آدم ينحت وجه العالم : قصة احتفاءٍ بالنّقاء وبالنّساء… وهزِّ الثوابت الأيقونيّة
مستعيراً إزميل النحات ومطرقته، في استعارة تخييلية من الفنّ التشكيلي كما هو ظاهر في العتبة النصية الأولى للرواية، ينتفض آدم من فراشه، وقد كان ألقى نفسه في قلب وسادته مثقلاً بضياع الأحلام (ضياع الشباب)، ويسير في قلب مدينته الكويت في قلقٍ متوترٍ بحداثتها وتشكيليّتها، لكنّها تمنحه للحظة التفكيرَ في تشكيليّته هو؛ أعني نحته هو… فيقرر المضيّ في رحلة الخروج من كونه منحوتاً إلى الصراع في أقوى تجلّياته، وخوض تجربة كونه ناحتاً؛ أعني تلك الرغبة في التغيير، وأيّ رحلة تلك التي خاضها في مختبره الداخلي، وفي مختبر الحياة الخارجي؟ حيث نجده يسير ببطء إلى لحظات اختناقه الأخير بالعالم، لكنه محمَّلٌ دوماً بتشكيليته ووجوده، وبنقاء أمه، ممثلةً النقاء عموماً، ونقاء النساء خصوصاً، بل هي أيقونة النقاء الذي سيكتشف لاحقاً أنه السر الذي كان يبحث عنه، والحلّ في الوقت نفسه لكلّ القضايا الإشكالية على تشعّباتها وتعقيداتها والأرشيف البشري الهائل الذي أسال الكثير من الحبر لتحليلها.
جغرافية الرواية تتجاوز الحدود كما أنّ زمنيتها عابرة للعصور، فمن الكويت إلى فرنسا إلى القاهرة، ومن الكويت الآن إلى الكويت قبل ثلاثة أجيال، إلى عمق الصحراء، ومن فرنسا الحرب العالمية الثانية إلى فرنسا الآن، من الحداثة الآن إلى البداوة ثم إلى الحداثة، هذا الحراك القلق للمكان والعبور المتوتر للزمان لا يكتملان إلا بالقلق الوجداني الذي يتوسل الإجابة عن الأسئلة الكبرى: لماذا الحرب؟ لماذا الظلم والقهر؟ لماذا هذه الفجوة بين من اقتربوا في عيشهم إلى السماء ومن في القاع؟ ولماذا الأقنعة الباهتة التي تغرقنا في الأكاذيب تحت وهم السيطرة؟… في الحرب المتحاربان إنسانان يملكان مشاعر الحب نفسها، ومشاعر الفقد نفسها، بل المشاعر الإنسانية نفسها، فبأيّ وجهٍ تحضر الكراهية هنا وهناك والآن وفي ما مضى؟ والرجل والمرأة يملكان المشاعر الإنسانية ذاتها، فبأيّ وجه يحضر تفوّق أحدهما على الآخر في حواريتهما الحياتية هنا وهناك والآن وفي ما مضى… أما النخبة والقاعدة في المجتمعات الإنسانية فعلى هذه الأرض ما يكفي لأن يرضي حاجات كليهما، فبأيّ وجه تُغرِقُ قوة النخبة مَن هم في القاع هنا وهناك والآن وفي ما مضى… فيما الأقنعة تحاصر براءتنا وصدقنا وشفافيتنا ومن ثم إنسانيتنا.
إنه النقاء نتعلّمه من فرنسا الأم، كما نتعلّمه من ضحى المحبّة بلا حدود، ومن ذلك الكفيف في خان الخليلي الذي يقرأ النص الديني نقياً من دون وصايات أو فرض تفسيرات هي لا تعدو أن تكون مجرد رأي يستحيل لاحقاً إلى شعارات فارغة، وثوابت أيقونية يشعر آدم بأنه معنيّ بهزّها وإعادة نحتها، كما هو معنيٌّ بإعادة نحت ذاته من جديد والخروج من جينيته…
إنها رحلة تحفر في عمق الوجع الإنساني، في قاع الجغرافيا الإنسانية، في رقصة القلق الإنساني، رحلة مع آدم الممتلئ بالكتابة حدّ الانفجار، آدم الذي يمتدّ نسبه من الكويت في شبه الجزيرة العربية إلى ستراسبورغ جنوبي فرنسا، فيجمع بين ضفّتين هما الفالق بين عالمين الغرب والشرق… من عمق البادية ومن عمق مآسي الحرب العالمية الثانية تمَّ نحته، ومن ثم بدأت أسئلته تبحث في وجعِ المرأة، وتكوّنِ الذات جينياً ومعرفياً، ومتاهات العالم وأقنعته الخالية من أية ملامح، مع ما قد يترتّب على هذه الأسئلة من محاكمات قيميّة، ومع ما يترتب عليها من إعادة موضعة وتصحيح اللوحات الإرشادية التي تقودنا إلى الخلاص.
لقد كنّا ما اختاروه لنا، وآن الأوان لأن نكون ما نختاره نحن، لقد نحتونا، وعلينا الآن أن نعيد نحت أنفسنا… فكرة جوهرية تعيد الضوء إلى حقيقتنا.
هي دعوة توجهها إلينا الرواية، مع آخر لحظاتِ الصيّفِ الساخنة، إلى القراءة، وإلى أن نعيش لحظات شخصيّاتها آدم وضحى وفرنسا في ضحكاتهم وآلامهم وحواراتهم وسقطاتهم وقيامهم، ومن ثم مشاركة بطلها الرحلةَ من لهيب الصحراء إلى جليد أوربا إلى القاهرة بإرثها العريق والقاع فيها، من الحاضر إلى الماضي ثم إلى المستقبل، لنخرج من تماثيلنا التي نُحتِت لنا إلى أن ننحت أنفسنا من جديد، لنكون أحياء بعد المغادرة.