن كافية ليدرك الإنسان أن على شرفة الفهم أحيانًا الأجوبة تضع الفاضلة الحقيقية بين كل سؤال و اخر ، تبين المستوى المخزون من وعي الإنسان ثم تشكلك في نضج عميق يوهبك الإنتباه و تنبؤات لتستطيع أن تقف أمام موقفك بوضوح .

التأني الذي يجتاح العقل و يملأ عليه السكون هو البصيرة التي يحتاج إليها كل إنسان ويظن أن أعتمد عليها من خلال العين ، لا أدري ربّما عين القلب أقوى لترى ما يحجب عن النظر نفسه ؟

الانشغالات التي تصيب العقل قد تجعله خاليًا من الإنتباه فيبقى في انغماس لا يمثل حقائق الوعي بقدر خدائعة ، لأبد من الفصل و تفعيله للعقل ، حتى يتمكن العقل من أحياء وعيهُ ، النجاة التي يبحث عنه كل إنسان هو دافع العقل الناضج ، قد يرغب في النضج لكنه متجردا منه لا يعرف كيف السبيل إليه ، يرى أنه ناضجًا ولكن من الداخل يعرف النقص الذي لم يغطيهُ ذاك النضج حتى يصبح شامخًا ، الفواصل هي تشبة المراحل كلما أيقنت أنك تفهم زادت عليك المفاهيم من غيرها ، وتشعرك بالاستيعاب الواعي دون الفراغ ، القوة التي تستطيع أن تكونها ، هي الذّات التي تمتلكها ، الاستثمار بالذّات نجاة دائم يجعلك تقفز دون مخاوفًا من المساحات التي سرت عليها أو سوف تقف أمامها ، تؤمن بأن العقل الذي يحتوي النضج هو عميق بما يفهم ويفسر و يحلل الاشياء على رغباتها ثم يلامس الرغبة التي يتحقق من خلالها نجاحه ، التعامل مسألة أخرى تبين لك القيمة من ذلك الأثر ، لكنها بينك وبيّن ذاتك تجعلك أكثر دقة فيما تفكر ، تلك الأفكار الصاخبة تعطيك الأفكار الراكدة ، وبين الركود و الصخب غزارة وعيا شاق لكنهُ اثلج الشعور في انفعالات موقفه ، يبقى متوازيا لا يملك الاحتراق الذي يفسد كل شيء ولا يملك البرود الذي يبهت الأشياء كلما وقع يجد أنه حكيم نفسه لا شيء ياخذه منه سوى إرادته فيما يرغب .

أحفظ مسافة عقلك مع الاشياء حتى تستطيع أن تنجو من الفوضى ، من الثرثرة الفارغة بلا وعي ، من الزوائد الخالية منك ، من قلة الفرص ، وأتساع القبول ، من دهشة الأفكار ، واتزان الأفعال .

نظرية السيارة الحمراء

سارة العتيبي

في موسوعةِ الخيال تخيَّل بأنك تقودُ السيارة متوجهاً الى العمل، وتم سؤالك كم عدد السيارات الحمراء التي رأيتها اليوم في الطريق ؟
من المحتمل .. لن تعرف الإجابة؛ لأنَّك لم تبحث عنها بمُبالاة ولم تُعرها اهتماماً.
ولكن ماذا لو تم اخبارُك قبل أن تقود سيارتك الى العمل بأنّ تلاحظ عدد السيارات الحمراء في طريقك ؟
وبالمقابل على كل سيارة حمراء تجدها ستحصل على 100 دولار نقداً، ستلاحظ نفسك بدأت بالبحث عن سياراتٍ حمراء تلقائيًا وبوعيٍ تام وبتركيزٍ أكبر، وسوف تبدأ بملاحظة سياراتٍ حمراء موجودة في كل مكان وسيصبح عقلك اكثر وعياً بها، وبذلك ستبدو السيارات الحمراء وكأنَّها تتكاثر بينما هي في الواقع عكس ذلك.
نظرية السيارة الحمراء (Red car Theory) هي نظرية تشير إلى آلية إدراك الفرص المحيطة وملخصها أن إدراك الأفراد للفرص المحيطة بهم يتأثر بما يختارون التركيز عليه من أهداف، وعليه سيشعرُ الفرد كما لو أن الفرص زادت من حوله بعد أن ركز على هدف معين.
آلية تطبيق نظرية السيارة الحمراء:
يمكن الاستفادة من نظرية السيارة الحمراء في تحقيق إنجازات عديدة على الصعيدين الشخصي والمهني، ويمكن تطبيقها من خلال برمجة الدماغ على التفكير بالطريقة الآتية : التركيز على الهدف المراد تحقيقه وإمداد العقل بالكلمات المفتاحية التي تساعد على ذلك، – وبناء تصور عقلي يركز على النتيجة المراد تحقيقها من الحصول على الفرص، والمثابرة في التركيز على الأهداف المرجوة، وتوسيع الوعي بالفرص المحيطة.
• عندما تسيرُ في الحياة وأنت غير واعي بما يدورُ حولك، ستمرُ الحظوظ والفرص وانت لم تعرها اهتماماً قط، إنَّ كلُ شيءٍ يمكن تحويلهُ الى فرصة!. كُن أكثر وعياً واستمِر في البحث.

يا ترى كم سيارة حمراء ستلاحظها اليوم؟

العلم نورٌ وضّاء

أ.بشاير خالد الصفران

العلم نورٌ وضّاء
الكاتبة: أ.بشاير خالد الصفران

تتجلى حكمةُ الانسان بمدى ادراكه بمستويات الاحداث، فالإنسان الحكيم هو انسان مُتزن انفعالياً وعاطفياً وهو ايضاً ناضج فكرياً ومعرفياً، وصفة الحكمة هي هبة من الله يؤتيها من يشاء من عباده، فنسأل الله باسمه الحكيم ان يؤتينا الحكمة التي من اوتيها فقد اوتي خيراً كثيرا، فعندما اتأمل بتفاصيل هذه الصفة الذهبية اشعر وكأنني ابحرت نحو عالم واسع من الجَمال، فالإنسان الحكيم يُحجم الأمور بما يُناسبها من مقياس فهو لا يعير اهتمامه لتوافه الأمور، لأنه على فقه ان وقته ثمين ولا توجد لديه مساحة لتوافه الأمور ان تأخذ حيّزاً من حياته، فالإنسان الحكيم عالياً بعقلانيتهِ ورَشاده، مُحلقاً نحو آفاق العلم الرصين، والثبات هو اجزى ما يستوطن مُهجته، ويتمتع بسمو ذكاءه الاجتماعي وزهو احتوائه للمواقف بكل حنكة وفن، والعلم نورٌ وضّاء يُضيء المَدارك ويرتقي بها لأقصى سلالم المعرفة والفِكر السديد، والغنى هو غنى النفس وملؤها بما ينفعها من علم ومعرفة وتهذيب للذات، وغنيمة القناعة والرضى التي تُعلينا طمأنينةً وسلاماً داخلياً، ودقة اختيار الحروف والكلمات في حواراتنا وانتقاء الانقى والارقى كي تبقى مخلدةً في العقلِ والقلب. ما أجمل أن يُعز الانسان نفسه بالعلم والتعلم وما ألطف أن تكون نظرته لتفاصيل الحياة إيجابية وفؤاده مُشبعاً بالتفاؤل والتلألؤ السامي، منعماً بالرحمة وتفاصيلها الحنونة التي تشبه علو الغيمة البيضاء في سِعه السماء الزرقاء حيث ان الرحمة حياة ومن يتحلى بها فقد حَيا، فجمال الرحمة تطغى على روح الانسان بهاءً وجاذبيةً بقلبٍ مشع بألوان الحنية التي لها رونقاً فريداً وتأثيراً واسعاً تتمركز في لُب الانسان كإشراقة الشمس المتجلية التي تعلو لتلون دُنيانا بأشعتها البراقة، وبألطاف نسيم الندى المنعش الذي يسمو بنا لنرتقي كفراشةٍ بأجنحةٍ زاهيةٍ وبروعة ألوانها الملفتة وحُسنها، العلم خيرٌ من الجهل، فالعلم نور للعقل وتاجٌ مرصع بالمجوهرات الفكرية والمعرفية الشامخة، أما الجهل على عكس ذلك تماماً فهو يقود بك للانغماس بالتوافه والغرق في بحر هائجٌ ومُعتم، العلم والتعلم رِفعة وعِزة للعقل البشري، تبّصر ذاتك جيداً أيها الانسان، وأكرمها بما يليق بها من علم ومعرفة وجَمال، فالجمال مكنون بالعقلِ والمنطق فإذا ارتقى العقل ونضج نقى اللسان وسَما، وأعلم أيها الانسان أن الله لا يكلف نفساً إلا بقدر استطاعتها وتحملها لأنه أعلم بك سبحانه من نفسك ويعلم ما تستطيع أن تتجاوزه كي تكتسب العبرة والقيمة المستفادة من الحياة.

غازي القصيبي ” سيرة لا تنسى في حقائب الأدب “

نوره بابعير

هناك شخصيات تحفر لنفسها البقاء القيم حتى من بعد رحيلها تجعل من أفعالها دور في تفعيل الآخرين لم أجد شيئًا يثير الدهشة مثل الأديب غازي القصيبي كانت الأيام تصور كل تعاملاته الحقيقية مع الحياة مع تلك المناصب الذي كان يتحول معها في كل مرة يصنع الآمل في مساحاتها ليوقظ الإنجاز على أكتاف غيره ، كان متنبهًا في تهذيب ذاته متألقا فيَ ارتقاء الرُّوح واللين ، ممتلئًا بالحياة الشغوفة إتجاه إنجازاته و خبرته العملية و الثقافية ، يرى أن الثقافة هي المحرك الأول في تغيير إعداد داخل الإنسان ثمّ ذلك الفعل يرتب العقل نحو صواب منطقيته ، لم يقف عند عتبه واحده ولا يهمل كل خبرة معقدة ، كان يرى الحق في المشاء وينسجم مع المتاهات حتى يخلق الضوء بنفسهُ ، و يروي الحكايات ليغيره و يلبس ثوب الحكمةً من مأزق مواقفه ويتحلى بالنضج من تجارب فعلهُ .

كان متوازياً في الفكر العملي خلق الإدارة في الإرادة و اللين في العاطفة ، كان يسعى في النهار منجزاً و كان يغني في المساءُ شعرهُ ، اجمع بين عقلاً ناضج و قلباً شاعرًا، تلك السطور الذي بقيت أثارها فوق صفحاتهُ حملت إلينا كل المتاعب الذي مال فيها و انتصبت به و تلك القراءات التي كان يتحدث عن وعيها ظلت تنمو مع اتزان رؤيته فيها ، وتلك اللقاءات التلفزيونية التي كانت تأخذ من اقوالهُ البساطة في الحوار و العمق في الجواب كلها كانت تأخذ بأيدينا إلى تغيراً جذريًا يصقل فينا المعرفة التي تملأ علينا فراغ عقولنا منها ، وتجعل من الهزائم التي نقع فيها دافعًا قوي يؤهلنا إلى قفزات غيرها .

كان شاعرًا يصنعُ من الكلمات جمالها و من الإلقاء أثراً علَى مسامعنا ، وحينما تغيب عنا لم يغيب بل ظل رفيقاً للأشياء المحفورة به في الأدب والعمل الإداري ، أصبحت الإدارة ترتبط باسم غازي القصيبي وكأنه يبلل الأشياء بمفهومًا بدا منه واتسع باجتهاد زائره ، لم يكن قاسيًا بل كان يحاول إن يفهم الأشياء بمعانيها لا بمعتقداتها المرتكزة على مخيلاتها، تعلم ليتمكن من ثمار نفسهُ و حينما أثمرت ارضهُ كان يشارك النَّاس خير علمهُ و رقي فعلهُ و انتقاءه فكرهُ وتعاملهُ مع الآخرين و الحياة بما تحملهُ من حكايات البهاء و بقايات الإبداع و نهايات موثرة و قناعات واعية .

الأديب غازي القصيبي ، شخصية مبدعة لم يكن قاصدًا في حديث عنه كانت الأشياء كلها تتحدث عنه تخبر القارئ عن مدى الأفكار التي ترافق الكتابة الذي كان يمارسها ، و عن الإشعار التي أزهرت على مشاعرهُ فكأن أهلاً لها ، أبرز لنفسه المكانة القيمة وإلى الآن تحمل في داخلها حكاية الأيام و صقل الخبراء و صناعة المهن و الإنجازات .