التجريد والحرف العربي والفن الإسلامي
الخط العربي .. كلاسيكيات الأصالة تثبت قواعد التجريد والمفاهيمية المعاصرة .. تشكل الرمزيات البصرية
رغم أصالته المعتقة بالتاريخ والحضارة وعمق الفكر والهندسة وحسابات التشكيل والرسم، يُعدُّ الخط العربي من أبرز العناصر الحداثية في الفنون البصرية والتشكيلية المعاصرة، وخاصة أنه، بوصفه مجالاً فنياً، يُعدّ أولى خطوات المدرسة التجريدية والأسلوب الحداثي الخاضع لمميزات التجديد في مرونة الممارسة التشكيلية مع كتلة الحرف وتعبيراته الرمزية.
فالخط العربي من أبرز الأشكال الفنية الحديثة المؤثرة في الصورة والمعنى؛ حيث يجمع مختلف عناصر التصميم والهندسة المعاصرة في الشكل والكتلة والفراغ والحجم، ويحوّل التفاعلات بينها إلى حركة جمالية موظفة فنياً.
فالخط يرسم ويحفر ويشارك كعنصر أساسي في اللوحات الفنية والمنحوتة والزخرف، وهنا يتحوّل بفضاءاته إلى أفق رحب يحوي المعنى والمفهوم التشكيلي والخامات التي تندمج من خلال الخطوط والأشكال على حساب قوالب الفكرة التي تحرّك المضمون.
وقد بدأ الخط من منطلقات الذات وصولاً إلى تجميع المقاصد في الأشكال الغامضة والترميزية في تجسيد الطبيعة والحالات انطلاقاً من الانفعالات التعبيرية التي يطرحها الفن التشكيلي كأول عناصر تجريدية عرفها تاريخ الفن الحديث.
يتفاعل الخط العربي مع التجسيد الكلاسيكي في فكرة الإثبات والبناء والخلود والتوافق الشكلي والمعنوي بقواعد التصميم الهندسي وقيم التشكيل الجمالي الحداثي والمعاصر، الذي حرك مفاهيم التجريب نحو البناء الفني المعاصر في تجريدياته للحروفيات كعلامات بصرية برؤى عميقة ضمنياً.
فالتعبير الحرفي بعلاماته البصرية له مفاهيمه المقروءة، سواء لمن يعرف اللغة أم لمن يجهلها؛ لأن الخط العربي تجاوز بأبعاده البصرية التعبير المباشر إلى التجريد الذي يوصل الفكرة إلى الذهن من خلال إحداثات المشهدية التشكيلية، التي تخدم المعنى الجمالي، وتحوي التجديد وحتى تكنيكات اللغات الأخرى في هندساتها الخطية مثل الخط الياباني والصيني، وتلك التجربة التي حاول تأكيدها الخطاط والفنان العراقي حسن المسعود، الذي خاض التجريب والتجديد، وتحمّل عناصر الفرجة في تشكيل الخط العربي على مزاج خطوط العالم والتفوق الجمالي من خلال المعنى والصور.
وهنا لا يمكن التغافل عن تجارب مجددة اعتمدت الخط العربي بحضوره التشكيلي، الذي تجاوز المعنى اللغوي، وارتحل بالحرف نحو دروب أبعد في التوليف اللوني والتعبير عن الصخب والفراغ في النقاط والشكل والخطوط التي تمازج المعنى وتحاوره جمالياً، كما في تجربة الخطاط إبراهيم أبو طوق من الأردن أو الخطاط وجيه نحلة من لبنان، فتجربة أبو طوق حمّلت الحروف كيان المعنى لتتجسد مع اللوحة في تفاعل الضوء والعتمة واختراق الفضاء كأبعاد هندسية دقيقة ومدروسة لحركة كل حرف وتواصله وانفصاله. أما وجيه نحلة، فقد حرك الحرف بتناغمات لونية عزفت إيقاعات صاخبة في حالاتها النفسية وهادئة في محاورتها للطبيعة والحياة.
كما حمل الخط العربي عنصر الصورة كمشهدية تحوّل الخيال في معنى الحرف الى تعبير وموقف وحضور وتلاوين مكثفة في عناصرها التي تسبق التفسير بالرؤى الجمالية المقنعة ليتكامل العنصر الحروفي مع الموقف المعلن من رموز الصورة، كما في التجربة الحروفية عند التشكيلي اللبناني عدنان المصري.
ولعلنا بالبحث في تشكيلات الحرف العربي بين الحروفية والتنقل الخطي من التجريد الكلاسيكي المألوف إلى المفاهيمية التجريبية، التي تتحدى الصورة، وتتوحد مع عناصرها، نجادل التعبير والأسلوب الذي يعتمده الفنانون في هذا التجريب الجمالي البصري والمعاصر، ومن ثَمَّ الخروج بالخط من أطره المعتادة إلى تحميله رسائل تشكيلية لها دلالاتها التعبيرية، التي تحاكي الحضارات، وتسرد بصرياً الصدامات والتوافقات، وتحكي الشرق الإسلامي مثل تجربة التشكيلي اللبناني الإيطالي علي حسون، فقد بات الخط والحرف يتلازمان تعبيرياً في خدمة الصورة وأسلوب «البوب آرت» بتمازج مع الواقع والخروج به من توظيفاته نحو أبعاد أعمق كالتعبير عن الهوية الثقافية والاجتماعية عن قضايا الإنسان والمرأة. وهنا يحيلنا التجريب إلى أعمال خالد ترقلي أبو الهول، الذي اعتمد الخط مرجعيةً تاريخية حضارية اجتماعية وإسلامية لها رموزها الدلالية الموظفة للتعبير عن قضايا المرأة.
إن الخط العربي يتفرد بصرياً خاصة بدمجه المعاصر؛ فالتطوير التقني ساهم في تعبيرية الخط والحرف الرمزية بدلالاتها المختلفة، وخاصة أنه حرف مشحون بالروحانيات والعمق النفسي والتذكر الغارق في المخيال الجماعي، كما يتداعى إلى الصور التي حملها المستشرقون في تحويل الجوانب الجمالية من الزخرف والابتكار التزويقي للحرف في مختلف الخامات؛ الحفر على الخشب والحجر والخزف، والحضور الفني في عناصره الجمالية.