المدونة

«نسوية للجميع»… عندما تلامِسكم وتغيّر حياتَكم سترون أنّ النسوية للجميع

النسوية… هذا هو الموضعُ الذي تتوقف عندهُ الأسئلة، ويسود الصمت، ثم تبدأ الهمسات هنا وهناك: النسويات «سيئات»… كيف «يكرهن» الرجال؟ كيف يتعارضنَ مع الطبيعة والله؟ كلهنَّ «سحاقيَّات»… إنهنَّ يحظينَ بجميع الوظائف، ويجعلن من العالم صعباً على الرجال.

تحت ضغط هذا الصمت وهذا الفهم، تقدّم بيل هوكس في هذا الكتاب صوتاً عاطفياً آخر يتحدّث نيابة عن السياسة النسوية، معلنةً منذ البداية أنّ تقصير النسوية في التعريف بنفسها هو مقتلها؛ لذلك تطلق هنا صرخةً تريد لها أن تقتحم اللوحات الإعلانية؛ والإعلانات في المجلات، والإعلانات على الحافلات ومترو الأنفاق والقطارات؛ والإعلانات التلفزيونية؛ صرخةً تسمح للعالم بمعرفة المزيد عن الحركةِ النسوية. إنّها ترى الوعدَ والأمل متجسِّدينِ في الحركة النسوية. وهذان هما الوعد والأمل اللذين تريد أن تشاركهما مع قرائها ومع الجميع في هذا الكتاب؛ الوعد والأمل في عالم مجرَّدٍ من كلِّ هيمنةٍ؛ حيث الرُّؤية التَّشاركيَّة هي الروح التي تشكّل تفاعلنا.

لكنّ هذه النِّسويَّةُ أين تقفُ اليوم؛ إذ تفقدُ السِّياسات النِّسويَّةُ زخمها؛ لأنَّ الحركة النِّسويَّة فقدت التَّعريفات الواضحة. قد يكون لدينا تعريفات لكنّ علينا «تعديلها وتشريحها والبداية من جديد؛ فليكن لدينا قمصانٌ وملصقاتٌ ضخمةٌ، وبطاقات بريديَّةٌ، وموسيقا هيب هوب، وقنوات وإذاعات تجاريَّةٌ، وإعلاناتٌ في كلِّ مكانٍ، ولوحاتٌ إعلانيَّة… تعرِّفُ العالمَ على النِّسويَّةِ. يمكننا مشاركة رسالة بسيطة وقوية: إنَّ النسوية هي حركة تهدفُ إلى إنهاء الاضطهاد على أساس الجنس. لنبدأ من هناك. دع الحركة تولدُ من جديد».

لكن التَّوعية بالنسوية لا يجب أن تقف جامدة عند حدود المصطلحات، بل تحتاج إلى تغيير مستمرٍّ للقلب، ففي البداية على التوعية النِّسويَّة الثَّورية أن تشدّد على أهميّة قراءة النِّظام الأبوي بوصفهِ نظامَ هيمنةٍ، على أن ندرك أنّ الرجل، الذي تجرد من امتياز الذكر واعتنق السياسة النسوية، هو رفيق نضال لا يشكّل تهديداً للنسوية، في حين أنّ الأنثى، التي لا تزال متمسكة بالتفكير الجنسي، والسلوك المتسلل إلى الحركة النسوية، تشكل تهديداً خطيراً، لكن، بشكل عام، على النساء ألا ينسين قيمة الأختيَّةِ وقوَّتها؛ إذ «يجب أن ترفع الحركة النسوية المتجددة اللافتة عالياً مرَّةً أخرى لتعلن من جديد «الأختيَّة قوية»».

ثم تنطلق الكاتبة لتقدم عرضاً بأهم وأخطر الإشكاليات التي تشكل تحدياً للنسوية اليوم، ولنا أن نجرؤ على القول إنها باتت اليوم تهدد وجود النسوية، وأولى هذه الإشكاليات التعليم النسويٌّ القائم على الوعيٍ النقدي، فأحد أقوى وأنجح التدخلات للنسوية المعاصرة التَّأسيسُ لأَدبٍ نِسوِيٍّ كان يطالب دوماً باستعادة تاريخ المرأة، لكننا «إذا لم نعمل على إنشاء حركة جماهيرية تقدّم تعليماً نسوياً للجميع، إناثاً وذكوراً، فستتقوض دائماً النظرية والممارسة النسوية بسبب المعلومات السلبية المنتجة في معظم وسائل الإعلام السائدة. المعرفة النسوية للجميع».

الإشكالية الثانية جسد المرأة وذاتها، اللذين يتجسدان في حقوقها الإنجابيَّة، فالحاجة إلى المناقشة المستمرة لمجموعة واسعة من القضايا التي تندرج تحت عنوان الحقوق الإنجابية والتركيز عليها أمر ضروري لحماية حرية النساء والحفاظ عليها.

ولأن الجمال يقترن بالمرأة فليس لأيّ تجديد أو تغيير نِسويٍّ أن يتجاهل مفهومي الجمال الداخليّ والجمال المجرَّد للأنثى، فالتفكير الجنسي حول جسد الأنثى أحد أقوى التدخلات التي قامت بها الحركة النسوية المعاصرة. وأخطر ما يواجه هذه الثيمة النسوية مواصلة السماح للحساسيات الأبوية بالتَّحكُّم في صناعة التجميل في جميع المجالات؛ «إنّ رفض النسوية الصارم لتوق النساء إلى الجمال قد قوض السياسة النسوية. حتى تعود النسويات إلى صناعة التجميل، وتعود إلى الموضة، وتخلق ثورة مستمرة ومستديمة، لن نكون متحرِّرات. لن نعرف كيف نحب أجسادنا كما نحن».

وأحد أقوى تحديات النسوية الصِّراع الطَّبقي النِّسوي داخل النسوية، فالمواجهة تفرض حضورها بقوّة هنا مع النساء، اللواتي يتمتعنَ بسلطة طبقية، إذ يستخدمنَ، بشكلٍ انتهازيّ، برنامجاً نسوياً فيما يحافظن على نظام أبويّ سيعيد إخضاعهنّ في النهاية، فهؤلاء لا يخُنَّ النسوية فحسب؛ بل يخُنَّ أنفسهنَّ.

وبعيداً عن المحلية، وتحت شعار عالميّة النسوية، لا يجب أن نتجاهل قضايا المرأة العالمية مثل: الختان القسري للإناث، ونوادي الجنس في تايلاند، وحجاب النساء في أفريقيا والهند والشرق الأوسط وأوروبا، وقتل الفتيات الصغيرات في الصين، فهذه يجب أن تبقى من الشواغل المهمة؛ لكنّ معالجة هذه القضايا لا تتم إلا بطريقة لا تعيد ترسيخ الإمبريالية الغربية.

أما النِّساء في فضاء العمل، فالاكتفاء الذاتي الاقتصادي للمرأة لا يجب أن يكون هدفها الأساسي. لكن معالجة المحنة الاقتصادية للمرأة قد تكون أيضاً، في نهاية المطاف، المنصة النسوية.

من الطبقية والعمل تنتقل الكاتبة إلى العنصرية، وهذه ليست إشكالية مستجدّة في الفضاء النسوي، فقد مهّدت الحركة النسوية، ولاسيما الناشطات السود اللاتي يحملنَ رؤية، الطريقَ لإعادة النظر في العرق والعنصرية،  لكن يبقى العنفالهاجس الأكبر للمجتمع ككلّ رجالاً ونساء،فالكل يشعر بالقلق إزاء العنف، لكنّ جزءاً من هذا الكل يرفض ربط هذا العنف بالتفكير الأبوي أو الهيمنة الذكورية، وهنا على التفكير النسوي أيضاً أن يجد حلاً.

ربما أكثر المفاهيم، التي تطرحها النسوية وتثبت أنّ النسوية للجميع وليس للنساء فقط، مفهوم الذُّكوريَّة النِّسويَّة، لأن هذا المفهوم يعلمنا كيف نحبّ العدالة والحرية بطرق تعزّز الحياة وتؤكدها. تشكل الذكورية النسوية استراتيجية جديدة من أقوى وأكثر استراتيجيات التفكير النسوي أهمية وحيوية، لكن في التوازي مع هذا المفهوم المركزي  يأتي مفهوم الأبويَّة النِّسويَّة؛ «إن إنهاء الهيمنة الأبوية على الأطفال، من قبل الرجال أو النساء، هو الطريقة الوحيدة لجعل الأسرة مكاناً يمكن أن يكون فيه الأطفال آمنين؛ حيث يمكنهم أن يكونوا أحراراً؛ وحيث يمكنهم معرفة الحب».

لكن قبل ذلك علينا تحرير الزَّواج والأبويَّة، فهيمنة الذكور الأبوية في الزواج والشراكات هي القوة الأساسية، التي تسببت في حالات الانفصال والطلاق في مجتمعنا. فيما تظهر جميع الدراسات الحديثة للزيجات الناجحة أن المساواة بين الجنسين تخلق سياقاً يُرجّح فيه تأكيد كل فرد من الزوجين.

مع ما يترتّب على هذا التحرّر من مخاطر قد يكون أهمها الفهم الخاطئ للسِّياسة الجنسيَّة النِّسويَّة… فإذا كانت السياسة الجنسية النسوية التحررية تؤكد دائماً أن الوكالة الجنسية الأنثوية نقطةً مركزيَّةً، فلا يمكن لهذه الوكالة أن تظهر إلى الوجود عندما تعتقد الإناث أنّ أجسادهن الجنسية يجب أن تقف دائماً في خدمة شيء آخر.

وهنا ننطلق إلى قلب النِّسويَّة، إلى حيث أمانها واستقرارها، إلى الحب الحقيقي، الحب الذي يجمع بين الاعتراف والرعاية والمسؤولية والالتزام والمعرفة، فمع هذا الإدراك يأتي فهم أن الحب لديه القدرة على تغييرنا، ما يمنحنا القوة لمعارضة الهيمنة. «اختيار السياسة النسوية، إذاً، هو اختيار للحب».

تقدم الكاتبة بيل هوكس، في النهاية، رؤية النسوية، مؤكدة الحاجة إلى القيام بجهد جماعي لنشر رسالة النسوية؛ لكي تبدأ الحركة من جديد، بالفرضيّة الأساسية التي مفادها أن «السياسة النسوية هي بالضرورة راديكالية. ولمّا كان ما هو راديكالي غالباً ما يتمّ دفعه تحت الأرض في محيطنا، يجب علينا أن نفعل كل ما في وسعنا لإحضار النسوية فوق الأرض لنشر الكلمة».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *