يوم الأحد، قبل المغادرة.
كانت الأمتعة جاهزة في وقت مبكر من الصباح. أشرب القهوة وألقي نظرة على الصحف. وقرابة الساعة التاسعة صباحاً، ستحلّق الطائرة التي ستعيدنا إلى بوينس آيرس.
وبعد ذلك، كما هو الحال في أوقات أخرى، حينما أشاهد الأخبار، أو أقرأ الصحف، أو أستمع إلى الناس؛ غالباً لا أفكر كثيراً فيما يُقال، ولكن فيمن يظل صامتاً؛ فهو من يقول أشياء كثيرة. أفكر في الكلمات التي لم تعد تردد على المسامع؛ مثل: التنفس، والخير، والتلقائية، واللامتناهي، والروح؛ تلك الكلمات التي استخدمناها في شبابنا على الأقل عند إهانتهم وانتقادهم، ولكن -رغم كل ذلك- كنَّا نقدرهم، وعرفنا وشعرنا بثقلهم وخطورتهم.
بعد ذلك، وخلال سنوات، يتم استعادة أحدهم، ولكن يعتريني حينها -في كثير من الأحيان- حزن لا يوصف، حزن يشوبه رعب؛ بأنهم لن يعودوا موجودين بين أيديهم لكي تتمكن الأجيال الجديدة من معرفتهم، ومعرفة وجودها.
أرى أنهم اختفوا من الثقافة، بكل بساطة ليسوا موجودين.
هناك مثل هذا الاستبداد «للواقع» التاريخي، والسياسي، والاقتصادي؛ حيث لا يتم حتى توقع حدوده.
ومع ذلك يفتقر الإنسان اليوم، ربما كما لم يحدث من قبل في مجال الشعر الأسطوري الذي يحمي الوجود. أنا لا أشير إلى «الأفكار» بل أقصد أن أشير إلى وعاء يمتلئ بالحياة، ومؤامرة إلى أين تذهب بذرة الوجود، وعن كيفية إظهار ذلك. لا أعرف كيف أشرحها.
طالما أُلقيت اللوم على احتياجاتي إلى المطلقة التي تظهر من ناحية أخرى في شخصيتي. هذه الحاجة المُلحة تنفذ عبر حياتي كقناة أو نفق؛ مثل الحنين إلى الماضي، الذي لم أكن لأصل إليه أبداً. ربما تكون بعض الأشياء المُلحة، والعلامات غير المفهومة؛ مثل الضباب الخفيف في الأفق اللامتناهي، صامتة لمطالب الرجال.
حتى لآلام الرجال، حتى لآلام الأطفال.
لمحات تتساقط في المساء، لحظات من النشوة في نهاية عمل تتجاوزني، أو في مواجهة الهاوية. حنين لا يمكن تحمله من المفاهيم، ولكن بلا شك يقول ذلك، وقد أظهر له كل تجعد في جسدي، وكل تلجلج في نبرة في صوتي.
الحنين إلى الماضي هو شوق، ذكرى المشاعر اللامتناهية الموجودة في العالم. لا يمكنني شرح ذلك؛ لكن الذاكرة المتسقة بدت كأنها طريقة للوجود. نظراً إلى أننا لم نختبرها أبداً، فإننا نميلُ إلى وضعها في مرحلة الطفولة، ربما لإعطائها قسطاً من الراحة.
لم أستطع أبداً تهدئة حنيني إلى الماضي أو تسكينه، أو ترويضه، وأقول لنفسي إن هذا الاتساق كان وقتاً في طفولتي؛ كنت أتمنى لو كان ذلك، ولكن لم يحدث. كنت فتى شديد الحساسية، كما قلت بالفعل، وعرضة للمخاوف والشكوك وعدم اليقين. لذا إن الشعور بالحنين إلى الماضي بالنسبة إليّ هو شوقٌ لم يتحقق أبداً، ولاسيما هو ذلك المكان الذي لم أتمكن من الوصول إليه أبداً.
ولكن هذا ما أردنا أن نكونه؛ هذه هي أمنيتنا. إلى درجة أنكَ لا تستطيع أن تعيشها، إلى درجة أنك تصدق أنها خارج الطبيعة. إذا لم يكن الأمر كذلك، فإن أي إنسان يحمل في نفسه هذا الأمل في الوجود، هذا الشعور بأن شيئاً ما مفقود.
إن الحنين إلى الماضي هذا الشيء المُطلق يشبه خلفية غير مرئية، وغير معروفة، لكننا نقيس بها كل الحياة، وإلا فإننا نسميها «محدودة لوقت وزمان معلوم»، كما لا نسميها «محدودة» لامتلاك ذراعين فقط. هناك شيء داخلنا يرفض تقبل الموت. ربما، كل ما نفعله ضد هذه الأدلة، وقولنا «لا» هو «نعم» لذلك الشيء الآخر، ولذلك الانتماء إلى حياة بلا موت، من دون عنف كثير، ومن دون حروب… تلك الحياة التي هي صورة لطريقة حياة مغايرة للعيش، ولحياة أخرى، حتى لو كنَّا نعيشها فقط على الهامش أو في وضع سلبي. أفتقدها، وأشتاق إليها… وكذا أفكر في كافكا الذي قمت برسم عدة لوحات له! يبدو أن كل أعماله قد تخطتها تلك الأمنية فيما يعرف بالمطلق، وهي رغبة مدفونة تحت الوساطات التي يضعها النظام لتغطية أعماق الإنسان، والتي لن تجعل أحداً يؤمن بـــــــ«المطلقات» الدوجماطيقية اليقينية. لكن لا شيء -في عمله- يمكن أن يمنع شخصياته من الاستمرار في التمني، وفي الاستمرار والتمسك بالأمل… ولا حتى الفشل.
ربما كافكا، مثله مثل أي شخصٍ آخر، قد وضع موضوع القرن العشرين بأنه: العقبة. وعلى الرغم من ذلك؛ مثل حجر في نهر، إن هذا العائق هو ما يجعل الرغبة أكثر وضوحاً وظهوراً. كالحجر في مجرى النهر.