فلسفة كائن في منتصف الحكاية

نوره بابعير

ليس ثمة ما هو أكثر إرباكًا من أن تجد نفسك كائنًا في منتصف الحكاية. لا أول السطر لك، ولا خاتمته بيدك. أنت هنا، في الصفحة الممزقة بين الماضي والمجهول، تقف وحيدًا على جسر هشّ، لا تدري أهو طريق، أم مجرد فاصل زمني بين فقدين.

في منتصف الحكاية، لا يصفق أحد. لا الأبطال منتصرون، ولا الضحايا بوضوحهم متعاطف معهم. في هذا المنتصف، أنت لا تزال حيًّا بما يكفي لتحلم، لكنك مُتعب بما يكفي لتخاف من الحلم.
كأنك سطرٌ نسي الكاتب أن ينهيه.

الذين وُجدوا في البدايات، عاشوا دفءَ الفكرة الأولى، بهجة الاكتشاف، طفولة اللغة، انبهار العين بالبدايات.
أما الذين سينتهون في الخاتمة، فسيحملون لذّة الخلاص، ووضوح الغاية، وخفّة الختام.
لكن ماذا عن الكائن في المنتصف؟
ذلك الذي لا يتذكر متى بدأ، ولا يعرف إلى أين يسير، ولا لماذا لم يرحل بعد.

أنا كائن في منتصف الحكاية.

لي وجوه كثيرة، وأسماء سقطت سهوا من دفاتر الأيام. لا أملك صورة البداية، ولا حق المراجعة. كل ما لديّ، هو هذه اللحظة، بما تحمل من أسئلة عالقة، وبقايا لم تُفهم بعد.

في منتصف الحكاية، يصبح الإنسان في مواجهةٍ مع ذاته، دون أن ياخذ دور البطولة أو أقنعة الانكسار.
لا مكان هنا للبطولات الدرامية ولا للانهيارات المدوية. هناك فقط تلك التفاصيل الصغيرة التي تقتلك ببطء:
نظرة لم تفهمها، و صمتٌ طال أكثر من اللازم، كتاب لم تُنهه، مقعد فارغ ظلّ ينتظرك، وندم ثقيل لا يعرف اسمه.

في هذا المنتصف الرمادي، لا أحد يصفق لك لأنك استيقظت من سريرك رغم أن قلبك لم يخرج من ليله، لا أحد يحتفل بكونك لا تزال تقرأ، رغم أن بصيرتك قد تعبت.
لكنك، رغم كل شيء، لا تزال تمشي.

المنتصف هو فلسفة وجودية في حد ذاته.

هو سؤال: “من أنا الآن؟”بعد أن فقدت ما كنتَه، وقبل أن تُصبح ما ستكونه.
المنتصف هو لحظة النظر في المرآة دون توقع، أن تلمح وجهك الحقيقي، العاري من محاولات التجميل، والناجي من تعاريف الآخرين.
هو وقت إدراك أن الطريق لم يكن مستقيمًا، ولا معوجًا، بل كان أنت.

أعرف الآن لماذا يخشى الناس هذا الموضع من الحياة. لأن المنتصف لا يمنح إجابات. هو اختبار صامت للثبات، اختبارٌ للقدرة على العيش رغم اللايقين.

أن تكون في منتصف الحكاية، يعني أن تتقن فنّ الإصغاء إلى قلبك، وأنت لا تفهمه. أن تؤمن بشيءٍ ما، حتى وإن لم تُسمّه. أن تحبّ مسراتك المحركة لشعور سعادتك ، ليس لأنه الوقت المناسب، بل لأنك لا تملك إلا أن تُحب مسراتك الصغيرة حتى تكبر ، رغم ثقل الأشياء في بعض الأوقات .

في المنتصف، تعلّمت أن لا أنتظر الخاتمة لتمنحني معنىً، بل أن أزرع المعنى هنا، بين السطرين، بين تنهيدة وتنهيدة.
أصبحت أبحث عن المعجزة في التفاصيل: في ضحكةنقية ، في طعم الشاي، ورشفة قهوة ، في جملةٍ مكتوبة بصدق، في غيمةٍ تشبهني في مواقف إنسانية عابرة . أصبحت أكتفي بأن أعيش، لا كما تُروى القصص، بل كما تُعاش ببساطة، وبلا مجازفاتٍ مبهرة.

قد لا أكون البداية التي يُحتفى بها، ولا النهاية التي تُصفّق لها الجماهير. لكنني أنا، في منتصف الحكاية.
أصغي إلى الزمن،وأعيد ترتيب ملامحي، وأمشي، ولو تعثّرت.
أنا فصلٌ خامس، لا تعترف به الفصول الأربعة، لكن له نكهته، وظلاله، وسيرته التي لا تشبه سيرة أحد.

وأنت؟
أين أنت في حكايتك؟
هل ما زلت تكتب؟ أم علّقت القلم بانتظار شيء لا تعرفه؟
هل تُدرك أن المنتصف ليس مهلة مؤقتة، بل مساحة لتكون فيها إنسانًا كاملًا، حتى وإن كنت منقسمًا بين ما فات وما سيأتي؟

ربما الحكاية لم تكن يومًا عن البداية أو النهاية.
ربما كل ما يهم… هو هذا المنتصف.وانت بعد منتصفات حكايتك ؟

الحوارات , تُعلّمنا أن نكون بشرًا وأكثر إنصاتًا

نوره بابعير

يبقى الحوار هو المعبر الوحيد الذي يمكن أن يعبر من خلاله الإنسان من ذاته إلى الآخر. لكنه ليس مجرد تبادل للكلمات، بل هو مرآة تعكس عمق العقل الإنساني، وتقيس مدى نضجه وقدرته على الإنصات والفهم.

فالحوار، حين يكون نابعًا من عقلانية صادقة، يتحوّل من نقاش عقيم إلى رحلة كشفٍ متبادل، ومن معركة للانتصار إلى مساحة للاحتواء، ومن وسيلةٍ للإقناع إلى أداةٍ لاكتشاف الذات.

العقل لا يتحدث إلا إذا أُصغي له
يُولد الإنسان مزدحم بالرغبات والانفعالات، لكنه لا يُولد عقلانيًا. العقلانية تُكتسب، تُبنى ببطء، من خلال التجربة، الخيبة، السؤال، والانفتاح على الآخر. وعندما تتحقق هذه العقلانية، يصبح الحوار معها فعلًا وجوديًا، لا مجرد ممارسة اجتماعية.

الحوار بين العقول ليس حوار أفواهٍ وألسنة، بل هو لقاء بين رؤيتين للعالم. لقاء قد يكون ناعمًا ، وقد يكون عنيفًا كريحٍ تقتلع جذور الوهم من أعماق النفس. لكن في الحالتين، هو ضروري؛ لأننا، مهما ظننا أنفسنا مكتفين، نظل في حاجة إلى مرآة الآخر لنتأكد أننا ما زلنا نفكر… ما زلنا نُصغي.

بين منطقية العقل وشراهة القلب ..
الحوار لا ينشأ من العقل وحده، ولا من العاطفة وحدها، بل من التوازن بينهما. فالعقل الذي لا يعرف الرحمة، يتحول إلى آلة جافة، تقطع ولا توصل، تحكم ولا تفهم. والعاطفة التي بلا عقل، تهيم في الانفعالات، تصرخ ولا تُقنع، تحب وتكره بلا سبب.

وهنا تتجلى أهمية الحوار العقلاني: أن تُبقي قلبك حاضرًا دون أن تسمح له بأن يغرقك، وأن تُشغل عقلك دون أن تجعله سيفًا على رقبة الآخر. هو أشبه برقصةٍ بين كائنين، كل منهما يحمل ضوءًا وظلًا، ولا يتم اللقاء إلا إذا اتفقا على الإيقاع.

متى يتحول الحوار إلى صراع؟
عندما يفقد الحوار روحه العقلانية، ينحرف عن مساره ويتحوّل إلى حلبةٍ للصراع، لا أحد فيها منتصر. يحدث ذلك عندما يُقحم الإنسان الأنا في موضع الفكرة، فيغدو الدفاع عن الرأي معركة وجود، لا بحثًا عن حقيقة.

حينها لا يعود المهم “ما يُقال”، بل “من قاله” ويُغيب المنطق ليُستبدل بالتأويل المغرض، ويُستبعد الفهم لحساب التشكيك، ويُستبدل السؤال بالاتهام، والمقاربة بالخصومة.

العقلانية: ليست حيادًا بل التزام

قد يظن البعض أن الحوار العقلاني يعني البرود، أو عدم الانحياز، لكن الحقيقة أن العقلانية موقف. أن تتحاور بعقلانية يعني أن تُنصت حقًا، لا لترد، بل لتفهم. أن تزن الكلمات لا بمشاعرك فقط، بل بما تحمله من معنى ومغزى. أن تراجع نفسك إن أخطأت، وأن تعترف بأن رأيك قابل للتبديل.
الحوار العقلاني ليس ضعفًا، بل شجاعة. أن تصمت حين يجب، وتتحدث حين يلزم، لا لترتفع فوق الآخر، بل لتلتقي معه على أرضٍ واحدة، فيها من النور ما يكفي لكلاهما أن تبصرا.

في عالم يفتقر إلى الإصغاء

لقد أصبحت البشرية اليوم . الجميع يتحدث، القليل من يُنصت، وأقل القليل من يفكر بصدق. نعيش زمن “الردود السريعة” و”الحجج الجاهزة”، حيث يُختزل الحوار إلى جملةٍ مقتطعة، وتُلغى الاختلافات بانقطاع التواصل .

لكن في عمق هذا الضجيج، تظل العقلانية ضوءًا نادرًا، والحوار الصادق واحة للراحة وسط صحراء. لأن الحوار العقلاني لا يسعى للغلبة، بل للتقارب. لا يُطلق الأحكام، بل يطرح الأسئلة. لا يُقصي المختلف، بل يستدعيه إلى طاولة التفكير.

الحوار الذي نحتاجه
نحتاج اليوم إلى إعادة اكتشاف الحوار كقيمة، لا كأداة. أن نُعيد تدريب عقولنا على التفكير لا التصنيف، وعلى السؤال لا الافتراض. أن نُصغي، لا لأننا نُخطئ، بل لأننا نُريد أن نُصيب. فالحوار بين عقلانيات البشر هو جسرٌ هشّ، لكنه قادر، إن أُقيم بنيّةٍ صادقة، أن يصل ما تقطّع، وأن يُضيء ما اعتُبر ظلامًا، وأن يجعل من اختلافنا مصدرًا للثراء لا مدعاة للعداء. و تظل أعظم الحوارات هي تلك التي لا تترك فينا إجابات، بل توقظ فينا أسئلة جديدة… وتُعلّمنا أن نكون بشرًا، أكثر إنصاتًا، أكثر تفكيرًا، وأكثر تواضعًا أمام اتساع العقل الإنساني

“سر القبعة الطويلة: لماذا يعلو رأس الطاهي بهذا الشكل؟

نوره بابعير

في أروقة المطابخ، حيث تنبعث رائحة البهارات وتتمازج الأصوات بين تقطيع وسلق وقلي، يبرز رجل أو امرأة بقبعةٍ بيضاء، شاهقة، كأنها منارةٌ في بحرٍ يغلي. قبعة الطباخ ليست مجرد غطاء للرأس، بل هي رمز، تاريخ، وقصة طويلة من الانضباط والفن.

قد يتساءل البعض: لماذا هذه القبعة الطويلة؟ لماذا لا يكتفي الطباخ بقبعة صغيرة أو قطعة قماش تلفُّ رأسه فحسب؟
الإجابة تتعدى الوظيفة، وتكمن في الطبقات العميقة من الاحترام والتقدير لهذا الفن المتقن. فالقبعة وُلدت قبل قرون، يوم كان المطبخ مملكةً خفية، لا يدخله إلا الماهرون في لذة الطبخ.

الطول في قبعة الطباخ كان، عبر الزمن، علامةً على الرتبة. كلما علت القبعة، علت معها مكانة مرتديها. أما تلك الثنيات البيضاء التي تتراكم حولها كأمواج هادئة، فهي لم توضع عبثاً؛ بل يقال إن عددها كان يُمثل عدد الوصفات التي يتقنها الشيف، خصوصاً طرق طهي البيض، رمز البساطة والابتكار في آن.

لكن، لو تأملناها من زاوية أخرى، قد نجد في طول القبعة شموخاً يشبه شموخ الحرفيين، أولئك الذين يهبون حياتهم لإتقان صنعةٍ لا تُرى عظمتها إلا حين تتذوقها. إنها قبعة ترفع الرأس لا غروراً، بل فخراً بالتفاني، بالدقة، بالإبداع.

في عالم سريع، تتساقط فيه المعاني أمام العجلة، ما زالت قبعة الطباخ تقف، طويلةً، بيضاء، نقية. تذكرنا بأن الجمال يكمن في التفاصيل، وأن الفن لا يحتاج دوماً إلى فرشاة، بل أحياناً، إلى ملعقة… وإلى قبعة عالية، تحرس سرّ النكهة .

لم اكتف بما اكتب عن حكاية القبعة لدى الطباخ كنت اتساءل من أول شخص ارتداء القبعة حتى تشكلت علامة بارزة لدى الطباخين؟ أول من ارتدى قبعة الطباخ قبعة الشيف المعروفة و يُعتقد أنه الشيف الفرنسي الشهير ماري أنطوان كاريْم (Marie-Antoine Carême) في أوائل القرن التاسع عشر.

كاريْم كان من أوائل من نظموا قواعد الطبخ الفرنسي، ويُنسب إليه إدخال القبعة الطويلة البيضاء كرمز للنظافة والاحتراف في المطبخ. و كانت تختلف أطوال القبعات حسب رتبة الشيف في المطبخ، فكلما زادت خبرته، زاد طول قبعته.

أما من حيث الأصل التاريخي لفكرة قبعة الطهاة، فبعض الروايات وجدت أنها ترجعها إلى العصور الوسطى، حين كان الطهاة في البلاط الملكي يرتدون قبعات تميزهم، لكن كاريْم هو من رسّخ شكلها المعروف حالياً .

كيف كانت ردة فعل الآخرين تجاه قبعة الطباخ؟

عندما بدأ استخدام قبعة الطباخ في المطابخ الاحترافية، لم يكن الأمر مجرد تغيير في الزي، بل كان خطوة نحو ترسيخ الانضباط والنظام والاحترافية في بيئة العمل. في البداية، ربما لاقت الفكرة شيئًا من الغرابة أو الاستغراب، خاصة وأن ارتداء القبعة لم يكن شائعًا في بيئات الطهي التقليدية.

لكن سرعان ما بدأ العاملون في المطبخ، وكذلك الجمهور، بتقدير هذا العنصر الجديد. فقد كانت القبعة رمزًا للنظافة أولًا، حيث تمنع تساقط الشعر في الطعام، ورمزًا للمكانة ثانيًا، إذ إن طول القبعة كان يميز مكانة الطاهي وخبرته.

لقد تقبّل زملاء المهنة في المطابخ لهذه الفكرة و جاء مع الوقت فرض الطاهي الشهير “ماري أنطوان كاريم” هذا الزي كعلامة مهنية تدل على الهيبة والترتيب. و أما بالنسبة للجمهور، فوجدوا في هذا الزي ما يعكس الجدية والاحترام للمهنة، وسرعان ما أصبحت قبعة الطباخ من العلامات البصرية المرتبطة بالطهي الاحترافي. وهكذا، من كونها مجرد قطعة قماش على الرأس، أصبحت قبعة الطباخ رمزًا عالميًا، يحمل في طياته تاريخًا من التقاليد والانضباط، ويُعرف به أصحاب هذه المهنة أينما كانوا

فن الإنتباه للجمال

نوره بابعير

في زحمة الحياة، وانشغالاتها المتكررة، يضيع منا شيء ثمين لا يُقدّر بثمن: الإنتباه للجمال. ذلك الفن الرقيق الذي لا يُدرّس في المدارس، ولا يُلقَّن في المحاضرات، بل ينبت في أرواحنا كزهرة تحتاج إلى عين تلاحظها، وقلب يحتضن حضورها.

الجمال ليس صفةً مقصورة على الملامح أو الألوان. الجمال روح. يتجسد في التفاصيل الصغيرة التي تمرّ بنا كل يوم، في ابتسامة عابرة من غريب، في انعكاس الشمس على زجاج نافذة، في كلمات تقال بصوت دافئ، في رائحة الخبز صباحاً، في انسجام النفس مع تفردها ، في صمت الغروب، حين ينسحب الضوء بهدوء كما لو كان يستأذننا للرحيل.

ولكن كيف ننتبه للجمال؟ الانتباه ليس فعلاً آلياً، بل هو يقظة داخلية. هو قرار بأن لا نمر مرور العابرين. أن نكون حاضرين بكامل حواسنا. أن نسمح لأنفسنا أن تتباطأ قليلاً لنلتقط اللمحات العابرة التي تشبه الومضات، لا تبقى طويلاً، لكنها توقظ فينا شيئاً قديماً وأصيلاً.

هناك جمال في اللغة، في الكلمة التي تلامسنا دون أن تطرق. هناك جمال في الفن، حين يحكي عنّا دون أن يعرفنا. هناك جمال في الألم حتى، حين يعلّمنا كيف نرقّ، كيف نفهم، كيف نصغي. الجمال في كل مكان، لكنه لا يُرى إلا بالانتباه.

في زمن السرعة، فقدنا قيمة التأمل. اعتدنا أن نُستهلك، لا أن نعيش. نركض خلف كل شيء، ونفقد كل شيء في الركض. لكن لحظة توقف واحدة، لحظة إنصات إلى نغمة عصفور، أو تأمل في ظل شجرة، قد تكون كافية لتعيد ترتيب أرواحنا من الداخل.

ربما لهذا السبب نجد أن أكثر الناس سعادة هم أولئك الذين يُتقنون فن الانتباه للجمال. لا لأن حياتهم مثالية، بل لأنهم يرون الجمال رغم كل شيء. يلاحظونه في الأماكن المنسية، في المواقف العادية، ويمنحونه أهمية تستحقها.

لنُربِّ أنفسنا على هذا الفن النبيل. لننظر بعيون مندهشة، كأننا نرى الأشياء لأول مرة. لنصادق الجمال حين يمرّ، ونشكره حين يبقى.
فالحياة، في جوهرها، لا تقاس بطولها، بل بلحظاتها الجميلة التي انتبهنا لها، وتركناها تنقش أثرها في قلوبنا.

منزل البروفيسور نُشرت في عالم أدبي ما بعد يوليسيس وهو عالم لم تعد كاثر تشعر أنها تنتمي إليه.

في مقدمة كتاب Not Under Forty، وهو مجموعة مقالات نشرتها ويلا كاثر عام 1936، كتبت (عن عمد أو غير عمد) عبارتها الشهيرة: “لقد انكسر العالم إلى نصفين في عام 1922 أو ما يقاربه”، وهي وجهة نظر أدت، في أقل تقدير، إلى فصلها عن صفوف الفنانين والكتّاب الذين يُطلق عليهم عادة “الحداثيون”.

ومع ذلك، يبدو هذا الحكم متسرعًا للغاية. فقد انشغل الباحثون بتتبع جذور الحداثة إلى أوائل القرن التاسع عشر، ولا يزال المعنى المقصود من “ما بعد” في مصطلح “ما بعد الحداثة” محل جدل. وكل محاولة جديدة لتحديد ملامح الحداثة لا تؤدي إلا إلى تعميق ضبابية حدودها، كما أن موقع كاثر ضمن هذا التيار يبقى — وربما عن قصد — غير واضح.

رواية منزل البروفيسور لـ كاثر نُشرت لأول مرة عام 1925، في عالم أدبي ما بعد يوليسيس (رواية جيمس جويس)، وهو عالم لم تعد كاثر تشعر أنها تنتمي إليه. وتتمحور الرواية إلى حد كبير حول شخصية جودفري سانت بيتر، مالك المنزل المذكور في العنوان، والذي يجد نفسه في مرحلة يصبح فيها عمله وزواجه وعائلته، بل وحتى بيتيه، في حالة من التغير المستمر. ويلجأ إلى الذكريات، وخصوصًا ما يتعلق منها بأحب طلابه، توم أوتلاند، كوسيلة للتأقلم، وهي الذكريات التي تشكل جزءًا أساسيًا من حركة الرواية.

في كتابه كل ما هو صلب يذوب في الهواء، يكتب مارشال بيرمان أن الحداثة هي “وحدة متناقضة، وحدة التفكك: إنها تصبنا جميعًا في دوامة من التحلل والتجدد المستمر، من الصراع والتناقض، من الغموض والعذاب. أن تكون حداثيًا، يعني أن تكون جزءًا من كون، كما قال ماركس، ‘يذوب فيه كل ما هو صلب في الهواء’”.

وتشارك رواية ويلا كاثر، مثلها مثل أي عمل آخر على جانبي “الانقسام” الذي يفترض أنها أحدثته، في هذا الغموض، وفي استكشاف تجربة ثقافية تتسم بالوحدة من خلال الانقسام — بانكسار شامل. وعلى الرغم من تصريح كاثر بأنها “عادت إلى الوراء سبعة آلاف سنة”، إلا أن رواية منزل البروفيسور تحمل سمات عصرها، وتحكي قصة رجل محطم بأسلوب يعكس انكسار الزمن نفسه. وتنقسم الرواية إلى ثلاثة أقسام غير متساوية: “العائلة”، “قصة توم أوتلاند”، و” البروفيسور”، ويعكس هذا البناء التوترات التي وصفها بيرمان باعتبارها جوهر الحداثة، والأسلوب الذي يُنسب كثيرًا إلى الأدب الحداثي.

يشعر الأفراد بعدم يقين الحداثة بشكل مكثف على المستوى الشخصي، إذ كان من أبرز ضحايا تفكك الحداثة ـ وربما أكثرها حزنًا ـ تلاشي مفهوم الهوية المتماسكة. وتتناول كاثر هذه المسائل بحساسية ودقة طوال الرواية، مستخدمة البروفيسور كشخصية تأملية لتُظهر استحالة الإحاطة الكاملة بأي فرد، حتى الذات.

تُعد إحدى تأملات سانت بيتر في أوتلاند مثالًًا جيدًا على تقنية الرواية: ففي ذكرى محددة، وبعد أن تناول توم الغداء مع الأستاذ وزوجته، التقى لأول مرة بابنتيه، إحداهن ستصبح لاحقًا خطيبته. وقدم لهما حجرين خام من الفيروز كهدية عفوية وسخية. حاولت الأم منعه من تقديم هدية ثمينة، لكن صوته “كان حزينًا وجذابًا لدرجة أنه لم يكن هناك ما يُقال”.

بعد أن حُسمت المسألة، يتفحص سانت بيتر كلًا من الأحجار وتوم نفسه، ويتذكر: للأسفل، ليس إلى الفيروز، بل إلى اليد التي تمسك بها: راحة اليد القوية المليئة بالخطوط، الأصابع الطويلة القوية ذات الأطراف الناعمة، الخنصر المستقيم، والإبهام المرن ذو الشكل الجميل الذي ينحني مبتعدًا عن بقية اليد كأنه سيد نفسه. هذا المقطع مثال كلاسيكي على أسلوب “الرؤية المزدوجة” في الأدب الحداثي: فكما يرى البروفيسور، يرى القارئ، وتُنقل ملاحظاته مباشرة إلى القارئ، لتسهيل إصدار حكم مشترك حول يد صاحبها. فاليد مثيرة للإعجاب من الناحية الشكلية: تبدأ براحة قوية، ثم أصابع طويلة ذات أطراف ناعمة — ما ينقذها من القسوة أو الفظاظة. الخنصر مستقيم — ما يشير إلى النمو السليم وربما النزاهة أو العقلانية. لكن الإبهام هو المثير حقًا، ليس فقط بسبب مرونته، بل بسبب وصفه بأنه “جميل الشكل”، ثم يتطور الوصف ليُشخَّص — يصبح كأنه كائن مستقل، سيد لنفسه، رمزًا لنبالة روحية.

ينتهي المشهد بصيحة من سانت بيتر: “يا لها من يد!” ويخزن الصورة في ذاكرته كواحدة من أعمق ذكرياته عن توم أوتلاند. “ما زال يراها، مع الحجارة الزرقاء تستقر فيها”. وهكذا، يصبح الجزء رمزًا للكل؛ ذاكرة اليد تختزل الرجل كله.

لكن هذه الرؤية النقية التي ينقلها الأستاذ للقارئ ليست إلا وهمًا. فالانقسام المألوف بين الواقع والنفسية يظهر هنا بوضوح: فالمعطيات تتعلق بتوم، لكن التفاعل النفسي ينتمي إلى الأستاذ. وكما يوضح مايكل ليفنسون في Genealogy of Modernism: “في المعارضة بين الحقيقة وعلم النفس، فإن الاهتمام الأعمق يكون بالجانب النفسي”.

سكوت ماكغريغور، الطالب السابق للأستاذ وزميل توم، يقول: “لم يعد توم واقعيًا بالنسبة لي. أحيانًا أشعر وكأنه مجرد… فكرة براقة”. لا يرد البروفيسور حينها، لكن التأمل في اليد يُظهر أنه هو الآخر بدأ يرى توم على هذا النحو — سلسلة من الأفكار اللامعة التي تُجسد الحدث والشخصية في آن.

وكما يشير جيمس ماكسفيلد، فإن صورة توم المفضلة لدى البروفيسور هي صورة الفرد الحر الوحيد في الهضبة، لا ذلك الملتزم اجتماعيًا. وفي الفصول الأخيرة، يحاول سانت بيتر أن يُسقط هذه الصورة المثالية على نفسه.

لكن الوصف المثالي لليد يكشف بدوره عن تحريف للواقع: فقد نشأ توم فقيرًا، عمل في المزارع، وعانى على الأرجح من قسوة الحياة اليدوية. ومع ذلك، فإن يديه في وصف الأستاذ خاليتان من الندوب، خاليتان من الخشونة أو الانتفاخ — بأطراف ناعمة، كما لو أنه لم يعمل يومًا.

وبذلك، تصبح اليد رمزًا لـ”وحدة التفكك” — تذوب الحدود بين توم والأستاذ، ويصبح الفرق بينهما شبه معدوم. ورغم أن كاثر قبلت بإقصائها من معسكر الحداثيين — أو ربما تأكيدًا على ذلك — فإن منزل الأستاذ تتعامل مع نفس القضايا التي شغلت الحداثيين “الرسميين”، وبأساليب مشابهة، ما يذكرنا بأن الحداثة ليست تصنيفًا يقينيًا ولا ثابتًا كما يُعتقد غالبًا.

يبقى انقسام كاثر مهمًا لبعض الباحثين، لكن رواياتها المتأخرة تشير إلى أن الانقسام الحقيقي — بين ما نسميه الحداثة وما سبقها — وقع قبل عام 1922، وأن جميع من يعيش على هذا الجانب من الخط، سواء اعتُبر “حداثيًا” أم لا، يحمل آثار هذا التمزق وأعباءه.

مأدبة الإنسان في عقله

نوره بابعير

في عالمنا الداخلي، لا تقتصر مأدبة الإنسان على ما يراه الآخرون أو ما يعبر عنه بالكلام، بل توجد مأدبة أعظم وأعقد تحدث داخل عقله هي مأدبة سرية، عميقة و عامرة بالضيوف المتنوعين: أفكاره، مشاعره، مخاوفه، أحلامه، وذاكرته التي لا تهدأ. هذه المأدبة هي ساحة صراع مستمر بين تناقضاته لمصدر كل تساؤل وتأمل، بل أحيانًا بين الإلهام والضياع نفسه .

المأدبة العقلية: ما هي؟

المأدبة العقلية ليست مجرد وصف ، بل هي صورة حية لتجربة الإنسان مع ذاته. هي لحظة جلوس متأمل، حين يواجه الإنسان ما في داخله من أفكار متناقضة، من مشاعر متداخلة، ومن رغبات متصارعة.
في هذه المأدبة، يجتمع العقل والمنطق مع الشك والشكوك، يجتمع الحلم مع الخوف، وتتناقض الذاكرة مع الحاضر. وهذا الاجتماع ليس بالضرورة سلمياً، لكنه ضروري لكي تتشكل رؤية الإنسان لنفسه وللعالم.
حينما وصفت المتواجدة بالذاكرة ضيوف لانها هي زوايا المأدبة: و في مأدبة العقل، كل ضيف له دوره مثل الخوف: هو الصوت الذي يحذر، لكنه أيضًا يمنع أحيانًا الإنسان من المجازفة. مثل الأمل: هو النور الخافت الذي يشعل رغبة الاستمرار رغم كل شيء. مثل الشك: هو الذي يعيد النظر في كل يقين، فلا شيء يبقى كما هو و الذاكرة :هي المرآة التي تعكس الماضي، وتحمله معنا في الحاضر.و الضمير: هو الصوت الداخلي الذي يراقب ويدعو إلى الصدق والعدل .

أما عن الحوار الداخلي وأثره على الإنسان فهذا العمق يأخذنا إلى التفاصيل نحو الفكرية و الانتاجية القائمة على هذه المأدبة .
حين يقرر الإنسان “الجلوس إلى المأدبة”، أي مواجهة هذه الأصوات المختلفة، يبدأ حوار داخلي عميق. هذا الحوار يساعده على فهم أعمق لذاته، وإدراك أبعاده المختلفة. إنه حوار لا يهدأ، لكنه يمنح الإنسان القدرة على اتخاذ قرارات واعية، وتشكيل معنى لحياته. تبني في تحديات مأدبة العقل اعلم أن ليست مأدبة العقل سهلة. فهي تتطلب شجاعة، لأن الإنسان غالبًا ما يهرب من مواجهة مخاوفه أو شكوكه. والانشغال اليومي هو طريقة للهروب من هذه المواجهة. لكن الهروب يولّد فراغًا أكبر، لأن المأدبة تستمر مهما غاب الإنسان عنها.

كيف نجلس إلى المأدبة حتى نجد ضالتنا ؟
الجلوس إلى مأدبة العقل لا تتطلب مكانًا خاصًا، لكنها تحتاج إلى وعي وتركيز. يمكن أن يكون في لحظة هدوء صباحي، أو أثناء نزهة في الطبيعة، أو حتى في لحظة تأمل عابرة. المهم هو الانتباه، الاستماع، والسماح للأصوات الداخلية بأن تُسمع حتّى تستطيع أن تنضج بك كما تستحق مَن التفاتك لها ، في النهاية مأدبة الإنسان في عقله هي رحلة لا تنتهي، وليست هدفًا أو لحظة تتجدد يوميًا، بل تدعونا إلى مواجهة أنفسنا بصدق، وإلى خلق معنى في وسط الفوضى. ومن خلال هذه المأدبة، أكثر وعياً، وأكثر قدرة على العيش بتوازن داخلي يليق بحياة متلائمة مع وعينا فيها .

اليوم العالمي للشاي ” في مديح الشاي وأهله “

نوره بابعير

في ركن من أركان العالم، هناك قرية صينية تعانق الضباب، أو هناك مقهى هادئ في قلب المدن ، أو حتى في المجلس العربي حيث يتعاقب الضيوف وتتلاحق الأحاديث، وُلدت لحظة من التأمل، ترافقها رائحة الشاي الصاعدة في بخارٍ دافئ، تحكي قصة واحدة: وهي قصة الإنسان مع كأسه المفضل من الشاي .

في الواحد والعشرين من مايو كل عام،يحتفي العالم باليوم العالمي للشاي، ذلك المشروب العتيق الذي لا يعرف الحدود، ولا يعترف بالاختلافات. لكن لماذا سُمِّي هذا اليوم بهذا الاسم؟ وما سر اختيار هذا التاريخ تحديدًا؟

من يقرأ التاريخ يعرف أن الشاي.. أكثر من مجرد مشروب

قد نعتقد أن الشاي مشروب بسيط يرافق الصباحات الكسولة أو الأجتماعات العائلية، لكن الحقيقة أن الشاي هو حكاية حضارات،وتاريخ من التجارة، والسياسة، والثقافة. من الصين مهده الأول، حيث استُخدم طبيًا قبل أن يتحول إلى مشروب يومي، إلى الهند وسريلانكا وكينيا، حيث تحوّل الشاي إلى اقتصادٍ قومي ومعيشة لأجيال كاملة هناك الكثير من الوثائقيات تتحدث عن حكاية الشاي بتفاصيل أنيقة تبرز قيمة الشاي من بداية المزارعين إلى للجنة المتذوقين به .

إن اليوم العالمي للشاي، الذي أقرّته الأمم المتحدة رسميًا في عام 2019، لم يُطلق من فراغ، بل كان تتويجًا لسنوات التي كانت تحتفل بشكل غير رسمي و الذي بدأته بعض الدول المنتجة للشاي منذ عام 2005. لذلك تم اختيار 21 مايو لما جاء متزامنًا مع فترة حصاد الشاي في أغلب البلدان المنتجة، وهي المرحلة الأهم في دورة حياة هذا المشروب، و كأن البشرية أرادت أن تقول: “لنحتفل ونحن نقطف أوراق الشاي ”

الشاي عدة حكايات لنخوض بينهما حتى نعرف عن مزاياه المتعددة بين الأصابع… و ورقة حياة .

ليست كل أوراق تُحكى، ولكن أوراق الشاي حكت كل شيء. ففي ورقة صغيرة خضراء، تختبئ آلاف القصص: قصة مزارعٍ ينهض مع الفجر ليقطفها بحنان، وقصة سيدةٍ تصبها في فنجان الضيف باهتمام، وقصة شاعرٍ يغمس فكره في دفئها ليكتب بيتًا جديدًا .

لماذا نحتفل؟

وجدت أننا نحتفل بيوم الشاي هو اعترافًا بملايين البشر الذين يقفون خلف هذه الصناعة، من مزارعين وعمال ومصدّرين، ونحتفل احترامًا للثقافات التي نسجت طقوسًا فريدة حول فنجان شاي، من جلسات “الشاي المغربي” بالنعناع، إلى “الشاي الإنجليزي” مع الحليب، إلى “الشاي العدني” الغني بالتوابل جميعها ثقافة بلدان و تاريخ وحضارة .
فيكون هذا اليوم للوقوف مع القيم من الجانب التجاري ومن حقوق المزارعين، وحماية البيئة، لأن زراعة الشاي ليست فقط زراعة مشروب، بل زراعة علاقة بين الإنسان والطبيعة، بين الرغبة والهدوء، بين الاحتياج والجمال المتعة التي تحقق من قبل هولاء المزارعين هي سبب في انتشار الشاي بشكل دائم دون انقطاع .

الشاي لا يقبل السطحية بل هو لغة لا حد لها .

الشاي لا يُشرب فقط، بل يُتحدث به. كل حضارة صنعت لغتها الخاصة مع هذا المشروب: في الصين هو طقس تأمل، وفي اليابان فلسفة “تشانويو”، وفي العالم العربي رفيق المجالس والأحاديث.

الشاي لا يُطلب أحيانًا، بل يُفهم حضوره من نظرة، من طقس، من ساعة معينة. من قال إن اللغات فقط تُكتب وتُلفظ؟ ثمة لغات تُرتشف بهدوء

و في اليوم العالمي للشاي، نستمتع بأكوابنا من الشاي لا للاحتفال بمشروب، بل لنتأمل كم من الأشياء الجميلة في هذا العالم تنمو في صمت، وتُقطف بحب، وتُقدّم بدفء. نشرب إذن، لا لمجرد الارتواء، بل لنتذكر أن في تفاصيل الأشياء الصغيرة، تكمن أعمق المعاني

أما عن الشاي في دول الخليج فهو طقس للضيافة
وذاكرة البيوت…

في دول الخليج لا يُقدَّم الشاي فقط لمجرد الضيافة، بل بيان ترحيب وعربون مودة، وامتداد لذاكرة قديمة نسجتها المجالس الشعبية كان الشاي يُعدّ على الجمر، في إبريق نحاسي، وترافقه رائحة الهيل أو أعواد النعناع .
ويعرف أن الشاي الخليجي لا يُشرب على عجل، بل يُصبّ بتأنٍ، ويتكرر صبّه بكرمٍ لا يعرف الانقطاع من المجالس بل هو البداية الرسمية لكل حكاية . ولا ننسى أن “الشاي العدني” الذي انتقل إلى الخليج عبر الموانئ، واستقرّ في القلوب قبل الأكواب بطعمه الغني بالحليب والزنجبيل والقرنفل، أصبح خيارًا يوميًا لعشّاق النكهات القوية. بينما يحتفظ “شاي الكرك” بمكانته في المقاهي الشعبية، ومع الوقت قد تحول من مشروب تقليدي إلى رمز عصري للهوية الخليجية الحديثة

أصبح الشاي في الخليج ليس فقط مشروبًا، بل ركيزة من ركائز التواصل الاجتماعي، وامتدادًا حيًا للضيافة العربية الأصيلة التي تبدأ بالترحيب وتنتهي بالودّ .

إلى الذين يشربون الشاي…
أنتم عشّاق الذوق، وأصحاب مزاج يعرف متى يهدأ، ومتى يصغي، ومتى يكتفي بكأس شاي لتستقيم أمامه الدنيا.فلكم التحية، أنتم لا تشربون الشاي فقط، أنتم تصنعون به لحظة سلام و رقياً في المقام .

الأدب قوة أخلاقية خفية

نوره بابعير

ربما يتساءل البعض: كيف يمكن لنص مكتوب أن يُهذّب السلوك أو يُقوّم الأخلاق؟ الجواب لا يكمن في المباشرة، بل في الأثر البطيء العميق، و الذي يتركه الأدب في القارئ. عندما نقرأ “الكتب ” نحن لا نحفظ قوانين العدالة، لكننا نحيا مع الصراع الداخلي ، ونفهم جميع السلوكيات حينها و كيف يمكن لرحمةٍ واحدة أن تغيّر مصير إنسان. الأدب لا يعظ، بل يعايش. لا يفرض القيم، بل يُجسّدها في الحكاية.

الأخلاق في الأدب لا تنبع من الخطابة، بل من الإحساس؛ من تلك اللحظة التي يقرا فيها القارئ وتربك أفكاره دون أن يعرف السبب تمامًا لكنها حركة في ساكن العقل شيئًا من وعيها ، أو حين يشعر بخجلٍ داخلي لموقفٍ قرأه في سطرٍ عابر. هذا الخجل، هذا التأثر، هو بداية التحول الأخلاقي الحقيقي؛ لأنه ينبع من الداخل، لا من الخوف أو العقوبة. يشعر القارئ بحاجة إلى تغيير سلوك معين اتجاه ما يقرأ.

لان الأدب يتحول أداة للوعي الذاتي و الوعي ليس مجرد إدراك لما يدور حولنا، بل هو بالأساس إدراك لأنفسنا في هذا العالم، لفعلنا، لوجودنا، لما نفكر فيه ولماذا. في هذا السياق، يأتي الأدب كمنبه حاد بارز لهذا الوعي. حين نقرأ رواية فلسفية، أو نصًا شعريًا عميقًا، فإننا لا نكتفي بتلقي المعنى، بل ننخرط في إعادة إنتاجه داخليًا. نطرح الأسئلة: ماذا كنت سأفعل لو كنت مكان هذا البطل؟ لماذا شعرت بهذا الألم عند قراءتي للمشهد؟ هل أنا بريء تمامًا من الأنانية التي أدانها الكاتب ؟ لماذا نقرأ الفلسفة ؟هل نحن نحتاج إلى المزيد من الوعي و النضج ؟ لماذا نقرأ الادب هلّ أخلاقنا تقف على نبتة القراءة ومع الوقت تصل إلى حد الإشباع الذاتي ؟

يمكن في الأدب، تتكسر مرايا التبرير، ويُجبر الإنسان على مواجهة ذاته، وجهًا لوجه. الروايات الكبرى لا تريح القارئ، بل تقلقه، لأن القلق هو عمق الوعي، ومن دونه نعيش على هامش الوجود، في أمان قراءة مزيفة .

الأدب يوسع المدارك الإنسانية في كل قراءة لأدب مختلف، نحن لا نقرأ شخصيات فقط، بل نطل على عوالم جديدة، نعيش حياة أخرى دون أن نغادر مقعدنا. نقرأ تولستوي فنفهم روسيا القديمة، نقرأ نجيب محفوظ فنشعر باجواء الحارات المصرية، نقرأ دوستويفسكي فنغرق في دهاليز النفس البشرية. هذا التعدد لا يجعلنا أكثر ثقافة فحسب، بل أكثر تسامحًا، أكثر فهمًا للاختلاف، أقل يقينًا، وأكثر إنصاتًا.

الأدب يوسع المدارك لأنّه يعلّمنا أن الحقيقة ليست واحدة، وأن الخير والشر ليسا أبيض وأسود، بل طيفٌ من المعاني والدوافع والتعقيدات. وهذه الرؤية المتعددة تخلق إنسانًا أكثر تعاطفًا، أقل تطرفًا، أعمق إنسانية.

قراءة الأدب تربية داخلية مستمرة ،إذا كانت التربية الأخلاقية التقليدية تبدأ من التوجيه الخارجي، فإن الأدب يشتغل على الضمير الفردي. إنه لا يلقّن، بل يوقظ. لا يفرض القيم، بل يجعل القارئ يكتشفها بنفسه، في تجربة داخلية، تتكرر كلما فتح صفحة جديدة زادت رغبته فيَ إكمالها.

يظل الأدب هو البئر العميق الذي نلجأ إليه لا لنشرب فقط، بل لنرى انعكاس أرواحنا في مائها الساكن. ومن يقرأ بصدق، لا يخرج كما دخل. لأن الأدب، في النهاية، لا يُقرأ، بل يُعاش .

الفلسفة فن يُمنح للأشياء معناها الحقيقي

نوره بابعير

تمر بنا الأشياء كما تمر الريح وتنثر الأشياء معها و لا نتوقف عندها، لا نسألها ولا تسألنا بل نستمر ، نأكل، نلبس، نُحب، نعمل، نحزن ونفرح، دون أن نتساءل: لماذا؟ كيف؟ وما المعنى؟ أما حين تتدخل الفلسفة، لا كعلمٍ للنخبة، بل كفن إنسانيّ عميق يُعيد إلينا قيمة الأشياء التي نسينا أن ننظر إليها بوعي. الفلسفة تفتح أعين القلب ، لا تُعطينا إجابات جاهزة، بل تفتح أعيننا على الأسئلة المنسية. لماذا نخاف ؟ لماذا نشعر بالأشياء في وسط الزحام؟ و ما معنى السعادة؟ و ما حدود الحرية الناضجة في الإنسان والعديد من تلك التساؤلات الواعية ؟

كل تلك المفاهيم، التي نمارسها دون تأمل، تُعيد الفلسفة صياغتها أمامنا، فتغدو الأشياء التي بدت عادية، محمّلة بالمعنى، ومفعمة بالدهشة. تصبح الفكرة طعامًا للروح، ويصبح التفكير حاجة لا تقل عن التنفس.

قيمة المعنى في عالم تحكمه السرعة، و السطحيات، وصناعة الصورة، تبرز الفلسفة كفعل مقاومة. تُعيد الاعتبار للباطن، للمغزى، لما هو خلف القشرة. الفلسفة لا ترفض المادة الناتجة عنها ، لكنها تسأل: ما وراءها؟

كوب شاي ، لحظة الصمت، كتاب عتيق، شروق أو غروب الشمس، كلها أشياء يومية، لكن الفلسفة تُعلّمنا أن ننظر إليها كمرآة للوجود. أن نتعمق في خطواتنا، لنفهم أن الأشياء الصغيرة قد تحمل أجوبة الأسئلة الكبرى.

الفلسفة تمنح الإنسان مرآة لذاته ، ما أثمن شيء في حياة الإنسان؟ هو ذاته. لكن الذات لا تُكتشف من الخارج، بل من الداخل. و تأتي الفلسفة، لا لتقول لنا من نكون، بل لتدفعنا اكتشاف ذلك بأنفسنا مجرد ما نفهم غاية الفلسفة في إحياءها لقيمة الأشياء تفتح لنا آفاق واسعة .

لذلك حين يتأمل الإنسان معنى وجوده، وحدود حريته، وغايته من الحياة، لا يعود مثل السابق ، بل يصبح عميق أكثر وعياً ، وهذا الوعي هو ما يجعل كل لحظة أكثر امتلاء، وكل علاقة أكثر صدقًا، وكل قرار أكثر مسؤولية. الفلسفة تُهذّب الرغبات وتُضيء وتقوي حواسنا اتجاه بعض الأشياء ، الفلسفة لا تقتل الشعور، بل تُهذّبه. تجعلنا نُحب بعمق، لا بتعلق. نرغب دون أن نستعبد. نفرح دون أن نُفرّط. نحزن دون أن ننهار. لأنها تُنير لنا طبيعة الإنسان، وتكشف كيف يكون التوازن فنًّا نابعًا من الفهم.

حين نفهم لماذا نرغب، ولماذا نغضب، ولماذا نُخطئ، نصبح أكثر تصالحًا مع ذواتنا. وحين نصبح كذلك، تصبح الحياة نفسها أكثر رحابة.

” الفلسفة لا تعزلنا عن الحياة.. بل تُعيدنا إليها أجمل مما كنا”

الفلسفة هي أدب وأسلوب الحياة، وضمير العقل، ولغة القلب حين يُريد أن يُفكّر. تعلّمنا أن لا شيء عابر. أن وراء كل تفصيل صغير حكمة، وأن الحياة، رغم صخبها، تستحق أن تُعاش بعينٍ متأملة، وعقل واعي متسائل، وقلب لا يكتفي عن البحث عن المعنى.

الأشياء تُقاس بثمنها، لذلك تُعيدنا الفلسفة إلى قيَمها. فتُعلّمنا أن القيمة لا تُشترى، بل تُدرك. وأن أجمل ما في الأشياء… هو ما لا يُرى بالعين، بل يُبصر بالعقل.

المهارات ثروة الإنسان التي لا تُرى

نوره بابعير

لم تعد الشهادات وحدها تكفي، ولم يعد الحفظ معيارًا للفهم، ولا الالتزام الآلي دليلًا على الكفاءة. ما تصنع الفرق اليوم، وتمنح الإنسان قيمة في عوالم العمل، والفكر، والإبداع، هي المهارات. هذه الطاقة الصامتة التي لا تُرى، لكنها تصنع أثرًا بالغًا في الحياة.

المهارة ليست مجرد “إتقان” لشيءٍ ما، بل هي نتيجة تفاعل طويل بين الفهم والتجربة، بين النظرية والممارسة، بين الرغبة الداخلية والتحديات الواقعية. إنها ما يبقى حين تختفي الوصفة الجاهزة، وحين يُترك الإنسان أمام الموقف الحقيقي، ليبتكر، ليحلّل، ليقرر.

من المعرفة إلى المهارة

الفرق بين من يعرف ومن يُتقن، يشبه الفرق بين من يقرأ عن السباحة، ومن ينجو من الغرق. المعرفة تفتح الباب، لكن المهارة تعلّمك كيف تمر عبره. وفي عالم تتقاطع فيه التقنيات، واللغات، والوظائف، تصبح المهارات هي اللغة العالمية الجديدة، التي يفهمها الجميع.

التعليم التقليدي، في كثير من الأحيان، يركّز على التلقين، على أن يعرف الطالب المعلومة، لا أن يتعامل معها. وهنا يأتي التحدي الحقيقي: كيف نحوّل المعلومة إلى قدرة؟ كيف نعلّم أبناءنا لا فقط ماذا يقولون، بل كيف يفكرون؟ كيف يبحثون؟ كيف يتخذون القرار؟

أنواع المهارات: خارطة العقل والعمل

المهارات تتنوّع مثلما تتنوع العقول. هناك المهارات الصلبة ، مثل البرمجة، التصميم، التحليل الإحصائي، الترجمة، وإدارة المشاريع. وهي مهارات يمكن قياسها، وتعلّمها غالبًا من خلال الدورات والممارسة المباشرة.

لكن الأعقد، والأكثر تأثيرًا، هي المهارات الناعمة مثل مهارات التواصل، الذكاء العاطفي، القدرة على العمل الجماعي، إدارة الوقت، حلّ المشكلات، التفكير النقدي، والمرونة النفسية. هذه المهارات لا تُعلّم في الكتب، بل تُكتسب عبر المواقف، وتُبنى مع التجربة، وتتأصل مع النضج.

المهارات ليست حكرًا على أحد

لا توجد مهارة تُولد معنا بالضرورة. كل مهارة يمكن تعلّمها، وتطويرها. الفرق بين من يمتلكها ومن يفتقدها هو الرغبة، والصبر، والممارسة. من يتقن الاستماع مثل من يتقن الحديث. ومن يعرف كيف يكتب، تعلّم ذلك عبر التجربة الطويلة، لا من موهبة نادرة.

وهنا تكمن العدالة في عالم المهارات: إنها متاحة للجميع. لا تتطلب رأس مال، ولا واسطة، ولا وراثة. تتطلب فقط إنسانًا يرى أن في داخله ما يستحق أن يُصقل ويكبر.

المهارة تبني الإنسان، وتبني الوطن

في المجتمعات التي تستثمر في المهارات، تُبنى حضارات معرفية، واقتصادات قوية، وأفراد واثقون بأنفسهم. حين يتقن الطبيب مهارات التواصل، يصبح أكثر إنسانية. حين يتقن المعلم مهارات التحفيز، يصبح صانعًا للأمل. حين يتقن الموظف مهارات التفاوض، يسهم في نجاح مؤسسته. في كل مجال، تظهر المهارة كما يظهر الضوء في الغرفة: لا يُرى، لكنه يغيّر كل شيء.

أصبحت المهارات محورًا أساسيًا في برامج التنمية، والتعليم، والتوظيف. فالعالم لم يعد يسأل: ماذا درست؟ بل يسأل: ماذا تستطيع أن تفعل؟ وما المهارات التي تمتلكها لتصنع أثرًا حقيقيًا؟

كيف نزرع المهارة في الأجيال القادمة؟

إن من واجبنا كمجتمع، وكأفراد، أن نغيّر نظرتنا نحو التعليم والعمل. أن نغرس في الأبناء مهارة السؤال قبل الإجابة، ومهارة التعلّم الذاتي، ومهارة التعاطف مع الآخر، ومهارة الوقوف بعد الفشل.

أن نعيد للورش قيمتها، وللخطأ مكانه في التعلّم، وللإبداع حرّيته. أن نحتفي بمن يصنع بيده، وبمن يبرمج بعقله، وبمن يبني علاقة صادقة مع فريقه.

في كل إنسان، هناك خامة لم تُشكّل بعد. المهارة هي الأداة التي نحفر بها في دواخلنا، فنخرج أنفسنا من العشوائية إلى الدقّة، ومن التكرار إلى الإبداع، ومن الاعتماد إلى الاستقلال.

نحن لسنا بحاجة فقط إلى مهارات مهنية، بل إلى مهارات إنسانية. مهارات تجعلنا أكثر صدقًا، أكثر وعيًا، أكثر قدرة على التواصل والتفكير والمساهمة. المهارة ليست مجرد طريق إلى الوظيفة، بل إلى حياة أكثر غنى وعمقًا.