المدونة

المكتبة المظلمة .. حان وقت القراءة السعيدة

المكتبة المظلمة .. حان وقت القراءة السعيدة

بقلم إريك لوريت

إذاً، ما المشكلة؟ ما الخطب بالضبط؟ اختفاء الأدب والشعراء والكتب والقُرّاء والنقد…؟ من المؤكّد أنه ليس وليدَ اللحظة أنّ أنطوان كومبانيون (Antoine Compagnon)، تحدّث عن ذلك حينما قدّم درسه الافتتاحي «الأدب، من أجل ماذا؟» في المعهد الفرنسي (Collège de France)، لكنْ تمّ تزويد عام التحرير 2017-2018، بشكلٍ خاص، بكتبٍ تعالج مخاوف وصعوبات الكُتّاب في مواجهة انخفاض المبيعات، أو الخطابات الموجّهة ضدّ النصوص المتخلّفة «عاطفياً» (أي التي تدّعي «الأدب») التي تلحّ على طرح قضيّة ما هو حقيقيٌّ في الفن.

أَهي كبوة بسيطة أم تغيير عميق في النموذج الأدبي؟ كما أشرنا مسبقاً، سيكون هناك ملفٌّ للتحدّث عن هذا القلق، الذي يتشاركه العديد من الكُتاب؛ كقصة نويمي لوفيبفر(Noémi Lefebvre) شاعرية الاستخدام، وكتاب فريديريك سيريز (Frédéric Ciriez) عن النقد كتاب بيتي، ومجلدي تاريخ الأدب الحديث لأوليفيه كاديو (Olivier Cadiot) الصادرين عامي (2016 و2017)، ومقالة إصلاح العالم بقلم ألكسندر جيفين(Alexandre Gefen)  التي تأتي بمنزلة تشخيص للحالة. يُضاف إلى هذه القائمة كتابان من تأليف سيريل مارتينيز(Cyrille Martinez) ، أحدهما الشاعر الفظ وقصص أخرى الذي نُشر في كانون الأول/ديسمبر الماضي، والآخر قصة المكتبة المظلمة في الربيع. القصتان مرتبطتان ارتباطاً وثيقاً كجانبين للمشكلة نفسها باطني وخارجي؛ حيث تعالج الأولى قضية الكتابة، والثانية قضية القراءة.

قصة الشاعر الفظ تبدو نظريّة أكثر قليلاً، حيث تندرج، لحسن الحظ، ضمن هذا النوع: الحكاية، التي يذكرها كريستوف هانا(Christophe Hanna)  في المقدمة؛ حيث تمتلك «الأهمية المعرفية الأساسية […] في الكشف لنا عن أشكال التفاعل الاجتماعي والتواطؤ والتشابك المؤسسي الجديد نسبياً». قصة المكتبة المظلمة، وهي حكاية خيالية ومضحكة، تتخيّل مستقبل الكتاب (غير المؤكد)، وتستحقّ تقييماً لعرضها دراسةً اجتماعية لمرتادي المكتبة، أو التاريخ المرير للمكتبة الوطنية فرانسوا ميتيران، ولرأيها حول العلاقة بالقراءة في عصر الثورة الرقمية.

في هذا العمل الأخير، يقدم مارتينيز، وهو نفسه أمين مكتبة، كتاباً شاباً في حالة غضب (هذا عنوانه) لا يجد قارئاً. إنه ليس أفضل حالاً ولا أسوأ من الكتب التي يقتنيها القراء، لكنّه ضحية لما يسمّى، منذ فترة طويلة، «التناوب السريع». هناك مقابلة مع ديلوز (Deleuze) حول هذا الموضوع بعنوان«الشفعاء»(1985) ، صدرت في مجلة نقاشات؛ حيث يشير الفيلسوف إلى أنّ «بيكيت وكافكا المستقبل لا يشبهان تماماً بيكيت وكافكا الحقيقيين، فهما يخاطران بعدم العثور على ناشر ما، دون أن يلاحظ أحد ذلك بطبيعة الحال». كتابنا الشاب الغاضب يؤمن بالشيء نفسه: من خلال الاعتقاد بأنّ الروايات الأكثر قراءة هي بالضرورة الأفضل، نخاطر بعزل «الكتب الشابة […] بعيداً عن قرائها المحتملين»؛ لأن من الخطأ القول إنّ السوق هو منافسة حرة ينتج عنها الأفضل. منطق هؤلاء المتعصبين، على العكس من ذلك، يبدو سادياً: نظراً إلى أن التجارة الحرة تدمّر السلع، وتضع بدلاً منها سلعاً أخرى في القمة، كما يبرهنون، لنساعدها من خلال طرح المزيد ممّا يباع بالفعل بكثرة، وعدم الحديث عما يقلّ بيعه. لا يوجد شيء أقل حرية من هذه الليبرالية.

يندرج الخصم الآخر للكتاب الشاب الغاضب تحت كلّ ما هو رقمي. مثل جميع زملائه في المكتبة، ترهبه فكرة الرقمية. لا يعني ذلك أنه لا يحبّ الأجهزة اللوحية، أو القارئات الرقمية، لكنه يعتقد أن «طرق القراءة تختلف وفقاً للوسائل؛ لذلك من الضروري أن تتعايش وسائل القراءة المختلفة دون أن يكون بينها منافسة». يصف مارتينيز لبطله، بروح الدعابة، رقمنةَ قُراء المكتبة أنفسهم، الذين سرعان ما سيطلق عليهم «المستخدمون» و«المقيمون»؛ في الواقع، لم يعودوا يستعيرون الكتب، بل ما يهمهم فحسب جودة اتصال الواي فاي (Wi-Fi). في الجزء الثالث من القصة، يصبح الأمر أسوأ من ذلك؛ لأنه تتم إزالة ذكر كلمة «المكتبة» من المباني «بحجة أنها قد تكون مخيفة وتمييزية»: «تعدُّ القراءة شيئاً مخزياً، وهو أمر مؤلم نود التخلص منه لمصلحة المحتوى الذي يتطلب جهداً أقل».

حول هذه النقطة، يضم سيريل مارتينيز وجهة نظره إلى تشخيص ألكسندر جيفين في اقتراح نموذج «علاجي» جديد للأدب، لكنه يختلف في تشخيص المرض: «نريد مكتبة توفر لنا إمكانية زيادة قدراتنا الفكرية وقدرتنا على الإغواء، وتعبئتنا من أجل قضايا نبيلة، والوصول إلى الثروة، والحصول على معدات حاسوبية فعالة ورخيصة». التكملة تعكس ما خلص إليه سيريز من أن علاقات فكرية جديدة ترتسم في العالم: «نحن نحلم بأننا كُتاب ومحررون ومحاورون ووسطاء ونقاد فنّ وأفضل الأصدقاء لآلاف الأفراد. نحن بحاجة إلى مكتبة تمنحنا الأدوات التي نحتاج إليها للسيطرة على حياتنا».

بطبيعة الحال، كلّ هذا صحيح وخاطئ في الوقت نفسه. من المؤكد أننا لم نعد نقرأ الكثير من الورق، ونفضل التصفّح على الشبكات الاجتماعية. لكنّ القارئ، الذي يشغل مقعداً في المكتبة، دون استعارة الكتب، ليس جديداً تماماً (أعدْ قراءة هورتنس الجميلة لجاك روبو (Jacques Roubaud. من المؤكد أن هناك طلباً على كتب التربية والخير والكتب غير المؤذية التي تواسينا، ولكن ما الجديد في هذا؟ لو كنّا متوهمين تماماً، فسيبدو أن طلب الأغلبية موجود الآن في القراءات المريحة؛ وأن «النظام الجمالي» للأدب كان جافاً جداً، ولو أُجبر المرء على قراءة كلود سيمون(Claude Simon) من خلال المازوخية البحتة، بينما سيفضل المرء في الواقع غي دي كار (Guy des Cars. هناك العديد من علماء الموسيقا، الذين يبرهنون أنه لا يمكنك توقع أيّ شيء لدى شوينبيرغ (Schoenberg)، ومن ثَمَّ لا متعة في ذلك. باستثناء، كما يقول فرويد (Freud)، أنه حتى أسوأ العصابيين يجب أن يجد ضالته في معاناته، وإلا فسيتوقف (نسخة ليوتاردLyotard : المتعة الحديثة هي متعة تضرّ قليلاً). لطالما قرأنا أو استمعنا إلى الموسيقا بغرض المتعة أو العزاء، لطالما كان هناك استخدام علاجي للفن: لكنه اعتُبِر متداولاً فقط بقدر ما كان منبثقاً عن تطويرٍ ما. ربما ما يكون جديداً هو أن وسائل الإعلام والجامعة خفضت مجموعة «الكتب التي حققت نجاحاً كبيراً»، كما يقول مارتينيز، كممثلين لما بعد التاريخ الأدبي، فهي تضفي الشرعية على المتعة، التي تم الحصول عليها دون إثبات واضح للذات. لكن يوماً ما سيقع «الكتاب الشاب الغاضب» في يد قارئ جديد، وينتزعه من «الوقت المثمر» الذي يُدان به، ويعيد إليه طعم «القراءة السعيدة» والاشمئزاز من «الكتاب الذي يفعل الخير».

ورغم ذلك، يجب الاعتراف بأن هذه المتعة، التي تمّ الحصول عليها دون إثبات، وغسيل الدماغ هذا في أفق البشرية، يبدو أنهما يتجلّيان في الحكاية الخرافية. في قصة الشاعر الفظ، يكشف مارتينيز، في النهاية، هذا الخيال المأساوي والكارثي، لكن، سابقاً، في «شاعر شاب من مرسيليا» و«مؤدي»،يروي التدمير البشري لاقتصاد الكتاب من خلال سلسلة من الحكايات المروعة. يتعلق الأمر هنا بالشعر، لكن يمكننا استبداله بالأدب «الصعب» أو «المتطلب» أو «الهش» أو «غير المربح». نظراً إلى عدم وجود المزيد من القُراء الذين يُقرّون بأنّ القراءة من دون أيّ جمهور (توجب على المستمعة الوحيدة، في مهرجان الشعراء، مغادرة الغرفة بسبب تسرب في المبنى)، والناس الذين يطلبون منك النصوص دون الدفع لك، والآخرين الذين ينشرون أعمالك، لكنّهم يطلبون منك شراء المجلة التي تظهر فيها… «إنها قاعدة يجب الاعتراف بها لكي نفهم الشعر المعاصر: معظم قراء الشعر هم أنفسهم شعراء، وهناك شيء آخر يجب معرفته هو أن الشعراء غالباً ما يكونون ناشرين ومراجعي كتابة ومبرمجين»؛ لذلك نصادففي هذه الحلقة المغلقة شعراء في أحسن الأحوال يجهلون بعضهم البعض، ويسرقون أفكار بعضهم البعض بشكل عام، ويقتلون بعضهم البعض في أسوأ الأحوال، ولكنْ نصادف، أيضاً، الشخص الذي يأتي للترويج لنفسه في جنازة زميل له، والشخص الذي لا يقسم إلا «بالشعر التجريبي»، والشخص الذي يمتلك «إحساساً قوياً بالفشل»، وبشكل عام أولئك الذين قرروا التوقف عن الكتابة. هنا، مرة أخرى، يميل المرء إلى الاعتقاد بأن لا شيء جديداً تحت الشمس منذ قصيدة «الساعة الواحدة صباحاً» لبودلير .(Baudelair)

يصف مارتينيز المسار المثالي لأحد هؤلاء الشعراء الذين تخلّوا عن القضية. «لقد كانت تُخصّص مبالغ الحد الأدنى للدخل من أجل القراءات الشعرية، التي كانت تتقاضى أجرها بشكل جيّد ومنتظم. وعلى الرغم من أنّه كان من الصعب الحصول على القليل من المال في مدينة مثل باريس، كانت واحدةً من أفضل المدن أجراً بالنسبة إلى الشعراء». ورغم ذلك، لا تزال الشابة قلقة، معتقدةً أنه يتمّ نشر أعمالها من منطلق الالتزام الاجتماعي فحسب وليس لأهميتها. تتمثّل الحكاية، كما يقول هانا، في أنها دائماً مسألة «مواقف مؤسسية». في الواقع، ليس عليها أن تعتمد على المبيعات: لا يوجد في الشعر مفهوم الأكثر مبيعاً. يحاول الراوي إقناعها فيخبرها أنها حتى لو تم اختيارها بالتزكية تُعدُّ، على الأقل، جديرةً بالاهتمام. في أحد الأيام، غادرت باريس واختفت. يكتب إليها، ويسأل عن أخبارها: «بعد ثلاثة أيام أرسلت إجابتها: لقد أوقفتُ كلَّ نشاطٍ فنيٍّ، وفي الوقت نفسه وضعتُ حداً لشبكة العلاقات المرتبطة به… أتمنى لك ولعائلتك حياة سعيدة».

إنّ هذا الغياب الصريح والمثبط للقُرّاء هو، بالأحرى، تغيُّرٌ في مجموع القُرّاء. إننا، بطبيعة الحال، نبيع عدداً أقلّ وأقلّ من الصحف والكتب (وحتى عدداً أقلّ من كتب الشعر)، لكنّنا، ربما، لم نقرأ أبداً ما يكفي من التغريدات والمنشورات والقصص على الشبكات الاجتماعية. والأفضل من ذلك، ربما، أننا لم نكتب كثيراً ونشكّل صوراً من دون أي تصريح؛ أي كلّ حالة للمؤلف، كما هو الحال في العصر الرقمي. ربما لن يُحلَّ أيُّ تفاوت بهذه الطريقة ولن تتحسّن الديمقراطية، لكن لا يمكنك القول إن الكتابة أو القراءة قد ماتت. عندما يقول مارتينيز: «نحن نحلم بالكُتاب والمحررين والمحاورين والوسطاء ونقاد الفن» هذا صحيح. لا، بل نحن هذا كله. والنتيجة الطبيعية هي أننا لم نعد نهدف إلى العالمية، ولا إلى الأشمل، بل نهدف فحسب إلى نكون «أفضل أصدقاء لآلاف الأفراد»؛ أي أصدقاء لمجتمع متابعينا. يمكننا أن نستنتج أنّ ألكسندر جيفين كان مخطئاً عندما رسم نموذجاً «علاجياً» لما هو في الواقع «ركن مناسب» أضخم بالتأكيد من عشاق شوينبرغ، لكنّه لا يزال ركناً مناسباً لما يسمّيه مارتينيز «التنوع البيولوجي» لممارسات القراءة.

يمكننا القول مرة أخرى: إنّ الشاعرة، التي لم تعد تريد الكتابة، مخطئة؛ لأنّها لا تعرف شيئاً عن المتابعين الذين يمكن أن تمتلك، والجمهور الذي يمكنه التجمّع والالتفاف مؤقتاً حول نصوصها (عوضاً عن عملها). الكتاب الشاب الغاضب مخطئ في الاعتقاد بأنّ المكتبة سوداء، وسيريل مارتينيز محقّ في اقتباس الشاعر الفظ مثالاً هؤلاء الشعراء السعداء، الذين يعيشون في ما بينهم في إحدى القرى: «لقد تجاهلوا المراجعات النقدية القادمة من الصحافة الوطنية. لم يهتموا بأرقام المبيعات. كل ما كانوا يهتمون به هو قراءتهم من قبل العائلة والأصدقاء والجيران والأصدقاء والزملاء، وأيّ شيء آخر كان دون معنى. لم يأبهوا بالاعتراف الرمزي أو المالي. لم يفكروا في الأمر حتى. تختتم المرأة، أمام خمسة كتاب باريسيين، بحثاً عن النجاح والمجد: تخيلوا أنّهم كانوا سعداء جداً بهذا». فلتعلموا أنّ هؤلاء الكُتّاب يمكن أن يكونوا المستقبل؛ لأن «القراءة السعيدة» التالية، الرقمية أو المطبوعة، لن تكون مجرد «روائع أدبية»، بل ستكون ممارسة محلية ومحدّدة، أو لن تكون كذلك أبداً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *