المدونة

«العاقل الذي ركل رأسه»… القلق المختبئ وراء ظهر الهدوء

هو القلق إذاً… الذي يسري بين سطور وربما كلمات هذا الكتاب، القلقُ الحرُّ غير المقيد بمعايير البحث الأكاديمي، أو يمكن أن نجرؤ ونقول إنه القلق المنقول بأمانة عن نقاشات الكتابة والقراءة بعيداً عن أروقة الثقافة، لكن قريباً جداً من القرّاء والكتّاب في أحاديثهم ودردشاتهم التي يمكن أن تكون قد بدأت على فنجان من القهوة الصباحية، أو على طاولة الغداء أو العشاء، أو ربما في زيارة بيتية على همس قطرات المطر وهي تتسلل على زجاج النوافذ، فموضوعات الكتاب، كما يؤكد المؤلف، «مُفكِّرة وليست حاكمة أو قاطعة بنتائج مطلقة. ينقل الفكرة على هيئة جُملٍ تحمل الأسئلة والأجوبة والآراء المختلفة»… «إن هدفه الذي يصبو إليه هو المشاركة في التفكير والآراء»… وهذا هو ما نلمسه في هذا الكتاب.

-1-

من جملة عابرة في إحدى قراءاته لإحدى الروايات «خطّ شاربه فوق شفته العليا» يثير المؤلف موضوعات القسم الأول من الكتاب، لكنها -وإن كانت عابرة- فجّرت لديه أسئلة القلق الكبرى لكاتبٍ وقارئ مثله ولغيره ممن يشاركونه هاجسي الكتابة والقراءة:  «كيف تم تكوين القارئ؟ ما الكتابة الإبداعية؟ كيف يتمكن الكاتب من صناعة عالمه؟ كيف تتم تلك العملية تبعاً لملكة الكاتب الساحرة، التي تدفع القارئ إلى الغوص في أعماق النص؟ ما مدى قدرة الكاتب في منح القارئ فرصة اكتشاف تفاصيل الإبداع؟»، ليتوقف عند محطّات النقد والذائقة، دون فرض قواعد خاصة، إنه يتجول بين عوالم القرّاء والكتّاب ويدوّن ملاحظاته، يريد الاقتراب أكثر من عالم القراءة والكتابة ليرصد الحركة التفاعلية بين القارئ والكاتب، إلى جانب تفاعل القراء في ما بينهم، وبين الكتّاب أيضاً.

وينطلق، على قاعدة الاختلاف، من حوارية مع روائي آخر حول قواعد الكتابة الإبداعية، التي لا تعدو كونها، في نظره، آراء لا تعني بالضرورة طرقاً أساسية للإبداع، فـ«على الروائي أن يوجه دعوة إلى مخيلة القارئ لحضور عالمه». الأمر متروك للقارئ؟

ومن خلال رحلة بحث صديقه التونسي عن الاعتراف به كاتباً، يطرح قضية الشرعية في الكتابة الإبداعية… بمعنى من يمنح النص الإبداعي شرعيته؟ ومن يمنح الروائي أو القاص أو الكاتب عموماً شرعية كونه روائياً أو كاتباً؟

هذا السؤال يؤدي به إلى قضية أخطر هي قضية الذائقة، فنجد أنفسنا أمام عدة أنواع للذائقة: الذائقة الاسفنجية، الذائقة الفطرية، الذائقة المعرفية، الذائقة العادية، الذائقة الخاصة…

إن المسألة لا تعدو أن تكون «محاولة بعضهم بناء مدارس للكتابة الإبداعية، وهم أقل بكثير من أن يؤدوا هذا الدور»… فقبل أن نطلق هذه الأحكام يمكن أن نطرح فكرة «ضرورة تحديد هوية العمل الإبداعي، دون أن ندخل في تفاصيل الأجناس الأدبية»…

لنقرأ الروائية والقاصة الأمريكية جنيفر إيغان. ماذا قالت عن عملها الذي حمل عنوان (زيارة من زمرة البلهاء)، والذي ترفض أن تصنّفه: «إنه لأمر مخيف أن تسكب الوقت والجهد في مشروع ليس له هوية أدبية واضحة، وبذلك يمكن أن يسقط بين الشقوق».

لكن، في المقابل، هل يمكن لنا الكتابة ومن ثم النشر تبعاً لرغبات القارئ، التي دفعت بأحد الناشرين إلى أن قرر طباعة كتاب محولاً هويته من موضوعات إلى جنس أدبي مرغوب فيه ألا وهو الرواية»… ماذا عن ما نجده اليوم مما يسمى «أدب الحثالة»، الأمر الذي  يدخل النص في اللا نوع؟

من جديد، الأمر متروك للقارئ، لكن أيّ قارئ؟ القارئ الذي يسعى دائماً إلى الرقي بمستوى الثقافة، أو كما قال نيتشه: «أجدني أتصوره (القارئ) على هيئة وحش شجاع شديد الفضول، كما أتخيله على هيئة مغامر ومكتشف بالفطرة، فهو شخص يتسم بالحذر والمكر والمرونة واللين…».

ولأنه ينطلق من قلقه ومن حريته، ولأن «العالم لم ولن ينحصر في أفكارنا فحسب، فهو أوسع بكثير من أن نبقيه على اتجاه فكر معين»، يوجه المؤلف نصيحته: «عزيزي الكاتب، وعزيزي القارئ أيضاً… لا يمكن للكاتب أن يهرب من النقد بحجة اختلاف الذائقة. هذا ما أراه من بعض الكتّاب، الذين يعانون من البحث عن مكانة تناسب نرجسيتهم في الوسط الثقافي».

وبالحرية ذاتها، بعيداً عن رقابة القيود الأكاديمية، يطرح ثنائية الإبداع والمال… يقول شوبنهاور: «فمحنة الأدب في هذه الأيام مرجعها أن كل من أعوزه المال يستطيع أن يجلس إلى مكتبه ويدبج شيئاً يبيعه، ما دام الناس في غفلة وبغباء يشترون كل ما يُطبع…». هل علينا أن نسلم بذلك؟

مهلاً، تطرح الكاتبة والروائية مارغريت أتوود القضية فتقول: «يجد الكاتب نفسه محشوراً بين مطرقة الفن وسندان اضطراره إلى أن يدفع إيجار المنزل. فهل يجب أن يكتب الكاتب من أجل المال؟ وإذا لم يكتب من أجل المال فمن أجل ماذا؟»، وتتابع مارغريت: «تطاردنا مثل هذه الكوابيس في لحظات يقظتنا، ناهيك عن لحظات نومنا، فنبدو مقيدين بالسلاسل إلى مكاتبنا… دون اعتبار لميولنا أو لمدى جودة هذه الأعمال، فنصبح عبيداً للقلم، ويا لها من معاناة شديدة».

يؤكد المؤلف كلامها، ويضيف: «ربما الأسوأ من ذلك أن نكون عبيداً للمال والشهرة من خلال القلم، وهذا ما وجدته في كتّاب المسلسلات» مثلاً.

وماذا عن الاهتمام بحياة الكاتب بعيداً عن كتبه ذاتها…؟ يقول: شوبنهاور: «ما هو أدعى للضحك، من اهتماماتهم في مجال الشعر؛ إذ ينصرفون عن العمل الفني إلى استقصاء الأحداث التي مرت بالشاعر، ومتابعة ظروف حياته. وهكذا إن الناس بدلاً من أن يمتعوا النفس بقراءة أشعار جوته يفضلون أن يقرؤوا ما كُتِب عن جوته…».

وماذا عن قواعد النشر والتسويق…؟ تقول مارغريت: «حتى لو تجنبنا توقيع صكوك الدين، بقي أمامنا العديد من العقبات؛ فهناك، على سبيل المثال، نظام النشر، الذي يخضع على نحو متزايد لعائد الربح».

وماذا عن موضة ورش العمل للتدريب على الكتابة؟

قد نوافق على هذه الورش بضوابط، كما يخلص المؤلف، لكن، كما يرى تولستوي، «الفن هو الإحساس الخاص الذي يعاني منه الفنان… كيف يمكن تعليم ذلك في المدارس؟».

«تشيخوف بدأ حياته الأدبية بالكتابة من أجل المال لإعالة أسرته التي أضناها الفقر. فهل يشينه ذلك؟… تشارلز ديكنز بمجرد عمله في الكتابة ترك عمله اليومي وعاش بالقلم. جين أوستن وإميلي برونتي لم يستطيعا ذلك، مع أن المزيد من المال لم يكن ليضيرهما. ومع ذلك لا يمكن القول إن أياً من هؤلاء يفوق الآخر قدراً، أو يقل عنه بسبب المال وحده».

يعود القلق ليستفز حامله -وهو المؤلف هنا- فيرمي بسؤال من الأسئلة الكبرى من جديد: ماذا بعد القراءة؟، فتأتي الإجابات لافتة ومفاجئة أحياناً: «القراءة… لا ترميني في مأزق الخجل والجهل حينما أُسأل عن أيّ معلومة أو حين خوض أيّ نقاش»… آخر: «القراءة تجعلني أحسن التصرف أثناء خوضي تجربة في الحياة». آخر: «لا أخفيك أنها مصدر السعادة بالنسبة إليّ، هي اللجوء في الوحدة والفراغ»…

ليخلص المؤلف إلى: «ما أراه أنا ليس بالضرورة أن يراه الآخر…»، فبعيداً عن المثاليّات التي لا يمكن تحقيقها، وعن التوهّم. إن ثمة «دوافع خاصة ينتفع منها الكاتب على المستوى الشخصي، وهذا لا يعيبه من وجهة نظر الكثيرين في شيء».

يحكي ماركيز: «صرّح فوكنر ذاته يوماً بأنه بعد كتبه الخمسة الأولى، وجد نفسه مضطراً إلى كتابة رواية إثارة؛ لأن الروايات السابقة لم تؤمن له من النقود ما يكفي لإطعام أسرته».

أفلا يركل العاقل رأسه بعد كل هذا؟

ومع ذلك، ما الذي يفعله القراء، ولا سيما في ضوء هذا العالم الافتراضي الذي خلقه الإنترنت؟

يجيبنا هارولد بلوم: «عليهم، بدرجة ما، اتباع غريزتهم، لكنّ هذا يقود في هذه الأيام إلى أنواع شتى من المشاكل، فالمرء ليس سعيداً بـ35 مليون نسخة من كتاب (Harry Potter)… أعتقد أن هذه ليست قراءة».

حسناً لم تُحسم المسألة، وكذلك أمر الذائقة، فـ«لا يوجد من النقاد والمهتمين في الشأن الأدبي والمعرفي مَن خرج بنتيجة واضحة حول ماهية الذائقة».

عدنا إلى الأسئلة الكبرى، ليس لمجرد الاستمتاع بطرح الأسئلة، بل لتأكيد أن الإبداع لا يمكن أن يخضع لشروط وقوانين: ما الجيد؟ وما الرديء؟

في حوارات أفلاطون، قال فايدروس: «ليس من الضروري لمن يُعِدّ نفسه لكي يكون خطيباً أن يعلم حقيقة العدالة، بل حسبه أن يعرف آراء الجمهور الذي سيكون له الحكم في موضوعه… فالمظهر لا الحقيقة هو مبدأ الاقتناع».

من جديد الأمر متروك للجمهور.

وعوداً إلى الذائقة، يؤكد المؤلف أنها في أصلها تكوين متغير… «تختلف من شخص إلى آخر… ومن زمان إلى آخر؛ فالمستحسن في الماضي ليس بالضرورة أن يكون مستحسناً في الحاضر… ومن مكان إلى آخر؛ فالقصيدة التي تصف أمجاد البحّارة لن تروق بمعناها وصورها لأهل البوادي، والعكس صحيح»… ومن لغة إلى أخرى، فماذا عن إمكانية عدم تذوق الأعمال الأجنبية… وفي حالة الترجمة قد تنقص الترجمة من مكامن الجمال فيها».

ويضرب المؤلف من جديد، في العمق هذه المرة، وفي الذائقة المعرفية… «وجه نجيب محفوظ سؤاله إلى طه حسين حول رأيه في ظاهرة انتشار القصة الفلسفية، فيجيب طه حسين: «… إنما القصة الفلسفية التي أوافقك على إنكارها هي بعض القصص التي تظهر الآن، وخصوصاً في فرنسا مثل قصص كامو… وناتالي ساروت… هو نوع من الإفلاس، لأن الأدب الفرنسي الآن معرض لأزمة، فهذا نوع من الثرثرة في غير فائدة».

أدب كامو إفلاس وثرثرة؟! أدب ساروت إفلاس وثرثرة؟!

يعطي المؤلف ناتالي فرصة الدفاع: «هل الرواية فن؟ وإذا كانت كذلك، أفليس هدفها هو إحداث هزة تؤدي إلى تغيير في شعور القارئ؟ هذا التغيير أليس في تلقي كلّ ما هو جديد وحيّ؟ فإذا تطلب هذا الجديد الحي عناصر كانت مختفية أو مجهولة أو بعيدة عن المواقف الأخلاقية، فهل يفضل عندئذٍ عدم تقديمها على الإطلاق؟ إن مهمة الفن التجديد والتجدد باستمرار، بصرف النظر عن الاهتمام بالمغزى أو بالحكمة أو بأي شيء آخر…».

-2-

كما انطلق المؤلف في القسم الأول من جملة عابرة، ينطلق في القسم الثاني من كتابه من جملةٍ، لكنها ليست عابرة، بل إنها في الصميم: ما الذي فعلته الأجيال لي؟

يقول أوسكار وايلد: «لماذا ينبغي عليّ أن أكتب من أجل الأجيال المقبلة؟ ما الذي فعلته الأجيال لي؟»، مثيراً (المؤلف) كعادته قضية كبرى هي قضية خلود الإبداع/المبدع:

إن عملية الكتابة،يراها أوسكار، تبادلية أو منفعية… يرى أوسكار وايلد أنّ رواج كتبه هي الخطوة التي تعينه على الاستمرار في حياته برضا، لتوافر المال، أما ما يقدمه للأجيال فلن ينفعه في حياته. ولهذا إن فكرة الخلود ليست سامية إلى هذا الحد عند الكثيرين، لكن عند اتساع الرقعة بين المجتمعات، أيضاً، لن يكون الإبداع إبداعاً إن لم يعترف به الآخر. الأمر متروك للقارئ من جديد.

تتفجر الأسئلة من جديد: هل يمكن عزل الكاتب عن إبداعه؟ هل للفضيلة علاقة بالخلود؟ القيم الأخلاقية؟

المفارقة، والشرط الإنساني القاسي، أن الخير تم تخليده، والشر كذلك تم تخليده، فكما أن أوسكار وايلد خُلِّد وخُلدت أعماله، كذلك هتلر خُلِّد وخلدت أعماله؟

لا تبتهجوا كثيراً، فالفضيلة ليست عاملاً أساسياً للخلود.

يتوهم بعض القرّاء ضرورة أنّ الكاتب، على وجه الخصوص، لابد له من أن يكون مثالياً، فاعلاً للخير، كاملاً، فاضلاً، مثالاً خالداً للاحترام والذوق الرفيع، وما يذكره في كتبه بالضرورة يعكس حقيقته…

يرى أنتوني ترولوب، الكاتب والروائي البريطاني، بإيمان قوي، أنّه ينبغي للروائي أن يُعلّم الناس الفضيلة من خلال رواياته، وفي رأي الكاتب الفرنسي، جورج ديهاميل، للكاتب وظيفة اجتماعية…

إذا ما أردنا أن نسلم بهذه المقدسات، فهل يمكننا أن نفصل محمود درويش عن إبداعاته، رغم الفوضى والشبهات في سيرته، التي قد تتخللها علاقته باغتيال ناجي العلي؟ ويطرح آخرون -هذه حقيقة وإن كانت صادمة- نزار قباني وثيمة الجنس في قصائده…

بهذه الحرية وهذا القلق يثير المؤلف هذه القضايا وغيرها في كتابه، لكنه يؤكد، في النهاية، أننا في عالم الإبداع لا يمكن أن نتجاهل فكرة أن «الأصالة تمنح قوة الصمود على البقاء، الأصالة التي هي الابتكار الذي يلامس جميع الأذواق». أما المفتاح الآخر فهو «أن يكون العمل الإبداعي مفتوح التأويل».

قد يركل العاقل رأسه، لكن مستقبل الحقيقة ضعيف جداً إن لم يتمكن أحد من تحمل ثقلها والعمل على إثبات وجودها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *