المدونة

أَلِف شافاك: كيف خيب القرن الحادي والعشرون آمال هربرت جورج ويلز

ألقت مؤلفة كتاب “10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب” محاضرة هذا العام حول كاتب الخيال العلمي جورج هربرت ويلز احتفاءً بتفانيه في مكافحة عدم المساواة.

أَلِف شافاك @Elif_Safak

كانت المرة الأولى التي وضعت فيها يدي على إحدى مؤلفات هربرت جورج ويلز، عندما كنت طالبة في تركيا. إذ وجدت طبعة قديمة في رواق أحد متاجر الأشياء المستعملة التي كنت أزورها في الغالب لشراء القصص ومجلات المعجبين ومشاهدة أحدث ألبومات ذات المعدن الثقيل. وجدتُ كتاباً تملؤ غلافه الرطوبة وكانت صفحاته مهترئة إلى حد ما، وظهر على الكتاب علامات تدل ملكية صاحبه السابق.

كان عنوانه “First Humans in the Moon” أي: أول البشر على سطح القمر. اكتشفت بعد ذلك أن الترجمة التركية قد سلكت طريق الحياد بين الجنسين، لكن الكتاب بلغته الأصلية لم يسلكه، حيث أن عنوانه “The First Men in the Moon” أي: أول الرجال على القمر.

في تلك الأثناء، لم أكن مهتمة إلى حد كبير بالخيال العلمي.  لقد اشتريت الكتاب لأنه جذبني لسبب ما، عجزت عن إدراكه.  لكن قراءته لم تكن من بين أولوياتي. كنت شغوفة بالأدب الروسي آنذاك؛ فلقد غيرت رواية النفوس الميتة “Deads Souls” لغوغول ورواية مذكرات من البيت الميت Notes from a Dead House ورواية الإخوة كارامازوف The Brothers Karamazov لدوستويفسكي شيئًا بداخلي تغييرًا أبديًا.

كنت أرغب في قراءة نوع الأدب الذي تعامل مع ما رأيته “الوقائع الاجتماعية السياسية القاسية”.  لذلك، استخففت بهربرت جورج ويلز وتجاهلته، وظلت روايته ملقاة على رفي لم أقرأها ولم أكترث بها لفترة طويلة.

عندما انتقلت من أنقرة إلى اسطنبول في العشرينيات من عمري، وكان يراودني حلم هادئ بأن أصبح مؤلفة، لم يكن لدي أي سبب لأحضر هربرت جورج ويلز معي، لكنني فعلت.

استأجرتُ مسكنًا صغيرًا بالقرب من ميدان “تقسيم” ، في شارع يحمل اسم “كازانشي يوكوسو” الشارع المنحدر لصناع المراجل. كانت شقة لها إطلالة مميزة على حد قول سمسار العقارات. إذا وضعت مقعدًا تحت إحدى زوايا النافذة الوحيدة في غرفة الجلوس، والتي كانت أيضًا غرفة مذاكرتي ونومي، ووقفت عليه ومددت رأسي إلى أقصى اليمين،وكانت السماء صافية والأفق منقشع ضبابه، مما أمكنني من أن أنعم ببصيص من اللون الأزرق المتلألئ وومضة من جمال البوسفور، بل أطلقتُ العنان لنفسي لأغوص فيه، وانجذبتُ إما بالبحر أو بأرق الآمال التي زفها إليَّ.

تم اختيار الروائية التركية البريطانية أَلِف شافاك لإلقاء المحاضرة السنوية عن هربرت جورج ويلز

تصوير: بال هانسن – صحيفة ذا أوبزرفر

بدأت رحلتي في قراءة قصة أوائل الرجال على القمر في تلك الشقة.  ارتبطت مدينة هربرت ويلز القمرية، بكهوفها المذهلة وطقسها الغريب، في مخيلتي، بشكل أو بآخر، بالمدن الكبرى القديمة التي وجدت نفسي فيها، بشوارعها الأفعوانية وشخصياتها التي لا تقل غرابة عنها.

الكائنات التي أطلق عليها اسم السيلينايت ”Selenites” ، تلك المخلوقات القمرية المعقدة من الناحية الاجتماعية والمتطورة من الناحية التقنية والتي تسكن تحت سطحه، لم يكن فهمها من السهولة بمكان. لكنني اكتشفت لاحقًا أنني لم أكن أفهم الاسطنبوليين.

ويلز، هذا الكاتب المتمرس بوصفه خبيرًا محنكًا في كثير من الأساليب، اعتلى منزلة فريدة في ابتكار الروايات التي كانت المعرفة بمختلف مجالاتها تربة خصبة لها.  وقد ميزه ذكاءه عن أغلب معاصريه من الأدباء.  فهو لم يدرك رغبتنا الوجودية اللانهائية في الابتكار والتجريب والحداثة فحسب، بل كان يخشى أيضًا ذلك الجانب المظلم من التكنولوجيا.

نقل ويلز في مؤلفاته العديد من التنبؤات المستقبلية، من السفر في الفضاء إلى الهندسة الوراثية، من القنبلة الذرية إلى الشبكة العنكبوتية.  ولم يتعمق أي مؤلف آخر من مؤلفي الروايات الخالية في استشراف مستقبل البشرية بنفس الوضوح والجرأة مثله.

إذا كان على قيد الحياة في نهاية القرن العشرين، ماذا عساه أن يقدّم من هذا العالم؟  ومن دواعي فضولي أن أعرف بالتحديد ماذا سيكون رأيه حول التفاؤل الجامح في هذا العصر، التفاؤل الذي عمّ السياسيين الليبراليين والخبراء السياسيين وعاصمة التقنية العالمية “وادي السيليكون” على حدٍ سواء. القناعة الوردية بأن الديمقراطية الغربية قد انتصرت نهائياً وأن العالم بأسره، بفضل انتشار التقنيات الرقمية، سيصبح قرية عالمية ديمقراطية كبيرة عاجلاً أم آجلاً. وأبسط التوقعات إن استطعت نشر المعلومات بحرية خارج الحدود، تتحول الشعوب إلى مواطنين واعين، وبالتالي تكون اختياراتهم صائبة وفي الوقت المناسب.  وإذا كان التاريخ بطبيعته خطيًا وتقدميًا ــ إذا لم يكن هناك بديل عملي للديمقراطية الليبرالية ــ لمِ القلق بشأن مستقبل حقوق الإنسان أو سيادة القانون أو حرية التعبير أو تنوع وسائل الإعلام؟  ونُظر إلى العالم الغربي على أنه آمن ومتماسك ومستقر. لن تتفكك الديمقراطية بمجرد تحققها.  كيف يمكن لأي شخص كان يتذوق حريات الديمقراطية أن يوافق على التخلي عنها للرياح؟

“إننا بحاجة إلى التضامن والتآخي الدولي في جميع أنحاء العالم.”

يعتبر التقدم السريع والعصر الحاضر بمثابة طريق مزدوج لرؤية العالم وهو يتحطم. الأرض تحت أقدامنا لا تبدو بهذه الصلابة على الإطلاق. لقد دخلنا عصر القلق. عصرنا عصر التشاؤم. عالمنا هو عالم مؤلم. وإذا كان ويلز على قيد الحياة اليوم، فماذا سيكون رأيه في هذا القرن الجديد الذي يتنامى فيه الاستقطاب ويتصاعد فيه الاستبداد الشعبوي، ووتيرة الاستهلاك المزعجة ــ بما في ذلك استهلاك المعلومات المضللة ــ التي تفاقمت جميعها بفعل التكنولوجيات الرقمية؟

بالإضافة إلى المجموعة الرائعة من الروايات الخيالية، كتب ويلز تعقيبات سياسية واجتماعية قوية.  أصبح التاريخ البشري إلى حد بعيد “سباقًا بين التعليم والكارثة”، على حد قوله. وكان يؤمن بشدة أن “التاريخ البشري في الأساس تاريخ للأفكار”. لم يخش ويلز أن تتحول سهام انتقاده شطر وطنه، وفي بعض الأحيان، شطره شخصيًا. وقد يسخر صراحة من نفسه، ويتحرى حماقاته، وكان ينتقد التركيز على الإنجليز.

التاريخ مليء بالأمثلة التي تظهر كيف أن صعود المذهب الوطني يسير دائمًا جنبًا إلى جنب مع ظهور المعارضات الثنائية.  تتعالى أصوات الديماغوجيون الشعبويون بزعمهم القائل إنه بإمكانك إما أن تكون وطنياً ــ أي أن تضع الأولوية لبلدك على حساب بناء جدران أعلى، وغلق كل الأبواب من أجل البقاء بمنأى عن “مشاكل الآخرين” ــ أو أن تمضي لتكن جزءًا من نخبة عالمية.

هذان هما الخياران الوحيدان، على حد قولهم.  ولكن ويلز، الذي اهتم اهتمامًا بالغًا بالأهمية، يثبت بمنتهى اللباقة أنه من الممكن تجاوز هذا الانقسام المبتذل.  لسنا مضطرين لحصر أنفسنا في شرك العصبية القومية أو المظالم التي تفاقمت باسم العولمة الجشعة.  وهذه النقطة جديرة بالذكر في عصرنا الحاضر، عندما نحتاج إلى تضامن وتآخي دولي في جميع أنحاء العالم، وفي في وقت نحتاج فيه إلى أن نتذكر إنسانيتنا المشتركة.

لقد أثبت جائحة كوفيد-19 مدى عمق ارتباطنا. ولقد أوضحت أزمة المناخ أن أي جزء من العالم لن يكون بمنأى عن تأثير الاحتباس الحراري.  أمامنا تحديات هائلة كبشر، ولا يمكن حل أي منها عن طريق أساطير الاستثنائية أو الوطنية أو الانعزالية.   ومن العار أنه في الوقت الذي يظهر فيه احتياجنا إلى التعاون الدولي، انتهى بنا الأمر إلى نوع من “قومية اللقاح”.   لو كان على قيد الحياة اليوم لخابت آماله بفعل ذلك كله.

الديمقراطية ليست ميدالية عند الفوز بها تزيّن ببرواز وتعلق على جدار لإخفاء شقوق ألمت به. إنها نظام بيئي دقيق، وبيئة حية تتنفس بالبشر المتفاعلين فيها وبالضوابط والتوازنات والتنوع والشمول والتعاون والتعايش.  ومن هنا، يجب تعضيدها باستمرار.  صندوق الاقتراع بمفرده لا يكفي للحفاظ على ديمقراطية تعددية سليمة.  علينا ألا ننسى أن العديد من البلدان غير الليبرالية، بل وحتى السلطوية البحتة، تُجري “انتخابات” كل بضع سنوات في العصر الحالي. سيادة الأغلبية ليست مثل الديمقراطية.

وبناءً عليه، إضافة إلى صناديق الاقتراع، نحتاج إلى سيادة القانون والفصل بين السلطات ووسائل الإعلام الحرة والمتنوعة والأوساط الأكاديمية المستقلة وحقوق المرأة وحقوق مجتمع الميم.  وعندما تنكسر القواعد والمؤسسات الديمقراطية وتتصاعد حدة النزاع في لغة السياسة وتحتدم بالاستعارات العسكرية فإننا ندخل منعطفًا خطيرَا.

كما أن احتكار السلطة من بين الأمور الخطرة. ينبغي ألا يكون هناك لأي سياسي أو لأي حزب سياسي وبالطبع لأية شركة من شركات التكنولوجيا سلطة مطلقة في المجتمع.

التاريخ لا يمضي بالضرورة في تقدم ثابت ومستقيم.  وقد تكرر الأجيال الجديدة الأخطاء التي ارتكبها الأجداد. وعندما تتقهقر الدول، فإن حقوق المرأة والأقليات هي أوائل الحقوق التي يتم تقييدها.

كان ويلز يؤمن بنوع من أدب الأفكار؛ وهو الفن الذي انخرط مع العالم وتجرأ على طرح الأسئلة. وتصور مستقبلًا تكون فيه “المرأة حرة كالرجل”.  وقال إنه إذ يجرؤ على الكتابة عن المحرمات، فإنه لا يدعم المساواة بين الجنسين فحسب، بل يدعم أيضًا التحرر الجنسي للمرأة، بحيث “لا تستعبد أو تخضع بأي حال من الأحوال للرجل الذي اختارته”. كما أرى أن دعوته إلى تحديد النسل في وقت لم يكن من السهل فيه القيام بذلك من بين الأمور التي كانت على نفس درجة الأهمية.

كما فهم هربرت جورج ويلز عدم المساواة. وأدرك كيف سيؤدي اتساع وتعميق أوجه عدم المساواة إلى تآكل الحياة وسعادة البشر. كما أنه فهم اليأس.  وقال في كتابه “حقوق الإنسان”  The Rights of Man، “ما لم نتمكن من الكفاح في خضم الارتباكات المتزايدة في عصرنا هذا، لإرساء نظام عالمي جديد للقوانين والسلامة، وما لم نتمكن من الحفاظ على رباطة جأشنا وشجاعتنا، لكي نشيد حياة نزيهة من جديد، سينهار بنو جنسنا، ويصيبهم الجنون، وهم يتقاتلون ويثرثرون كشرذمة من النازيين الخارقين على أرضٍ خربة “.

كانت هذه نسخة مختصرة من محاضرة أَلِف شافاك عن هربرت جورج ويلز، التي ألقتها يوم الجمعة 17 أيلول/سبتمبر 2021 في مهرجان Ripples of Hope بالشراكة مع مؤسسة القلم الإنكليزية.

One thought on “أَلِف شافاك: كيف خيب القرن الحادي والعشرون آمال هربرت جورج ويلز

  1. يقول TMotawe:

    “أصبح التاريخ البشري إلى حد بعيد “سباقًا بين التعليم والكارثة”، على حد قوله” وصف دقيق للوقت الحالي ..مقال موفق 👍

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *