المدونة

فن الرواية: مقابلة مع هاروكي موراكامي

يُعدّ هاروكي موراكامي أكثر الكتاب اليابانيين شهرة حول العالم حيث بلغت مبيعات أعماله الملايين وهو أيضًا بدون منازع أكثر كاتب ياباني تجريبي تُترجم أعماله إلى اللغة الإنجليزية. تسكن رواياته تلك المساحة الفاصلة بين الأدب الواقعي والخرافي، والبوليسي والخيال العلمي، وعلى سبيل المثال، فإن لبطل روايته «أرض العجائب الحارّة ونهاية العالم» عقلين، وروايته «يوميات طائر الزنبرك»، أفضل أعماله المشهورة خارج اليابان، تبدأ  بحبكة خفيفة، رجل يبحث عن زوجته المفقودة، ثم بالتدريج تصير واحدة من أغرب الروايات الهجينة منذ صدور رواية «ترسترام شاندي» للورنس ستيرن. يبني موراكامي عالمه المجازي باستخدام الرموز المألوفة، مثل بئرٍ جافّة أو مدينة تحت الأرض، ولكن معاني هذه الرموز تبقى مُغلقة ومختومة حتى نهاية العمل. وعلى الرغم من أنه مدين في أعماله للثقافة الشعبية (الأميركية على وجه الخصوص)، إلا أن أعماله تحمل درجة عالية من الخصوصية تنافس أي كاتب آخر.

وُلِد موراكامي عام 1949 في مدينة كيوتو، عاصمة اليابان القديمة، لعائلة من الطبقة الوسطى ومُهتمة بالثقافة الوطنية، إذ عمل والده مُدرِّسًا للأدب الياباني، وكان جدّه راهبٌ بوذيّ. انتقلت عائلته إلى مدينة كوبه وهو في الثانية من عمرهِ، وشكّلت هذه المدينة الساحلية حساسيته، بزوارها الأجانب (البحَّارة الأميركيين بالتحديد). رفض موراكامي الأدب والثقافة والموسيقى اليابانية منذ عمر مُبكر، وآلف نفسه مع العالم خارج اليابان، عالم عرفه عبر موسيقى الجاز وأفلام هوليوود ومحلات الكُتب المُستعملة.

شحذ موراكامي ذوقه الروائي ما بعد الحداثي وهو طالبٌ في طوكيو في أواخر الستينات بينما كان يُتابع عن بعد، وبتعاطف، ذروة  حركة احتجاجات أنبو[1]. تزوج وهو في الثالثة والعشرين وقضى السنوات التالية في إدارة نادٍ لموسيقى الجاز في طوكيو اسمه «پيتر كات»، وهو ما أتاح له الفرصة لإدارة نفقات حياته قبل نشره روايته الأولى. تُرجمت رواية «اسمع الريح تغني» إلى الإنجليزية، ولكنها غير متاحة خارج اليابان بناءً على طَلب المؤلف، وفاز بها جائز گونزو للكتّاب الجدد، وكانت هذه الرواية البادئة لمقروئية أعماله. ذاع صيته أكثر فأكثر مع كل كتاب نشره لاحقًا، إلى أن نشر روايته الواقعية الأولى «الغابة النرويجية» والتي حولته إلى نجم أدبي عالميٍ، وصار صوت جيله في الثمانينات، مُعادلًا لجي دي سالنگر. بيعت من الرواية أكثر من اثنين مليون نسخة في اليابان فقط، ما يعني رواية لكل بيت في طوكيو وقتها.

صار موراكامي منذ ذلك أكثر الكُتاب المشهورين في وطنهِ دون قصدٍ منه، وعاش في الخارج لسنوات طويلة ليضع مسافة بينه وبين صورته العامّة. عاش في أوروبا والولايات المُتحدة، فكتب روايته «يوميات طائر الزنبرك» في أثناء تدريسه في جامعتي پرينستون وتافتس. وعلى الرغم أنه لم يعد إلى أسلوب الكتابة المباشر كما في رواية «الغابة النرويجية»، اتسعت قاعدته الجماهيرية، فباعت روايته «كافكا على الشاطئ» أكثر من ثلاثة آلاف نسخة في اليابان وستصدر النسخة الإنجليزية منها قريبًا. أما على المستوى العالمي، فهو أكثر الروائيين اليابانيين مقروئية في جيله، وحاز بكل الجوائز المطروحة للرواية في اليابان، بما فيها جائزة يوميري الأدبية. ولا يفوتنا أن نذكر بأنه مُترجم نَشط، ونقل أعمال رايمند كارڨر وتوم أوبرين وفرانسيس سكوت فيتسجيرالد إلى اللغة اليابانية، والتي كانت بعضها أول مرة تترجم للقارئ الياباني.

يقع مكتب موراكامي في طوكيو قبالة الطريق الرئيسي في أوياما، وهو المعادل لحي سوهو في مدينة نيويورك. المبنى نفسه عشوائي وقديم المظهر، كما لو أن التغيير في الحي قد حدث دون أن يصل المبنى. يستأجر موراكامي جناحًا متوسط الحجم في الطابق السادس، وتعكس غرف الجناح طبيعته: خزانات خشبية عادية وكراسٍ دوارة ومكاتب مغطاة برقائق المايلر وأثاث مكتبي. لا يبدو الديكور متوافقًا مع الشكل السائد لأستوديوهات الكتَّاب، إلا أنه مُناسب لموراكامي، حيث غالبًا ما تكون شخصياته في مثل هذه البيئة اليومية عند أول اتصال لهم مع عالم الأحلام. ولكن كما تبين لاحقًا، فإن المكتب يخدم بشكل رئيسي بوصفهِ الواجهة المهنية لعمل موراكامي. يبدو جو الغرفة مشحونًا بالعمل المتفاني، وعلى الأقل يوجد في المكتب مساعدتيْن يتحركن ببراعة وخفّة بجواربهنٍ الشفّافة.

أجريت هذه المقابلة مع السيد موراكامي على مدار ظهيرتين متتابعتين، حيث أظهر  ضحكات خافتة محاولًا الحفاظ على الهدوء في المكتب. بدا رجلًا مشغولًا وباعترافه، لم يكن يُحب التكلم كثيرًا، ولكن بعد دخولنا إلى جو المقابلة، وجد موراكامي نفسه مُركِّزًا ويتحدث بسلاسة. تكلم بطلاقة، مع أخذه لسكتات متعددة بين جمله، محاولًا توليف أدق إجابة ممكنة. وفي كل مرة أخذنا الحديث إلى الجاز أو إلى الركض، أكثر الأشياء التي تشغف قلبه، صار أصغر بعشرين سنة، أو ربما ظننته صبيًا في الخامسة عشرة من عمرهِ.

جون راي، 2004

 

صفحة من مخطوطة رواية «مطاردة الخراف الجامحة»[2] لهاروكي موراكامي

المُقابلِ:

انتهيتُ مؤخرًا من قراءة مجموعتك القصصية «بعد الزلزال After The Quake» وأدهشتني قدرتك على خلط القصص الواقعية على شاكلة رواية  «الغابة النرويجية » مع قصص أخرى على شاكلة «يوميات طائر الزنبرك» و«أرض العجائب الحارّة ونهاية العالم». هل ترى فرقًا واضحًا بين هذين الشكلين؟

 

هاروكي موراكامي:

أعتقد أن الشكل الأدبي الأقرب إليّ يتمثل في رواية «أرض العجائب الحارة ونهاية العالم»، شخصيًا لا أحب أسلوب الكتابة الوقعي. أفضل الأسلوب السريالي. لكن في حالة «الغابة النرويجية» فكنت قد قررتُ أن أكتبَ رواية واقعية بالكامل. أردتُ أنا أخوض تلك التجربة.

 

المُقابِل:

هل فكرت في الكتابة على أنها تجربة في الأسلوب أم كانت لديك قصة محددة أردت إخبارها وكان ذلك الأسلوب هو الأفضل لها؟

 

هاروكي موراكامي:

لو استمريّت في الكتابة على ذات الأسلوب السريالي، فسيتم تعريفي بهِ. لكني أردت أن أخالف السائد، ولذا كان لزامًا عليّ إثبات قدرتي على كتابة كتابٍ واقعيّ. لهذا كتبت الكتاب، وقد حقق مبيعات كبيرة في اليابان كما توقعت.

 

المُقابِل:

كان خيارك مُخطط له ومقصودٌ إذن.

 

هاروكي موراكامي:

صحيح. الغابة النرويجية رواية سهلة القراءة وسهلة الفهم. كثيرون أعجبهم الكتاب. وربما تكون الرواية مُدخلًا لهم إلى باقي أعمالي، وهو ما يساعدني.

المُقابِل:

القراء الأميركيون والقراء اليابانيون يتشابهون؟ يريدون قراءة قصة سهلة.

 

هاروكي موراكامي:

بيعت من كتابي الأخيرة «كافكا على الشاطئ» في مجلدين حوالي 300 ألف نسخة. تفاجأت أنه بِيع بهذا القدر، لم يكن الأمر عاديًا. القصة معقدة وليست سلسة. لكن أسلوبي النثري سهل القراءة. وينطوي على حِسٍ فكاهي ودرامي يدفع الناس لقراءة الصفحة التالية ثم التي تليها. يوجد توازن سحري بين هذين العاملين، وربما يكون هذا سبب آخر لنجاحي. الأمر رهيب. أكتب رواية كل ثلاثة أعوام، والناس ينتظرونها. عقدت مقابلة ذات مرة مع جون إيرفنگ، وأخبرني بأن قراءة الكتب الجيدة تشبه الحقن المُخدّرة. وفورما يدمن الناس عليها، سيبقون دائمًا في الانتظار.

 

المُقابِل:

لديك رغبة في دفع الناس ليصيروا مُدمنين.

 

هاروكي موراكامي:

هذا ما يقوله جون إيرفنگ.

 

المُقابِل:

هل استخدامك لعامليّ الصوت السردي المباشر والسلس مقرونًا بعامل الحبكة المُثيرة يعد خيارًا واعيًا لديك؟

 

هاروكي موراكامي:

الأمر ليس كذلك. فأنا لا أحيك خطة للكتابة عندما ابدأ بها. أشرع في كتابة القصة وأنتظرها. لا أختار نوع القصة ولا أوجّه أحداثها. أنتظر فحسب. كان الأمر مع الغابة النرويجية مختلفًا، لأني قررت مسبقًا استخدام الأسلوب الواقعي. لكني عامة لا أختار.

 

المُقابِل:

هل تختار صوت الراوي، ذلك الصوت الجامد والسهل؟ هل تختاره واعيًا؟

 

هاروكي موراكامي:

تحضرني الصور وأربطها مع بعضها البعض تباعًا. هكذا يتشكل خط سير القصة. بعدها آخذ في شرح خط سير القصة للقارئ. وعلى المرء أن يكون لطيفًا للغاية لحظة شرحه لأي شيء. وإذا فكرت للحظة أنك تعرف أمرًا ولا تريد شرحه، فهذا غرور. كلمات سهلة وكنايات لذيذة وصورٌ مُعبّرة. وهذا ما أفعله. أشرح بهدوء ووضوح.

 

المُقابِل:

هل يحضرك هذا الأمر طبيعيًا؟

 

هاروكي موراكامي:

لستُ ذكيًا. ولستُ مغرورًا. أنا تمامًا مثل الناس الذين يقرؤون كتبي. كان لدي نادٍ للجاز، واعتدت تجهيز الكوكتيلات والساندويتشات للناس. لم أرد أن أصير كاتبًا. ولكني كتبتُ. الكتابة بالنسبة لي هِبة من السماء، ولذا عليّ أن أكون متواضعًا.

 

المُقابِل:

في أي عمرٍ صرت كاتبًا؟ وهل فاجأك الأمر؟

 

هاروكي موراكامي:

وأنا في التاسعة والعشرين من العمري. ونعم، تفاجأت. لكني اعتدت على الأمر مُباشرة.

 

 

المُقابِل:

مباشرة؟ شعرت بالارتياح منذ أول يوم كتابة؟

 

هاروكي موراكامي:

طفقت أكتب على طاولة المطبخ في منصف الليل. استغرقتُ عشرة أشهر في إنجاز الكتاب الأول وأرسلته لأحد الناشرين وحصلت بعدها على جائزة، وكان الأمر أشبه بالحلم. تفاجأت لحدوث الأمر. لكن بعد لحظة تفكير أدركته، أنا كاتب. ولِمَ لا؟ الأمر بالغ البساطة.

 

المُقابِل:

ما كان شعور زوجتك عند قرارك في التوجه للكتابة؟

 

هاروكي موراكامي:

لم تعلّق على الأمر، وعندما أخبرتها بأني صرتُ كاتبًا، تفاجأت وشَعرتْ بالإحراج نوعًا ما.

 

المُقابِل:

ولِمَ شعرت بالإحراج؟ لم تعتقد أن بإمكانك النجاح؟

 

هاروكي موراكامي:

ثمة ابتذال في فكرة أن يصير المرء كاتبًا.

 

المُقابِل:

من هم قدواتك؟ من أثر عليك من الكتاب اليابانيين؟

 

هاروكي موراكامي:

لم اقرأ للكثير من الكُتاب اليابانيين في طفولتي ولا حتى في مراهقتي. رغبت في الهرب من هذه الثقافة. شعرتُ أنها كان مملة ولزجة.

 

المُقابِل:

ألم يكن والدك مُعلمًا للأدب الياباني؟

 

هاروكي موراكامي:

صحيح. علاقتي بأبي زينها الأدب أيضًا. ولكني اتجهت للثقافة الغربية: موسيقى الجاز ودوستويفسكي وكافكا ورايمند تشاندلر. كان هذا عالمي الخاص، عالمي الخيالي. كان بمقدوري الذهاب إلى سان بطرسبرغ أو إلى هوليوود الغربية إذا رغبت في ذلك. هنا تتمثل قوة الرواية، تهديك القدرة للسفر إلى أي مكان. صار من السهل الآن السفر إلى الولايات المتحدة. يمكن لأي أحد السفر إلى أي مكان يريدونه، ولكن في الستينيات كان الأمر مُستحيلًا تقريبًا. ولذا كانت القراءة والموسيقى طريقتي في السفر. لذتُ بهما مثل الحلم.

 

المُقابل:

وقادك هذا في مرحلة من المراحل إلى الكتابة؟

 

هاروكي موراكامي:

صحيح. عندما كنت في الحادي والعشرين من عمري، بدأت في كتابة رواية دون أي مقدمات. أردت كتابة شيء ما، ولكني لم أعرف كيف. لم أعرف كيف أكتب باللغة اليابانية لأني بالكاد قرأت أية أعمال لكتاب يابانيين، ولذا استعرت الأسلوب والصيغة وكل شيء من الكتب التي قرأتها، من الكتب الأميركية والغربية. ونتيجة لهذه الاستعارة، خرجت بأسلوبي الأصلي. كانت بداية.

 

 

المُقابِل:

نُشر كتابك الأول وحصلت على جائزة وأنت في طريقك لتصير كاتبًا. هل بدأت في مقابلة كُتاب آخرين؟

 

هاروكي موراكامي:

لا. أبدًا.

 

المُقابل:

لم يكن لديك أي أصدقاء كُتاب وقتها؟

 

هاروكي موراكامي:

كلا.

 

المُقابِل:

ومع مرور الوقت، هل قابلت أحدًا صار لاحقًا صديقك أو زميلك؟

 

هاروكي موراكامي:

كلا. أبدًا.

 

المُقابل:

ألا يوجد لديك أي أصدقاء كُتّاب حتى هذا اليوم؟

 

 

هاروكي موراكامي:

كلا.

 

المُقابِل:

ألا تعرض كتاباتك على أحد في أثناء عملك عليها؟

 

هاروكي موراكامي:

إطلاقًا.

 

المُقابِل:

ماذا عن زوجتك؟

 

هاروكي موراكامي:

أريتها المخطوطة الأولى لروايتي الأولى ولكنها تدعي بأنها لم تقرأها نهائيًا! أظنها لم تشكل انطباعًا عن العمل.

 

المُقابِل:

لم تندهش.

 

هاروكي موراكامي:

أصبت. ولكنها كانت المسودة الأولى، وكانت فظيعة. أعدت كتابتها مرارًا وتكرارًا.

المُقابِل:

ماذا عن الآن وأنت تعمل على كتابٍ ما، ألا يثيرها الفضول لتعرف عمّا تكتب؟

 

هاروكي موراكامي:

زوجتي هي قارئتي الأولى دائمًا. أكتب كتابًا، واعتمد عليها، فهي شريكتي في الكتابة إلى حدٍ ما. يذكرني الأمر بسْكوت فيتسجيرالد، حيث كانت زوجته زيلدا قارئته الأولى.

 

المُقابِل:

لم تشعر بأي مرحلة من مهنتك كاتبًا بأنك تنتمي إلى مُجتمع من الكُتّاب؟

 

هاروكي موراكامي:

أنا انطوائي.  لا أحب المجموعات والمدارس والدوائر الأدبية. يوجد في پرينستون مطعم صغير حسبما أتذكر، ودُعيت إليه. حَضَرَتْ فيه آنذاك جويس كارول أوتس وتوني موريسون. خفتُ للغاية لدرجة أنني لم آكل أي شيء. كانت ماري موريسون هناك أيضًا وهي امرأة لطيف جدًا بنفس عمري تقريبًا وصرنا أصدقاء. أما في اليابان، فلا أصدقاء كتّاب لي لأني أحافظ على…… مسافتي.

 

المُقابِل:

كتبت جزءًا ليس بالهين من رواية «يوميات طائر الزنبرك» في الولايات المتحدة. هل أثّر عيشك فيها على عملية الكتابة أو على النص نفسه؟

 

هاروكي موراكامي:

عشتُ خلال سنوات كتابة رواية «يوميات طائر الزنبرك» الأربعة في الولايات المتحدة الأميركية غريبًا. تبعني الإحساس بالغرابة مثل ظلٍ وترك الأثر نفسه على الشخصية الرئيسة في الرواية. وبعد تفكيري بالموضوع، لو كتبت الرواية وأنا في اليابان، لكان قد خرج معي كتاب آخر مختلف تمامًا.

الغرابة التي أشعر بها وأنا في الولايات المتحدة الأميركية تختلف عن الغرابة التي تنتابني في اليابان. كان الإحساس بها في أميركا واضحًا ومباشرًا وأعطتني تقديرًا أوضح لنفسي.  كأني كنت وفي أثناء كتابة الرواية أعرّي نفسيّ، إلى حدٍ ما.

المُقابِل:

هل يوجد كتابٌ حاليين في اليابان تقرأ لهم وتستمتع؟

 

هاروكي موراكامي:

بالطَّبع، ومنهم ريو موراكامي. أحب بعضًا من كُتب بانانا يوشيموتو. ولكني في الآن ذاته لا أحب المُراجعات والنقد. لا أريد الانخراط بهذا.

 

المُقابِل:

ولِم لا؟

 

هاروكي موراكامي:

أؤمن أن عملي يقوم على ملاحظة الناس والعالم لا الحكم عليهم. آمل دائمًا في موضعة نفسي بعيدًا عن الأحكام والخلاصات. أريد أن أترك الأمور مفتوحة على كل الاحتمالات في العالم.

أفضل ترجمة النقد لأن الترجمة لا تلزمك بالحكم على أي شيء. سطر بسطر أدع الأعمال المفضلة عندي تمر عبر جسدي وذهني. نحن نحتاج على النقد في العالم بكل تأكيد، ولكني لستُ ناقدًا.

 

المُقابِل:

بالعودة إلى كتبك: لا بدّ أن أدب التحقيقات الأميركي الساخر[3]  كان موردًا هامًّا لها. متى قرأت لهذا الجنس لأول مرة ومن عرَّفك عليه؟

 

 

 

هاروكي موراكامي:

وأنا أدرس الثانوية العامة استهوتني روايات الجريمة. كنت أعيش وقتها في كوبه، وهي مدينة ساحلية اعتاد الأجانب والبحارة الاجتماع فيها وبيع الكتب ذات الأغلفة الورقية لمكتبات الكُتب المستعملة. كنت فقيرًا، ولكن كان بوسعي شراء كتب الأغلفة الورقية بسعر زهيد. تعلمت الإنجليزية من هذه الكتب وكان الأمر شيِّقًا.

 

المُقابِل:

ما كان أول كتابٍ قرأته بالإنجليزية؟

 

هاروكي موراكامي:

«اسمي آرتشر My name is Archer» للكاتب روس مكدونالد. تعلمت الكثير من تلك الكتب. وفورما بدأت بالتهامها لم يكن بمقدوري التوقف. أحببت في الوقت نفسه القراءة لتولستوي ودوستويفسكي. دفعتني تلك الكتب لقراءة صفحاتها تباعًا، على الرغم من طولها، لم أتوقف عن قراءتها. لا فرق لدي بين دوستويفسكي ورايمند تشاندلر. حتى هذا الوقت، أرى أن كتابتي تكون في أبهى صورها حين أجمع بين صوتيّ دوستويفسكي وتشاندلر في كتاب واحد. هذا ما أرنو إليه.

 

المُقابِل:

متى قرأت كافكا للمرة الأولى؟

 

هاروكي موراكامي:

وأنا في الخامسة عشرة من عمري. قرأت رواية «القلعة»، وكان كتابًا عظيمًا، ثم قرأت «المُحاكمة».

 

المُقابِل:

غريب. لأنّ أيًا من هذه الأعمال لم يكتمل، ما يعني أنها تعقيداتها لم تُحل. رواياتك كذلك، وخصوصًا كتابك الأخير «يوميات طائر الزنبرك»، بدت الرواية كما لو أنها تقاوم إيجاد حلٍ من النوع الذي يتوقعه القارئ. هل كان لكافكا ربما تأثير عليك؟

هاروكي موراكامي:

ليس حصرًا.  لا بد أنك قرأت لرايمند تشاندلر قبلًا. لا تقدّم كتبه نهايات واضحة للقراء. قد يقول إن فلان هو القاتل، ولكن لا يهمني من القاتل. في إحدى الحلقات الماتعة، صنع هاورد هوكس صورة لـ «النوم الكبير». لم يعرف هوكس من هو قاتل الشوفير، فاتصل بتشاندلر وسأله، وأجابه تشاندلر: «لا أهتم». وأشاركه الشعور نفسه. لا تعني النهايات شيئًا إطلاقًا. لا أهتم لهوية القاتل في رواية «الأخوان كارامازوف».

 

المُقابِل:

ولكن يبقى جزء كبير من إبداع وانتشار رواية «النوم الكبير» متمثلًا في الرغبة بمعرفة القاتل؟

 

هاروكي موراكامي:

أنا نفسي وفي أثناء الكتابة لا أعرف من الفاعل. أتشارك والقارئ في هذه الخاصيّة. فعندما ابدأ في كتابة قصة ما، لا أعرف نهايتها ولا أعرف ماذا سيحصل بعد الحدث الحالي. ولو احتوت قصتي على جريمة قتل فلا أعرف من القاتل. أكتب الكتاب لأن ثمة رغبة تعتريني لأعرف. لو كنت أعرف من هو القاتل منذ البداية، فلن يكون أي هدف لدي لكتابة القصة.

 

المُقابِل:

هل ينبع هذا من رغبتك بعدم شرح كتبك؟ لأنها قد تفقد قوتها مثل الأحلام إذا ما خضعت للتحليل؟

 

هاروكي موراكامي:

تتجسد عظمة الكتابة في أنها تمنحك القدرة على الحلم مستيقظًا. لو حلمت حلمًا حقيقيًا فلن تتمكن من السيطرة عليه. ولكن في حالة الكتابة، فأنت مستيقظ، وتختار الزمان والطول وكافة التفاصيل. أواصل الكتابة لأربع أو خمس ساعات في الصباح، وعندما أشعر بالحاجة إلى التوقف، أتوقف. يمكنني الاستمرار حتى حلول اليوم الجديد. لو كان حلمًا حقيقيًا، لما تمكنت من فعل ذلك.

 

المُقابِل:

تدّعي أنك لا تعرف القاتل في أثناء الكتابة، ولكن ثمة استثناء محتمل خَطَرَ لي الآن: شخصية گوتاندا من راوية (رقص رقص رقص). يمكن للقارئ ملاحظة بناء مُتعمد في الرواية يؤدي إلى لحظة اعتراف گوتاندا ، وكما هو الأمر في روايات الجريمة الكلاسيكية، كان گوتاندا آخر شخص قد يشتبه به. ألا يمكن أنك كنت تعرف مسبقًا أنّ گوتاندا كان مذنبًا منذ البداية؟

 

هاروكي موراكامي:

لم أكن أعرف في المسودة الأولى أن القاتل هو گوتاندا. ومع اقترابي من النهاية، أي بعد كتابة ثلثيّ الرواية، عرفت. وبعد عملي على المسودة الثانية أعدت كتابة شخصية گوتاندا. عادة ما تكون المسودة الأولى غير مرتبة وتتطلب قدرًا كبيرًا من المُراجعة.

 

المُقابِل:

كم عدد المسودات التي تعمل عليها قبل النشر؟

 

هاروكي موراكامي:

أربع أو خمس مسودات. أقضي ستة أشهرٍ في كتابة المسودة الأولى، ثم سبعة أو ثمانية أشهر في إعادة الكتابة.

 

المُقابِل:

عملك سريع للغاية.

 

 

هاروكي موراكامي:

أنا كاتبٌ متفانٍ. أركز على عملي بقوة، وهو ما يجعل الكتابة سهلة بالنسبة لي، خصوصًا أني حين أكتب، لا أقوم بأي عمل آخر.

 

المُقابِل:

كيف تخطط ليومك العادي؟

 

هاروكي موراكامي:

عندما أقرر الدخول في جو كتابة رواية، أصحو الساعة الرابعة صباحًا وأكتب لحوالي خمس أو ست ساعات. وفي فترة الظهيرة، أجري عشرة كليو متر أو أسبح مسافة 1500 متر (أو أفعل الأمرين معًا)، وبعدها اقرأ لبعض الوقت، ثم أستمع للموسيقى. أنام في الساعة التاسعة مساءً. ألتزم بهذا الروتين يوميًا دون تغيير. يتحول التكرار إلى أمر بالغ الأهمية مع مرور الوقت ويصير ضربًا من ضروب السحر. ألقي على نفسي تعويذة سحرية لأصل إلى مستويات أعمق من عقلي. وجدير بالذكر أن الالتزام بهذا الروتين لفترة طويلة – ستة أشهر أو سنة – يتطلب قوة ذهنية وصحة بدنية. لذا تعتبر كتابة رواية طويلة بالنسبة لي تمرينٌ لقدرتي على البقاء حيًا في ظروفٍ غير مواتية. وأؤكدّ أن القوة الجسدية ضروريّة ضرورة الحساسيّة الفنيّة.

 

المُقابِل:

اسمح لي بسؤالك عن شخصيات أعمالك. إلى مدى تصير الشخصيات حقيقية في أثناء عملك عليها؟ هل تجد أي أهمية في أن يكون لها حياتها المستقلة عن القصة والسرد الروائي؟

 

هاروكي موراكامي:

أميلُ إلى مشاهدة الناس الحقيقين في حياتي عند خلقي للشخصيات الجديدة في كتبي. لا أحب التكلم كثيرًا، وأحب الاستماع لقصص الآخرين. لا أصنّف الناس ولا أحكم عليهم، أحاول قدر المُستطاع أن أفكر فيما يشعرون وإلى أين يذهبون بحياتهم. أجمع بعض الحقائق للشخصية من هذا الرجل وأخرى من تلك الفتاة. لا أدري ما إذا كان فعلي هذا معقول أم لا، ولكني أرى شخصيات أعمال الروائية حقيقية أكثر من الأشخاص الحقيقيين، وخلال الشهور الستة أو السبعة التي أكتب فيها عملًا ما، تكون هذه الشخصيات في داخلي. كأنني كونٌ في ذاتي.

 

المُقابِل:

نجد أن شخصياتك الرئيسية عادة ما تكون انعكاسٌ لوجهة نظرك في العالم الفانتازي لقصصك ولسردك، كأن تكون أنت الحالِم في الحُلم.

 

هاروكي موراكامي:

أرجو منك أن تفكر بالأمر كالآتي: لدي أخٌ توأم. وعندما كنتُ في الثانية من عُمري، اُختطف أخي، وأُخذ إلى مكان بعيد ولم نره من وقتها. أفكر دائمًا في الشخصيات الرئيسة كأنها أخي. نعم هي جزء مني ولكنها ليست أنا، ولم نر بعضينا منذ زمن سحيق.  كأن يكون لي وجودٌ بديل. من ناحية بيولوجية، نحن توأم ونتشارك نفس الدنا (DNA)، ولكن الظروف المحيط بكل منا شكَّلتنا بطريقة مختلفة، وعليه فإن طريقة تفكيرنا بالعالم تختلف. وفي كل مرةٍ أشرع فيها بكتابة رواية، أكون شخصًا آخر، لأني في بعض الأحيان أكون متعبًا من نفسي. يتيح هذا الخيار لي الهرب. أنظر إلى الكتابة كأنها عالم خيالي بديل، ولو لم يكن للمرء ملجأ خيالي، فلماذا عساه يكتب؟

 

المُقابِل:

استفسار آخر عن رواية «أرض العجائب الحارّة». ثمة نوع من التناسق فيها وصفة رسمية إلى حدٍ ما، كما أنها تتميز بنوع من الدقة غير الموجودة في أعمالك اللاحقة مثل «يوميات طائر الزنبرك». هل تغيرت أفكارك عن وظيفة وأهمية النسق الروائي في مرحلة ما؟

 

هاروكي موراكامي:

نعم. لم تنشر أول روايتين لي خارج اليابان، وهذا نابع من رغبتي في ذلك، فهي أعمال غير ناضجة، وأراها كتب صغيرة من وجهة نظري. كانت أعمالٌ رديئة، إن صح التعبير.

 

 

المُقابِل:

ما المشكلة فيها؟

 

هاروكي موراكامي:

كنت أحاول في أعمالي الأولى تقويض/تفكيك الرواية اليابانية التقليدية، وما أقصده بالتقويض/التفكيك هنا، أي إلغاء تقاليدها الداخلية والمحافظة على إطارها المرجعي/شكلها الخارجي. تعيَّن علي بعدها ملأ هذا الإطار بمحتويات جديدة وأصلية. واكتشفت طريقة التعبئة الناجحة في كتابي الثالث، مطاردة الخراف الجامحة في عام 1982. ساعداني أول كتابين في الوصول إلى الكتاب الثالث، وليس أكثر. أعتبر رواية مطاردة الخراف الجامحة البداية الأساسية لأسلوب كتابتي الخاص.

ومنذ ذلك الوقت، يزداد عدد صفحات كتبي الواحد تلو الآخر، وتصير بُناها أكثر تعقيدًا مع الزمن. كلما كتبت كتابًا جديدًا، أسعى لتدمير البنية السابقة التي استخدمتها، ولبناء شيء جديد. وأضع في كل مرةٍ موضوع جديد أو قيود جديد أو رؤية جديدة في داخل الكتاب. أبقى واعيًا طوال الوقت للبنية. وإذا تغيرت البنية، يتعين علي تغيير الشكل النثري بالتوازي. أما إذا كررت ما أفعله دائمًا تمامًا، فسيصيبني هذا بالملل.

 

المُقابِل:

ولكن كما تغيرت كثير من عناصر كتابتك، بقي بعضها حتى هذه اللحظة. تٌروى أعمالك دائمًا بضمير المُتكلم. ويوجد في كل رواية شخصية رجلٍ متعدد العلاقات الجنسية، وفي كل الروايات تكون علاقته تجاه النساء سلبية بحيث تكون هاته النساء تعبيرًا عن مخاوفه وأوهامه.

 

هاروكي موراكامي:

في كتبي وقصصي، تكون النساء أوعية أو شخصيات مُضيفة إلى حد ما، وتكون وظيفتها أن تسمح لأمر ما بالتجسد عبر شخصياتها. تصير المرأة في هذه الحالة نظامًا يجب تجريبه. تُقاد شخصية البطل في أعمالي دائمًا إلى مكانٍ أو كشفٍ ما عبر هذا الكائن الوسيط، وتكون رؤاه ومعرفته عن العالم معروضة للقارئ عبر المرأة نفسها.

 

 

المُقابِل:

أتقصد استخدام فكرة المرأة وسيطًا كما كانت في العصر الڤيكتوري؟ وسائط جسدية؟

 

هاروكي موراكامي:

أنظرُ إلى الجنس على أنه… التزام روحيّ، فلو كان الجنسٌ ماتعًا، ستشفى جروحك، وسيصير خيالك خصبًا. أرى في الجنس طريقًا وممرًا إلى المناطق العُليا من العقل، إلى أماكن أفضل. وبناءً على هذا، تكون شخصيات النساء في قصصي وسيطة ومُبشِّرة بالعالم القادم، ولهذا تكون هي من تأتي إلى البطل، وليس هو من يذهب إليهنّ.

 

المُقابِل:

يبدو أنه يوجد نوعان متمايزان من النساء في رواياتك: أولئك اللواتي يكون فيها البطل على علاقة جدية معهن، وغالبًا ما تختفي هذه النساء وتلاحقهن الذاكرة وأولئك اللواتي يأتين متأخرات في حياة البطل ويساعدنه في البحث أو على النسيان. وتميل نساء النوع الثاني ليكنّ صريحات وغريبات أطوار وواضحات جنسيًا، ويتفاعل الكاتب معهن بدفء وحس فكاهي أعلى مما يتفاعل مع النساء المفقودات واللواتي لم يتمكن من التواصل معهن على أي مستوى من المستويات. ما الهدف من استخدام هذه القوالب؟

 

هاروكي موراكامي:

غالبًا ما تكون شخصية البطل في أعمالي عالقة بين العالم الروحي والعالم الحقيقيّ. تكون النساء -أو الرجال- في العالم الروحي هادئات وذكيات وحكيمات ومتواضعات. أما في العالم الحقيقي، فالنساء نشيطات جدًا وخفيفات وحاضرات، ولهن حس فكاهي واضح، وتنقسم الشخصية بين هذين العالمين المتمايزين ولا يعود بإمكانها الاختيار. أعتقد أن هذه إحدى أهم المواضيع الرئيسة في أعمالي. ويمكنك أن تجدها جهارًا نهارًا في رواية «أرض العجائب الحارّة»، حيث ينقسم عقل البطل فعليًا وجسديًا. الأمر نفسه ينطبق على الغابة النرويجية، حيث توجد فتاتان ولا يمكن للبطل أن تختار فيما بينهنّ، منذ بداية الرواية وحتى آخرها.

 

 

 

المُقابِل:

أتعاطف دائمًا مع الفتاة ذات الحس الفكاهي. من الأسهل السماح للقارئ بالدخول في علاقة يكون الحس الفكاهي فيها هو العامل الرئيس، ويكون من الصعب أن تقنع القارئ بشخصية تحمل مفهومًا جديًا عن علاقة الحُب. في الغابة النرويجية، كنت أقف في صف ميدوري طوال الوقت.

 

هاروكي موراكامي:

أعتقد أن كل القراءة يشاطرونك الرأي، فأغلبهم سيختارون ميدوري، كما أن البطل يختارها في نهاية المطاف، ولكن يبقى جزء كبير منه في العالم الآخر، ولا يمكنه تركه، فهو جزء لا يتجزأ منه. لدى كل البشر جزء مريض في عقولهم. ذلك الفضاء جزء منه. لدى كل منا جزء عاقل في أدمغتنا وجزء مجنون. ويوجد تفاوض دائم بين هذه الأجزاء، حسبما أرى. ويتبدّى الجزء المجنون من دماغي واضحًا لي وأنا أكتب… لا أعتقد أن كلمة مجنون هي الأنسب هنا. الجزء غير العادي أو غير الواقعي. عليّ العودة إلى العالم الواقعي بالطبع، وأن أختار الجزء العاقل، ولكنّي إذا لم أمتلك الجزء المجنون أو الجزء المريض، فلن أكون هنا. لأعيد صياغة ما أقول: تدعم شخصية البطل امرأتين، وبدون أي منهنّ، لا يعود بإمكانه المواصلة، وتعتبر رواية «الغابة النرويجية» خير مثال على ما أفعله في كتاباتي.

 

المُقابِل:

تبدو الآن شخصية ريكو في «الغابة النرويجية» أكثر غموضًا، فأنا لا أعرف كيف أصنفها لأن لها موطئ قدمٍ في العالمين معًا.

 

هاروكي موراكامي:

ريكو نصف عاقلة ونصف مجنونة. وكأنها ترتدي قناعًا إغريقيًا، لو نظرت إليها من جانب ما، فهي تبدو شخصية تراجيدية، ولو نظرت إليها من الجانب الآخر، فهي شخصية كوميدية، وهو ما يجعلها تمامًا شخصية رمزية. أحب شخصيتها جدًا. كنتُ مسرورًا جدًا عندما كتبت شخصية العزيزة ريكو.

 

 

 

المُقابِل:

هل تشعر بانجذاب خاص إلى شخصياتك الكوميدية، مثل ميدوري[4] وماي كاشارا[5]، أكثر من انجذابك إلى الشخصيات مثل ناوكو[6]؟

 

هاروكي موراكامي:

تستهويني كتابة الحوارات الكوميدية، فهي ممتعة، ولكن لو كانت كل شخصياتي كوميدية، فستكون أعمالي مملة. أستخدم الشخصيات الكوميدية كطريقة لأحافظ على استقراري العقلي، فوجود حس فكاهيٍ أفضل ما يفعل ذلك. ولكي تكون ذا حسٍ فكاهيٍ يُوجب عليك أن تكون خفيفًا. عندما تكون جادًّا، فقد تكون غير مستقرٍ، وهنا مشكلة الجدية. أما إذا كنت ذا حسٍّ فكاهي، فأنت مستقر، ولكن لا يمكنك خوض الحرب مُتبسِّمًا.

 

المُقابِل:

كتب كثير من الكُتّاب هواجسهم وأعادوا كتابتها دون إرادتهم، تمامًا مثلما فعلتَ أنت. فأعمال مثل «أرض العجائب الحارّة» و«رقص رقص رقص» و«يوميات طائر الزنبرك» و«سپوتنيك الحبيبة» تطلب أن تقرأ كما لو أنها أعمال مختلفة لنفس الموضوعة: رجل فقدَ أو تُركَ من شخص آخر يثير رغبته، ويصير بعدها مجذوبًا بعدم قدرته لنسيانها إلى عالم موازٍ يبدو وكأنه يقدم له إمكانية استعادة ما كان قد فقده، إمكانية يعرف هو (والقارئ) أن الحياة كما يعرفها يستحيل أن تقدمها. هل توافقني على هذا التوصيف؟

 

هاروكي موراكامي:

نعم.

 

المُقابِل:

ما مدى مركزية هذا الهاجس في أعمالك؟

هاروكي موراكامي:

لا أدري لِمَ أواصل كتابة هذه المواضيع. يوجد شخصية في كل كتابات جون إيرفنگ دائمًا تكون قد فقدت عضوًا من جسدها. لا أدري لم يواصل الكتابة عن الأجزاء المفقودة، رُبَّما هو لا يعرف أيضًا. ينطبق الأمر نفسه عليّ. يفتقد بطل روايتي على الدوام لأمرٍ ما، ويأخذ في البحث عنه، مثل الكأس المُقدَّسة أو مثل شخصية فيليپ مارلو.

 

المُقابِل:

لن تحتاج إلى مُستقصٍ إلا إذا فقدت أمرًا ما.

 

هاروكي موراكامي:

تمامًا. عندما يفقد بطل روايتي أمرًا ما، تقع على كاهله مسؤولية البحث عنه. يصير البطل مثل أوديسيوس، حيث يواجه الكثير من الأمور الغريبة في رحلة البحث.

 

المُقابِل:

في طريق عودته إلى البيت.

 

هاروكي موراكامي:

عليه أن ينجو من تلك التجارب، وفي النهاية يجد ما كان يبحث عنه، ولكنه لا يعود متأكدًا ما إذا كان ما وجده هو ما فقده. هنا تكمن الموضوعة الثانوية في أعمالي. من أين تأتي هذه الأفكار؟ لا أعلم، إلا أنها تناسبني، وهي القوة الدافعة لقصصي: الفقد والبحث ثم العثور. وتكون خيبة الأمل هي الوعي الجديد بالعالم.

 

المُقابِل:

خيبة الأمل بوصفها طقسٍ للعبور؟

 

هاروكي موراكامي:

هذا ما أعنيه. تصير التجربة بحد ذاتها معنىً. وقد تغير البطل في أثناء خوضه لهذه التجربة، وهذا هو محور العمل. ليسَ في ما وجده، بل في ما صار إليه.

 

المُقابِل:

أود سؤالك عن ترجمة أعمالك، بما أنك أنت نفسك مترجم، خصوصًا لإدراكك للخطورة التي تنطوي عليها الترجمة. كيف تختار مترجمي أعمالك؟

 

هاروكي موراكامي:

لدي ثلاثة مترجمين مُفضلين، والقاعدة عندي: من يأتي أولًا، يحصل على فرصة الترجمة. نحن أصدقاء وصريحون ولذلك فهم يقرؤون أعمالي، ثم يقرر أحدهم بأن العمل أعجبه وأنه يود ترجمته، وأعطيه له. وبصفتي مترجمًا، أعلم أن الحماس للترجمة أهم جزء في العملية، لأن المترجم مهما كان مُحترفًا، لو لم يكن يُحب الكتاب لدرجة عالية، فستكون الترجمة رديئة. تتطلب الترجمة جهدًا ووقتًا كبيرين.

 

المُقابِل:

ألا يتقاتل المترجمون الثلاثة على أعمالك فيما بينهم؟

 

هاروكي موراكامي:

البتّة. لكل واحد منهم تفضيلاته في النهاية، ولكل منهم شخصية مُختلفة. عند الحديث مثلًا عن رواية «كافكا على الشاطئ»، أُعجب بها فِل، ولكن جاي لم يكن متحمسًا لها. فِل شخص متواضع ومؤدّب. أما جاي فهو صاحب شخصية قوية وشديد الانتباه إلى التفاصيل. ألفريد بوهيميّ إلى حدّ ما ولا أعرف مكانه في هذه اللحظة، فهو قد تزوج امرأة ناشطة من ماينمار. تعتقلهم الحكومة بين الفينة والأخرى. ألفريد شخص لطيف وحُر كما يجب أن يكون أي مُترجم، إلى الحد الذي يجعله يغير في النص الذي يترجمه أحيانًا. هذا هو أسلوبه.

 

 

المُقابِل:

كيف تتعاون مع مترجميك؟ حدّثني عن سير العملية.

 

هاروكي موراكامي:

يسألونني عن كثير من الأمور في أثناء الترجمة، واقرأ العمل لأول مرة عند تجهيز المسودّة الأولى. أقترح عليهم تعديلات أحيانًا. النسخة الإنجليزية لرواياتي تحمل أهمية كبيرة لأن بعض الدول الصغيرة، مثل كرواتيا وسلوڨينيا، تترجمها عن الإنجليزية لا عن اليابانية، وهذا يوجب أن تكون الترجمة دقيقة. أما في أغلب دول العالم فتترجم أعمالي عن النصوص اليابانية الأصلية مُباشرةً.

 

المُقابِل:

هل يعكس تفضيلك لترجمة الكتاب الواقعيين مثل كارڨر وڨيتزجيرالد وإيرفنگ ذوقك القرائيّ؟ أم أن ترجمتك لهم تساعدك في كتابتك كطريقة لغمس نفسك في أسلوب كتابي يختلف عنك؟

 

هاروكي موراكامي:

كل من ترجمتُ لهم كتبوا أعمالًا تعلمت منها أمرًا أو اثنين. وهذا هو أهم ما في الموضوع. أتعلم كثيرًا من الكُتّاب الواقعيين، لأن عملهم يتطلب نوعًا من القراءة النقدية المتروية لتكون قادرًا على ترجمته، وبإمكاني أن أرى أسرارهم. لو كنت أترجم الأعمال ما بعد الحداثية لكتاب مثل دون ديليو أو جون بارث أو توماس پينشون، فسيحصل صدام… جنوني ضد جنونهم. أُحب أعمالهم بدون منازع، ولكني عندما أترجم، أختار الكُتب الواقعيين.

 

المُقابِل:

غالبًا ما يُشار إلى أعمالك على أنها أكثر وأسهل الأعمال اليابانية الأدبية وصولًا ومقروئية لدى القارئ الأميركي إلى الدرجة التي صرت فيها أنت نفسك تحمل لقب أحد أشهر الكتاب الغربيين اليابانيين. أودّ سؤال عن رأيك بعلاقتك بالثقافة اليابانية؟

 

 

هاروكي موراكامي:

لا أريد الكُتابة عن أجانب في أراضي أجنبية غريبة، بل أريد الكتابة عنَّا. أريد الكتابة عن اليابان وعن الحياة فيها. وأرى هذا مُهم بالنسبة لي. كثير من الناس أخبروني بأن أعمالي ذات مقروئية عالية عند الغربيين، وقد يكون هذا صحيح، إلا أن قصصي تخصني، وليست مُغرْبَنة.

المُقابِل:

كثير من مرجعياتك وإشاراتك التي تبدو غربية بالنسبة للأميركيين هي في واقع الأمر جزء لا يتجزأ من المشهد الثقافي الياباني، مثل البيتلز.

 

هاروكي موراكامي:

عند كتابتي عن أناس يأكلون الهامبرغر من ماكدونالدز، يستعجب الأميركيين ويسألون عن سبب أكل هذه الشخصية للهامبرغر بدلًا من التوفو، وما لا يدركونه أن أكل الهامبرغر في اليابان أمر طبيعي للغاية.

 

المُقابِل:

هل بمقدورك الادّعاء بأن أعمالك تصور حياة اليابان الحضرية المُعاصرة بدقة؟

 

هاروكي موراكامي:

الطريقة التي تتفاعل فيها الشخصيات وتتحدث وتفكر في أعمالي يابانية للغاية. لم يعترض أي قارئ ياباني إطلاقًا على إعمالي تحت ذريعة أن قصصي تختلف عن حياتهم. أحاول على الدوام الكتابة عن اليابانيين. أريد الكتابة عنّا وعن تطلعاتنا. هذا هو موضوعي حسبما أظن.

 

المُقابِل:

ذكرت قبلًا في إشارتك إلى «يوميات طائر الزنبرك» بأنك كنت مهتمًا بوالدك وبما حصل معه وبكل جيله، ولكن الغريب هو غياب أي عنصر أبويّ في الرواية، وفي أي من أعمالك أيضًا. كيف يظهر اهتمامك بأبيك في الكتاب؟

 

هاروكي موراكامي:

كتبت كل رواياتي تقريبًا بضمير المتكلم. تتمثل وظيفة بطلي الأساسية في مراقبة الأمور تحدث من حوله، وبالتالي فهو يرى ما عليه رؤيته، أو ما يفترض به رؤيته.  تشبه شخصية بطلي شخصية نيك كاراواي في رواية «گاتسبي العظيم». فهو محايد، وللحفاظ على حياديته، عليه التخلص من علاقته القريبة والتحرر من أي علاقة عائلية رأسية.

أعتبر هذا ردّي على الحقيقة القائلة أن «العائلة» تؤدّي دورًا أساسيًا في الأدب الياباني التقليدي. أردت أن أصور بطلي على أنه فرد مُطْلَق ومُستقل. وشخصيته بوصفه جوّالًا في المدينة تساهم في بناء هذا التصور عنه. بطلي شخصية تختار الحُرية والعُزلة بدلًا من الحميمية والروابط الشخصية.

 

المُقابِل:

وأنا أقرأ قصة «الضفدع الخارق ينقذ طوكيو» في مجموعتك القصصية الأخيرة، والتي يحصل فيها أن دودة فضائية عملاقة تسكن تحت طوكيو تُهدد بتدميرها، لم أتمكن من التوقف عن التفكير في المانغا وأسلوب أفلام الوحوش اليابانية القديمة. كما توجد أيضًا في اليابان أسطورة تقليدية عن السمكة القطة العملاقة التي تسكن في خليج اليابان وتستيقظ مرة كل خمسين عامًا مُسببة زلزالًا. هل لهذه الإشارات أي أثر عليك؟ ماذا عن المانغا؟ هل لأي من ذلك علاقة بأعمالك؟

 

هاروكي موراكامي:

كلا، لا أعتقد بوجود علاقة. لست من معجبي المانغا المهووسين ولم أتأثر بأي مما قلت.

 

المُقابِل:

ماذا عن الفلكلور الياباني؟

 

هاروكي موراكامي:

في صغري، سمعت الكثير من القصص اليابانية الفلكلورية والقديمة، ولمثل هذه القصص أهمية كبرى في وقت ترعرع المرء. قد تكون فكرة الضفدع الخارق من مستودع القصص الفلكلورية. للأميركيين مستودع قصصهم وللألمانيين والروسين وهلم جرًّا. ولكن يوجد مستودع قصص مُشترك يمكن للكل أن يرده، مثل رواية الأمير الصغير وماكدونالدز والبيتلز.

 

المُقابِل:

مستوع الثقافة الشعبية العالمية.

 

هاروكي موراكامي:

للسرديات أهمية بالغة في كتابات اليوم. لا ألقي بالًا بالنظريات. لا أهتم بالمفردات. ما يهمني فقط هو السرد والسرد فقط. لدينا الآن نوع جديد من الفلكلور والذي نتج عن عالم الإنترنت. كأن في الأمر كناية ما. لقد شاهدت فيلم «المصفوفة The Matrix» وأراه كقصة فلكلورية للعقل المُعاصِر، ولكن الناس في اليابان قالوا بأنه مُمل.

 

المُقابِل:

هل شاهدت قبلًا فيلم هايو ميازاكي «المخطوفة Spirited Away»؟ يبدو لي أن ثمة تشابهات بينه وبين أعمالك، خصوصًا أنه أيضًا يتلاعب بالمواد الفلكلورية بطرق معاصرة. هل تستمع بأفلامه؟

 

هاروكي موراكامي:

كلا. لا أحب أفلام الأنمي. تابعت جزءًا قصيرًا من الفيلم، ولكنه لم يستهوني. ولا أستمتع بهذا النوع من الأعمال. عندما أكتب رواياتي، تحضرني صُورة، وتكون تلك الصورة راسخة للغاية.

 

المُقابِل:

هل تذهب إلى السينما عادة؟

 

 

هاروكي موراكامي:

نعم. طوال الوقت. مُخرجي المفضل فنلنديّ واسمه آكي كوريسماكي. أعجبتني كل أفلامه، لخروجه عن المألوف طوال الوقت.

 

المُقابِل:

بالإضافة إلى كونهِ طريف.

 

هاروكي موراكامي:

طريف للغاية.

 

المُقابِل:

ذكرتَ آنفًا أن الحس فكاهي مُهم في المحافظة على الاستقرار العقلي. هل تراه مفيدًا في أي أمرٍ آخر؟

 

هاروكي موراكامي:

أريد لقرائي أن يضحكوا بين تارة وأخرى. يقرأ كثير من اليابانيين كُتبي وهم يستقلون القطار. يقضي موظفو الياقات البيضاء المتفانون[7] في اليابان ساعتين يوميًا في عمليات التنقل، ويستغلونها في القراءة. ولهذا تطبع أغلب رواياتي في كتابين (جزئين)، لأنها ستكون ثقيلة إذا طبعت في كتابة واحد. تصلني رسائل من قراء يشتكون من أن رواياتي تجعلهم يضحكون وهم في القطارات! الأمر محرجٌ لهم. هذه الرسائل هي الأحب إلى قلبي. بها أعلم أنهم يضحكون وهم يقرؤون كتبي، وهذا أمر جيد. أحب دفع الناس للضحك كل عشر صفحات مرة.

 

 

المُقابِل:

أهذه صيغتك السرية؟

 

هاروكي موراكامي:

لا أحسب الأمر تمامًا، ولو تمكنت، فسيكون عظيمًا. أحببت قراءة أعمال كيرت فونگت وريتشارد بروتيگان في سنين الجامعة. تمكنوا من إظهار حسهم الفكاهي مع أن أعمالهم كُتبت بقدرٍ كبير من الجديّة. تستهويني هذه الكتب. المرة الأولى التي قرأت فيها فونگت وبروتيگان، تفاجأت أن مثل هذه الكتب موجودة أصلًا! كان الأمر أشبه باكتشاف العالم الجديد[8].

 

المُقابِل:

ولكنك لم تحاول أن تكتب أعمالًا مثلها؟

 

هاروكي موراكامي:

أرى هذه الحياة المدينية الحضرية على أنها مهزلة. أجهزة تلفاز بأكثر من 50 قناة، والأغبياء في الحكومة… نحن نعيش ملهاة، ولذلك أحاول أن أكون جديًا، وكلما زدت من جديتي، صرت هزليًّا أكثر. كنت جادًا للغاية وأنا في التاسعة عشرة من عمري بين عامي 1968 و1969. كانت أوقاتًا جديّة، واعتاد الناس وقتها فكرة المثالية.

 

المُقابِل:

من المُدهش أن روايتك «الغابة النرويجية»، والتي تدور أحداثها في تلك الفترة، أن تكون أقل أعمالك فكاهة.

 

 

 

هاروكي موراكامي:

يمكن أن تستنتج من ذلك أن جيلنا جيل جديّ، ولكن عندما تتذكر تلك الأيام ستراها هزلية للغاية! عشنا أوقاتًا غريبة، ولذلك فنحن _جيلي_ معتادون على الأمر.

 

المُقابِل:

يعد عدم جلب الاهتمام إلى العناصر الفانتازيّة في قصتك أحد أهم القواعد المحورية للواقعية السحرية، ولكن تجاهلت هذه القعدة: شخصياتك تُعلق دائمًا على غرابة خط سير القصة وتحفز القارئ ليلاحظها. ما الهدف من ذلك؟ ولماذا؟

 

هاروكي موراكامي:

سؤالك لذيذ. دعني أفكر فيه… أعتقد أن هذا ينبع من ملاحظتي لغرابة العالم. يختبر أبطالي ما أختبره في أثناء كتابتي للقصة، وهو ما يختبره القارئ أيضًا خلال قراءته لأعمالي. يكتب غارثيا ماركيز وكافكا أدبًا… أدبًا كلاسيكيًا، أما قصصي فهي حقيقية ومعاصرة وتحتوي في داخلها تجربة ما بعد حداثية. فكِّر في قصصي على أنها موقع تصوير أفلام، بحيث تكون كل الأدوات المساعدة على تصوير الفيلم موجودة… الكتب في الأرفف على الحائط، ولكنها مزيفة، فالحيطان مصنوعة من الورق. من ناحية الواقعية السحرية، تكون الحيطان والأرفف حقيقية، ولكن لو كان أي شيء زائف في رواياتي، فأحب أن أشير إلى أنه زائف. لا أريده أن يؤدي دوره كعنصر حقيقيّ.

 

المُقابِل:

لنواصل استخدم استعارة موقع تصوير الفيلم، ألا يُظهر سحب الكاميرا إلى الوراء قليلًا باقي الاستديو؟

 

هاروكي موراكامي:

لا أريد إقناع القارئ بأن الحيطان والأرفف حقيقية، أريده أن يراها كما هي. أرغب بتذكير القارئ بأنه يقرأ قصة، قصة زائفة. لكنك حين تختبر الزائف على أنه حقيقي، يصير حقيقيًا. يصعب الشرح أكثر من ذلك.

في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، قدّم الكتّاب للقراء العالم الحقيقي كما هو، وكذا كانت مهمتهم. في رواية «الحرب والسلام» يصف تولستوي أرض المعركة للدرجة التي يراها القارئ أمامه حقيقةً. لا أريد أن أكتب بهذه الطريقة. لن أتظاهر بأن المشهد حقيقيّ. نعيش في عالم زائف، ونشاهد أخبارًا مسائية زائفة ونخوض حربًا زائفة. حكومتنا زائفة. إلا أننا نعثر على الحقيقي في هذا العالم الزائف. وعلى قصصنا أن تكون هكذا، أن نمشي في وسط مشاهد زائفة، ولكنا نحن، وفي أثناء مشينا بين هذه المشاهد، حقيقيون. المواقف حقيقية، بمعنى أن ثمة التزام يتولد… وعلاقة حقيقية معها. هذا ما أريد الكتابة عنه.

 

المُقابِل:

نجدك في أعمالك تعاود كتابة تفاصيل الحياة العادية والمملة.

 

هاروكي موراكامي:

تستهويني التفاصيل. كان تولستوي يكتب التفاصيل بشمولها، أما أنا فأركّز كتابة التفاصيل على مساحة غاية في الصغر. بوصفك لتفاصيل الأمور الصغيرة، يصير تركيزك مشحوذًا أكثر، ولكن في حالة تولستوي، يحصل العكس، تصير الحالة غير حقيقية. هكذا أريد لكتاباتي أن تكون.

 

المُقابِل:

أن تركز عن قرب إلى الدرجة التي تتجاوز فيها منطقة الواقعية ومنطقة الحياة اليومية بحيث يصير الابتذال غريبًا؟

 

هاروكي موراكامي:

كلما اقتربتَ أكثر، تبتعد عن الواقع أكثر. هذا أسلوبي.

 

المُقابِل:

ذكرتَ آنفًا أن كافكا وغارثيا مركيز يكتبون الأدب، وهذا يأتي على النقيض من أعمالك، ألا تعتبر نفسك كاتبًا للأدب؟

 

 

هاروكي موراكامي:

أكتب الأدب المُعاصر، والذي يختلف تمام الاختلاف عما كتبوه. في عصر كافكا مثلًا، لم يكن لديهم إلا الموسيقى والكتب والمسرح، أما الآن فلدينا الإنترنت والأفلام وتأجير أشرطة الفيديو والكثير من وسائل التسلية. صارت المنافسة على انتباه الناس عالية في عصرنا، والمعضلة الرئيسية التي تواجهنا جميعًا هي الوقت: في القرن التاسع عشر، كان لدى الناس – أتحدث عن الطبقة الغنية – الكثير من الوقت ليضيعوه، ولذلك كانوا يقرؤون الكُتب الكبيرة. اتجهوا إلى الأوبرا وجلسوا فيها لثلاث أو أربع ساعات. سيكون من العظيم لو قرأ الناس رواية «موبي ديك» أو أعمال دوستويفسكي، ولكن لا وقت لديهم. نتيجة لكل ما قلته، لقد تغير وجه الأدب جذريًا، وصار علينا أن نمسك الناس من تلابيبهم وأن ندفعهم للقراءة. صار كتاب الرواية المُعاصرون يلجؤون إلى تقنيات من أجناس وأنواع فنية أخرى مثل الجاز وألعاب الفيديو غيرها في أعمالهم. أعتقد أن ألعاب الفيديو الآن الأقرب إلى الروايات من أي أمر آخر.

 

المُقابِل:

ألعاب الفيديو؟

 

 

هاروكي موراكامي:

نعم. عن نفسي، لا أحب ألعاب الفيديو، ولكني ألاحظ التشابهات بينها وبين الرواية. أشعر في أثناء كتاباتي بأني أصمم لعبة فيديو، وفي الوقت نفسه، أشعر بأني اللاعب. صممت برنامجًا، وصرت في داخله، ولا يعرف ساعدي الأيسر ما يفعله ساعدي الأيمن. ثمة انفصال واقع. شعور بالانشطار.

 

المُقابِل:

هل تحاول أن تقول بأن وعلى الرغم من عدم معرفتك لما يحصل من أحداث في أثناء الكاتبة، إلا أنّ جزءًا منك يعرف ما سيحصل؟

 

 

هاروكي موراكامي:

بشكل غير واعي أعتقد. لحظة انغماسي في الكتابة، أعرف بشعور المؤلف وأعرف بشعور القارئ، وهو ما يمنحني سرعة في الكتابة، لأني أرغب بمعرفة ما سيحصل تاليًا بقدر ما يرغب القارئ، ولكن يجب عليك إيقاف تدفق التيار في بعض الأحيان، مثلًا، لو كان سريعًا للغاية، سيتعب الناس وسيملّون. ينبغي لك أن تساعدهم على التوقف في بعض المراحل.

 

المُقابِل:

وكيف تفعل ذلك؟

 

هاروكي موراكامي:

يراودني شعور. أعرف أن الوقت صار مُناسبًا للتوقف.

 

المُقابِل:

كيف تستفيد من الجاز والموسيقى بشكل عام في أعمالك؟

 

هاروكي موراكامي:

بدأت بالاستماع إلى الجاز منذ كنت في الثالثة عشرة من عمري، وللموسيقى تأثير كبير قوي عليّ: الأوتار، الألحان، الإيقاع، وتعينني موسيقى البلوز على الكتابة. رغبت في الماضي بخوض تجربة الموسيقى، ولكني لم أتمكن من العزف على الآلات بدقة، فصرت كاتبًا. ثمة تشابه بين كتابة رواية وعزف آلة موسيقية: أبدأ أولًا بعزف المُقدّمة، ثم آخذ بالارتجال، وبعدها تكون الخاتمة.

 

المُقابِل:

في مقطوعات الجاز التقليدية، تُعزف المُقدّمة مرة أخرى في الخاتمة، هل تفعل المثل؟

 

هاروكي موراكامي:

بين الفينة والأخرى. أنظر للجاز على أنه رحلة… رحلة ذهنية. رحلة لا تختلف عن الكتابة.

 

المُقابِل:

من هم مغنو الجاز المفضلين لديك؟

 

هاروكي موراكامي:

كثيرون! أحب ستان گيتس وگيري موليگان، لأنهم كانوا في سنين مراهقتي من أفضل الموسيقيين. أحب أيضًا الاستماع إلى مايلز دافيز وتشارلي باركر. ولو سألني لمن أستمع أكثر، فستكون إجابتي: مايلز في فترة الخمسينات والستينات. طالما كان مايلز بديعًا، والتزم بثوراته الفنية… أحبه جدًا.

 

المُقابِل:

هل تستمع لكولترين؟

 

هاروكي موراكامي:

نعم ولا. فهو يبالغ أحيانًا، ويصير ملحاحًا.

 

المُقابِل:

هل تستمتع لأي أنواع موسيقية أخرى؟

 

 

 

 

هاروكي موراكامي:

أحب الموسيقى الكلاسيكية، وخصوصًا الموسيقى الباروكية[9]. وفي كتابي الجديد «كافكا على الشاطئ»، يستمع بطلي إلى موسيقى راديوهيد وپرينس.

 

المُقابِل:

كما هو متوقع.

 

هاروكي موراكامي:

قرأت قبل فترة الملاحظات على ألبوم Kid A لراديوهيد، وقال أنه مُعجب بكتبي، وكنت فخورًا جدًا بهذا.

 

المُقابِل:

هل لك أن تخبرني ببعض المعلومات عن «كافكا على الشاطئ»؟

 

هاروكي موراكامي:

أكثر كتبي تعقيدًا حتى اللحظة. أكثر تعقيدًا من «يوميات طائر الزنبرك»، ويكاد يكون مستحيلًا شرحه.

في الرواية قصتين تسيران بالتوازي. بطل الرواية صبي عمره 15 سنة، واسمه الأول كافكا. في القصة الأخرى، يكون بطل القصة قد بلغ 61 سنة من العمر، وأميّ: لا يقرأ ولا يكتب. كائن بسيط، ولكن بوسعه التحدث مع القطط. أما كافكا الطفل، فيكون والده قد لعنه… لعنة أوديبية: ستقتلني أنا أبوك، وستمارس الجنس مع أمك. ويهرب الطفل من والده ليهرب من اللعنة، ويذهب إلى مكان سحيق، ويبدأ باختبار عالم غريب للغاية وغير واقعي، عالم يشبه الأحلام.

 

 

المُقابِل:

من ناحية المبنى، فهي تشبه «أرض العجائب الحارة ونهاية العالم» وتحاول التنقل بين العالمين، بين الفصل والآخر، بين القصتين؟

 

هاروكي موراكامي:

أصبت. في البداية كنت أحاول كتابة جزءٍ ثانٍ لـ «أرض العجائب الحارة ونهاية العالم»، ولكن قررت لاحقًا كتابة قصة مختلفة تمامًا، إلا أنهما تتشاركان الروح نفسها. وموضوع الرواية وجود العالم الحالي وعالم آخر وكيف يمكنك التنقل بينهما.

 

المُقابِل:

يشوقني ذلك لقراءة الرواية لأن «أرض العجائب الحارة ونهاية العالم» هي الرواية المفضلة لدي من بين أعمالك.

 

هاروكي موراكامي:

والمفضلة لي أيضًا. رواية «كافكا على الشاطئ» طموحها السماء أيضًا، لأن الأبطال في كل أعمالي يكونون في سنين العشرين أو الثلاثين، ولكن في هذا الرواية، يبلغ البطل 15 عامًا فقط.

 

المُقابِل:

مثل هولدن كولفيلد[10]؟

 

هاروكي موراكامي:

أصبت. استمعت جدًا بكتابة القصة، حيث تذكرت نفسي وأنا في الخامسة عشرة من عمري. أرى أن الذاكرة أهم مورد لدى الكائن البشري، لأنها وقود الروح، تحترق، فتشرح صدرك. ذاكرتي تشبه الخزانة: بها العديد من الأدراج، وإذا رغبت في العودة إلى سن الخامس عشر أفتح درجًا مُحدّدًا، وأرى المشاهد التي رأيتها وأنا طفل في كوبه. أشم الهواء وألمس الأرض وأرى خضار الأشجار. ولهذا أردت كتابة هذه الرواية.

 

المُقابِل:

لتعود إلى تصوراتك عن العالم وأنت في الخامسة عشرة من عمرك؟

 

هاروكي موراكامي:

نعم.

 

المُقابِل:

ما أهمية نشأتك في كوبه وليس في أي مكان آخر في اليابان على أسلوبك الجديد في الكتابة؟ تسبق كوبه سمعتها بأنها مدينة عالمية مركزية.

 

هاروكي موراكامي:

الناس في كيوتو أغرب من الناس في كوبه! فهم محاطون بالتلال، وبالتالي عقليتهم تختلف.

 

المُقابِل:

ألم تولد أنت في كيوتو؟

 

هاروكي موراكامي:

بلى، ولكننا انتقلنا إلى كوبه وأنا في الثانية من عمري، وعليهِ، فأنا من كوبه. مدينة بحرية متاخمة لقطاع من التلال. لا أحب طوكيو، فهي مدينة مسطحة وواسعة وشاسعة. لا أحب الذهاب إليها.

 

المُقابِل:

ولكنك تعيش فيها! أجزم أن بإمكانك العيش في أي مكانه تحبه.

 

هاروكي موراكامي:

لأن هذا المكان يمنحني فرصة أن أكون مجهولًا. الأمر نفسه ينطبق على نيويورك. لا أحد يعرفني في أي مكان. بمقدوري أن أستقل القطار، ولا يتعرف عليّ أحد. لي منزل في قرية صغيرة في ريف طوكيو، والكل يعرفني هناك. كلما خرجت للمشي، يعرفني الناس، ويكون الأمر مزعجًا أحيانًا.

 

المُقابِل:

ذكرت قبلًا ريو موراكامي. يبدو أنه له خطة كتابية تختلف تمامًا عنك.

 

هاروكي موراكامي:

أكتب أنا بالأسلوب ما بعد الحداثي، أما هو فيكتب في الاتجاه السائد. ولكني عندما قرأت روايته «أطفال خزانة النقود»[11] لأول مرة، صدمني العمل وقررت أن أكتب رواية قوية مثلها، وبعدها بدأت في كتابة «مطاردة الخراف الجامحة». بيني وبينه تنافس من نوعٍ ما.

المُقابِل:

هل تربطكما صداقة؟

 

هاروكي موراكامي:

تربطنا علاقة جيدة. لسنا أعداءً، على الأقل. فموهبته طبيعية وقوية. كما لو أن لديه بئر نفط قريب في عقله. أما أنا، فبئري غائر في الأعماق، وكان علي أن أحفر وأحفر. تعبت كثيرًا وأستغرق الأمر مني وقتًا، ولكني وصلتُ إليه، وبعدها صرت أقوى وأكثر ثقة بنفسي. صارت حياتي منسقة ومرتبة. استمتعت بالحفر على هذا العمق.

 

العدد 170، 2004.

پاريس ريڤيو

ترجمة: أنس سمحان

——————————————

[1]  حركة احتجاجات واسعة استمرت في اليابان منذ عام 1959 إلى عام 1960 ضد معاهدة الأمن بين اليابان والولايات المتحدة، والتي تسمح بوجود قواعد أميركية على الأراضي اليابانية وتعد أكبر الاحتجاجات الشعبية في تاريخ اليابان الحديث – المترجم.

[2]  أو مطاردة خروف بري – المُترجم.

[3] جنس أدبي يشبه في تكوينه أدب الجريمة (أدب التحقيقات) – المُترجم.

[4]  شخصية من الغابة النرويجية.

[5]  شخصية من يوميات طائر الزنبرك.

[6]  شخصية من الغابة النرويجية.

[7]  استخدم الكاتب كلمة salaryman، وهي كلمة تشير إلى الموظفين العاملين بمرتب نظامي في آخر الشهر، وفي الثقافة الشعبية اليابانية تشير الكلمة موظفي الياقات البيضاء ذوي الولاء العالي لشركات تشغيلهم ويعلمون لساعات طويلة، وترتبط أحيانًا فكرة «الموت تحت ضغط العمل» بموظفي الياقات البيضاء – المُترجم.

[8]  أميركا الشمالية والجنوبية  – المُترجم.

[9]  أسلوب فني أطلق على أشكال فنية متنوعة وساد أوروبا وأميركا اللاتينية واستعمل الاصطلاح عادة للإشارة إلى فن العمارة والتصوير للأشكال الغريبة والمعوجة وغير المتناسقة – المُترجم.

[10]  بطل رواية الحارس في حقل الشوفان – المُترجم.

[11]  الاسم العربي غير واضح خصوصًا أنّي لم اقرأ الرواية. اسمها الإنجليزي Coin Locker Babies – المُترجم.

One thought on “فن الرواية: مقابلة مع هاروكي موراكامي

  1. يقول TMotawe:

    كالعادة مقال موفق وبل اكثر من رائع 👍 ، ما قريت للكاتب الياباني هاروكي بس هالمقال و بالذات هاي الجمل 👇 شجعتني لأقتني كتبه وأقرأ له .
    -” كان بمقدوري الذهاب إلى سان بطرسبرغ أو إلى هوليوود الغربية إذا رغبت في ذلك. هنا تتمثل قوة الرواية، تهديك القدرة للسفر إلى أي مكان.”
    –“الغرابة التي أشعر بها وأنا في الولايات المتحدة الأميركية تختلف عن الغرابة التي تنتابني في اليابان. كان الإحساس بها في أميركا واضحًا ومباشرًا وأعطتني تقديرًا أوضح لنفسي.”
    –” أؤمن أن عملي يقوم على ملاحظة الناس والعالم لا الحكم عليهم. آمل دائمًا في موضعة نفسي بعيدًا عن الأحكام والخلاصات. أريد أن أترك الأمور مفتوحة على كل الاحتمالات في العالم”
    –” وأشاركه الشعور نفسه. لا تعني النهايات شيئًا إطلاقًا. ”
    –“تتجسد عظمة الكتابة في أنها تمنحك القدرة على الحلم مستيقظًا. ”
    –” وهي القوة الدافعة لقصصي: الفقد والبحث ثم العثور. وتكون خيبة الأمل هي الوعي الجديد بالعالم.”
    __” تغير البطل في أثناء خوضه لهذه التجربة، وهذا هو محور العمل. ليسَ في ما وجده، بل في ما صار إليه”
    –” أحب دفع الناس للضحك كل عشر صفحات مرة.”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *