المدونة

الكراهية والسياسة والقانون … وجهات نظر نقدية حول مكافحة الكراهية

أصبحت الكراهية منبوذاً سياسياً في الديمقراطيات الليبرالية. وسواء تمّ التعبير عنها بالكلام، أم جرى تطبيقها في سلوكٍ إجرامي يومي، أم نُظِر إليها على أنها وقود للإرهاب والتطرف، تُعدُّ الكراهيةُ رذيلةً وشراً وتهديداً. في الخطاب العام، تُنسب الكراهية عادةً إلى الآخر (مجرمين، أعداء، غرباء، إرهابيين)، والصرخةُ ضد «الكراهية» تعني دعوة إلى العمل: إحصاءات جديدة أو تفصيلية أكثر، بنود قانونية للتجريم أو لتعزيز العقوبة، تدريب للشرطة والدفاع عن حقوق الإنسان. على كل حال، إنّ نتيجةَ التحريض الفعال ضدّ تهديد الكراهية المتصوَّر يعني التعبئة والتحشيد، و، في كثير من الأحيان، يعني بسط سلطة الدولة. يبدو أن الكثيرَ من العمل الأكاديمي حول الكراهية يشترك في الافتراض الأساسي أنّ الكراهيةَ سيئةٌ، وأن العالمَ سيكون مكاناً أفضل من دونها. لكننا نحن نشكّ في أنّ كل الكراهية سيئة، ونصرّ على أن محاربة الكراهية تحتاج إلى تمحيصٍ نقدي. هذه هي الفكرة الأساسية وراء كتابنا الكراهية والسياسة والقانون: تصوراتٌ نقدية حول مكافحة الكراهية، الذي صدر من مطبعة جامعة أكسفورد في 2018. كان هدفنا توسيع النظرة العلمية لكيلا تشتمل على الكراهية فحسب، بل على محاربة الكراهية أيضاً. وهذا يعني بدء استكشافٍ نقديٍّ ومناقشةٍ نقدية للافتراضات، والمُثلِ العليا، وجداولِ الأعمال الأساسية وراء المكافحة الحديثة للكراهية: ما الافتراضات المعيارية، والجذور الأيديولوجية، والوعود، والحدود، و-ليس أقلها-النقاط العمياء، في الحرب الحديثة على الكراهية؟ متى أصبحت محاربةُ الكراهية مشروعةً، ولماذا؟ ما الذي نقصده عندما نقوم بتأطير عملٍ ما، أو تعبيرٍ ما، فنقول إنه ينضح بالكراهية؟ كيف يرتبط الاستخدامُ الحديث والعام لمصطلح «الكراهية» بالتاريخ الأطول والأوسع لمفهوم الكراهية؟ ما الذي يكون على المحكّ في العلاقة الصعبة بين الكراهية والديمقراطية الليبرالية؟ تحقيقاً لهذه الغاية، يفتح الكتاب أربع مساحات للاستكشاف.

منظور تاريخي

لم تكن الكراهية دائماً شراً تجب محاربته، ولم تكن الكراهية والديمقراطية دائماً على خلاف إحداهما مع الأخرى. في الكتاب، يشرح باحث اليونانية واللاتينية القديمة، ديفيد كونستان (David Konstan)، كيف أنه في أثينا الديمقراطية القديمة، وفي روما الجمهورية، عُدَّت أشكالٌ محدّدةٌ من الكراهية ملائِمةً اجتماعياً ومرتبطةً بعداوةٍ شرعية، وليس بمرض اجتماعي. العاطفةُ، التي كانت تُعدُّ دافعاً للنزاع الاجتماعي المثير للمشكلات هي الحسد (الفثونوس phthonos)، وليست الكراهية (ميسوس misos). قد يكون الفهم الكلاسيكي للحسد مثيراً للاهتمام ليس لأغراض المقارنة التاريخية فحسب؛ بل أيضاً لفهمنا اليوم لجرائم الكراهية أو التحيّز. إن النظر عن كثب في الحسد يشجّعنا على أن نتعامل بجدّية أكبر مع مشاعر الظلم أو الخزي أو الإذلال، التي قد تكون عاملاً في العديد من جرائم الكراهية. بالتركيز على تاريخ تصنيف فئة «الكراهية» في ديمقراطياتنا الحديثة، يوضح عالم السياسة إريك بليش (Erik Bleich) أن التركيزَ السياسي والقانوني الحالي على الكراهية هو، إلى حد كبير، نتاجُ تراكمٍ تدريجي لقوانين وسياسات محددة ناشئة عن المخاوف من العنصريةعلى مدى أكثر من 50 عاماً. يشير هذا المسار إلى أنّ العنصرية –بغض النظر- لا تزال هي المثال للكراهية، وهذا يؤدي باستمرار إلى بناء فهم الجمهور للكراهية على أنّها نوعٌ محدّد من الشر.

تكوين فكرة عن الكراهية

ما المعرفة حول الكراهية، التي يحتاج إليها الأشخاص المنخرطون في مكافحة الكراهية؟ على قدر المستطاع يمكن للمرء أن يقدر تقديراً، وإلا فكيف سنحاربها؟ لكنّ معظم الدراسات حول جرائم الكراهية وخطاب الكراهية لا تبدو مهتمّةً كثيراً بالتفكير المفاهيمي المتعمِّق والمفصَّل. ربما يتعيّن على المرء أن يحتمل الإرجاعَ والإحالةَ إلى «الكراهية» في الخطاب العام والسياسي. قد يُمنح خطابُ الكراهية منحاً لأجل ضمانِ انتباه وسائل الإعلام، ولأجل إقامةِ تحالفات سياسية بين جهاتٍ فاعلة ومنظماتٍ لن تكون مترابطة من دونه. لكن وفقاً للعديد من العلماء، إن ما هو على المحكّ في مكافحة خطاب الكراهية وجرائم الكراهية ليس الكراهية «بعينها»، بل هو تلك الهيكليات من تحيزٍ وترتيبٍ هرميّ للسلطة غير مشروع، وتمييزٍ عنصري. ومن ثَمَّ، يدعو بعض العلماء إلى تغيير المصطلحات واستخدام تعبيرات مثل: خطابِ تشهيرٍ وتلويثٍ للسمعة، أو جريمةِ تحيز. هذا الرفض لاستخدام مصطلح الكراهية، باعتباره غير ملائم، يخدم غرضاً مهماً هو لفت الانتباه إلى التضمين البنيوي لخطاب الكراهية وجريمة الكراهية، وأن هذا التضمين هو السبب في جعلهما طبيعيَّيْن، وجعل طابعهما يتفشى في جهاز النظام. ورغم ذلك، إن صرف النظر عموماً عن وجوب التفكير بتوسعٍ بشأن الكراهية فيه تسرّع كبير للغاية. يعيد الفيلسوف توماس برودهولم (Thomas Brudholm) النظرَ في كتابات أفلاطون وأرسطو، موضحاً أنّ هناك إرثاً طويلاً من عَدِّ أشكالٍ معينة من الكراهية تحيزاً أو متلازمةً مرضية، وأيضاً من النظرِ إلى الكراهية (وربما ما زال بالإمكان رؤيتها هكذا) على أنها استجابةٌ عاطفيةٌ عادية تجاه شرٍّ متصوَّر تتجاوب مع أسبابٍ، وتقبل الضبطَ طالما لا ينقاد الأشخاص الكارهون، دائماً أو حتمياً، لاستهلاك أنفسهم بكراهيتهم هذه. تحلل عالمةُ النفس نيزا ياناي (Niza Yanay) الكراهيةَ على أنها مجموعة معقدة ومتناقضة للغاية من تشوق ورفض، واشمئزاز ورغبة، وهذه المجموعة تعمل على مكافحة الكراهية من داخل نزعات ورهاب المصالح ومن تحتها. ومن هنا تبرز الحاجة إلى فهم أعمق لازدواجية الكراهية، وعلاقتها الدقيقة المعقدة بالحب، لإيجاد استجابةٍ ضد الكراهية تكون دقيقةً بما فيه الكفاية في الديمقراطيات الليبرالية. أخيراً، يوضح الباحث القانوني إريك هاينز (Eric Heinze) كيف تظهر الكراهية بوصفها مفهوماً قانونياًفي خضم محاولةٍ تستهدف أشكالاً من مواقف عدائية غير مشروعة لا يمكن استيعابها داخل إطار قانون مكافحة التمييز العنصري. ورغم ذلك، إن استهداف مثل هذه المواقف، من خلال قوانين للخطاب، يضع الدولةَ الديمقراطية الليبرالية على خلافٍ مع التزامها بتجنب الإجراءات العقابية لوجهات النظر. وهكذا، الدولة تسير دائماً على حبل مشدود في سعيها لتنظيم المواقف قانونياً.

الاستجابات ضد الكراهية

يتعرض الناس، في جميع أنحاء العالم، للعنف والتخويف بسبب وضعهم أو انتمائهم إلى مجموعات معينة، ومثل هذا الأمر كان يجري على مرّ العصور، لكنَّ ما يميّز الخوفَ الحديث من الكراهية ليس العنفَ أو المضايقة في حد ذاتيهما، بل تفسيرُ العنف على أنه نوع محدّد من المشكلات الاجتماعية، وإدخالُ مجموعةٍ متنوعة من الاستجابات القانونية والسياسية لحلّها. ما نسميه الاستجابات على الكراهية (التجريم، وتعزيز العقوبة، ومقابلات الضحية والجاني، واستطلاعات الضحايا، والحملات العامة، والتعليم… إلخ) هو عملُ كلٍّ من الدول والجهات الفاعلة غير الحكومية. في كلتا الحالتين، ردودُ الفعل هذه على الكراهية مرتبطةٌ، بشكل معقد، بقيم ومبادئ المجتمع المستجيب. وعلى هذا النحو، تخبرنا هذه الاستجابات شيئاً مهماً عن الأسس المعيارية للديمقراطيات الليبرالية؛ مثلاً، ما يتعلق بالعدالة الجنائية، والتسامح، والمساواة، والحريات الأساسية. من الواضح أن إحدى الاستجابات البارزة كان التجريم والعقاب، لكنْ هل التجريم هو الحلّ المناسب، وإذا كان الأمر كذلك فهل العقوبات المشددة هي أفضل الطرق؟ يسعى فصلان (من تأليف الفلاسفة إيه آر داف (A R Duff)، وإس إي مارشال (S E Marshall) والعالِم المتخصّص في الجريمة مارك والترز (Mark Walters)) إلى سدّ الفجوة الحاسمة بين تأكيد ظلم الكراهية من جهة، والاندفاع إلى التجريم والمعاقبة من جهة أخرى؛ وهي فجوة غالباً ما يتمّ تجاهلها، أو الارتجال في معالجتها في الخطابات الحالية المناهضة للكراهية. من الواضح أنّ هناك أيضاً استجابات أخرى ضدّ الكراهية سوى الآليات القانونية للمساءلة الجنائية الفردية. تطرح عالمةُ الاجتماع بيرجيت شيبلرن جوهانسين (Birgitte S. Johansen) مشكلة حكمة ترويج التسامح (كفضيلة ليبرالية كلاسيكية) بوصفه ترياقاً مضاداً للكراهية، وتطرح المنظِّرة السياسية ميهايلا ميهاي (Mihaela Mihai) حجةَ مزايا الفن لدى العمل على التصرفات الجمعية الظاهرة والعدائية بلا تبصّر.

الكراهيات الديمقراطية

أخيراً، كان طموحنا مع الكتب هو أيضاً سبر النقاط العمياء محتملة الوجود في قانون وسياسة مكافحة الكراهية الحالية. وبالتحديد، من خلال التساؤل عمّا إنْ كان هناك وجود لشيءٍ مثل كراهيةٍ ديمقراطيةٍ ليبرالية، وإنْ كان الأمر كذلك فكيف يتبدّى؟ يجيب مؤرخ الأفكار ميكيل ثورب  (Mikkel Thorup)عن هذا السؤال من الناحية المفاهيمية، من خلال التحقيق في القواعد النحوية المختلفة للعداوة الناشئة عن الديمقراطية بوصفها نظاماً سياسياً يستبدل بالكراهية مثالياً عدمَ التوافق، ويستبدل بالعدو المنافسَ، ويستبدل بالعنف التصويتَ والاقتراعَ. الفكرةُ، التي تكوّن مفهوم الذات الديمقراطية، هي أن العنفَ هو الشرُّ، الذي قد تنقذنا الديمقراطية منه، وأنّ العنفَ موجودٌ في هذا العالم بسبب الآخرين غير الديمقراطيين والمليئين بالكراهية فحسب. يجيب فصلٌ آخر عن السؤال تجريبياً، من خلال استقصاءِ ما إذا كانت الدول الديمقراطية الليبرالية ترتكب، في واقع الأمر، ما تزعم أنها تحاربه بوصفه «كراهية». تجادل الباحثة القانونية كاثرين أبرامز  (Kathryn Abrams)بأن هذا، في الواقع، ما تفعله ولاية أريزونا بالضبط في ظلّ نظام «إنفاذ القانون عن طريق الاستنزاف» المنتشر ضدّ المهاجرين، الذين ليس لديهم وثائق شرعية. تُظهر القضية كيف يمكن لملامح محددة من كراهية الدولة أن تصبح قانونيةً بسهولة عندما لا يتمّ اعتبار الأفراد أعضاءَ في النظام السياسي، وعندما تتدثر الكراهية بخطاب المخاوف بدلاً من العدائية.

لقد أصبح تبنّي روحِ مناهضةِ الكراهية، ومواجهةِ خطاب الكراهية وجرائم الكراهية، طرقاً تحدِّد بها الدولُ الليبرالية والديمقراطية أعداءها، وتُعرّف عن هوية نفسها. ورغم ذلك، إن محاربة الكراهية ليست واضحة بلا لبس، ولا تمر من دون تكلفة. فكما أشار الباحث القانوني روبرت بوست (Robert Post)، في ملخصه الختامي، إن التحشيد لمفهوم الكراهية، باعتباره المنظار الذي تُعالَج وفق رؤيته قضايا مثل التحيز والتمييز العنصري، يُحتمل أن يفتح باباً لإقصاء الجناة المرتكبين: «باسم التسامح، يجري تحريم وإقصاء المذنبين بارتكاب جرائم الكراهية؛ نضعهم خارج دائرة “الحوار الممكن”. إن خلق جرائم الكراهية لا يطهر المجتمع من الكراهية، بل، بدلاً من ذلك، يعيد توجيهَ كراهيةٍ ديمقراطيةٍ نحو مرتكبي جرائم الكراهية». هل نحن، في قتالنا للكراهية، نخاطر بإقصاءٍ مليء بالكراهية للآخرين المكروهين من وسطنا؟ لا يقدم الكتابُ إجابةً عن هذا السؤال الصعب، لكننا نأملُ دعوةَ وإثارةَ النقاش حول العلاقات الصعبة بين الكراهية والسياسة والقانون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *