المدونة

الهرطقة مرآة عاكسة للخريطة الذهنية الفلسفية

 

إرنستو ساباتو

يقترنُ أدب أمريكا اللاتينية والحركة ِالفكرية وفن الرواية مَطلع القرن العشرين باسم الكاتب الأرجنتيني إرنستو ساباتو (بوينوس آيرس ١٩١١-٢٠١١). ويُعتبر إرنستو ساباتو من شيوخ الرواية في أمريكا اللاتينية وقد نال باقة من أرفع الجوائز في إسبانيا وأمريكا اللاتينية على مدار مسيرته الفكرية والأدبية ومنها جائزة ثربانتس (١٩٨٤) والتي يُطلق عليها نوبل اللغة الإسبانية، فضلاً عن ترشحه لجائزة نوبل مع الكاتبين فرانسيسكو أيالا و ميجيل دي ليبيس عام ٢٠٠٩ كما تم تكريمه في العديد من المحافل الأدبية والفكرية العالمية. 

ويظل إرنستو ساباتو من النماذج الأدبية والفكرية التي حيَّرت النقاد والقراء على حد سواء لندرة كتاباته وعمق تأثيرها. ولعل ملابسات وطبيعة نشأته في عائلة من المهاجرين من أصل ألباني إيطالي إلى الأرجنتين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وأسرته الكبيرة، فقد كان الابن الحادي عشر في أسرته لأب يعمل في مهنة بسيطة وفي أسرة كادحة اتسمَّ الأب بالباترياركية التقليدية القاسية مقابل الأم الرؤوم، من الموضوعات البارزة في أعمال ساباتو، ولا سيما السيرة الذاتية.

 أبدى نبوغاً هائلاً منذ صغره، وميلاً إلى العزلة والقراءة والانطواء، وهو ما دفعه إلى الدراسة المعملية غير أنه كان قطباً فاعلاً في عملية الإصلاح الجامعية.  تبنى مبادئ الشيوعية، وانضم إلى الحزب الشيوعي، وقضى فترة في موسكو. وعلى الرغم من تخصص إرنستو ساباتو في الدراسات الفيزيائية، فقد حصل على الشهادة الجامعية في تخصص الفيزياء والرياضيات من جامعة لابلاتا الأرجنتينية عام ١٩٣٣، ثم نال درجة الدكتوراة عام ١٩٣٨، حصل إثرها على منحة للدراسة في باريس في مختبر “ماري كوري” أرفع المؤسسات العلمية العالمية في التخصص لإجراء أبحاث حول الإشعاع الذري، ومنها إلى معهد ماستشوستش في الولايات المتحدة الأمريكية ودرس على يد العالم الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء.

 في تلك الأثناء يمر ساباتو بأزمة وجودية عنيفة تهز كيانه لاستخدام العلوم في تدمير البشرية من خلال القنابل، فيعود إلى مدينته الأم، ويعتكف الحياة، وإثر هذه العزلة يقرر أن يهجر المجال العلمي ويتفرغ للكتابة. وربما كان تأثره بوجوده في فرنسا في الثلاثينيات من القرن المنصرم، وتواصله وتماسه مع الحركات الفنية والأدبية في عاصمة النور قد أثرَّ على قرارِه المفاجئ. ويروي ساباتو بشأن هذا التحول في كتابه “قبل النهاية” أنَّ العنف والقسوة التي صار العلم سلاحاً فيها قد أفقده الثقة في مصيره بوصفه إنساناً إزاء العالم، إذا ما واصل هذا الطريق. وبناء عليه اتخذ قراره بتحويل المسار الى الأدب. ويُشار إلى أنَّ المفكر والناقد الأدبي الأشهر في أمريكا اللاتينية بدرو أنريكي أورينيا الدومينيكاني الأصل (١٨٤٦- ١٩٤٨) كان هو مدرس اللغة والأدب لساباتو في المدرسة الثانوية، وحين سأله ساباتو ذات مرة “لماذا ترهق نفسك على هذا النحو مع كل هؤلاء؟”  فما كان منه إلا أن أجابه: ” علني أرى بين حدقات هؤلاء الطلاب حدقتي كاتب في المستقبل”. لقد كان التأثير الأدبي يتفوق على العلمي، وحسم ساباتو أمرَه في النهاية. وكان إلى جانب نشاطه الفكري والأدبي رئيس لجنة البحث عن المفقودين وهم عشرات الآلاف إبان الديكتاتورية الأرجنتينية. 

استهلّ ساباتو نشاطه الأدبي والفكري بكتابة مجموعة من المقالات النقدية والأدبية في المجلات الأدبية الشهيرة بمدينة بوينوس آيرس- باريس أمريكا اللاتينية- نشر مقاله النقدي الأول عن رواية “اختراع موريل” للكاتب الأرجنتيني وصديق خورخي لويس بورخس (١٨٩٩-١٩٨٦)، بيوي كاثاريس (١٩١٤-١٩٩٩) وواصل نشر مقالاته تباعاً في مجلة “الجنوب” التي كانت ترأس تحريرها الكاتبة والشاعرة الأرجنتينية سيلفينا أوكامبو. تحول ساباتو في تلك المرحلة من الكتابة النقدية الى الفلسفية ونشر كتابه الأول “الفرد والكون” عام ١٩٤٥، وما لبث أن أعقبه نشر روايته الأول “النفق” (١٩٤٨)، التي أحدثت جدلاً رحيباً مدوياً اهتزتْ له أركان المؤسسة الأدبية والفكرية في عاصمة النور الأرجنتينية. ومن المثير للدهشة أن ساباتو يذكر في سيرته الذاتية أنه عرض الرواية على إحدى دور النشر، التي كان بورخس و بيوي كاثاريس مستشارين لها، فرفضاها، وانتقدا أسلوبيتها بشدة معقبين أنها لا تصلح للنشر.

تصدرتْ الرواية الأولى لـ إرنستو ساباتو المشهد الروائي في أمريكا اللاتينية جنباً إلى جنب مع روايات أخرى، ونذكر _على سبيل المثال_ رواية  “البئر” (١٩٣٩) للكاتب الأوروجوائي “خوان كارلوس أونيتي (١٩٠٩-١٩٩٤)، وهي من أهم الروايات التي أحدثت لحظة فارقة في مسيرة الكتابة الروائية والقصصية في أمريكا اللاتينية مطلع القرن العشرين ذلك أنها مهدت لطراز الرواية القصيرة نائيةً عن الرواية الطويلة الممثلة في نماذج سابقة حاكت طراز بلزاك الفرنسي مثل “السيدة بارابارا” و “دون سيجوندو سومبرا” وغيرها من الروايات الكلاسيكية.  ويأتي القالب والموضوعات الجديدة في الفن القصصي في أمريكا اللاتينية كنتيجة حتمية للتغيرات العالمية وتداعياته على دول العالم ودول أمريكا اللاتينية مثل الحرب العالمية الأولى والثانية والثورة البلشفية والكساد في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما انطبع في بزوغ التيارات الفنية الحديثة لمدارس الطليعة التي انبثقت في الفن التشكيلي ومنها إلى الشعر والرواية والمسرح وعلى راسها السريالية والتكعيبية والدادائية والمستقبلية وغيرها. وقد تأثر ساباتو تاثراً مباشراً بهذه الفنون خلال اقامته في أوربا فتعرف على المدارس الفلسفية وخاصة الوجودية وبالمثل المدارس الحديثة في علم النفس لفرويد ويونج ولاكان فانصهرت هذه العوامل مع خلفيته الهجين الأرجنتينية من ناحية وذاتية إرث عائلته المهاجرة من جهة أخرى فأنتجت هذه المدرسة الروائية التي بدت مثل امتداد لكتاب آخرين على قدر كبير من الأهمية والتأصيل للكيان الروائي الجديد في أمريكا اللاتينية مثل فلسبرتو إرنادث وماسيدونيو فرناندث ومارتين أدان وروبرتو آرلت و بيثنتي أويدوبرو وغيرهم. من جهة أخرى، وبالتوازي مع التيارات الفلسفية والفنية المذكورة أطلت كتابات خورخي لويس بورخس، وخوان رولفو، وخوليو كورتاثار، ومن بعدها غابرييل غارسيا ماركيز، لتدشن الكتابة الغرائبية أو العجائبية، وهي الظاهرة التي لم يتأثر ساباتو بها في كتاباته مصراً على الواقع ووجود الإنسان في العالم ومثابرة التساؤل عن ماهية الوجود.    

كتاب الهرطقة وأهميته:   

يُعتبر كتاب الهرطقة الصادر عام ١٩٥٣ هو الكتاب الرابع لساباتو بمثابة سبيكة فكرية انصهرت في أتون الفكر والنفس. يتألف من مئة وواحد وأربعين فصلاً قصيراً، ويُعد من أهم الكتب الفكرية التي تناولت بالرصد والتحليل إيديولجية مواطن أمريكا اللاتينية المثقف في مختلف دول أمريكا اللاتينية من ناحية، وبالمثل فهو مرآة عاكسة للخريطة الذهنية الفلسفية للقرن العشرين والواحد وعشرين أيضاً؛ إذ ضمّنَّ فيه ساباتو خلاصة رؤيته الفكرية بعد قراءاته وأبحاثه المتعمقة في الفلسفة التاريخية والعلمية العالمية والمعاصرة.  يتشكل الخطاب في هيئة محاورات ذاتية بشأن الكون والانسان والأدب والوجود والدين والسياسة ونمطية الكتابة الأدبية، ومفهوم اللغة وأسرارها والحيرة الفلسفية والالحاد، والكُتَّاب وبرجهم العاجي، وعلاقة الكاتب بالشخوص الذين يبدعهم، وجدلية التاريخ وغيرها من المفاهيم الكونية التي لا غنى عنها للعقل الإنساني في أمريكا اللاتينية بشكل عام، والمفكر والأديب والعالِم العالمي بشكل خاص.  

ويرى بعض النقاد أنَّ أهمية هذا الكتاب تنصب على المعضلة الأزلية للخير والشر، ومجابهة الإنسان لأشباح القلق والوجود والعدم والموت بين عناصر أخرى. ويمكن قراءة كتاب الهرطقة لإرنستو ساباتو باعتباره السيرة الروحية للكاتب الأرجنتيني. وربما يكون من الصعب فهم الإنتاج الروائي لساباتو أو سيرته الذاتية دونما الرجوع الى هذا الكتاب الذي يُعتبر العمود الفقري للمشروع الأدبي و الفكري لإرنستو ساباتو. ويتمتع الكتاب إلى اللحظة الراهنة بصلاحية مدهشة وكاشفة. وتميز الكتاب ببصيرة ورؤية “تنبؤية” لما سيصير عليه حال العالم. إن كلماتَه تضع إنسان القرن الواحد والعشرين على عتبات التساؤل اليومي، وتشحذ الرغبة في اكتشاف العوامل التي تهدد الهوية والمعرفة والثقافة وغيرها من دعامات قيام الحضارة الإنسانية. هو نص نموذجي للتعرف على أزمة استيعاب العالم، إنه ينحاز لمبادئ الحق والخير والجمال التي نادي بها جان جاك روسو ولكن بنكهة طازجة لا تغيب فيها الفلسفة المعاصرة ومن نماذجها برتراند راسل الذي ترجمه بنفسه إلى الإسبانية، إن نموذج ساباتو للفكر الإنساني وتماسك أطروحته يحملان قوة فاعلة للتغيير الروحي، ويتصديان لمعركة شاقة مع اللامبالاة الإنسانية. إن هذه العوامل السابقة جميعها تجعل ترجمة الكتاب نشاطاً إنسانياً قادراً على إغناء المكتبة العربية، وتقريب فكر وأدب أمريكا اللاتينية إلى الثقافة العربية، من خلال المنشأ الفكري الرئيس بقلم أحد أهم رموزها، إرنستو ساباتو.          




اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *