المدونة

«آدم ينحت وجه العالم»… تحدّث وتحدّث وتحدّث ثمّ تجرّد وعُدْ نقياً..

ماذا لو قلت لك إن كثيراً من الأشياء التي تمتلكها هي أشياء زائدة مُلهية وليست ضرورية، إنّها تسرق وقتك، وعلاقاتك بالناس، وتقلل لديك من نشر الحب، ومن ثمّ تُراكِمُ وهماً يُضاف إلى بناء عالمٍ هو أساساً مثقلٌ وعلى حافة الهاوية… قد يكفيك بيت صغير يؤويك، وطعام جيد، والكثير من لقاء الناس، عندها لن تشعر بأنك بحاجة إلى شيء، حينها ستكون حراً لأنك لست مرهوناً بالعمل كثيراً لتحصل على أشياء كثيرةٍ أنت حقيقةً لست بحاجةٍ إليها.. أشياء أقل، موارد أقل، وقت أكثر، علاقات إنسانية أكبر… هذه الكلمات تُعنَى بالأشياء المادية الملموسة، لكن ماذا عن الأفكار؟ يولد الإنسان في نقائه الأول، بريئاً، صادقاً، عفوياً، صريحاً، كل ما يمكن قوله عنه إن هويته الجينية مشتقة ومدمجة من جينات والديه، من سمات بيئته، صحرائه، أو جبله، أو بحره، أو سهله، لكنه يبقى، فكرياً، نقياً في نسخته الأولى التي لم يمسسها أي تدخل خارجي، ثم يبدأ اكتساب الأفكار دينياً، وتعليمياً، وتربيةً أسريةً، ومجتمعياً، وبيئياً، ثم عالمياً… لكنّ كثيراً من هذه الأفكار هي مجرد أقنعة هزيلة تدمّر نقاء نسخته الأولى، وإن كانت تعيد تشكيله من جديد، تعيد نحنته إنساناً يبتعد أكثر فأكثر عن إنسانيّته…

في هذه الرواية آدم، برمزيته الصارخة، يواجه مخاض حضوره في هذا العالم، في سرديته من التيه والضياع إلى الصمت الأبدي… من سريره، حيث يرافقه في تيهه قلمٌ وورقةٌ وكاميرا صغيرة ووسادة أحلام، يبدأ يتحدث ويتحدث، ثم يكتب ويكتب، ثم يخرج ويتجاوز حدود الجغرافيا، ثم يصرخ ثم يصرخ، لكنه في النهاية يصمت… بعد أن كان يتألم في عزلته، يخرج ويمتلئ بكلّ العالم، بصور العالم، بأفكار العالم، بأقنعته الهزيلة، بثرثرته، بقسوته، ثم يتلاشى العالم من حوله، ويختصره في نقاء أمه «فرنسا»، ونقاء فتاته التي أحبته بنقاءٍ بعيداً عن أي مكتسبات، فتاته التي هي ليست قديسة لكنها طهّرت نفسها وعادت نقية، ونقاء نصّه الذي يؤمن به متجرداً من هوامشه وشروحاته وشروحات شروحاته، ثم يتجرد من كل شيء، ويصمت.. يصمت إلى الأبد، لكنه الصمت الصارخ الذي يعيد بناء كلّ شيء، ويعيد نحت وجه العالم في نقائه الأول.

لغةً ومكاناً، ترتحل بك الكلمات من ظلمة ما وراء ستائر غرفة آدم إلى صخب أضواء شوارع وأزقة وأحياء الكويت بما بعد حداثتها، ثم عودة إلى صحرائها في نقائها الأول، ثم تعبر الحدود إلى ريف فرنسا، ثم عودة إلى القاهرة بنصفيها القديم والحديث، بفيزيائيتها الممايزة بين المحروسة ومصر الجديدة، وقد ارتسم التاريخ على كل شيء فيها، شوارعها، أبنيتها، مقاهيها، مساجدها، إنسانها، ترتحل بك نثراً سردياً يلامسك، ويحاورك، ويستفز فيك الأسئلة الوجودية الكبرى، ثم يجردك من كل شيء، ويعود بك نقياً، إلا ممّا يتركه فيك من آثار تلك الأسئلة الموجعة، التي لن تتردّد، حتى لا تسقط في الهاوية، في الهرب من أجوبتها… فآدم يعلن منذ الكلمات المفتاحية للرواية أنه «سيكتب الحياة كما يراها هو وليس كما تراها أنت»، ترافقه، في سرديّته، ثيمة مركزية في عالمه الجديد «الحياة.. أن تكون حاضراً بعد أن تغادرها»، فهو في رحلة البحث عن الذات يحارب من أجل البقاء بحب وإن غادر، لكنه ينتهي إلى صمته «غائباً عن الحياة».

حركية الشخصيات، أيضاً، في رحلتها من الامتلاء بالوهم إلى التجرد والنقاء القسري حيناً والاختياري حيناً آخر، ستضفي على الآثار المتراكمة لديك، بعد مغادرة الرواية، رنيناً ملموساً، فهي ممتلئة بالحدث فساداً ونقاء، ومترفة بالكلمات التبريرية والخطابية الشعاراتية حيناً وبالكلمات العفوية الممتلئة بالحب والمجردة من كل لبس حيناً آخر، أما في بنيائيتها وسيرورتها فهي تخضع لهزات حياتية تشكل نقاط تحولٍ تغيّر مسارها، فـ«نور» المترفة بأنوثتها وكلماتها الكرنفالية تنتهي قاتلة، تقابلها «ضحى» –مع ملاحظة التناغم والتناظر بين النور والضحى- التي تبدأ بالإثم وتنتهي بالطهرية والنقاء، و«مطلق» منذ الهزة الأولى وتيهه في الصحراء وحواريته مع الذئب إلى تمرّده، ثم خطيئته الأخوية، ورغبته في الإنجاب، في مقابل «فرنسا»، المولودة في ريف فرنسا في الحرب العالمية الثانية، بنقائها وبراءتها وامتلائها بالحب، والتي شكلت وفاتها موت النقاء ومن ثم بدء الصمت لدى آدم. كما أنها شخصيات مثقلة بالأفكار المكتسبة المتراكمة والمثيرة للجدل، لكنها شخصيات تمثيلية، بمعنى أنّ كلاً منها يمثل فئة من البشر، وقد يمثل جغرافيا بعينها، أو زمناً بعينه، في عالم يحتضر، وقد أجرؤ على القول في عالمٍ يتجه دون تردّد إلى أن يدمر ذاته، وإذا أردت للتفاؤل أن يعبر طريقه إلى ذاكرتي فنحن في عالم يتوسل إلينا أن نعيد نحته من جديد، عالماً مجرداً من تفاهات الإنسان، وتدخلاته التي تغير قوانينه، عالماً يستعيد بالإنسان نقاءه الأول… ولأنك إنسان، تحدّث وتحدّث وتحدّث، ثم تجرد، وعُد إلى نقائك الأول.. إلى آدم الإنسان الأول، وآدم الكاتب في سرديّته وهو يعيد، بصراخه وبصمته الأبدي، نحت وجه العالم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *