في كتاب الكراهية والسياسة والقانون في فصل من الكراهية إلى التضامن السياسي: فن المسؤولية تؤكد الباحثة ميشيلا ميهي على ثلاثة أبعاد مهمّة “لا يعنى الانشغال بخطاب الكراهية وجريمة الكراهية بها إلا جزئيًا: اللغوي، والعاطفي، والجسدي. فلا يكفي النظر إلى خطاب وجريمة الكراهية بوصفهما وقائع فردية ومشحونة عاطفيًا، وهي إذ تشكك في هذا السياق في الأفكار والعواطف والحوادث التي تتوجه إليها قوانين خطاب وجرائم الكراهية، تلفت الانتباه إلى ثلاثة أبعاد تراها مهمة “اللغة بوصفها مستودعًا لتصنيفات جائرة، وعواطف تؤسّس لعادات غير ديمقراطية، وإلى الجسد، بوصفه موضعًا للقمع ومتواطئًا في القيام به.”
في الحالات التي تتمخض فيها الكراهية عن جريمة جنائية، كما تقر ميشيلا، الجريمة محددة، الجناة فيها محددون والضحايا أيضا محددون، لكن في تركيزها على الخطاب تفضل النظر إليه كأفعال كلام، أو سلوك يستهدف التحريض على الكراهية أو من المرجح أن يفعل ذلك إذا لم يكن يستهدفه. الجريمة مفردنة ولديها جناة وضحايا يمكن تحديدهم بوضوح، حيث الضحايا يُستهدفون بسبب ملامح هوية بعينها: لون البشرة، أو العنصر، أو القومية، أو الإثنية، أو الدين، أو التوجّه الجنسي.” غير أن هذا التصور البديهي ـ كما ترى ــ يغفل “أن اللغة نفسها تعيد إنتاج رؤى هرمية في البشرية تعزّز خطاب الكراهية في التلميحات والاقتراحات، وفي الحجج والعروض، باختصار في التعبيرات الجزئية في الحياة اليومية… واللغة غامرة بالعنف لأنها في الوقت نفسه انعكاس لعالمنا المجحف وتسهم بشكل فاعل في إعادة إنتاجه… وتسهم البناءات اللغوية التي تصف الجماعات بأنها غريبة، وإجرامية، ولاأخلاقية، وإرهابية، ومفرطة في استخدام الجنس، وسفاحية، إلخ. في قمع النساء، والفقراء، وأقليات متنوعة بطرق أكثر انتشارًا وأقل وضوحًا من خطاب الكراهية.”.
أما فيما يخص العواطف تُفسر الكراهية المستهدفة من قِبل قوانين خطاب الكراهية وجريمة الكراهية على “أنها عاطفة خبيثة، ومفردَنة، وتسهل ملاحظتها ويمكن أن تؤدي إلى استخدام العنف ضد أعضاء جماعة ما بفضل خصائص بعينها، تشحن بشكل اعتباطي بدلالة خاصّة. وعاطفة الكراهية في خطاب الكراهية وجريمة الكراهية إنما تفهم على أنها منحرفة، واستثنائية، وغير معقولة، في حين أن الضرر كرب عاطفي ومادي، ويتمثل الكرب الأول في شعور بالدونية، وانعدام الثقة في النفس، وإحساس بعدم الجدارة بالانخراط في السياسة لدى المجموعات الخاضعة، ما يفضي إلى اعتقاد راسخ لدى ضحايا التمييز بأن السياسة ليست لأمثالهم، “والشعور عاطفيًا بالانزعاج – بالترهيب، والخوف، وبالخزي، وبأن المرء موضع اشمئزاز آخرين – من الجدال مع الآخرين الأكثر تعليمًا، وفصاحة، وسلطة يفسر – جزئيًا على الأقل – السبب الذي يجعل البعض ينسحبون من صناعة القرار السياسي. فضلًا عن هذا، غالبًا ما يجعل الظهور المفرط للنزوعات العنصرية والطبقية الملونين والفقراء يفضلون الخفاء سياسيًا.” أما البعد الجسدي الظاهر من داخل المنظور القانوني لخطاب وجريمة الكراهية، فتصبح بعض السمات الجسدية ظاهرة كعلامة على الدونية في عيون من يمارسون الكراهية خطابًا وعنفًا، حيث “لون البشرة، أو ملامح الوجه، أو التوجّه الجنسي، تُختار بوصفها عناصر اختلاف وتشحن بأهمية أخلاقية أو سياسية سلبية. وفي حالة جريمة الكراهية، الجسد هو هدف العنف، أحيانًا إلى حد تصفيته.”.
ومن جديد، ما يغفل عنه الخطاب المذكور هو أن الجسد مهم سياسيًا بطرق أكثر تركيبًا وخفاءً مما يرد في هذه القوانين “ذلك أن جسد المرء يكشف، بقدر ما تكشف كلماته، عمن يكون: ليس فقط لون بشرته، وجندره، وملامح وجهه، بل حتى ملابسه، وتبرجه، وهيئاته، وإيماءاته، ومشيته، ووقفته، ولكنته مهمّة سياسيًا. وموضع المرء في العالم الاجتماعي منقوش على جسده، غالبًا خارج نطاق قبضة الوعي، أو التصريح أو التحول المقصود. نحن “نرمّز” ونصنف” أخوتنا المواطنين –فالواحد منهم محترم، أو متنفذ، أو حكيم، أو جدير بالثقة، أو خطير، أو غبي، أو تافه، أو مثير للاشمئزاز، أو يستحق الاستياء، أو أهلٌ للكراهية، إلخ. – وقفًا على ملامح جسده. ويحدد هذا التصنيف علاقاتنا”. وفي الغالب يكون ضحايا هذا التصنيف القهري: الملونون، والنساء، والأقليات الجنسية، والمعاقون، ما يجعلهم موضع عنف لفظي أو مادي بطرق لا سبيل لاختزالها إلى خطاب الكراهية أو جريمتها. ونحن ـ كما تقر ميشيلا ـ “لا نلحظ أهمية الجسد السياسية حصرًا في حالات الهجوم المدفوعة بكراهية وفي الكيفية التي يرتبط بها رفاه المرء بشكل جوهري بالكيفية التي يجعله الآخرون يشعر في جلده: بالخوف، أو الخزي، أو الإحراج، أو عدم الارتياح. ويعاد الانزعاج من الجلد بتنويعة من المواقف والممارسات المجحفة التي يرجّح أن تستهدف أجسادًا بعينها أكثر من غيرها. ويؤثر الجسد الذي نقطن فيه سلطتنا، وجدارتنا بالاحترام، وتيسرنا، وفرصنا وقوتنا السياسية النسبية في العالم الاجتماعي.”.
في المقالة السابقة تطرقت لخطاب الكراهية الواسع الموجه ضد الأمة الروسية، مدججًا بشبكات إعلامية كبرى وسوشيال ميديا متمثلة في أهم شركاتها، وكيف أن هذا الخطاب لا يبقي ولا يذر على شيء يمكن التسامح معه، واللغة المستخدمة هي حصيلة ما أنتجه قاموس الحرب الباردة طيلة عقود، إضافة إلى تنميط الشخصية الروسية السلافية عبر الصورة والسينما التي قدمت هذه الملامح كشكل دال على الشر والعنف المتأصلين، مثلما فعلت السينما الموجّهَة مع الملامح الأسيوية الصفراء، والغاية كانت تثبيت كل القوى الواعدة في العالم كمرادف للشر، لتغدو المسألة وجودية وفق كوجيتو مقترح: أنا أكره أنا موجود. وبمجرد أن قامت روسيا بعمليتها العسكرية في أوكرانيا كان هذا القاموس جاهزاً ومعززاً بتقنيات عالية لفبركة المشاهد وتبديل الحقائق وكان رد مؤسسات روسيا التقنية والإعلامية غير قادر على مواجهة هذا السيل الكوني من التضليل التقني الحاض على كراهية جنس بشري برمته، أو كما قال محلل سياسي روسي: الأمر مثلما توضع فوقك أكداس من القمامة وعليك أن تلقطها جزيئًا جزيئًا وتحللها. انطلقت مداخلة ميشيلا من تفحص وهن الجماعات الهشة المعرضة للتمييز، لكن هذا بالتأكيد لا ينطبق على روسيا الكبرى بكل ما تملكه من قوة، غير أن مأتى هذه الحرب الكلامية الموجهة إليها هي رغبة قوة أمريكيا وأتباعها في أن تكون القطب الأوحد المهيمن على هذا العالم، ولا تريد لأي طموح آخر أن يعكر صفو هذه الهيمنة، وكون هذا القطب استطاع على مدى عقود أن يسيطر تقريبًا على كل ميديا العالم، فهذه الميديا المروضة تستجيب للأسف بشكل يدعو للتقزز.
وفي هذا السياق من طيف الكراهية الواسع، لابد لي أن أمر بالحالة الليبية، كمثال واضح على تفشي أبعاد الكراهية التي أشارت إليها ميشيلا، مع اختلافات تستحق التوقف عندها، حيث أهداف خطاب الكراهية المقصود لا تنطبق مظاهره بشكل مباشر على الحالة الليبية (لون البشرة، أو العنصر، أو القومية، أو الإثنية، أو الدين، أو التوجّه الجنسي.) وإن استُثمِر بعضها بشكل يخدم توجهات أوسع أيديولوجية ذات بعد عالمي أو جهوية محلية. ثمة خطاب كراهية جهوي يجب أن لا نغفله خصوصًا بين الغرب الليبي والشرق تفشى علانية في السنين الأخيرة مخدومًا بسيل القنوات الفضائية التي دخلت على الخط، وبمواقع التواصل التي تحولت إلى منصات ترويج لهذا الخطاب، الذي تمخض عنه أحيانًا عنف وجرائم. غير أن انتشار هذا الخطاب الجهوي كان في حقيقته توسيعًا عاطفيًا لخلافات سياسية، أيديولوجية أحيانًا، أو حتى قبلية، أو مصلحية متعلقة بالمركزية والتهميش التي استثمرت من قبل بعض الساسة أو التيارات في توسيع رقعة الكراهية لتصبح ذات مظهر إقليمي.
اللغة، والعواطف، والجسد، استخدمت كسمات تمييز في هذه المشاحنات المشحونة بالكراهية في الاتجاهين، من لهجة، أو أنواع طعام، أو ملابس، أو لون (كما حدث مع تاروغاء مثلاً)، أو مهنة (رعاة الأغنام)، أو مسبة تاريخية (القرامطة). غير أنه تتوجب الإشارة هنا إلى مثال مهم، أختاره، لأن القناة التي تبنته من المفترض أن تكون قناة محترمة ومحترفة ذات إمكانات تقنية وفنية مهمة، ومن جانب آخر هي قناة ارتبطت بثورة فبراير من بدايتها وواكبتها كما يجب في البداية، لكن سرعان ما سرقها تيار محدد وحوّلها إلى منصة كبرى لخطاب الكراهية، وهي قناة (ليبيا الأحرار)، وخصوصًا البرنامج الهزلي الذي كان يقدمه كل من نعمان بن عثمان وسليمان دوغة، برنامج مفتوح لا سقف زمني له مهمته أن يبث الكراهية تجاه إقليم ليبي، مستخدمًا لغة نابية حيال سكان هذا الإقليم ووصفهم بكلمات مقذعة، وهو نموذج بارز لكل ما أشارت إليه ميشيلا في دراستها المهمة، دون أن ننسى بقية القنوات التي لم أشر إليها لأنها ولدت أساسا في كنف الاستقطاب الحاد، أو ما أسميها قنوات الرغاطة المحلية ذات الهدف التعبوي، وإن أسهمت بقدر لا يستهان به في إنتاج خطاب الكراهية وحتى جرائمها، إلا أنها في الأساس قنوات هزيلة ولِدت من قلب هذا الخطاب نفسه، ولا يمكنها أن تكون خارجه، بعكس قناة ولِدت مع الحلم الليبي بالخلاص ومن أجل كل الليبيين.
المصدر:
كوجيتو الكاره – بقلم سالم العوكلي ..
http://alwasat.ly/news/opinions/357171?author=1