آدم ينحت وجه العالم : قصة احتفاءٍ بالنّقاء وبالنّساء… وهزِّ الثوابت الأيقونيّة

مستعيراً إزميل النحات ومطرقته، في استعارة تخييلية من الفنّ التشكيلي كما هو ظاهر في العتبة النصية الأولى للرواية، ينتفض آدم من فراشه، وقد كان ألقى نفسه في قلب وسادته مثقلاً بضياع الأحلام (ضياع الشباب)، ويسير في قلب مدينته الكويت في قلقٍ متوترٍ بحداثتها وتشكيليّتها، لكنّها تمنحه للحظة التفكيرَ في تشكيليّته هو؛ أعني نحته هو… فيقرر المضيّ في رحلة الخروج من كونه منحوتاً إلى الصراع في أقوى تجلّياته، وخوض تجربة كونه ناحتاً؛ أعني تلك الرغبة في التغيير، وأيّ رحلة تلك التي خاضها في مختبره الداخلي، وفي مختبر الحياة الخارجي؟ حيث نجده يسير ببطء إلى لحظات اختناقه الأخير بالعالم، لكنه محمَّلٌ دوماً بتشكيليته ووجوده، وبنقاء أمه، ممثلةً النقاء عموماً، ونقاء النساء خصوصاً، بل هي أيقونة النقاء الذي سيكتشف لاحقاً أنه السر الذي كان يبحث عنه، والحلّ في الوقت نفسه لكلّ القضايا الإشكالية على تشعّباتها وتعقيداتها والأرشيف البشري الهائل الذي أسال الكثير من الحبر لتحليلها.

جغرافية الرواية تتجاوز الحدود كما أنّ زمنيتها عابرة للعصور، فمن الكويت إلى فرنسا إلى القاهرة، ومن الكويت الآن إلى الكويت قبل ثلاثة أجيال، إلى عمق الصحراء، ومن فرنسا الحرب العالمية الثانية إلى فرنسا الآن، من الحداثة الآن إلى البداوة ثم إلى الحداثة، هذا الحراك القلق للمكان والعبور المتوتر للزمان لا يكتملان إلا بالقلق الوجداني الذي يتوسل الإجابة عن الأسئلة الكبرى: لماذا الحرب؟ لماذا الظلم والقهر؟ لماذا هذه الفجوة بين من اقتربوا في عيشهم إلى السماء ومن في القاع؟ ولماذا الأقنعة الباهتة التي تغرقنا في الأكاذيب تحت وهم السيطرة؟… في الحرب المتحاربان إنسانان يملكان مشاعر الحب نفسها، ومشاعر الفقد نفسها، بل المشاعر الإنسانية نفسها، فبأيّ وجهٍ تحضر الكراهية هنا وهناك والآن وفي ما مضى؟ والرجل والمرأة يملكان المشاعر الإنسانية ذاتها، فبأيّ وجه يحضر تفوّق أحدهما على الآخر في حواريتهما الحياتية هنا وهناك والآن وفي ما مضى… أما النخبة والقاعدة في المجتمعات الإنسانية فعلى هذه الأرض ما يكفي لأن يرضي حاجات كليهما، فبأيّ وجه تُغرِقُ قوة النخبة مَن هم في القاع هنا وهناك والآن وفي ما مضى… فيما الأقنعة تحاصر براءتنا وصدقنا وشفافيتنا ومن ثم إنسانيتنا.

إنه النقاء نتعلّمه من فرنسا الأم، كما نتعلّمه من ضحى المحبّة بلا حدود، ومن ذلك الكفيف في خان الخليلي الذي يقرأ النص الديني نقياً من دون وصايات أو فرض تفسيرات هي لا تعدو أن تكون مجرد رأي يستحيل لاحقاً إلى شعارات فارغة، وثوابت أيقونية يشعر آدم بأنه معنيّ بهزّها وإعادة نحتها، كما هو معنيٌّ بإعادة نحت ذاته من جديد والخروج من جينيته…               

إنها رحلة تحفر في عمق الوجع الإنساني، في قاع الجغرافيا الإنسانية، في رقصة القلق الإنساني، رحلة مع آدم الممتلئ بالكتابة حدّ الانفجار، آدم الذي يمتدّ نسبه من الكويت في شبه الجزيرة العربية إلى ستراسبورغ جنوبي فرنسا، فيجمع بين ضفّتين هما الفالق بين عالمين الغرب والشرق… من عمق البادية ومن عمق مآسي الحرب العالمية الثانية تمَّ نحته، ومن ثم بدأت أسئلته تبحث في وجعِ المرأة، وتكوّنِ الذات جينياً ومعرفياً، ومتاهات العالم وأقنعته الخالية من أية ملامح، مع ما قد يترتّب على هذه الأسئلة من محاكمات قيميّة، ومع ما يترتب عليها من إعادة موضعة وتصحيح اللوحات الإرشادية التي تقودنا إلى الخلاص.

لقد كنّا ما اختاروه لنا، وآن الأوان لأن نكون ما نختاره نحن، لقد نحتونا، وعلينا الآن أن نعيد نحت أنفسنا… فكرة جوهرية تعيد الضوء إلى حقيقتنا.

هي دعوة توجهها إلينا الرواية، مع آخر لحظاتِ الصيّفِ الساخنة، إلى القراءة، وإلى أن نعيش لحظات شخصيّاتها آدم وضحى وفرنسا في ضحكاتهم وآلامهم وحواراتهم وسقطاتهم وقيامهم، ومن ثم مشاركة بطلها الرحلةَ من لهيب الصحراء إلى جليد أوربا إلى القاهرة بإرثها العريق والقاع فيها، من الحاضر إلى الماضي ثم إلى المستقبل، لنخرج من تماثيلنا التي نُحتِت لنا إلى أن ننحت أنفسنا من جديد، لنكون أحياء بعد المغادرة.  

 

أغنس غري رواية لا أقل من عبقرية

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أغنس غْري: رواية لا أقلّ من عبقرية

 

شهر كانون الأول/ ديسمبر هو الوقت الذي يشتري فيه الناس الديك الرومي، ويلفّون الهدايا، ويعلّقون على الأبواب نبات الهدال، لكنّ هناك سبباً آخر للاحتفال في هذا الشهر؛ فهو يصادف الذكرى السنوية لنشر اثنين من أعظم ما كُتب من الكتب طراً.

نُشر معاً كتاب مرتفعات ويذرينغ (Wuthering Heights) بقلم إميلي برونتي، وكتاب أغنس غْري (Agnes Grey بقلم آن برونتي، من قبل الناشر نفسه توماس كوتلي نيوبي، في كانون الأول/ ديسمبر 1847. وقد شكّلت الكُتب مجموعةً من ثلاثة مجلدات؛ اثنين منها لكتاب مرتفعات ويذرينغ، ومجلد واحد لكتاب أغنس غْري. كان هذا الشكل معروفاً باسم ثلاثية، وقد شاع، بشكل خاص، في منتصف القرن التاسع عشر، وخاصة بين الناشرين، الذين يتقاضون رسوماً ثلاثة أضعاف من المكتبات المنتشرة، التي كانت ضمن عملائهم الرئيسيين.

وفي حين أنّ مرتفعات ويذرينغ تحظى بالثناء في جميع أنحاء العالم، نجد أن أغنس غْري لا تحصل على ما تستحقه تقريباً. وبينما تختلف تماماً عن الرواية الجريئة والدرامية الأخرى لآن المستأجر من ويلدفيل هول، أجد أن أغنس غْري، في نظري، بروعتها نفسها. في الواقع، أعلم أنني لست وحدي من يرى أن أغنس غْري هي من أكثر الكتب التي لا تحظى بالتقدير، فلماذا أحبّها كثيراً؟

أحد الأسباب، التي جعلتني أحبّ رواية أغنس غْري، هو السبب نفسه الذي جعلني أعدُّ كتاب شيرلي  (Shirley)للكاتبة شارلوت برونتي أفضل عمل لها: هذا الكتاب هو سيرتها الذاتية، ويحتوي على أشخاص وأحداث كانت آن تعرفها.

تبدأ الفقرة الثانية من الكتاب: «كان والدي رجلَ دينٍ من شمالي إنجلترا»، تماماً كما كان والد آن رجل دين (أي يعمل في) شمالي إنجلترا. إنه أول دليل من بين العديد من القرائن، التي تشير إلى أن أغنس هي في الواقع آن، أو أكتون (Acton)، كما كانت الكاتبة تسمّي نفسها في ذلك الوقت.

عند كتابتي السيرة الذاتية لآن، وجدت ستين حالة من الكتاب يمكن أن تكون مرتبطة، بشكل مباشر، بأحداث وقعت في حياة آن. بطبيعة الحال، هو عمل روائي، وأبدعت فيه من هذه الناحية، ولكن، كما يعلم كل كاتب روائي، لا يوجد كتاب واحد لا يحتوي على قطعة من الكاتب نفسه، وإنكار ذلك هو سوء فهم لفنّ الكتابة الروائية.

يبدو لي أنّ هناك الكثير مما تشترك فيه الكاتبة آن مع أغنيس أكثر مما تشترك مع معظم أبطال الرواية؛ لذا من خلال قراءة أغنس غْري نشعر بأننا أقرب إلى الكاتبة آن برونتي نفسها. حتى من دون هذه التوصية ستبقى الرواية شيقة ورائعة.

أغنيس غْري هي قصة مربّية وتعاملها مع عائلتين مختلفتين تماماً هما: عائلة بلومفيلد وعائلة ميوريه (اللتان تبدوان على غرار عائلتي إنغهامز وروبنسن؛ حيث عملت الكاتبة آن نفسها لديهما مربيةً). يتعامل أطفال بلومفيلد بقسوة مع الحيوانات، ويصطادون الطيور ويعذبونها، ويقسون على مربّيتهم، ويتشاجرون معها، ويبصقون في حقيبتها. يتطابق هذا مع ما نعرفه عن أطفال إنغهامز، الذين وصفتهم شارلوت، بشكل لا يُنسى، بأنهم «صغار أغبياء لا أمل منهم».

فتيات عائلة ميوريه، اللائي تعلّمن على يد أغنيس، هنّ أكثر ذكاءً ولطفاً، لكن أغنيس صُدمت بموقفهنّ من الزواج، وبالطريقة التي تحاول والدتهنّ إجبارهنّ بها على زيجات لا حبّ فيها. مرة أخرى، يتطابق هذا الأمر مع ما نعرفه عن فتيات روبنسون؛ فإحداهنّ هربت مع ابن مالكٍ لمسرح، واستمرت اثنتان منهنّ في الكتابة إلى آن للحصول على مشورتها، بعد فترة طويلة من توقفها عن العمل مربيةً لهم.

في قلب القصة، بشكل متزايد، تكمن أغنيس نفسها وحبها للمدير المساعد ويستون. في هذا يمكننا أن نقرأ عن حب آنلمساعد والدها ويتمان، تماماً كما نرصده في شعر الرثاء، الذي كتبته آن بعد وفاة ويليام ويتمان المفاجئة (بعد إصابته بالكوليرا التي التقطها من أحد أبناء الرعية، الذين زارهم، وكانوا مرضى، والزيارات هذه كانت مَهمة يقوم بها ويستون في أغنيس غْري).

لن أكشف النهاية باستثناء أن أقول إنّها نهاية رومانسية بشكلٍ لا يصدق، ومؤثرة أيضاً بشكل لا يصدق… هل هذه الشخصية البديلة أغنيس هي آن، التي تمنح نفسها، عبر الكتابة، حياةً انتزعتها الحياة الواقعية بعيداً عنها؟ نهاية الكتاب بسيطة جداً ومتقنةٌ جداً:

«والآن أعتقد أنني قلت ما يكفي».

قليل من الروايات تنتهي بجملة بسيطة كهذه، ورغم ذلك، إن بساطتها تكمن في القدرة على تحريك القارئ بعمق. أغنس غْري هي رواية مكتوبة بشكل رائع، وهي قصيرة، لكنّها دقيقة مُحكمة، ولا شيء فيها في غير محله. في رأيي، هي رواية من عائلة برونتي تفوق كلّ رواياتهنّ الأخرى بتشكيلها المكتمل بشكلٍ مثالي، ما يدلّ على أن آن قد أتقنت بالفعل فنّ كتابة الرواية. ليس هناك الكثير في الأدب الإنجليزي مما يشبهها. ورأيي أنّها تشابه روايات الياباني اللامع الحائز جائزة نوبل ياسوناري كاواباتا؛ حيث لا يحدث الكثير، ثمّ تدرك فجأة أنها استحوذت على قلبك.

جورج مور  (George Moore)لإدوارد مانيه  (Edouard Manet)

أثنى جورج مور، وهو نفسه كاتب مهمّ من أوائل القرن العشرين، على الكتاب على النحو الآتي:

«أغنس غْري هي أفضل قصة نثرية في الأدب الإنجليزي… قصة بسيطة وجميلة مثل فستان من الموسلين… نعلم أننا نقرأ تحفة فنية. لا يمكن إلا لعبقريةٍ أن تقوم بوضع الأشياء أمامنا بهذا الوضوح، وفي الوقت ذاته بهذا الضبط والتحفظ».

ليس لي إلا أن أوافق على رأيه، لذا إنْ لم تكن قد وافقته بعد، فامنح نفسك هديةَ عيد الميلاد، واقرأ أغنس غْري بقلم آن برونتي. إنّها ليست رواية طويلة مثل بعض الروايات الأخرى، وليست درامية، ولا عالية النبرة، وكذلك ليست صاخبة، بل هي عمل متألق تأتيك عبقريته همساً من الصفحة الأولى حتى الصفحة الأخيرة.

بيل دا كوستا غرين أمينة المكتبة التي لا تملك ترف ارتكاب الأخطاء

«أمينة المكتبة الشخصية»…

«الفضاء بين أركان العمارة التي شكّلتها الحقائق»

ومن خلفك الموسيقا التصويرية يمكن لك أن تقرأ بيل دا كوستا غرين (بيل ماريون غرينر) مبدعة مجموعة المخطوطات الشهيرة في مكتبة بيربونت مورغان، والمرأة التي يكتنف حياتها الكثير من الأسرار، أو تحاور فرشاتها التاريخية السحرية، فتلك هي رواية «أمينة المكتبة الشخصية» للكاتبتين ماري بنديكت وفكتوريا كريستوفر موراي، الصادرة والمترجمة إلى العربية حديثاً.

ليس جديداً، ومن ثم لن يكون مثيراً، ولا أصيلاً، إذا ما قرأنا الرواية على أنها ترصد الظلمَ الرهيب والألم الذي عانى منه الناس من ذوي البشرة الملوّنة، والذي تسبّبت فيه العنصرية الممارسة على الأفراد داخل الولايات المتّحدة الأمريكية ككل… كثيرة هي الأعمال التي رصدت تفاصيل وأوجاع وآلام السود وبعدة أنواع من الكتابة والفنون: الرواية، القصة، الشعر، المسرح، السينما، الموسيقا والأغاني، الرسم… فما الجديد هنا؟

نبدأ من هذا السؤال: كيف ساعدت امرأةٌ أمريكية بسيطة العملاقَ، وربما السيئ الذكر، جي بي مورغان في بناء مجموعته الفنّية، وتجميع تلك المخطوطات الضخمة، من دون أن يعرف أيّ أحدٍ سرّها؟

ونضيف أننا أمام رحلة صعود شاقة، كما أننا أمام بطل روائي نموذجي يمكن أن نسقط عليه صفة المخلّص لأسرةٍ كانت تبحث عن وجودها، بغض النظر عن كونها ملونة وقررت أن تعيش بوصفها أسرة بيضاء، فلم أفكر في لونها عندما «كانت بيل على درجات سلم جامعة برينستون تلملم طيّات تنورتها الثقيلة… لقد سمعت صوت أمها تقول: «بيل، تحلّي دائماً بأخلاق السيّدات»، تنهّدت وقالت في نفسها: لو كنت سيّدة لما قرّرت الرَّكضَ…»… تماماً الجملة الأخيرة هي ما كنت أفكر فيه.

ولتكون سيدةً، كان القرار الذي اتخذته بأن تترك وراءها أصولها مؤلماً، والخوف من التعرّض للانكشاف الذي يحفّ بهذا الاختيار مرهقاً ومؤلماً أكثر. يمكن لنا بين سطور الرواية وأحياناً بشكل صريح أن ندرك كيف كان عليها كلَّ يوم أن تخرج من منزلها، وأن تقدّم عرضاً مضاعفاً تُكافأ عليه بأضخم الجوائز في النهار، لكنها، عندما تعود إلى المنزل في الليل، تخلع «زيّها»، وتضع رأسها على الوسادة لتدرك أنّها لا تزال سوداء.

أصعب الأشياء التي يمكن أن تحدِث شرخاً في عمق تفكيرك أن تكون بين خيارين لا يتوانى كلّ منهما عن حشد أقوى الأدلة على صوابه، فلكلٍّ قوة حضوره، كما أن لكلٍّ استفزازيته، فهل يمكن أن نسم ريتشارد غرينر (والدها) بالأنانية إذ تخلى عن عائلته لمبدأ آمن به لأجل أمته أو قومه أو شعبه؟ وهل نستطيع أن نسم جينيفيف (والدتها) بالانهزامية وحصر نضالها في عائلتها البيولوجية وترك عائلتها الكبيرة ومن ثم أمتها أو قومها أو شعبها في سبيل مصلحة أسرتها الشخصية؟… بين هذين الخيارين تسقط أشياء وترتقي أشياء، لكنّنا ساقطون مع التي تسقط، ومرتقون مع التي ترتقي، فيما نتأرجح ما بين هذين السقوط والرقي… نحن نعيش أحداث رواية نشعر فيها ومعها بأننا معلقون ما بين السماء والأرض، ما بين السقوط والرقي… وهذه ميزة أخرى يمكن أن تجعلني أجرؤ على القول إنها رواية استثنائية.

بيل دا كوستا غرين، وريتشارد غرينر، وجينيفيف فليت، وجي بي مورغان، وجاك مورغان، وبرنارد بيرينسون، وآن مورغان، وإلسي دي وولف، وإليزابيث ماربوري، وجونيوس مورغان، تقريباً هذه معظم شخصيات الرواية، وهي شخصيات عاشت حقيقة، ولكلٍّ منها عوالمها، لكنها هنا كلها تدور في فلك شخصيتنا الرئيسية بيل دا كوستا غرين.

يرصد السرد أيضاً علاقات الجنس المتوترة بين بيل وبيرينسون وبين بيل ومورغان، لكن الأهم هي تلك الهالة التي يرسمها المتفوّقُ لذاته، والتي لا تلبث أن تظهر هشاشتها مع أول موقف إنساني، أو أول خفقة قلب، أو أول كشف حقيقي يظهر عزلتها العميقة؛ لقد كان مورغان الاقتصادي العملاق هشاً، كما كانت هالته تترنح أمام خفقات قلبه، فيما كان بيرينسون ساقطاً بكل ما يعنيه السقوط الأخلاقي من معنى وهو خبير الفن الإيطالي في عصر النهضة والأكاديمي المبجل… فأمام نِسوية بيل، لا لونها، تسقط ذكورية الاثنين مورغان وبرنارد بيرينسون… كما سقطت ذكورية الأب أيضاً بمغادرة عائلته وإنشاء عائلة أخرى في الشرق الآسيوي ما وراء البحار، وإن كان يشارك بيل في كونهما ضحية العنصرية، ورغم كونه لم يتنازل عن الدفاع عن حق قومه في المساواة والعدالة مع الأبيض، ودفع لأجل ذلك ما ظننا نحن أنه ثمن كبير: خسارة عائلته؟

تنهي بيل سرديتها الناجحة والراقية مهنياً ولكن المتعبة والمتعثّرة حياتياً، بالتصميم على إبقاء الجوانب الأكثر خصوصية في حياتها مخفيّة، لكنها تمنحنا فرصة ملء الفجوات، وحتى لا نجنح كثيراً، ولأنها تصر على أن تتحكم في سرديتها، لا تفتأ تعدل مسارات قراءتنا وإن كان ذلك على نحو استفزازي وجريء أحياناً، لكنه استفزاز إيجابي… من البداية كان واضحاً أنّ بيل لم ترغب في أن يتم اكتشاف هويّتها الحقيقية ليس في عالم الرواية فحسب، بل لنا نحن القراء أيضاً.

وبعيداً عن رحلة البطلة وسقطاتها وصعودها، لافتٌ هذا الزخم المعلوماتي الذي يخص أفضل الأعمال الفنية والتحف، الأمر الذي لم تهمل الرواية نسج تفاصيله، من اللوحات الشهيرة «تطوّر الحبّ» لجان أونوريه فراغونارد، إلى لوحة بورتريه لرجل مورسكي، إلى لوحات رامبرانت ولا سيما البورتريه الذهبية للعجوز الذي اشتعل رأسه شيباً، إلى كتاب (موت آرثر) للسيّد توماس مالوري في نسخة طابعة وليام كاكستون، إلى نسخة سوينهيم وبانارتز من ديوان شعر فيرجيل، اللذين كانا من أوائل المستخدمين للآلة الطابعة في القرن الخامس عشر، إلى إنجيل الملك تشارلز الأوّل، وساعة نابليون، ودفتر ملاحظات دافنشي، وأوراق شكسبير، وعلبة نشوق الإمبراطورة كاترين العظيمة، ورسائل الرئيس جورج واشنطن. وجواهر عائلة ميديشي الإيطالية، ولوحات ورسومات ماتيس، ومنحوتات رودان، ونسخ كاكستون، وكتاب الساعات لميملينج…

لكن اللافت أكثر على المستوى البنائي كان نهايات الفصول، في عمقها، وتكثيفها، ورونقها، وملمسها، ونغمتها المتفردة، وفي كونها أخيراً ترسم خطوات سيدة الرواية بلا استثناء بيل دا كوستا غرين في تقدّم سرديتها:

  1. لقد أوصيته بإجراء مقابلة معك لينتدبكِ شخصياً أمينةً لمكتبته.
  2. أصبحتُ المرأة البيضاء المعروفة باسم بيل دا كوستا غرين.
  3. سأجعلُ من مكتبة بيربونت مورغان، في حدّ ذاتها، التحفة الفنيّة التي تستحقّها.
  4. هذا المكتب سيكون بمنزلة القاعدة المثالية، التي يمكن من خلالها إطلاق حجر الأساس لمكتبة بيربونت مورغان الفريدة.
  5. سابقاً، كانت تعتريني رغبة في النجاح. أما الآن، فلم يعد من الممكن أن تكون تلك الرغبة مجرّد لهفة بسيطة؛ لا بد لي من الالتزام بالنجاح.
  6. الأعداء يمكن أن يكونوا خطرين بشكل خاصّ على فتاة ذات بشرة ملوّنة تسمى بيل ماريون غرينر؛ لأنّها تعبر العتبة إلى العالم الأبيض الأوسع باسم بيل دا كوستا غرين.
  7. «دعينا نتنقّل في أرجاء قاعة الرقص، فلدي بعض الأعداء الآخرين الذين أريدك أن تلتقي بهم».
  8. لقد كنت أدرك أنّ ماما لا تزال حقاً تنظر إليّ على أنّني ابنتها.
  9. لقد بنت آن حياة لنفسها، وأنا أخطّط لأن أفعل الشيء نفسه.
  10. أردت أن يفهم الجميع أنّ مكتبة بيربونت مورغان فريدة من نوعها، وأنّ أمينتها استثنائية.
  11. يجب أن أتصالح مع نفسي بشأن حقيقة أنّ الشكوك التي تحوم حولي لن تختفي أبداً.
  12. سمحت لنفسي بإلقاء نظرة أخيرة عبر المروج قبل أن نجتمع ونبدأ رحلتنا شمالاً إلى المنزل الوحيد الذي تركناه.
  13. «إنّ الاسم المنحوت فوق أبواب هذه المكتبة هو اسمي، وليس اسمك. أنا لا أريد تذكيرك بذلك مرّة أخرى».
  14. فزت بالفعل بجائزة المزاد، وآمل أن أكون قد فزت بثقة السيّد مورغان الكاملة معها.
  15. «حسناً يا سيّد بيرينسون، يبدو أنّ ما وقع لا يعتبر بالتعرّف الدقيق بك؛ فمن الظاهر أنّني أعرفك منذ أن كنت في العاشرة من عمري».
  16. كنا محاطين بالثرثرة والموسيقا، بقينا صامتين. لم أدرك ما يفكّر فيه، لكنّ فكرتي الوحيدة كانت تعلن الآتي: يجب أن أتعرّف إلى ذلك الرجل.
  17. فقلت: «نعم سألتقيك يا برنارد».
  18. أيقظتني كلماته، وفي الوقت نفسه أدركت أنّني تهت إلى الأبد.
  19. أنا امرأة عصرية ولي مهنة أديرها باستقلالية، ولست بحاجة إلى أن تشرح لي أيّ شيء يا حبيبي. فأنا حسناؤك…
  20. «أنت أمينة مكتبتي الشخصية، ويجب أن تتذكّري دائماً أنّك ملكي».
  21. حدّق فيّ وهمس: «أنت إنسانة استثنائية!».
  22. ثم ابتسمت، وانغمست بسرور في النوم في أحضان برنارد بيرينسون، أو أياً كان اسمه.
  23. لقد تهت بين إيطاليا وبرنارد.
  24. ليس لديك ترف ارتكاب الأخطاء يا آنسة غرين.
  25. «تلقيت للتو برقية. لقد أرسل فيها برنارد تحياته لك، لكنّه، في نهاية المطاف، لن يتمكّن من المجيء إلى لندن».
  26. إنّني والسيّد مورغان نتشارك رابطاً لا يمكن كسره، وأنا لن أدع أيّ شخص أو أيّ شيء يفتكّ ذلك مني.
  27. قصّة ماما وما باحت به أيقظني. إنّني أدرك تضحياتها، وأقبل بحتمية ذلك الاختيار لنا جميعاً، وفي المستقبل سأنتبه وأكون حذرة أكثر.
  28. شعرت بنخب الانتصار وأنا أقف أمامهم؛ امرأة صاحبة بشرة ملوّنة في عالمهم الأبيض.
  29. هل سأندم على ما قلت من كلمات؟
  30. لقد تحدث معي كما لو أنّه كان السيّد وأنا كنت—. توقّفت أفكاري عند هذا الحدّ، فأنا لا يمكنني أن أسمح لنفسي بالتفكير في ما لا يمكن تصوّره.
  31. لكنّ الليلة مخصّصة لنا أنا وهو فقط، كما كنا دائماً، ومثلما أودّ دائماً أن نكون.
  32. «أعطاك السيّد مورغان الفرصة، لكنّ كلّ جزء من نجاحك يعود إليك، فأنت بيل دا كوستا غرين».
  33. في لحظة علمت ما يجب عليّ القيام به؛ فلكي أتقدّم لا بد لي من العودة إلى الوراء.
  34. فضغطت على يد بابا، ثمّ أغمضت عينيّ، محاولةً تذوّق كلماته، واستيعاب أمله.
  35. وارتميت في حضنه الذي كان ينتظرني.
  36. «حسناً يا آن. لتكن أسرارنا آمنة بيننا».
  37. لقد رأيت أخيراً عمق خيانة برنارد، وسمحت لنفسي بالاعتراف بها؛ فلماذا يبدو ظاهر كل شخص مختلفاً عن حقيقته؟
  38. أبقيت عيني ثابتتين على الطريق الذي كان أمامنا، فأنا لن أنظر أبداً إلى الوراء.
  39. سيكرّم جاك نسبه، تماماً مثلما سأكرّم والدي وأسلافي السرّيين.
  40. حان الوقت لترك مكتبة مورغان بوصفها مؤسسةً خاصة بك، وتحويلها إلى ما كان يجب أن تكون عليه: مؤسسة عامة تكريماً لوالدك».
  41. «سأكون راضية تماماً، ويشرّفني أن أعمل مديرةً لمكتبة بيربونت مورغان ما حييت».
  42. فهل سيعود شخص ما، في يوم من الأيام، إلى الوراء في الوقت المناسب لاكتشاف قصّتي، ويطالب بفخر بتبنّي حقيقتي بوصفي أمينةَ مكتبة شخصية لجي بي مورغان صاحبة بشرة ملوّنة كان اسمها بيل دا كوستا غرين؟

هذا ما فعلته ماري بيندكت وفكتوريا موراي وجوداً بالقوة (كتابة)، وهذا ما فعلتٌه وأدعو غيري إلى فعله وجوداً بالفعل (قراءةً).