المدونة, موضوعات متنوعة

وقفات تأملية مع رواية «الاستدارة الأخيرة» لأحمد الزمام

بطبعي لا أميل للروايات والنصوص الأدبية السطحية التي لا تعتمد على أفكار عميقة أو «تيمة» معينة تجمع شتات العمل الأدبي، وتجعلني أستحضر الكاتب كقيمة فكرية وفلسفية أثناء القراءة، وهذه – أي الأفكار والفلسفات- قد تكون متناثرةً في النص، ونقبل بها على هذا النحو ونتغاضى- على مضض- عن غيابها المحوري، فالأفكار الأساسية يصعب تحميلها بهذا الهم، وهو ما درجت عليه كثير من الروايات العالمية، ومع ذلك لا يمكننا تجاهل حقيقة أنَّ نجاح الكاتب في الانطلاق من أفكار رئيسة بهذه المواصفات؛ يعد إبداعًا وتوفيقًا يُسهِّل عليه إتمامَ العمل ومنحَـه الصفةَ الإبداعية، ولدينا أيضًا شواهدُ كثيرةٌ من الإبداع الروائي العالمي، نحا هذا المنحى كرواية «المسخ» لـ «فرانس كافكا» و»شيفرة دافنتشي» لـ «دان براون»، وعلى المستوى العربي، نراه في «ذاكرة الجسد» لأحلام مستغانمي، واللص والكلاب لـ «نجيب محفوظ»، وغيرها كثير من الأعمال الإبداعية العالمية.

ذلك بالطبع ما وقَفْتُ عليه من اللحظة الأولى التي أمسكت فيها برواية «الاستدارة الأخيرة» للكاتب الكويتي المبدع، أحمد الزمام التي تقع في 424 صفحة من القطع المتوسط، عندما وجدتُـه ينطلق من فكرةٍ خلَّاقةٍ؛ تعتمد على جنس الإنسان وجندريته، والصراع الكبير المحتدم بين الجنسيين لفرض أجندتهما، وسعي كل واحد منهما لتهميش الآخر والقضاء عليه، وعدم اعترافهما بالفطرة السوية التي خُلقا عليها، بمقتضياتها التي تسندُ لكل منهما مهامَّ وواجبات وحقوقًا محددة، لا ينبغي تخطيها، فتصور لنا السردية عالـمًـا افتراضيًا تخيليًا أصبح أنثويًا وليس ذكوريًا، وتخلق صراعًا دراميًا كبيرًا تحت هذه المظلة، وهو التصور المبنى على أرقام متداولة تخشى من ازدياد أعداد الإناث مستقبلًا، مقارنة بعدد الذكور، وتأثير هذا البعد الديموغرافي على الحياة الاجتماعية للبشرية، ما دفع كاتبَنا المبدع لاستلال هذا البعد الواقعي؛ ومزجه بالخيال والانطلاق بنا في رحلة ماتعة، لتصور هذا العالم الجديد، الخاضع كليَّةً لهيمنة الإناث من خلال المملكة النسائية؛ التي بات فيها الرجل كمًّا مُهملاً يزدريه الجميع، وتطبق عليه الأنظمة الظالمة التي كانت تطبق على النساء وقت أن كان العالمُ ذكوريًا، بل وصل الأمر لمحاولة اجتثاثهم كلية، والإبقاء على عدد قليل جدًا يُستخدمون للتكاثر والإنجاب فقط، بالضبط كما يحدث في تدجين الحيوانات المستأنسة.

هذه الفكرةُ الخلاقةُ منحت العملَ قيمةً كبيرةً؛ خاصةً مع وجود راوٍ متكلمٍ ذكر، يعايش كل هذه الانتكاسة للفطرة الإنسانية، ويعاني الأمرَّينِ من اضطهاد الأنثى له، من خلال زوجة أبيه ومعلمته، وهو ما ينسحب بالتأكيد على كل الرجال بعد أن أصبحت العصمة بأيديهن، وأصبح القرار لهن، والجميل أنه أطلق السرد من انفراجة بسيطة في هذه العتمة التي أصبح العالم الافتراضي يعيشها، مستغلًا تنويرًا معينًا يسبق عادة التغيير الجذري ويهز أركان الواقع من جذوره، ليأخذنا برفقة هذا الشاب المشغول بالتاريخ وقد بات يتململ من الظلم الواقع على الرجال ما جعل غاية أمنياتهم أن يكونوا إناثًا.

هذه الرحلة الشيقة التي أجاد الراوي المتكلم في وصفها، متنقلًا بين الحِقب العمرية التي عاشها كطفلٍ وشابٍ؛ أظهرت لنا البعد الفلسفي الجميل، الذي تريد السرديةُ مناقشتَهُ بشكل إبداعي، تغيب عنه المباشرةُ والتقريرية، رغم اعتمادها على أفكار فرعية مهمة، تُصور – على سبيل المثال – العاطفة الأنثوية، وقدرتها على التحكم في قراراتهن، وكذلك الحدية المرضية التي عادة ما تتصف بها أغلب الإناث فسيولوجيًا؛ ويقلل من تأثيرها علمها وثقافتها وتحضرها، وكذلك وجود الرجل العاقل الذي يهذب كثيرًا من جنونها السلوكي وشطحاتها؛ إن كان زمام الأمر بيده؛ وكان بالمواصفات المثالية، ولم يكن الوجهَ الآخرَ لنفس العملة.

هذا الأثر السلوكي عادة لا يظهر مع استمرارية دورة الحياة الاجتماعية، التي تخفي كثيرًا من عيوبها، رغم التجاذبات والإشكاليات الداخلية، فكان الحل في مناقشة هذه الفكرة الجنونية سرديًا، من خلال البعد التخييلي، وخلق واقع افتراضي يحمل كل هذه المكونات ويفاقم من ظهورها وشيوعها، وبالتالي قلب الصورة، ووضع الأمر كله في أيدي النساء، ليظهر ما خفي من سلوكيات الأنثى المهيمنة، وترك هذه الحقيقة تتشكل تدريجيًا من خلال السياق الدرامي المتنامي، ودون أي تدخلٍ مباشرٍ من الكاتب، وقد اختار منح المشاهد – بمكوناتها المادية وغير المادية – القدرة على التعبير، وإيصال المفاهيم المستهدفة موضع النزاع، وتشكل رأي القارئ بطريقة غاية في الروعة، اعتمادًا على الصراع الدرامي الواقعي المحتدم في النص.

هذه الفكرة الإبداعية ستصل للمتلقي متى ما استطاع تجاوز البداية التي شابها شيء من صعوبة الفهم والاندماج معها، مما قد يصرف القارئَ العجولَ أو غيرَ الواثق بالكاتب والكتاب؛ لافتقارها إلى حد ما للاستحواذ الإبداعي، الذي يعد ركيزة أساسية في صياغة بداية الأعمال الكتابية الإبداعية، وكان حريًا بالكاتب الاهتمام به في المعالجة النهائية، طالما كان بصدد تدوين عمل كبير يشعر بقيمته، فالغموض والاستفهامات المحفزة للقارئ، والتشويق والإثارة وكل ما يتعلق بتجويد البداية المستحوذة؛ يعد سلاحًا ذو حدين، واللعب به قد يجرح النص أو يقتله، لذلك ينبغي توخي الحذر الشديد عند استخدامه خشية صرف القارئ عن المتابعة في حال لم يقنن هذا الاستخدام، كما ينبغي تأجيل إظهار قوة النص وقيمته في البعد الفكري والفلسفي، إلى ما بعد بناء علاقة جيدة بالقارئ ودفعه لمحبة العمل، وفي كل الأحوال لن نأتي بجديد إذا قلنا: إنَّ البدايات هي وقودُ النهايات، ولا يمكن لأي عمل إبداعي إهمال أي منها.

وإذا ما تجاوزنا هذه البداية المجهدة، سيفصح العمل عن قيمته الحقيقية وسيأخذنا معه في رحلة محفوفة بالجمال والإبداع، مُظهرًا لنا قدرة النص العجيبة والفائقة على التنقل بين المشاهد، من دون أي محددات شكلية، فالمشاهد متصلة في تدوينها – رغم انفصالها وابتعادها الزماني والمكاني وتعدد شخوصها وأصواتها – بطريقة غاية في الصعوبة، تجعلك تشعر وكأنك في دوامة لا تستطيع الخروجَ منها، مما يتطلب تركيزًا كبيرًا من القارئ، حتى لا يفلتَ أحدُ خيوطَ الحكاية من بين يديه، فالسارد أجاد التنقل برشاقة كبيرة بين عدة مشاهد تختلف أمكنتها وأزمنتها، وحتى شخوصها، والعودة في كل مرة للمشاهد الابتدائية بطريقة غاية في الروعة، وكانت تحمل شيئًا من التشويق، وذكاء النص وإن كانت تخلق مكابدة في الفهم والتتبع، قد لا يقوى عليها القارئ العادي إن لم تستهوِه الحكاية وتدفعه لتتبع أحداثها وتوقع نهاياتها، وفي كل الأحوال يمكننا القول: إنَّ السرد نجح في ضبط هذا التلقي بدرجة كبيرة للقارئ النخبوي، رغم إنَّ الخيوط كادت تفلت من بين يديه في بعض المواضع، فالمنهجية الكتابية التي اتبعت هنا مرهقة جدًا في الكتابة والتلقي على حد سواء، ما يجعلني أكاد أجزم أنها أرهقت الكاتب كثيرًا، ودفعته لإعادة حياكتها على هذا النحو الإبداعي المتحدي للقارئ، ولم تكتب هكذا من بدايتها، ولا أظنه إلا قد عانى الأمرين في ربطها بهذا الإحكام، والعودة لجزئياتها في كل مرة، والاستمرار في تسلسلها من دون انقطاع، لكنه في ما يبدو هاجس الإبداع، الذي استحوذ على الكاتب ودفعه لتعمد خلق صعوباتٍ معينةٍ والتلذذ بتجاوزها، وأظنه نجح كثيرًا في ذلك، وأصبحت سمة فريدة تميز هذا العمل، وتخلق قيمته الحقيقة على الجانب البنائي والأسلوبي بعيدًا عن الفكرة الأساس التي يناقشها.

غياب المحددات الذي اتسم به العمل شمل أيضًا أساليب السرد المختلفة وتقنياته بذات السلاسة، فلا تكاد تشعر بالتنقل بين الوصف الصريح، والتلغيز المبهم، وتعرية الوقائع وفلسفتها، والمونولوج الداخلي، والحوار، والتقديم والتأخير للنهايات والبدايات، وتعدد الرواة؛ وتنقلهم بين ضمير المتكلم بشقيه الأنثوي والذكري، والراوي العليم الذي بقي حاضرًا معهما حتى آخر قطرة من السردية، وكل ذلك يدفعنا للانبهار بقدرة الكاتب على خلق هذا المزيج الإبداعي التعددي، من دون ضياع النص من بين يديه، تاركًا لنا أنموذجًا فريدًا وأصيلًا للكتابة الإبداعية المتطورة جدًا.

= الوقوف عند التفاصيل الصغيرة كمنهجية إبداعية؛ نالت حقها أيضًا من الاهتمام في مجمل العمل، ويمكن رؤية ذلك في تنامي المشاعر بين السارد الأساس، وحبيبته «لورا» على سبيل المثال، وهو البعد الرومانسي الجميل الذي لم يُهمل رغم ثانويته وهامشيته، ووجدنا الكاتب يبدع في عرضه وتناميه واستيلاده من العدم بطريقة رائعة وجميلة وواقعية، تاركًا له المساحة السردية التي تتناسب مع حجمه واتصاله بالفكرة الأساس، لنشاهد على مكث ولادته الطبيعية ونموه ونضجه على نار هادئة، وهي الصورة المثالية للعلاقة العاطفية التي غالبًا ما تمر بفترة مخاض صعبة سواء أكانت ظاهرة موصوفة أم مضمرة تظهرها الأنساق المختلفة للعلاقة، ولقد نجح الكاتب بامتياز في رسم هذه العلاقة بالدقة المطلوبة، إذ إننا وصلنا إلى الصفحة الثمانين دون أن يظهر بشكل واضح نوع العلاقة التي تربط لورا بالبطل، بل إنَّ المصارحة الحقيقية بالمشاعر لم تظهر إلا في الصفحات الخمسين الأخيرة، وكانت إشارة خفيفة لا تتعدى المفردة أو المفردتين إذ إنَّ أغلب شواهد هذه العلاقة، بقيت مضمرة تتشكل داخل ذهن القارئ، وتنساق خلفها مشاعره، وتظهرها ابتساماته المتعددة، أثناء القراءة، والجميل أنَّ تلك اللحظات المسروقة من سياق الفكرة الأساس، لا تبتعد عنها بالمطلق إذ إنها جسدت اهتمامات مشتركة حول القلعة وما يحيط بها من غموض، وتعمد الكاتب توظيفها كمتضادات ترسم لنا الصورة الإنسانية المثالية التي لا يمكن استبصارها ووصول مغازيها العميقة بدونها، فانتك اس الفطرة السوية يحتاج إلى شاهد يظهره؛ تمثل في لورا والسارد المتكلم الأساس، فكلاهما حمل مشاعر معتدلة ومنصفة للجنسين تبتعد كلية عن الحدية التي غرق فيها الجميع تقريبًا، إذا ما استثنينا الشيخ الحكاء الذي مثل ضلعهم الثالث، واستلم زمام السرد معهما وأوكل إليه فك تشابك الحكاية وتمهيد الطريق نحو النهاية.

إن قيمة هذا العمل في بعده الفلسفي؛ لم يغيِّب الاهتمام باللغة الأدبية، بل كانت اللغة الأدبية ضمن أهم ما تميز به من خلال عدد كبير جدًا من الأساليب البلاغية والجمل البديعة والصور الشاعرية والأنسنة والتشيئة، يمكننا رؤية هذا الجمال في عدد كبير من المحطات كقول السارد ص182: «لم أكن أدري أنَّ الحياة ستصبّ جامَ قسوتها عليَّ. كانت لطيفة ودودًا بوجود أبي، إنّه الأمان الذي حرس الروح من كلِ ّ الشرور،» وقوله ص318: «ظلّت لورا تتضوَّر انزعاجًا طوال طريقنا»، وقوله أيضًا ص322: «أتذكَّر كيف ألقت بزخم أفكارها على الأرض ترسمها، وتضع لكلِّ احتمالٍ حدثًا من الأحداث، ولو كان ضئيلاً، وتوجد حلَّا لا يعرقل خطَّتها.» وقولها ص325: «صاح الحفيد بصوت مسموع حين اكتملت الاستدارة الأولى: «الأولى»، ثمّ راح الجمع من عشيرة مامي يعدّون معه عدًّا يفهمنا جميعًا أنَّ عليَّ الوقوف نهاية الاستدارة السابعة، ولكن، قبل لفظ كلمةٍ أغرب بها عن وجه الحياة،» وقولها ص 381: «يحين مجيء النعاس ساخرًا مع طلوع الشمس، ويعاركني الأرق، فيجعلني أضحوكته التي يتسامر عليها طوال الليل،» ولعلي أختم بعبارتين تستحق التمعن فيهما أتت أولاها في ص 398 قبل مغادرتنا بقليل وهي المحطة الكتابية التي تكثر فيها الأخطاء، وتتسم بالسرعة غير المنضبطة، بينما وجدنا السارد هنا لايزال محافظًا على انضباطية سرده، ولم يغب الجمال، وبقيت التفاصيل الصغيرة الإبداعية عنوانًا للمشهد تجلى كل ذلك في قوله: «لم أجد تعلَّة لطلبي ملابسَ نساء، غير أبي الذي خطر فجأة..» وكأن النص يتعمد وداعنا بمفردة جميلة نعبئ بها ذاكرتنا اللغوية كـ «تعلَّة» التي تعني علة أو سببًا يهرب به من استحقاق معين ويختبئ خلفه، وهو ما امتازت به هذه السردية باعتدال إبداعي دون اقتار أو تبذير، والقول الآخر أتى في ص 402 عند قوله: «لقد أصبت بإرهاق شديد، ويخُيَّلُ إليَّ أنّني أركض على أسطوانة التاريخ التي لا تنفكُّ تدور بلا توقُّف، مقاومًا السقوط إلى نهاية الحياة»، ليسحَرنا هنا بالتصوير الفني الإبداعي خلاف اللغة عند استخدامه أسلوبًا سرديًا، لا يخلو من الذكاء اللفظي والاحترام الشديد للمتلقي الجيد وصنع نهاية مدهشة، تربط القارئ بالعمل وتزيد من تعلقه به، فهذه العبارة على إيجازها الشديد وبساطتها، حملت معانيَ كبيرة وصورًا دقيقة، وهي تظهر لنا التاريخ المكتوب على هيئة برميل اسطواني يدور، وكاتبه يسير فوقه مما يرضه لخطر السقوط في كل لحظة، ويُشغله كثيرًا بمحاولة الحفاظ على اتزانه واستقراره فوقه، متأثرًا بعدة عوامل توشك أن تسقطه، منها دوران البرميل وتناسق حركة الجسد معها، والتأثير العقلي والهرموني، وأيضًا تأثير الرياح، ما ينعكس سلبًا على هيئته ويبطئ كثيرًا من تقدمه، وهذا بالضبط ما يحدث مع المؤرخ الذي تتنازعه أيضًا عدة عوامل كالحقيقة، وأهواء نفسه، ومشاعره الداخلية والخارجية، وكذلك القوة السياسية المهيمنة، فيتخبط بين كل هذه المؤثرات الشديدة في كتاباته التي يستشهد بها لاحقًا، ويتعامل معها المستفيدون منها وكأنها حقائق دامغة، بينما هي أبعد ما يكون عن ذلك.

أيضًا تجلى الاهتمام باللغة الأدبية، في طريقة صياغة الحوارات وتفردها وجمالها الأخاذ وبساطتها ومرورها العابر على السرد، من دون الشعور بها، حيث إنَّ حضورها كان بنفس الطريقة التي تحدثنا عنها سلفًا من غياب المحددات وعدم الاستقلالية ومزجها مع كافة العناصر السردية، حيث تظهر وتختفي فجأة، بالقدر الذي يتناسب مع الدور المنوط بها فقط، وبالقدر الذي يستحقه، وكان ذلك ظاهرًا في مجمل السرد لم يختلف كلية في كل الحوارات، حتى إننا بالكاد نشعر أنَّ العمل يتخلله أي حوار، كقوله ص 319: «كانت ابتساماته التي يرسلها بين الحين والآخر تثير استغرابي، ويخفيها عنّي كلَّما التفتُّ إليه. «ما الذي يسعدك لتبتسم هكذا؟!». «لا شيء». ثمّ ضحك ضحكة خفيفة، وأشاح بوجهه عنّي. «هل تكتم أمرًا؟!». «لا، فقط كنت أتذكّر جدّتي وطرافتها لأهوِّن على نفسي قليلاً شقاءَ المسير. »شقاء المسير؟!« أنت اقتطعت مسافات طويلة وشاقَّةً جدًّا منذ صغرك. لا، ليس الأمر كذلك». عاد يقهقه قائلاً: «هل نسيت ِ أنيِّ عدت من رحلة صيد قبل يومين؟». «أهذا ما أتعبك؟! لا أصدّق». ضحك.» وكما يلاحظ هنا أنَّ الحوار بسيط لا يخلو من الجمال وغياب المحددات، ولا يرهق السرد على الإطلاق، بل يمتزج معه بطريقة غاية في الجمال والسمو.

وشاهد آخر على تلك الحوارات الماتعة ما نطالعه في ص 332 في قوله: «ابتسمت. سألني الحفيد مشاكسًا: «ل ماذا هذه الابتسامة الآن؟». «قاسمتك ذاكرتَك التي تستعيد منها طرافة الجدّة». ضحك، ثمّ تنهد يقول: «أجل سأطمئنّ. لقد حملتكِ في صغركِ أمانةً من القلعة إلى جدّتي لتعودي إليها آمنة منتصرة». التزمت الصمت من دون أن أُشعره بأنَّني أسرُّ في قلبي شيئًا يبهجني، لا يعرفه أحد، وهو أمر جميل يصعب عليَّ إظهاره. هذا ما جعل للحبّ ألـمًا بالغًا. كانت تلك اللحظة الأخيرة المتردّدة التي أبت الرحيل هي الزواج به.» وهكذا نجد أغلب الحوارات – إن لم نقل جميعها – تصاغ بهذه الطريقة البسيطة والجميلة، وبهذا الاندماج الكلي في السرد من دون أي محددات لا شكلية ولا حتى كتابية، فقط ما يساعد على الانتباه لها وتمييزها كأسلوب كتابي مختلف امتازت به هذه السردية.

لفتني أيضًا في هذه السردية قدرتها على طرح الأفكار والفلسفات بطريقةٍ مبتكرةٍ وأصيلةٍ ومختزلةٍ، اعتمادًا على الخبرات المباشرة الموصوفة التي يظهرها السرد، بانت في أكثر من موضع وكان فيها إفصاح عن القدرات الفكرية والفلسفية التي يتحلى بها الكاتب واحتاجها العمل السردي، واستطاع توظيفها في جل المشاهد وإن كان أجملها في ظني مشهد تنصيب الملكة، باستداراته السبع، التي فيها إشارة واضحة لعنوان العمل، فالاستدارة الأخيرة إنما كانت الاستدارة السابعة، التي أعقبها تحدث الملكة أمام وفود العشائر، وهي التي لم تُخبـــَر بهذا الموقف مسبقًا ولم تُلقَّن أي كلمة من الكلمات التي كان عليها التفوهُ بها، فرغم الصعوبة التي عانت منها الملكة المتوجة والإحراج الشديد إلا أنها أدركت لاحقًا قيمته عندما تحدثت معها الجدة وأخبرتها بمغزى ما حدث في قولها ص 328 «لقَّنتني الجدَّةُ درسًا قويًّا لا يُنسى. تلك الورطة التي دفعتني إليها فعلتُها عمدًا لأصبح ملكة حرة، ومنها أملك الثقة التي لا يقدر أحد ٌ على انتزاعها منّي. أنا مدينة جدًّا لتلك الجدّة.» فكان في هذا المشهد تحديدًا أكثر من مستهدف فهمي وإدراكي، إذ يحيل القارئ إلى مدلولات الرقم سبعة الدينية والاجتماعية والفكرية، ويطلب منه ربطه بالحكاية المروية، كما يُظهر القيمة الحقيقية للزعامة السياسية التي تستحق بالفعل القيادة وهي التي تُلقِّنُ ولا تُلقَّن، وتُصدر الأوامر ولا تتلقاها، وكان في ذلك أيضًا تعريةٌ لأغلب القيادات السياسية التاريخية الهلامية، التي غالبًا ما تكون على العكس تمامًا من ذلك، وهو ما قالته السردية بطريقة غير مباشرة وترك الحدس للقارئ.

استطاع الكاتب تمرير فلسفاته وأفكاره تلك، من دون إخلال بالسرد، أو الوقوع في الإخبارية الممقوتة، أو تعالي النص ومثاقفته التي تضر كثيرًا بالتلقي الجيد للنصوص، كتلك الذكريات المسرودة على لسان عمته، التي لم تخلُ من بعض الأفكار الجميلة، كقولها في ص 175: « لا يمكن أحدًا يمتلك عقله أن يرمي بنفسه على هامش الحياة، ويقضي كلَّ وقته في الاستمتاع بلا عمل « وقولها: «موت الإنسان يكون بموت الطبيعة» – وكما يلاحظ- فقد كثف وأوجز في أسطر قليلة، ومرر أفكاره على لسان العمة، ثم عاد بعد ذلك بسلاسة عجيبة لسرديته الجميلة، وكان ذلك مما ميز السردية، حيث استطاع السارد إشعال فتيل التلقي بطرق متنوعة واستخدم الإيجاز الإيجابي، لاستنهاض قدرات القارئ العقلية، ودفعه للتفكير واستكمال الحلقات الناقصة، وفي ذات التوقيت بث ما يريد قوله من أفكار وفلسفات عادة ما تكتب الروايات الإبداعية من أجلها.

ومما ميز هذا السردية أيضًا؛ ابتعادُها كلية عن ذكر الأسماء، فالشخوص جميعهم رجالًا ونساءً كانوا نكرات غير معرَّفين، وبدا لي أنَّ هذا الأمر لم يكن عرضيًا وإنما متعمدًا، فالحكاية في أساسها قامت على الجزء الخفي من الإنسان، أي بواعث سلوكياته المضمرة ومشاعره الدفينة وغيب الظاهر، فلم يكن مهمًا معرفة اسم الملك الأول، أو الثاني، أو الثالث، أو حتى الرابع، رغم أهميتهم ومحورية حضورهم السردي، وكذلك الحال بالنسبة للنساء جميعهن، حضرن بأفعالهن وأقوالهن، وغابت أسماؤهن، أريد لهذا النهج الكتابي؛ تكريس الضوء وتسليطه على الفكرة الأساسية التي يتبناها النص السردي، وعدم تشتيت القارئ بأمور هامشية لا قيمة لها، ظهر ذلك في كل التقنيات السردية المستخدمة، فغابت أيضًا الحوارات والأوصاف المحددة والمستقلة، وتم تغييب الزمان والمكان الواقعيين الحقيقيين، فالنص اجتهد كثيرًا في دمج كل هذه العناصر والتعاطي معها ككتلة واحدة، وأظنه نجح في ذلك أيما نجاح، ما دفع القارئ لتكريس جهده في محاولة فهم التجاذبات النفسية العميقة التي تسردها الحكاية، وعدم الاهتمام بالنواحي الشكلية، بل لم يعد يهتم بالسارد نفسه الذي لم يستقر له قرار، والتوجه فقط باتجاه تفاصيل الحكاية الماورائية الدقيقة، التي يمكن اختزالها في الجدلية الكبيرة بين القيمة الإنسانية الحقيقية للرجال والنساء والتفاضل بينهما.

هذا التهميش المتعمد للأسماء، لا يتناقض مطلقًا مع ذكر اسم «لورا» الذي تردد كثيرًا، وكأن الن صَّ يستلها من بينهم، ويستخدمها كشاهد على الأنثى الحقيقية، بالمواصفات التي تؤهلها للنهوض بدورها في الحياة، من ذلك حفظ قيمة الرجل، وتثمين وجوده، وحاجة المرأة إليه، وممارسة دورها الأنثوي بالاعتدال المطلوب، من دون إفراط أو تفريط، كما بدا أنَّ السردية تعمدت زرع هذه السيميائية المهمة المفضية إلى الفكرة الأساس للعمل، التي سبق ونوهت عنها، بإظهار اسمها وحدها، وتغييب الرجل العَلَم، اعترافًا منها بأهمية المرأة وأنها عصب الحياة البشرية، وتعدُّ المصنعَ الذي يخرج لنا كلا الجنسين، ويؤهلهما للممارسات الحياتية المثالية، وهو ما يشير إلى اعتماد السردية في هيكلها البنائي، بتفرعاته المتعددة على فلسفات حياتية عظيمة، أجادت عرضها وإيصالها بطريقة حكائيةٍ مقنعةٍ جدًا.

ومما يلاحظ في هذه السردية أيضًا؛ كثرة استخدام النعوت غير الجيدة في التعريف بالبشر، شأنها شأن رواية «الحارس في حقل الشوفان» للكاتب الأمريكي «جيروم ديفيد» وكان ذلك خيارًا سرديًا ذكيًا بالفعل الهدف منه، إعادة الإنسان إلى همجيته التي تسبق تنويره وعلمه وتأديبه بالأديان السماوية؛ والخبرات الحياتية الإيجابية المكتسبة، في إشارة ذكية إلى حقيقة أنَّ انتكاس فطرة الإنسان السوية، وتبادل الأدوار بين الجنسين، نتيجتها الحتمية؛ الفوضى في كل مناحي الحياة، ولن ينهض به غير الجهلاء، ولقد نجح السارد بالفعل في رسم هذه الصورة في ذهن القارئ بحيث لم يكن واردًا تمجيده لهذه الحياة التخيلية التي يطالعها، حتى وإن كان في قرارة نفسه، مما يحيلنا لأهمية هذا العمل، وإظهار قيمته الفلسفة والفكرية، وقدرته على مناقشة أطروحاته بطريقة غاية في الإمتاع والإقناع.

امتازت هذه السردية أيضًا، باهتمامها بأدق التفاصيل لكل المشاهد، من الزمان والمكان الافتراضيين، والشخوص «مجهولي الهوية» بانفعالاتهم قبل حركاتهم وسكناتهم، وهي بالمناسبة مواصفات إبداعية لا يكتمل الجمال الكتابي والدرامي بدونها، وتعد ضمن مستهدفات الكتابات الروائية الإبداعية، ومع أنَّ العمل كما أسلفنا اعتمد البعد الفلسفي في السرد، بطرح بعض الأفكار الخارقة ومناقشتها، ومحاولة تشريحها وإقحام القارئ في فهمها وتناولها، وتحديد قراره منها، وهذه قد يكون فيها إغراق في الحديث الوصفي التشريحي، بعيدًا عن المشاهد، إلا أنه رغم ذلك؛ كان السرد دقيقًا في منح كل عناصر الإبداع ما تستحقه من اهتمام، وجدت ذلك حتى في المنهجية المعتمدة لزرع التشويق والإثارة في ثنايا النص، حيث لم تكن أبدًا مفتعلة، أو غير مقنعة، أو ظاهرة التوظيف، رغم قيمتها العالية واعتماد السردية عليها كمنهجية كتابية إبداعية، إذا ما نظرنا إليها من زاوية التلقي وحاجة النص الملحة إليها، لكنها رغم كل ذلك كانت تأتي في وقتها وفي أنساق كتابية غاية في الروعة، تزرع الابتسامة على شفاه المتلقي الجيد، وهو يرى السارد كالأب الحنون لا يغفل عن شيء من تفاصيل حياة أبنائه، رغم كثرتهم، وتباين طلباتهم واهتماماتهم، فيحيط كل ذلك بقدرته على العطاء واستعذابه النهوض بهذا الدور، بعدل مطلق ومحبة تكاد تغرقهم جميعًا.

= بقي القول إنَّ رواية «الاستدارة الأخيرة» هي محطة مهمة ضمن محطات الرواية العربية، ينبغي التوقفُ عندها، ودراستها بتمعن، وتستحق أكثر من دراسة نقدية أكاديمية، كونها تتمتع بالأصالة والتفرد، في جوانب متعددة، يأتي في مقدمتها تأكيد فكرة أنَّ الإبداع الحقيقي ليس عفويًا، وإنما صناعة عظيمة ينهض بها المبدع عندما تكتمل استداراته الإبداعية.

بقلم: حامد أحمد الشريف

المصدر: جريدة الجزيرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *