المدونة

قصص الرعب الفيكتورية ، قصة بعنوان : رأس جان كابيه

     لم يكن مارتن ديسالوكس شخصاً شريراً بطبعه.. كان ذات يوم رجلاً نزيهاً مستقيماً؛ لكن السلطة والمنصب والنفوذ، وما رافق ذلك من ثروة ومال، أخذت مع مرور الأيام تغير شخصيته، وتبدل سلوكه حتى أفسدته، وأصبح من السهل عليه احتقار عامة الناس، وظلمهم وسلب حقوقهم.

     لقد ارتكب من خلال وظيفته أعمالاً شريرة شيطانية؛ ليس لأن ذلك يسعده، بل لأنها كانت ضرورية -كما يرى- لطبيعة عمله ومريحة لوظيفته.. والآن.. الآن فقط فهم بشكل صحيح أنه كان مخطئاً فيما قام به من أفعال.

     اعتراف مارتن بأخطائه.. واقتناعه بسوء أفعاله.. وندمه عليها.. بدت كأنها توبة منه.. بعدها.. لاحظ أن الكوابيس التي كانت تلاحقه قد أصبحت أقل معاودة له.. وعندما عاد ثانية إلى عمله بعد فترة علاجه، استغرب زملاؤه من التغير الذي أصابه.. فهو يبدو أكثر إحساساً والتزاماً بالعدالة.. والابتعاد عن الظلم.. وعلى غير العادة.. لم تتم مقاضاة أي شخص على جريمة لم يرتكبها.. وغالباً ما تم إطلاق سراح المشتبه فيهم؛ لأن مارتن ديسالوكس نفسه عدّ الأدلة ضدهم ضعيفة وغير كافية لإدانتهم..

     لقد تغيرت فيه أمور أخرى كثيرة.. تغيرت وجهة نظره حول ما هو مهم في الحياة إلى درجةٍ لا يمكن تصورها.. لم يعد يهتم بالثروة أو المظاهر أو الوضع الاجتماعي.. أصبح شخصاً أكثر هدوءاً.. شخصاً محبوباً أكثر من ذي قبل.. وكان التغير الأخير متعلقاً بمشاعره.. فقد وقع في الحب بكل جوارحه..

     ميشيل.. شابة يتيمة الأم.. والدها يعمل خبازاً يكاد دخله لا يكفي قوت يومه.. في موازين مارتن القديم إن ميشيل بعيدة كل البعد عن المرأة التي كان يريدها ويتمناها.. أما اليوم فقد أصبحت كل ما يمكن أن يتمناه مارتن الجديد!!

     كانت البداية عندما تم القبض على والدها الخباز بسبب دين عليه.. كان المَدينُ يُودَعُ في السجن.. ولكن في هذه الحالة كان المبلغ المستحق زهيداً إلى درجة أن مارتن دفعه من جيبه.. وكان نتيجة هذا العمل اللطيف البسيط، أن ميشيل حضرت في اليوم التالي لتشكره شخصياً على إنسانيته.. يومها.. أُعجِبَ بها.. وأُعجِبَتْ به.. وكانت البداية!

     الآن أصبحا -رسمياً- مرتبطين.. قبل الزفاف حاول مارتن عدة مرات أن يخبر ميشيل عن حياته السابقة.. لكنها لم تكن لتستمع إليه!

في إحدى المرات رأى أنه قد سنحت له الفرصة.. نظر إليها وقال بجدية:

  • هناك شيء يجب أن تعرفيه عني..
  • هل هناك…؟ هل ستخبرني جميعَ أسرارك المزعجة؟ قالتها وقد ارتسمت ابتسامةٌ على فمها..
  • نعم.. قالها متجاهلاً نبرتها وردَّها الفاتر.. واستطرد قائلاً: وربما تغير شعورك تجاهي عندما تعلمينها!!
  • هذا هُرَاء.. لا شيء يمكن أن يُغيّر نظرتي إليك.. أنت أطيب رجلٍ رأيته في حياتي..
  • ربما أبدو هكذا الآن.. لكن في الماضي!!… ميشيل.. أنا خائف.. لقد كنت..
  • مارتن.. الماضي هو الماضي.. لا نحتاج أن نقلق بشأنه.. سيكون رجلاً غريباً من لم يرتكب أي خطأ في حياته.. اترك الماضي لأهله.. وعش يومك..
  • لكنك لم تفهميني.. أنا….
  • الآن.. الحاضر.. وانسَ أي كلمة أخرى.. انس أي شيء عن الماضي.. أريد أن نركز على المستقبل فقط..

     لم ييأس مارتن.. حاول إثارة الموضوع معها في مناسبات عدة، إلا أن ميشيل كانت دائماً تصده، وترفض الاستماع إليه.. وفي النهاية.. وجد أنه لا سبيل لطرح الموضوع معها مرة أخرى، وأن عليه التوقف عن ذلك..

     اليوم.. يوم زفافهما.. كان هناك احتفالٌ امتد عدة ساعات.. ومأدبةٌ فخمة في الهواء الطلق.. بعد انتهاء الحفل توجهت ميشيل إلى غرفة النوم في النُّـزُل الذي يقيمان فيه هذه الليلة.. كانت مرهقةً جداً.. ويجب عليهما أن يستيقظا في وقتٍ مبكر للحاق بالعربة المتجهةِ إلى باريس..

     بعد قليل.. توجه مارتن إلى الغرفة.. كان منتشياً وفي حالة سكر بعد أن شرب الأنخاب.. فتح باب الغرفة ودخل.. كانت شمعة واحدة على شمعدان ثقيل تلقي بظلالها المتراقصة على أرضية الغرفة الخشبية المكشوفة.. كانت ميشيل ترقد في السرير الكلاسيكي الكبير ذي الأعمدة الأربعة الذي كان يقبع في منتصف الغرفة مختفياً خلف الستائر المخملية الثقيلة التي كانت تحيط به.

     ابتسم مارتن.. فهو يشعر بالسعادة.. فقد أصبحت ميشيل زوجته.. وهو الأمر الذي كان من الصعب عليه أن يصدق أنه سيتم.. نظر إلى الستائر المخملية وهو يحدث نفسه.. «ربما كانت نائمة.. أو ربما تريد أن تخدعني.. فهي مستيقظة.. ولكنها تصطنع النوم.. وتنتظر مفاجأتي..».

     خلع معطفه.. مشى بهدوء على أطراف أصابعه والابتسامة ترتسم على شفتيه.. اقترب من السرير.. سمع نفساً عميقاً من وراء الستارة.. إنَّـها ميشيل.. هي نائمة.. مد يده إلى الستارة.. وقبل أن يسحبها سمع طرقاً خفيفاً على باب الغرفة..

     تساءل هامساً: من هذا الذي يطرق الباب؟… مشى عبر الغرفة على رؤوس أصابعه باتجاه الباب.. في الصالة كان هناك شخص يحمل صينية مملوءة بالفواكه والنبيذ.

  • تهانينا سيد ديسالوكس.. هذه ضيافة إقامتكم في النُّـزُل..

حاول مارتن إخفاء انزعاجه.. لقد استغرقت المأدبة اليوم ست ساعات.. والوقت الآن يقترب من منتصف الليل.. فهل سيرغب في تناول أي شيء آخر؟!!…

  • هذا لطف منك.. أشكرك..

أخذ الصينية.. وحاول إغلاق الباب بقدمه..

  • لا تنسَ سيدي.. إن كنت بحاجةِ شيءٍ آخر.. فأخبرني فقط..
  • سأفعل ذلك.. شكراً لك..
  • في أي وقت.. ليلاً أو نهاراً سيدي..
  • نعم.. نعم.. أشكرك..

     وأخيراً تمكن من التخلص من هذا الشخص.. وضع الصينية في زاوية الغرفة.. وهو يتوقع أن تكون ميشيل قد استيقظت بسبب هذا الإزعاج..

  • ميشيل؟.. مشيل؟..

     لم يكن هناك جواب.. لا شك أنها نائمة.. لقد كان يوماً مرهقاً.. لا شك في ذلك.. اتجه إلى السرير.. لقد كانت المرة الأولى التي يكون فيها هو وميشيل وحدهما منذ أيام.. سحب الستارة ببطء.. كان نور الشمعة الخافت يومض عبر السرير.. على الجانب الأقرب إليه كانت ميشيل تنام على جانبها الأيسر، ورأسها متكئ على ذراع طويلة رشيقة.. وشعرها اللامع ينتشر على الوسادة..

     كانت نائمة تتنفس ببطء شديد وهدوء.. أغلق مارتن الستارة وتوجه إلى الجانب الآخر من السرير.. وحمل الشمعدان الثقيل ووضعه على الطاولة الصغيرة بجانبها.. ارتدى ملابس النوم.. وبكل هدوء سحب الستارة مرة أخرى..

     تجمد مارتن من الخوف.. فتح فمه.. حاول أن يصرخ دون جدوى.. فقد عَقَد صوتَه ولسانَه هولُ المفاجأة.. كان رأس جان كابيه مستقراً على الوسادة على بعد بضع بوصات من ميشيل.. عيناه مغلقتان.. والملاءة تغطي المساحة حتى بداية ذقنه حيث يبدو الرأس كأنه رجل حقيقي يستلقي في السرير إلى جانب زوجته!!… لم يكن في وسع مارتن سوى التحديق في هذا المشهد المثير للاشمئزاز.. انفتحت عيون الرأس وحدقت فيه وتحركت شفتاه وهي تقول: تهانينا!!… ثم بدأ الرأس بالضحك.. هنا استيقظت ميشيل على الفور.. تقلبت على السرير بشكل سريع ومع حركتها انسحبت الملاءة فانكشف العنق المقطوع.. صرخت بأعلى صوتها.. كان من الصعب تحديد أيهما أعلى صوتاً؛ صراخها المرعب أم الضحك الهستيري للرأس المقطوع الملقى على الوسادة!!… صرخ مارتن بجنون وأصبح كالثور الهائج.. ألقى بنفسه على الرأس الذي تدحرج بعيداً واصطدم بجبهة ميشيل محدثاً صوتاً قوياً.. ازداد مارتن غضباً وشراسة.. حمل الشمعدان الثقيل وقد غرقت الغرفة في الظلام، وانهال بالضرب على الرأس بكل قوته لإجباره على المغادرة..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *