المدونة

لا تولد قبيحاً – قصة بعنوان المنتحر، رجاء علّيش

 

المنتحر

كان على وشك أن يرتكب أخطر عمل في حياته.. أن يقتل نفسه.. وللمرة الأولى بدأ يدرك سخف الفكرة الشائعة بأن الانتحار عملية تلقائية يقوم بها المنتحر دون إعداد سابق.. تطرأ على ذهنه فجأةً، فينفذها على الفور.. هكذا ببساطة شديدة.. الآن، وهو يقف أمام الموت، تأكد له أن الانتحار ليس عملاً من هذا النوع.. إنه شيء معقد مخيف يحتاج إلى كل شجاعة الرجل وعقله وحواسه.. على الأقل الجانب المادي الإرادي منه.. سيهلك جانباً من طاقته العصبية المختزنة؛ حيث يحتاج إلى أن يتفرغ له تماماً، وأن يعدّ له.

المنتحر.. إلى حد ما.. إذا لم يرد أن يترتب على عمله مضاعفات قد تسيء لآخرين يحبهم في هذا العالم، يشبه الجراح الذي يقوم بعملية بتر كاملة للعضو المصاب بالغرغرينا.. ينظف مكان العملية الجراحية ليتأكد له أنه لن تحدث مضاعفات خطيرة قبل أن يغلق مكان الجرح المفتوح.. المنتحر يصفي كل علاقاته القديمة.. يقطع كل الخيوط التي تربطه بأناس بعنيهم في هذا العالم حتى لا يرحل عن الدنيا وهو مدين لأحد.. حتى لا يسبب إزعاجاً لأحد.. هذا كله يحتاج منه إلى أن يخطط لهذا العمل الخطير قبل فترة مناسبة.. أن يقوم بمبادرات معينة، ثم عليه أخيراً أن يواجه أهم وأخطر المراحل على الإطلاق.. في لحظة ما.. من مكان ما.. بوسيلة ما.. أن يحول الفكر المجرد إلى عمل.

هذا هو الموقف الآن الذي يجد نفسه فيه، والذي يدرك معه أن كل أفكاره السابقة عن الانتحار كانت نوعاً سخيفاً من الوهم من أناس لم ينتحروا على الإطلاق، أو يفكروا في الانتحار.

إنه يدرك تماماً الآن أن الانتحار عمل مخيف، على الأقل الجانب المادي الإرادي منه.. أن يصل الإنسان إلى تلك الدرجة من الهوان على نفسه.. الإحساس الكامل بالضياع واليأس من الحياة؛ حيث لا يجد صعوبة في أن يضع رأسه في مواجهة مسدس، ثم يطلق الرصاصة.

لو أنهم اقتحموا جمجمته الآن لرأوا عن قرب ذلك الصراع المخيف الدائر فيها بين رغبته في البقاء ورغبته في الانتحار.. بين الشجاعة والخوف.. بين كل مغريات الحياة وجاذبية الموت الرهيبة.

لكن تردده لم يكن راجعاً إلى أنه لم يختر بعد أن يموت.. على مدى أيام طويلة كان قد اختار.. تذبذبه كان شيئاً غريزياً تماماً يتحرك في نفس كل إنسان يواجه الموت الإرادي، وتشده مغريات الحياة إلى الوراء.. تذبذبه كان إنسانياً تماماً؛ لأن الخوف الغريزي، الذي كان يشعر به تجاه الموت.. على الأقل الجانب المادي الإرادي من الموت، لم يكن شيئاً مخجلاً على الإطلاق.

كان عليه أن يحسم هذا الصراع المخيف على الفور.. أن يضع نفسه وجهاً لوجه أمام المخرج الوحيد من مأزقه.. أن يموت.

كان قد هيأ المسرح تماماً للعمل الخطير الذي ينوي ارتكابه.. اختار وقتاً هادئاً للغاية لتنفيذ مخطّطه الجنوبي.. كان يدرك أن زوجته المريضة طريحة الفراش منذ سنوات بعيدة، عاجزة تماماً عن إنقاذه في اللحظة المناسبة حتى لو

 

أحست به.. وكان قد طلب من ابنته الطالبة في الجامعة ألا تعود في فترة الظهر لتعطي أمها الدواء كالعادة، قائلاً لها إنه سينوب عنها في أداء هذه المهمة، ولم تشكّ ابنته في شيء، فقد كان حريصاً تماماً على إخفاء مشاعره الحقيقية عن أقرب المقربين إليه، ابنته وامرأته طريحة الفراش، بل إنها رحبت بهذا العمل من جانب والدها؛ لأنه سيعفيها من مشقة الرجوع إلى البيت، ثم العودة إلى الجامعة من جديد لتكملة باقي المحاضرات.

الحجرة، التي يوجد فيها، يخيم عليها الظلام.. مصراعها الخشبي المغلق يحجب ضوء الشمس المتوهج في الخارج.. الظلام سيضفي شاعرية غريبة على عمله الجنوني.. سيجعل كلّ الأشياء، التي لا يريد أن يراها، تذوب في الظلام.

كان واقفاً فوق مقعد صغير وسط الحجرة.. حبلٌ يتدلى من خطاف حديدي صغير في السقف يلتف حول رقبته.. صمت تام يخيّم على الشقة كلها.. صمت يحمل بين طياته رائحة الموت الطيبة العطرة.. ليس عليه أن يتردد طويلاً، بل أن يحسم الأمر بسرعة لمصلحة فكرة الموت، التي جاء من أجل تنفيذها.. دفعة بسيطة من قدمه للمقعد الذي يقف فوقه، ويجد نفسه جثة متأرجحة في الهواء، كما أراد تماماً، وبذلك تنتهي كلّ متاعبه في لحظات.

الثواني تمرّ عليه، وهو عاجز عن أن يصل إلى حسم الأمر لمصلحة فكرة الموت المسيطرة على كلّ خلجة في نفسه.. شجاعته تخونه مع الوقت.. العمل الذي تصوّره بالغ السهولة.. مجرد أن يدفع المقعد الصغير بقدمه إلى الأرض أصبح مستحيلاً بدرجة خرافية.. قدمه تحوّلت إلى صخرة من الجرانيت تعجز كل الدوامات الساخنة، التي تفور في داخله، عن تحريكها لتدفع بالمقعد الصغير إلى الأرض.. إنه يعيش لحظة تجمع بين الحقيقة ومنتهی الوهم.. عاجزاً عن رؤية أيّ شيء أمامه.. عن حسم أيّ شيء.

بدأ يقوم ببعض الأعمال التافهة ليكثف اللحظات التي تمرّ به.. اللحظات التي تشبه الهواء الساخن المتسرب من بين أصابعه.. ليعطيها شحنات أكبر من الحقيقة.. بدأ يتحسس الحبل الملتف حول رقبته.. مسند المقعد الذي يقف فوقه.. جسمه المسترخي في بلادة شديدة كأنّه مات فعلاً، وليس في طريقه إلى أن يموت.. ثمّ بدأ يفكر في زملائه في العمل.. الخطوة الأولى ليمتلئ بالغضب الذي يدفع به بسرعة في طريق الموت.. بدأ يحسّ أنه يمضغ إحدى الثمار الشديدة المرارة.. كان يشكّ طول الوقت في أنّ الأوغاد عرفوا شيئاً عن السر الدفين، الذي حاول، باستهانة بالغة، أن يخفيه عن عيونهم المستريبة الحاقدة.

الذي كان يعذبه أكثر هو أنه لم يكن مؤكداً له تماماً أنهم عرفوا شيئاً على الإطلاق، وإلا لما التزموا الصمت حتى الآن، ولجابهوه بعدوانية صريحة لا مواربة فيها.. ليس مؤكداً له أنهم عرفوا شيئاً على الإطلاق.. إنّه فقط يشك فيهم، وهو بالتأكيد ملك أسباباً حقيقية لذلك الشك.. هو نفسه أعطاهم مبررات الشك فيه؛ إذ لا ريب في أنهم لاحظوا أنها المرة الأولى في تاريخه الوظيفي الطويل، الذي يتميز بالانضباط الشديد، والتي ينصرف فيها عن العمل قبل أن يحين ميعاد الانصراف الرسمي دون أن يعطي لذلك مبررات معقولة لزملائه.. وفاة قريب مثلاً، أو عملية جراحية في مستشفى، أو عشرات أخرى من الأسباب.. كلّ ما برّر به هذا العمل أنه أحس إرهاقاً مفاجئاً يمنعه من الاستمرار.

كان لا بد لهم من أن يشكوا في رجل لم يشعر، خلال تاريخه الوظيفي الطويل، بأيّ ارهاق من العمل، ولم ينصرف أبداً قبل أن يحين ميعاد الانصراف الرسمي، مهما كانت الأسباب والمبررات.. أحس من نظراتهم إليه أنهم لا يصدقون حرفاً واحداً مما قال.. إنهم يتبادلون في ما بينهم شفرة صامتة غريبة في محاولة استجلاء السرّ الدفين الذي يحاول باستهانة بالغة إخفاءه عن عيونهم المستريبة الحاقدة.

المأساة أنه يعرف أنهم لم يصدقوا حرفاً واحداً مما قاله لهم، لكنّه لا يستطيع أن يصارحهم بذلك.. هم أيضاً يعرفون أنّه كذب عليهم، لكنهم لا يجرؤون على مصارحته بذلك.. ويتكهرب الجو بينه وبينهم، وترتفع حدّة الكراهية المشتركة إلى الذروة، وهو يعلم أنّ مرؤوسيه الصغار يتمنون من صميم قلوبهم أن يقع مرة واحدة على الأرض، فيسارعون إلى إحضار سکاکينهم الحادة، التي لا ريب في أنهم أعدّوها لتلك المناسبة والإجهاز عليه.

نظراته الخائفة، التي تتلصص عليهم من وراء أكوام الملفات الموضوعة على المكتب، أسهمت هي الأخرى في خلق حالة الشك المتبادل بينه وبينهم.. السجائر، التي يشعلها واحدة من الأخرى، ثمّ يطفئها قبل أن تنتهي.. محاولته المكشوفة في أن يبدو منهمكاً في أيّ عمل، فيرتبك أكثر وأكثر.. ارتعاشة يديه.. العرق الذي يتصبب بغزارة فوق وجهه، والذي كان يجففه بمنديله المكتوم المتّسخ، كلّها ساهمت في خلق حالة الشكّ بينه وبينهم.. وأخذت الهوة تتسع بينه وبينهم.. إنه يعلم أنّهم يضمرون له الكراهية التقليدية، التي يشعر بها الموظفون الصغار تجاه رئيسهم العجوز العاجز عن فهم عقليتهم الشابة المتفتحة.. الذي يقف أمامهم كالصخرة التي تسدّ طريقهم إلى المستقبل..

طريقته في العمل مختلفة.. إحساسه بالحياة مختلف، لكنّهم مضطرون، في نهاية الأمر، إلى الخضوع لتلك العقلية المتحجرة، التي تتحكّم في حياتهم ومستقبلهم الوظيفي؛ لذلك يكرهونه ويتمنّون له أن يقع مرّةً واحدةً، فيسارعون بالإجهاز عليه.

الخوف منهم.. كراهيتهم من قلبه بمزيجٍ غريب مقرفٍ من المشاعر… عيونهم التي تتلصّص عليه من وراء أكوام الملفات، دوائر من الضوء المركز تحاصره؛ حيث لا يمكنه الفرار من حصارها.. الجبناء يحسون بغريزتهم التي لا تخطئ.. بلؤمهم الوظيفي التقليدي، أنّه وقع في مأزق غير عادي.. مخجل على الأرجح، وأنّه لا يعرف طريقة للخروج منه؛ لذلك يشعر بالخوف والارتباك أمامهم؛ لأنّ المؤكّد أنّهم يعرفون سرّه الدفين، وإن كانوا لا يجرؤون على مصارحته بذلك.. لكنّهم لا يعرفون نوع ذلك السرّ، وإن كان مؤكّداً أنّهم سيظلون ينبشون بأظفارهم وراءه حتى يعرفوا ماهيته، وعند ذلك لن يتورعوا عن إحداث أكبر فضيحة له لن يستطيع بعدها أن يرفع رأسه.. لكنه لن يمنحهم أبداً الفرصة التي يتوخّونها.. لن يمكنهم أبداً العثور على السرّ الذي يسعون وراءه.. كلّ ما عليه أن يفعل هو أن يظلّ متماسكاً حتی يخرج من هذا المكان اللعين، ثم بعدها يعطي نفسه حرية الانهيار.. إنه لن يبالي حينئذٍ لو عرف كلّ الناس السرّ الذي يحمله بين ضلوعه؛ لأنه ببساطة سيكون في وضع لن يؤثّر فيه افتضاح هذا السر؛ لأنّه سيكون في طريقه إلى الموت.

جاءت اللحظة، التي قرر فيها الانصراف من المكتب.. أدخل الملفات بسرعة إلى داخل المكتب، ثم اختلس نظرة أخيرة على الوجوه المحنطة المحيطة به، وعلى الأخص عيونهم الزجاجية المضيئة المركزة فوقه، والتي تصيبه بارتباك فظيع.. أطفأ السيجارة العاشرة في المطفأة، وهي لا تزال في منتصفها.. وجهه قناع سميك من الجلد يخفي وراءه كلّ اضطرابه وخوفه من المستقبل الذي ينتظره.. وقف على قدميه متحاملاً بيده على سطح المكتب.. يجفف العرق الغزير، الذي يتصبّب فوق وجهه وجبهته العريضة، بمنديله المكتوم الذي يخرجه من جيبه.. أخذ يساوي ملابسه المتهدلة من الخلف.. رفع حزام بنطلونه الساقط إلى أسفل.. اختلس نظرة أخيرة إلى العيون، التي تشجعت وراحت توجّه إليه نظرات صريحة مليئة بالاتهام.. تصوّر لو أنه بقي أكثر من ذلك، لانهار تماماً أمام تلك العيون المليئة بقسوة فظيعة.

غادر الحجرة بسرعة بعد أن وجّه تحية إلى زملائه بإيماءة من رأسه.. حيث لم يجرؤ على النظر الصريح إلى عيونهم، التي اعتقد أنها مليئة بالضحك.. تنهّد في راحة، وهو يغلق وراءه باب الحجرة.

أحسّ أنّ عبئاً ثقيلاً انزاح من فوق كاهله.. لم يعد همّه أن يعرفوا السر الذي يخفيه بين ضلوعه، بل أنه لا مانع الآن من العودة إليهم وإخبارهم بذلك السر، فهو في طريقه الآن إلى عدم الاهتمام بشيء على الإطلاق.. في طريقه إلى أن يموت.

ابتسم في مرارة شديدة راضية.. لم يكن يتصور أن الموت يمكن أن يكون حلاً سحرياً لكلّ مشكلات الحياة المعقدة، وهو الذي كان يتصور الموت مشكلة في حدّ ذاته، والمنتحر مخطئاً عقابه الجحيم.

وهو واقف أمام الموت وجهاً لوجه.. الحبل المتدلّي من سقف الحجرة ملتفّ حول رقبته.. دفعة بسيطة من قدمه للمقعد الصغير، الذي يقف فوقه، وينتهي كل شيء كما توقع تماماً.. وهو في هذا الموقف المأسوي الحزين، تغيّر كثير من مفاهيمه السابقة عن الموت.. الجانب الإرادي منه على وجه الخصوص.. لم يكن يتصور أن قتل الإنسان نفسَه يمكن أن يكون بهذه الصعوبة.. إنّ على الإنسان أن يفكر مئة مرة، قبل أن يُقدِم على هذا العمل الفظيع.. الشجاعة، التي تصوّر أنها موجودة على طرف حذائه، اكتشف الآن أنّها لم توجد على الإطلاق.. دخل منطقة انعدام الوزن المحيطة بالموت؛ حيث يفقد الإنسان قدرته على التفكير العقلاني الهادئ، ويصبح مصيره معلقاً بعمل غير مقصود يقدِم عليه في لحظةٍ ما.. مجرّد غلطة بسيطة مروّعة تكلّفه حياته.. الحياة بكلّ قوی الجذب في داخلها.. بكلّ جاذبيتها العارمة، نشدّها إلى الوراء.. تبدّدت فكرة الموت من عقله بسرعة مذهلة.. تكسب مواقع جديدة في داخله، وهي تطارد أمامها ظلال الموت المنهزمة.. دوائر عديدة من الضوء المركز تتكون بسرعة داخل مسطح الظلام الرمادي الموجود في داخله.

في تلك اللحظة يدور صراع تقليدي رهيب بين قوتين تتنازعانه بشدّة؛ لكلّ منهما جاذبيتها التي لا تقاوم.. فلولها التي تنتشر بسرعة في داخله أو تختفي.. هو حائر بين هاتين القوتين لا يحسّ بالانتماء الحقيقي إلى أي منهما.. القوتان متعادلتان تماماً في داخله، لكن عليه، رغم ذلك، وبإرادة معدومة تماماً، أن يغلّب إحدى هاتين القوتين على الأخرى.. إنه في تلك اللحظات النادرة، التي يملك ولا يملك الإنسان فيها مصيره تماماً.. إنه إله صغير يستطيع، بعيداً عن أي تأثير خارجي، أن يتحكم في مصيره ومستقبله.. أن يعيش أو يموت.

في تلك اللحظة، يحس بأنه يريد أن يعيش، فهو خائف من الموت، لكنه أيضاً يريد أن يموت، فهو خائف من الحياة.. ضائع.. مبعثر.. لا يمكنه العثور على إرادة الإله الصغير الذي يحسم الأمور ببساطة شديدة؛ لأنه فوقها.. الآن يحس أنه ليس فوق المشكلة، بل في صميمها.. إنه ليس إلهاً يحل مشاكل إنسان آخر، بل إنسان في محنة شديدة وبحاجة إلى مشورة إنسان آخر إلى جانبه، لكنه لا يجد هذا الإنسان أبداً.. المهمة التي عليه أن يقوم بها الآن تبدو مستحيلة تماماً.. قدمه ثقيلة مليئة بالرمل ملتصقة بجسمه المتخاذل الذي يشبه کیساً من القطن.. بدأ يدرك الآن أنّ عليه أن يقوم بدور الجلاد والمحكوم عليه في الوقت نفسه، واعياً بكل ما يحدث له من الآن فصاعداً.. لا يمكنه ببساطة أن يضيع الوقت أكثر من ذلك، أو أن يترك الأحداث تدفع به إلى نتيجة لا يریدها.. عليه هو أن يدفع الأحداث إلى النتيجة التي يختارها، وهو قد اختار أن يموت، وجاء إلى هذا المكان ليضع اختياره موضع التنفيذ، لكنه يشعر الآن بأنه عاجز عن اتخاذ قرار مريع وحاسم بالمضي في طريق الموت إلى غير رجعة، وتلك مأساته الآن.. وبدأ يحسد المحكوم عليه بالإعدام؛ لأنه يجد على الأقل من يقوم عنه بهذا العمل الفظيع.

بدأ يفكر بطريقة عكسية تماماً ليتخلص من تأثير جذب الحياة له.. ليدفع بنفسه أكثر في اتجاه الطريق الآخر نحو جاذبية الموت الرهيبة.. بدأ يفكر في الفضيحة التي ستعقب اكتشاف عجز الخزانة التي في عهدته.. قنبلة ستنفجر في صرح حياته الطويلة الشديدة الهدوء والنصاعة، فتهدمها فوق رأسه.. ليس فوق رأسه فحسب، بل أيضاً فوق رأسي أعزّ مخلوقتين لديه.. زوجته وابنته.. الموت بعد أن فكر طويلاً هو الحل السحري لإنقاذه من المأزق الرهيب، الذي أوقعته فيه ظروفه السيئة.

تراءت له عيون زملائه في الحجرة ممتلئةً بوميض باهر من السخرية والشماتة لا يمكنه، بحال، احتماله، ثم بدأ يسمع أزيزاً کالكهرباء يزنّ إلى جوار أذنه.. إنهم يلوکون سيرته في أفواههم.. يقطعونه إلى عشرات القطع الصغيرة من اللحم النيء، ثم يقذفون بها إلى فوهات البراكين الجائعة في داخلهم.. يحس برغبته تتزايد في الموت.. يرفع ساقه إلى أعلى مستوى المقعد، الذي يقف فوقه ليدفع به إلى الأرض.. ساقه تتجمد في الهواء… تعود في تخاذل شدید، بعد لحظةِ ترددٍ قصيرةٍ، لتستقر إلى جوار قدمه الأخرى.

الآن يتأكد له مع الوقت أنه اختار وسيلة مستحيلة تماماً، وسخيفة في الوقت نفسه، للهروب من مأزقه.. الحياة تشده من جديد إلى مرافئها الدافئة القديمة.

فكر في ابنته التي ستصاب بإغماء مؤكّد عندما تعود من الجامعة لتكتشفه معلقاً من رقبته في حبل يتدلى من سقف الحجرة.. يتأرجح في الهواء ككيس من القطن فارقته الحياة.. عيناه جاحظتان بشكل مخيف داخل محجريهما.. فکّه ملتوٍ بشدة كأنه ضُرِب فوقه.. لسانه يتدلى من فمه المصاب بزرقة شديدة.. لونه شمعي باهت.. جسمه كلّه مسترخٍ في بَلادةٍ شديدة، كأن أشياء كثيرة قد سُحبت من داخله.. ابنته بالتأكيد لن تتحمل منظره المخيف، وستصاب بحالة إغماء مؤكدة على الفور، ثم زوجته المريضة طريحة الفراش منذ سنوات بعيدة، بقلبها العليل، لن تتمكن هي الأخرى من أن تظل على قيد الحياة بعد أن يبلغها خبر وفاته المفجع الذي سينزل عليها كالصاعقة.

إنها جريمة قتل متعمدة، إذاً، يرتكبها ضدهم.. ضد أحبّ مخلوقتين إلى قلبه، ولو أنه مهّد لهذا العمل الخطير، بأيّ صورة من الصور، لشجعه ذلك على المضي في تنفيذ مخططه الرهيب، دون أن يخشى التأثير المدمر له على زوجته وابنته، لكنه لم يفعل ذلك.. لم يشر بكلمة واحدة، ليس إلى ما انتوى الأقدام عليه فقط، بل حتى إلى مشكلته نفسها.. وبذلك تهاوى آخر معقل من معاقل الموت الرهيبة أمام الهجوم العنيف والمتصاعد لقوى الحياة في داخله.. صمم على أن يعيش من أجل المرأتين اللتين يحبّهما أكثر من أيّ شيء آخر في العالم.

رفع الحبل بتصميم من حول رقبته، وهو يحس أنّه أفلت بأعجوبة من أعجب ورطة وضع نفسه فيها بإرادته.. تنهّد في راحة شديدة.. نزل بسرعة وجلس على الفراش ممسكاً رأسه بين يديه يفكر بعمق في الخطوة التالية.. ما زال يحس أنه لم يبتعد تماماً عن خطر الموت، الذي يلاحقه، فهو لم يجد باقتناع کامل بديلاً له حتى الآن، فالحياة بكلّ مغرياتها، وقوة الجذب فيها، ليست قادرة تماماً على جذبه من الموت.. إنها على الأقل تحمل بين طياتها خطر افتضاحه أمام الآخرين.

غادر مقر العمل.. يسير بخطوات ذاهلة في الشارع المزدحم بأناس لا يشعرون بمأساته الحادة.. تسيطر عليه فكرة الموت كحلّ نهائي وسعيد لمأساة حياته.. يحسّ أنه بالون صغير ممتلئ بغاز أخفّ من الهواء، وهو على وشك أن يقطع الخيط الرفيع، الذي ما زال يشدّه إلى الأرض، منطلقاً إلى غير رجعة في فضاء لا نهائي.. خفيفاً كالأحلام.. كطيور السماء البعيدة، لا تثقله المشكلة الحديدية، التي يحملها في داخله.. قبل ذلك ظلّ يقارن في نفسه بين نوعين من العار لا بد من أنه واقع في واحد منهما.. العار وهو ميت، والعار وهو حي، مفضوح بين الناس.. واختار أخفّ العارين.. اختار أن يموت.. ربما كان موقفاً أنانياً منه لم يعمل حساباً لآخرين يحبّهم في هذا العالم، لكنه بدا له الحل الوحيد المفجع والسعيد للخروج من مأزقه.

اكتسبت خطواته خفة مذهلة وهو يفكر على هذا النحو.. وصل أخيراً إلى البيت.. كزورق وصل إلى مرفأ الأمان.. ألقى بكلّ همومه وراء ظهره، وبدأ يتطلع إلى حياة بلا هموم على الإطلاق في مكان بعيد عن الأرض.

وقف في بئر السلم يتطلع بضيق وعصبية إلى صف السلالم الطويل، الذي يتعين عليه أن يصعده ليصل إلى شقته في الطابق الخامس من المنزل.. لأول مرة منذ سكن هذا البيت يبدو له هذا العمل الروتيني المألوف نوعاً ثقيلاً من العبء عليه أن يؤديه.. أحس أن وزنه زاد بمقدار طن من العذاب، وأن عليه أن يحمل هذا العبء الإضافي، ويصعد به إلى شقته في الطابق الخامس.. أحس بإعياء شديد، لكنه تحامل على نفسه، وقرر الصعود على الفور كي لا يضيع الوقت الذي يحتاج إلى كلّ دقيقة منه.. بذل مجهوداً خارقاً ليرفع جسمه المترهل الضخم إلى درجة السلم الأولى.. استند بيده على سياج السلم الحديدي ليعاونه ذلك على الصعود إلى أعلى… أطلق كل البخار المختزَن في داخله كما تفعل القاطرة البخارية، وهي تحاول التحرك من حالة الجمود الأولى.. تصور أنه سيصعد باقي الدرجات بقوة الدفع الذاتي، وبشيء من السهولة النسبية.

في صعوده بدأ يحس بشعور غريب يجتاحه للمرة الأولى في حياته.. شعور يفتح مسام نفسه إلى الحد الأقصى لتفهّم عمیق وحقيقي للحياة.. يهزها لحب الأشياء الصغيرة، التي لم تلفت نظره قبل الآن.. الأشياء الدافئة المشحونة بقوة العاطفة الإنسانية الخلاقة.. بدأ يتنبه، للمرة الأولى في حياته، إلى رائحة الطعام العذبة السابحة في جو السلم الفسيح، مختلطة بذرات الغبار، ودفء الشمس، الداخلة من النوافذ المفتوحة العالية، صانعةً أعجب رائحة شمها في حياته.. أيقظت تلك الرائحة المثيرة كلّ الأشياء النائمة في صدره.. جعلت عينيه تغرورقان بدموع حقيقية.. أهاجت فيه حنين الإنسان العميق إلى الحياة والدفء، واللذات اليومية المألوفة.. كل الأشياء التي هو في سبيله إلى فقدها الآن.. تحول هذا الشعور بسرعة إلى حزن عميق يسيطر على حواسه.. إلى نوع فظيع من اليأس، فهو في سبيله إلى فقد كل الأزهار اليانعة في حديقته الخاصة، التي توشك على الذبول، في الوقت الذي ستظل فيه أزهار الآخرين حية يانعة تتقبل دفء الشمس كلّ صباح.. سيموت هو بينما سيظل الآخرون قادرين على الاستمتاع اليومي المألوف بكل الأشياء الصغيرة الدافئة، التي تهيج حاستهم العميقة للحياة.. استمتاعهم بها.. الضحكات.. الدموع.. الحب.. المشاكل اليومية الصغيرة.. وجبات الطعام الشهية.. وجوه الناس التي تطلّ من وراء النوافذ الصغيرة.. فوقها طبقة سميكة من حب الحياة والدفء الإنساني.. وفي عيونها فضول غريب.

أحس أنه مات قبل أن يبدأ يموت، لكنه حاول باستماته شديدة أن يكبت هذا الشعور في داخله، فهو قد جاء إلى هذا المكان وفي نيته أن يموت، وهو بالتأكيد لن يسمح لأية مشاعر إنسانية مفاجئة أن تفسد تدبيره.. وبدأ يتابع الصعود إلى أعلى، لكن ببطء أشد، وبقدرة أكبر على التأمل والاستمتاع والعذاب.

لفتت نظره صفائح القمامة الممتلئة الموضوعة أمام أبواب الشقق المغلقة.. كان هذا يسبب له إزعاجاً دائماً في الماضي؛ حيث لم يكن في المنزل العتيق سلّم للخدم.. الآن يحس بشعور مختلف تماماً وهو يرى تلك الصفائح الممتلئة حتى حوافها، والموضوعة أمام أبواب الشقق المغلقة.. يشم رائحة تلك الصفائح الكريهة بالشعور الغريب نفسه الذي يشم به رائحة الطعام السابحة في جو السلم.. دلالة هذه الصفائح تبدو له الآن واضحة تماماً.. إن معنى وجودها في تلك الأماكن أن وراء الأبواب المغلقة أناساً يعيشون.. يستهلكون، وأنهم لفترة طويلة قادمة سيظلون على قيد الحياة، في الوقت الذي يكون هو فيه قد اختفى تماماً من الوجود.. وبدأ الشعور الحزين يهاجمه من جديد بضراوة فظيعة.. إنه الآن في طريقه إلى أن يتحول إلى صفيحة قمامة يأخذونها مع هذه الصفائح، ويفرغونها في مكان بعيد عن العيون.. هذه الصفائح ستعود، أما هو فسيبقى هناك إلى الأبد.

فتح باب الشقة بهدوء حتى لا يوقظ زوجته النائمة في الفراش.. فتح باب حجرة نومها.. أطل عليها من فرجة الباب بحذر شديد.. اطمأن عندما أدرك أنها لم تشعر بوجوده.. أغلق الباب من جديد بهدوء شديد.. تقدم ناحية حجرة ابنته المجاورة لحجرة نوم زوجته.. فتح الباب.. الحجرة يخيم عليها ظلام نسبي.. تقدم إلى المصراع الخشبي المغلق وفتحه.. الضوء غمر الحجرة فجأة.. أعمى عينيه.. خرج بسرعة إلى الشرفة الصغيرة المطلة على الشارع المزدحم.. الناس من تحته مجموعة من الأشباح والظلال الذائبة في ضوء النهار المتوهج في الشارع.. ناس مصنوعون من دخان في عالمٍ كلّ ما فيه دخان.. أحسّ أن هذا التفكير يقربه أكثر من الموت الذي جاء من أجله.. فجأة خيّم صمت شديد على الشارع.. الأصوات الصادرة منه لا تصل إليه.. الناس تحولوا إلى حشرات صغيرة التصقت بإسفلت الشارع الذي ساح من حرارة الشمس القوية فوقه.. ثم بلعهم الشارع من تحته.. أحس فجأة أنه يقف في صمت وسكون أمام الموت الرهيب الذي جاء من أجله.. الموت قابع الآن داخل تلك الحجرة الصغيرة، فليدخل لمقابلته.. تصور أنه منوّم مغناطيسياً، أو أنه نوع من الإنسان الآلي المدرّب من قبل على هذا العمل، وأن كل ما سيقوم به بعد الآن من خطوات سيتم بطريقة آلية تماماً، ومجردة من مشاعره إنساناً.. سيتم بتلقائية مذهلة كأنّه انتحر عشرات المرات من قبل.. تحسس الملابس المنشورة فوق حبل الغسيل الممتد بعرض الشرفة الصغيرة.. الملابس جافة كما توقع.. جمعها ودخل بها إلى الحجرة، وألقى بها على الفراش.

بحث عن شفرة حلاقة سرعان ما وجدها.. خرج بها إلى الشرفة، وقطع بها حبل الغسيل، وحمله إلى داخل الحجرة.. أغلق المصراع الخشبي ليعود الظلام النسبي فيخيم على الحجرة من جديد.

راوده شعور غريب وهو يجلس إلى جوار الملابس المكومة على الفراش.. ملابسه وملابس زوجته وابنته، وقد اختلطت بعضها ببعض.. رائحة الصابون والشمس والهواء المنبعثة منها تملأ رئتيه.. تصور أن ملابس الناس يمكنها أن تحس بشعور الاغتراب المصاحب للموت، وأنها عندما تنتزع من جوار بعضها البعض تحسّ بشعور الأصدقاء القدامى عندما يفترقون.. بل إن الملابس يمكنها أن تحسّ بألفة تجاه أصحابها الذين تعودوا ارتداءها، والذين انبعث العرق من مسامهم ليختلط بنسيج تلك الملابس، فتشعر بالحزن لفراقهم، ولم يستطع إلا أن يتخيل شعور ملابس الغريب بعد أن يضمها إنسان آخر فوق جسمه.. أهاج هذا الشعور كلّ الخواطر الحزينة في داخله.. إنسانيته.. دفع به أكثر في طريق الموت الذي جاء من أجله.. الموت الذي يحس الآن أنه يحبه من أعماقه.. إنه الآن يدمر كلّ الجسور المشيدة وراءه ليبدو الرجوع إلى الخلف مستحيلاً تماماً.. ليبدو الموت هو الطريق الوحيد الذي يمكن أن يسير فيه.

أحس في تلك اللحظات الفريدة المليئة بالحنان أنّ علاقته قد قويت بكل الأشياء الصغيرة التي استعملها في الحياة.. فرشاة أسنانه.. ماكينة حلاقته.. مشط شعره.. وامتلأت عيناه بدموع الملح الصامتة، بينما يده تعتصر کومة الملابس، وتقرّبها بحنان وفظاعة من أنفه كي يملأ صدره برائحتها الغريبة الدافئة.

نظر إلى سقف الحجرة.. تنهد في راحة عندما وجد الخطاف الحديدي الصغير في مكانه كما توقع أن يجده.. كان يخشى، طوال الطريق إلى البيت، ألا يجده في مكانه.. أحضر مقعداً صغيراً من الصالة، وصعد فوقه.. ربط الحبل بقوّة في الخطاف الصغير.. تأكّدت له متانة العقدة أكثر من مرّة.. في الطرف الآخر من الحبل صنع عقدة أكبر أدخل فيها رأسه، ثمّ وقف ينتظر.

جالساً على الفراش.. رأسه المزدحمة الثقيلة بين كفيه.. يفكّر بعمق شدید.. إن الأمر، عندما تدوّي الفضيحة من حوله، لن يكون قاصراً على سخرية الموظفين وشماتتهم، أو ثرثرة الجيران ونهشهم الدائم اللحوح لسيرته، إنه بالتأكيد سيصل إلى أبعد من ذلك.. سيصل به إلى السجن.

تساءل، بينه وبين نفسه، هل يمكنه احتمال السجن في هذه السن المتأخرة، أو حتى في أيّ سن أخرى.. إنه بالتأكيد يفضل أن يموت على أن يسجن.. ثم إنه سيصمُ أسرته إلى الأبد في حالة سجنه.

ذبابة الموت تطنّ داخل رأسه من جديد وبإلحاح أكثر.. نظر بحنان شديد إلى الحبل المتدلي من سقف الحجرة.. الحبل يمثل له الخلاص من أزمته الحاضرة.. صمّم على أن يموت.. صعد، بسرعة وبلا تردد، فوق المقعد الصغير.. رفع قدمه إلى أعلى ليتمكن من دفع المقعد إلى الأرض.. قدمه تجمّدت في الهواء في حالة عجز تامّ عن تنفيذ الأمر الذي أصدره إليها.. بإحساس شدید بالإحباط والتخاذل عادت قدمه لتستقرّ إلى جوار جسمه المتبلّد المسترخي.. أدرك أنه لا يمكن أن يموت.. ليس الآن وليس بهذه الطريقة.. إنّ عليه مسؤوليات جسيمة تجاه أسرته الصغيرة، التي لم يَعدُّها، بأيّ صورة من الصور، لتقبّل صدمة موته المفاجئة.

ثمّ لماذا لا يحاول أن يجد حلاً لمشكلته التي يضخّمها الوهم أكثر من اللازم.. لقد امتدّت يده إلى الخزانة التي في عهدته.. فعل ذلك من أجل توفير الدواء لزوجته المريضة بالقلب.. من أجل مستقبل أفضل لابنته الطالبة في الجامعة.. كثيرون غيره فعلوها من قبل، وكثيرون غيره سيفعلونها في المستقبل.. عليه أن يفكر بحكمة ليخرج من مأزقه.. إنه لم يجرب مصارحة زملائه الموظفين الكبار في السن.. ربما وجد عندهم حلاً لأزمته المستعصية.. إنه واثق بأنهم سيساعدونه بكلّ ما يقدرون عليه.. إنه، إذاً، تقصير خطير في حقّ حياته الثمينة وحياة أسرته الصغيرة أن يموت بهذه السهولة.. هذه الأسرة التي لا يعتقد أنها ستتخلّى عنه مهما حدث له، بل إنه واثق بأنها ستقف إلى جواره، وتشد من أزره.

قوي في داخله الإحساسُ العميق بالحياة.. دقّت ساعة الحائط أولى الدقات في الساعة الثانية عشرة، وهو الميعاد الذي تتناول فيه زوجته دواء القلب، وهو عادةً يقدّمه إليها بنفسه عندما يكون موجوداً في المنزل.. اليوم وعد ابنته بأنّه سينوب عنها في هذه المهمة، ولا يمكن بحالٍ أن ينكث بوعده.. تخيل وجه زوجته وقد بدأت تسمع دقات الساعة وكل حواسها متنبهة انتظاراً لدخوله أو دخول ابنته إلى الحجرة ليعطيها واحد منهما الدواء، كالعادة، وهو يطبع قبلةً حانية فوق جبينها، بينما هو يتمنى لها الشفاء العاجل.. أحس أن شيئاً يعتصر قلبه بشدة، ويخرج منه كلّ ما فيه من مرارة.. وأخذت دقات الساعة تتابع في سكون الشقة الرهيبة، ومع كلّ دقة كانت أعصابه تتنبه أكثر، وإحساس عميق بالحياة في داخله يقوى أكثر.

فجأة خُيِّل إليه أنه سمع صوت زوجته الخافت تنادي على ابنتها.. بدأ الصوت يتّضح تدريجياً في أذنيه.. الآن تأكّد له أنّها استيقظت، وتريد أحداً يعطيها الدواء، ويجلس إلى جوارها.. هفّت كلّ مشاعره الطيبة نحو زوجته.. أراد أن يتحرك إليها بسرعة ليقبل يدها، ويطلب منها الغفران والصفح.. قلبه ممتلئ بالحب.. ذكريات السنين الطويلة تحرك خياله.. قوة أكبر من إرادته دفعت به ليتحرك من فوق المقعد كي ينزل على الأرض، ويلبي نداء زوجته.. الحبل ملتفّ حول رقبته.. المقعد الصغير الذي يقف فوقه يمكن أن ينزلق بسهولة شديدة من تحته لو لم يتحرك بحذر شديد.

ساد سكون فظيع أرجاء الحجرة التي يوجد فيها.. اكتشفوا الجثة في المساء… جثة رجل تحوّل إلى كيس من القطن يتدلى من سقف الحجرة بحبل معلق في رقبته.. عيناه جاحظتان إلى الأمام، وفكه ملتوٍ كأنّه ضُرِب فوقه.. لسانه يتدلى خارج شفتيه الزرقاوين المتضخمتين، وبشرته شمعية شاحبة يلمع فوقها اصفرار الموت الرهيب.. الموت الذي لم يتوقعه على الإطلاق.. ارتسم فوق وجهه تعبير غريب ينمّ عن منتهى الدهشة والإحساس بالألم.. حاول الذين تجمعوا حول الجثة في المساء أن يفسروا سرّ هذه الدهشة الغريبة، لكنهم عجزوا عن ذلك.. واحد فقط كان في مقدوره أن يكشف لهم عن السر الذي يحيّرهم.. إنه هو نفسه، لكنّه ببساطة شديدة كان قد.. مات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *