«ماذا علينا أن نفعل؟» ومن لا يعرف الحقيقة الأخلاقية.. إنها مشهورة جداً

يبدأ تولستوي الريفي زيارة إلى موسكو حيث ينتظره بعض الأعمال ولقاء الأصدقاء وبعض المعارف، وحيث هو في موسكو تروّعه الأحياء والأسواق والتجمعات السكنية الفقيرة، تلك التي تكتظ بالآلاف من المشردين والفقراء والمتسولين. يحاول المساعدة لكن حجم الظاهرة أكبر من أن يفعل شيئاً، يلجأ إلى الأصدقاء والأقارب فيتعرض للسخرية ويشعر بالخزي لزيفهم الشكلاني، يفكر ويبحث عن حلول، لكن السكين هي سكينٌ في حالة واحدة فحسب؛ عندما تكون حادةً، وعندما تقطع ما نحتاج إلى قطعه، لكن أيّ سكين هذه التي يريد أن يقطع بها تولستوي ظاهرة التسول في موسكو القرن التاسع عشر؟ أَقَطَعَها فعلاً أم بقيت كلماته مجرد كلمات يوتوبية؟

شكلانياً، على الأقل، نعيش متعة الألم مع تولستوي في تجواله في تلك الأحياء والأسواق والمساكن بلمساته التصويرية ذات الرنين الملموس والنغمة الساحرة، إنّه ينقل بكلمات دقيقة صور المشاهد كما لو أنك تشاهد فيلماً سينمائياً، فيرسم المكان الكلي للحدث في صورة من الأعلى، ثم يدخل في جزئيّات المكان، ثم يمنحك لمسةً لخصوصية الزمن، ثم يرسم لوحةً للشخصية، التي لا يتردّد بعدها في الدخول إلى عمقها النفسي والفكري والوجودي وأحياناً العبثي، والأكثرُ إثارةً أنه عندما يُسقِط قدراته العقلية على هذه الشخصيات لا يخجل من قول إن هذه الشخصيات، بتفكيرها الذي ظنه بسيطاً، أظهرت مدى سذاجته هو. كل ذلك نقرأه في المشاهد التصويرية في سوق خيتروف وملجأ لبينسكي، وبيوت رجانوف… لِمَ لا إنه تولستوي الذي اعتدناه روائياً؟..  لنقرأ هذه النغمة التراجيدية:

« لم تثيرا فيَّ أيّ شفقة، بل الاشمئزاز، لكنّني رأيت أنّ إنقاذ الطفلة ضروري، وعليّ أن أستثير عواطف النساء اللاتي يشعرنَ بالأسف على حال هذه المرأة وأمثالها من النساء الأخريات، وأرسلهنّ إلى هنا. لو تفكّرت في كلّ ماضي المرأة الطويل، وكيف أنها أنجبت الطفلة وأرضعتها، وربتها وأطعمتها، وهي في الحالة التي رأيتها، وربما بلا أدنى مساعدة من الناس، وبتضحيات كبيرة، ولو أنني فكرت أيضاً برؤية الحياة التي تشكّلت عند هذه المرأة؛ لأدركت أن قرارها لم يكن فيه أيّ جانب سيّئ أو غير أخلاقي، وأنّها فعلت كلّ ما تستطيعه؛ أي أنّها فعلت ما تعدّه الحل الأمثل بالنسبة إليها. يمكن أخذ الفتاة من أمها بالقوة، ولكن لا يمكن إقناع الأم بأنّها مذنبةٌ ومخطئةٌ لأنّها عرضت ابنتها للبيع».

لكن هذه الفلسفة الحياتية التي تعلّمَها تولستوي من هؤلاء الفقراء الممتلئين بالبؤس، والتي كان يعتقد أنه قد أتقن فنّها، لم تمنعه من توصيف فعله وفعل من هم مثله ممن يتناولون اللحم كل يوم، ويضعون السجاد والجوخ على أرضيات بيوتهم، وحتى فوق ظهور خيولهم، بأنه جريمة تُرتكب دائماً وباستمرار.

هل هذا هو الوجه الحقيقي للمدن، الذي لا يرى فيه القروي شيئاً لافتاً للنظر؟ هل كان الحال دائماً على هذا النحو، وسوف يبقى، ويجب أن يبقى؛ لأنّ هذا هو الشرط الأساسي للحضارة؟ يتساءل تولستوي.

«في دائرة خامونيفنيكا، عند سوق سمولينسكي، في زقاق بروتوشني، بين مفرق بيروغوفوي ونيكولسكي، تقع هناك البيوت التي تسمّى بيوت رجانوف أو قلعة رجانوف. أكبر مكان للفقر والفسوق.. هنا كل شيء وسخ، رائحة كريهة تنتشر في الأبنية والمداخل وعند الناس أيضاً. كان أغلبية الناس الذين رأيتهم هناك يرتدون ثياباً ممزقة، وأشبه بالعراة».

انتهت رحلة تولستوي في أبنية الفقر والبؤس، وانتهى معها عمله الخيري والإحصائي بعد أن شارك في حملة موسكو لإحصاء المشردين والمتسولين والفقراء، لكنّ عمله الفكري أُوقِدت فيه شرارةٌ لن تنطفئ؛ إنه كالطبيب الذي يشخص الحالة، ومن ثم يبحث لها عن العلاج، فذهب إلى الريف، وهو مستاء من الجميع، لكن أفكاره ومشاعره، بالإضافة إلى أنها استمرت في التدفق، تضاعفت معها قوته الداخلية، وأول ما قرره في وجدانه وفي عقله (وهو جوهر كتابه) أن رغبة الأغنياء تكمن في الوصول إلى ذلك الوضع الذي يعملون فيه أقل، ويستخدمون خدمات الآخرين بشكل أكبر. وتبدأ الأسئلة بالتدفق من جديد:

لماذا كسب لقمة العيش يتحدّد في المدينة؟ لماذا يذهب أهل الأرياف إلى المدينة والخيرات كلها في الريف؟ لأن احتياجاتهم تفرض عليهم أن يبيعوا ثرواتهم لتجار المدينة عدا الضرائب والريوع والجندية، التي تستهلك أهل الريف؛ فسبب هذا الفقر هو أننا أخذنا من أبناء الريف كلّ ما هو ضروري لحياتهم، ونقلناه إلى المدينة. السبب الثاني هو أننا هنا في المدينة، وبعد أن نستخدم كلّ ما جئنا به من الريف، برفاهيتنا الحمقاء، سنغري ونفسد كل أولئك القرويين الذين جاؤوا إلى المدينة خلفنا، لكي يسترجعوا، بأية طريقة، ما أخذناه منهم:

«نحن – الأغنياء- بنينا بثرواتنا جداراً عازلاً يفصلنا عن الفقراء، هو جدار النظافة والثقافة، ولكي نساعدهم علينا أولاً أن نهدم هذا الجدار».

ويبدأ في نقد الأسس العلمية للاقتصاد، ولا سيما أسس العملية الإنتاجية: الأرض ورأس المال والعمال، فيشير إلى أن هناك عوامل أخرى تم إغفالها كالشمس والماء والهواء والتعليم والمهارات واللغة، ولكن كيف امتلك البعض الأرض ورأس المال وأدوات العمل وجُرِّد منها آخرون؟ هنا يطرح ببساطة قصة شعب فيجي، فقد فرضت عليهم أمريكا ضريبة قالت إنها بسبب العنف ضد مواطنين أمريكيين، وبحجة عدم التسديد تم أخذ بعض الجزر الغنية رهينةً، وأقاموا عليها مزارع البن والقطن، واستعبدوا السكان المحليين باتفاقيات لم تنقذهم منها بدائيتهم، لجأ ملكهم إلى الإنكليز ووضعَ نفسَه تحت حمايتهم ثم أعلن التبعية لهم، تردد الإنكليز بحذر، فلجأ إلى شركة أسترالية عُرفت فيما بعد بالشركة البولينيزية، التي تحكمت في كل اقتصاد فيجي، فأصاب حكومتها الفقر، عندها قبلت بريطانيا بتبعية فيجي، ما أدى في النهاية إلى ضياع فيجي واستعباد شعبها… المجرم إذاً هو المال، الذي يُسكّ ويطبع ويوزع ثم يُفرض ضريبةً على الناس فيبيعون عملهم بهذه القيمة التي تحددها الدولة، وترفض في المقابل زيادة الأجور، إن اختراع المال هو آلية أخرى من آليات الاستعباد، ووسيلة من وسائل العنف.

إذاً، نحن أمام ثلاث وسائل للاستعباد استعباد السيف وهي وسيلة بدائية، ثم استعباد الجوع بسلب الأرض، ثم استعباد المال بالضريبة… قد يعتقد البعض أن العبودية انتهت الآن، لكن تولستوي يقرر أنّ العبودية الشخصية لم تختفِ من مجتمعاتنا المتحضرة، بل يمكن القول إنّ قوّتها ازدادت مع التزامات عسكرية كبيرة لبقائها في الآونة الأخيرة، فماذا عن الجيش أليس الجنود فيه مستعبدين؟ وماذا عن الدولة، ألا يعاني أفراد الشعب من عبودية للدولة، التي تستطيع، وفق إرادتها، أن تجعلهم مفلسين، بعد أن تأخذ منهم كلّ ما ينتجونه، وتصرفهم من عملهم، وبعد أن تسوقهم إلى العبودية العسكرية؟ لكن علم القانون الاقتصادي ينفي، وعلم القانون المالي ينفي، وعلم القانون الحكومي (نظرية الدولة) ينفي، فيقرر تولستوي من جديد أن هذا العلم له هدف محدد، وهو يبلغه؛ هذا الهدف هو تعزيز الخرافات والأوهام عند الناس، وبهذا يكون قد منع البشرية من مواصلة تقدمها نحو الحقيقة والصلاح.

هنا لا بد من مصارحة الذات:

فإذا أردنا مساعدة الناس فعلينا، أولاً، التوقف عن التسبّب في بؤسهم؛ أي أن نتوقف عن المشاركة في استعبادهم؛ فما يجذبنا إلى استعباد الناس هو أننا اعتدنا، منذ الطفولة، ألا نقوم بأيّ شيء، واعتدنا الاستفادة من جهود الآخرين:

«إذا كنتُ مشفقاً على الحصان المنهك الذي أركبه، فعليّ أولاً أن أنزل عن ظهره، وأن أتابع رحلتي ماشياً».

علي أن أقوم بأعمال خدمتي بنفسي، وفي المقابل أعطي من كانوا يخدمونني المال، أو أعطيه لفقراء آخرين… كم هو يوتوبي هذا الكلام، ولا أدري إن كان قابلاً للتطبيق العملي، لكنه يستفز الحقيقة الأخلاقية، كما يستفز العقل.. إن تولستوي يقدم هنا وجهة نظر تحتاج إلى تأمل، لكنك لا تملك إلا أن تتفق معه تماماً في أن كلّ أولئك الذين يعدّون أنفسهم رجال دين، أو موظفي دولة، أو نخبة ثقافية، أوعلماء، أو فنانين، إنما هم متحرّرون من كفاح البشرية من أجل الحياة، ويتركون عبء هذا الكفاح على بقية الناس، مستندين إلى فكرة أنّ خدمتهم الحكومية تعوّض عدم مشاركتهم.

لكن المفاجأة التي يصدمنا بها تولستوي، وتستفز الجدل في داخلنا، هي غاية العلم والفن، ولا يستثني نفسه من ذلك: إذا سألنا أهل العلم والفن عن غاية عملهم فـ«إجابتهم تذهلك حالاً بوقاحتها، لأنها لا تستند إلى براهين، حيث يقولون، دون أيّ أدلة على صحّة كلامهم، كلاماً مشابهاً لما قاله الكهنة في الماضي، وهو أنّ نشاطهم هو الأكثر ضرورة وأهمية لجميع الناس، ومن دون نشاطهم تفنى البشرية»، لكنه لا يلغي العلم والفن، بل يشترط أن يربطا نشاطهما الخاص بالعلم التجريبي والوضعي والنقدي؛ لذلك يفند أوهام هيغل في فلسفة الروح ونظرية الدولة، ويحطم وضعية كونت التي عدت البشرية كائناً حياً، تماماً كما نقد مرجعيتها اللاهوتية في نقده مفهوم الكفارة، ويمر على مقولات سبنسر الواهية، ويقرر أن العلم عندما أدرك أنه لم يعد يتضمّن أيّ أفكار سليمة، أطلق على نفسه اسم «العلم الذي يسعى من أجل العلم».

حسناً، ما الحل؟

التقسيم المنطقي للعمل… وهنا تتجلّى فرضية تولستوي بقوتها الساخرة، وبدقّة المحلل والناقد اللاذع، يقول:

«من الغريب أن يعتقد الإسكافي أنّ الآخرين يجب أن يوفروا له قوت يومه؛ لأنه يواصل عمله في صناعة الأحذية التي لم يعد أحدٌ بحاجة إليها، ولكن ماذا عن أولئك الإداريين ورجال الدين وممثلي العلم والفن، الذين ليس فحسب لا ينتجون شيئاً مفيداً ملموساً، بل لا أحد يقبل على بضاعتهم أيضاً، لكنهم رغم ذلك تجرؤوا على الطلب من الآخرين، مستعينين بقانون تقسيم العمل، أن يقدموا لهم أفضل الطعام والشراب واللباس».

لقد قدم العلم مخترعات كثيرة: البرقيات والهواتف ومحركات البخار و… لكنه لم يحقق شيئاً لحياة العمال، أما الفن فحدث ولا حرج، يكفي أنه اقتصرت جمالياته على الأغنياء، إضافة إلى ما تنفقه الدولة عليه من دعم أخذته أساساً ضريبةً من الناس.

والآن، ماذا علينا أن نفعل؟

  1. التوقف عن الكذب على الذات وعلى الآخرين، والبحث عن الذات والمسار الواضح:

«عندما اعترفت وندمت فحسب؛ أي عندما توقفت عن النظر إلى نفسي على أني شخص مهم، بل بدأت أنظر إلى نفسي على أني شخص عادي، مثل جميع الناس، حينها فحسب أصبح مساري واضحاً لي.

  1. أن أتعلم كسب الرزق الحقيقي؛ أي ألا أعيش على حساب الآخرين:

«أؤمن طعامي وشرابي وتدفئة بيتي ومسكني بنفسي، وأن أخدم الآخرين من خلال هذه الأشياء».

  1. التخلي عن اعتقادي بامتلاكي حقوقاً وميزات وخصوصية عن الآخرين، والاعتراف بأنني مذنب.
  2. تطبيق ذلك القانون الأبدي، الذي لا شك فيه، المتمثل في العمل بكل طاقتي، وألا أخجل من أي عمل، وأن أصارع الطبيعة للحفاظ على حياتي وحياة الآخرين.

المُلكية هي أصل كلّ الشرور، والعالم كله تقريباً مشغول بتوزيع وتأمين المُلكية… فباسمها تحدث في هذا العالم الحروب والإعدامات والمحاكم والمعتقلات والترف والفساد والقتل وخراب البشرية.

وعلى الرغم من أن هذا الكتاب مؤثَّثٌ بالمقولات النابعة من حكمة عقل تولستوي، والتي قد تشكل كل مقولة منها إرهاصاً لنظرية في الأنثروبولوجيا، وفي علم الأخلاق، والإنسانيات عموماً، يقرر هو ذاته أن هذه المقولات، ومن ثم الحلول، لا تكتمل إلا بالنساء؛ فالنساء يصنعنَ الرأي العام، بل النساء هنَّ الأقوى في عالمنا؛ النساء يقدنَ البشرية إلى الخلاص، لكنّه يحصر دورهن في الفلك الذي رسمه هو حلاً للإشكالية الجوهرية التي أثارها:

«الأم الحقيقية، التي تعرف عملياً شريعة الله، هي من سوف تربي أولادها على الالتزام بها. ستشعر مثل هذه الأم بالألم عندما ترى طفلها يبالغ في طعامه ودلاله ولباسه؛ لأنها تدرك أنّ هذا كله سيصعّب عليه الاستجابة لإرادة الله التي عايشتها الأم. هذه الأم لن تعلّم ابنها أو ابنتها كيف يتحرران من العمل، بل ستعلّمهما ما يساعدهما على تحمل مسؤولية العمل في حياتهما».

أجل، أيتها النساء الأمهات، في أياديكنّ، أكثر من أيّ أحد آخر، خلاص العالم.

طلسمات … صرخة الرواية الأفغانية

حظيتُ في السنوات الأخيرة بقراءات أعدّها، على الأقل من وجهة نظري، متميّزة، لكنّ قصةً أو روايةً لم تمنحني هذه النغمة السردية وهذا الملمس التخييلي كرواية (طلسمات)الصادرة والمترجمة إلى العربية حديثاً للباحث والروائي الأفغاني محمد جواد خاوري. لم أكن لأتوقع حقيقةً أنني سأكون متورطاً ومتشابكاً معها إلى آخر كلمة فيها، إنها رواية تركت لديّ نغمتها المتفردة وملمسها القوي بكلّ امتيازأثراً لا ينسى. لماذا؟ هل هو الفعل الدرامي المركزي فيها؟ هل هي رحلة بطلها الحافلة بلحظات السقوط والنهوض من تحت الرماد؟ هل هي جماليات أساطيرها وخرافاتها؟ هل هي طقوسها الاجتماعية والدينية؟ هل هي حركية بيئتها الرمزية بجبلها وقراها وبيوتها في قلب الجبل ومدنها وأسواقها؟ هل هي لمساتها الحياتية التي تستعرض حياة المجتمع بكل تقلباته وسذاجته وإشكالياته...؟ هل هو تاريخ السلطة في أفغانستان الذي قدمته في رؤية متفردة من منظور ساخر ومثير للضحك ومؤلم ونبوئي في الوقت ذاته؟

الحقيقة أنها كلّ ذلك وأكثر؛ إذ تستطيع أن ترى كلّ شيء في هذه الرواية، فهي لا تضع على طاولة التشريح موضوعاًمركزياً واحداً، بل هي الحب والسياسة والتاريخ والقضايا الاجتماعية والدينية والشعبية. هي أفغانستان كما لم ترها من قبل.

يقدم الكاتب في هذه الرواية قصة قوم الهزارة المضطهدين، الذين يسكنون الجبال بل إن منازلهم في قلب هذه الجبال، التي لم تقدمها لنا وسائل الإعلام الآن إلا من منظور الصراع مع طالبان و«القاعدة»، لكن واحداً من أبنائها هو الكتاب هنا من مكانه في المهجر يقدّمها بحقيقيتها، في هيكلٍ بنائي ليس خطياً تقليدياً، بل إنه سرد دائري يبدؤها بمشهد احتضار بطلها «نيكه» في حضن زوجته وحب حياته وأسطورته «بلقيس»، لينهيها بنهاية هذا المشهد وهو موته، ذلك المشهد الذي تتم العودة إليه واسترجاعهباستمرار، وفي القلب من السرد يتركنا كقراء نتنقل ونتحرك من جغرافيا إلى أخرى، ومن زمن إلى آخر، ومن حدث إلى آخر، في حركية شيّقة ذات ملمس أخاذ، ونحن نعيش تلك المغامرات التي حدثت وتحدث في أفغانستان.

ولأن الكاتب يعيش في المهجر، وجدتني أشاركه صرخته الأفغانية هذه، وأنا أقرأ مجتمع بلده في ثقافته الأصلية،وأرصد معه حياة شخوصه الذين يعيشون في هذا المجتمع القبلي والتقليدي المتناغم مع طبيعته، والذي لم يسعَ يوماً إلى إزالة الغموض عن هذه الطبيعة، ووجهة نظرهالبسيطة والساذجة، لكن الساخرة، تجاه العالم، وتجاهالظواهر الطبيعية والبشرية إنها رواية تروي لنا كيف هم يعيشون وكيف يفكرون.

إذا كنا نملك نظرة إيجابية لهذا العالم الذي نعيشه فقد تغدو  الأساطير مجرد وهم، لكن الأسطورة هنا أمر آخر إنها ليست وهماً إنها حقيقة يعيشونها، فإذا كانت الأساطيرالقديمة تروي قصة الآلهة، فإن الرواية هنا تروي قصة البشر؛ قصة الأسرار الكبيرة والصغيرة المرتبطة بطريقةٍ ما بالإنسان ومصيره، وكالجبل بكل عظمته وقسوته، وكذلك حبه وغضبه، تسرد الرواية قصة بشر بكل بساطتهم وقسوتهم وحبهم وغضبهم.

فالجبل ميخ في هذه الرواية، مثلاً، بالإضافة إلى كونه موطناًللآلهة في الأساطير ومحل إقامة لغير البشر من المخلوقات، له حضور بارز في الواقع الموضوعي لبيئة الرواية، فمكان الرواية هو منطقة جبلية بالكامل، حيث تعيش الشخصيات التى تُروى قصصها في هذا الجبل،بيوتهم في الجبل، ويعيشون على بركة هذا الجبل؛ يشربون من مياهه، ويطعمون ماشيتهم عشبه، ويشعلون النار بحطبه… لقد ربط الجبل حياتهم بطريقة ما... إنهم كيفما استداروا يرون جبلاً، ويعبرون جبلاً. بؤسهم من الجبل،وسعادتهم التي ينتظرونها هي في الجبل.

يمكننا أن نقول إن حياتهم الحقيقية لا تتغير ولا تتلون إلا بالتغيرات التي يحدثها هذا الجبل والألوان التي يصبغهم بها هذا الجبل، كما يمكن لنا أن ندرك أيضاً أن حياتهم لا نكهة لها من دون الخرافات والأساطير، فبها يرون أنفسهم،وبها يفهمون أحلامهم، وبها يقرؤون تاريخهم… في وادٍضيق بجدرانه الجافة، وفي جبال حجرية تمطر الغضب والعنف على وجوههم، في هذا الفضاء القصير وفي هذا السكون يستيقظون كلّ يوم؛ ليس الجبل عندهم كومة كبيرة من الصخور؛ الجبل مظهر من مظاهر الألغاز التي لا حصر لها. حتى الأشياء من حولهم لها هويتها الخاصة وتاريخها؛ فالقمر والنجوم والأشجار والأحجار والكهوف هي الأسرار والشفرات التي توسع نطاق الواقع بالنسبة لهم، وتضفي التنوع على حياتهم... لذلك علينا، إذا ما أردنا أن نتذوق متعة هذه الرواية، أن نفهم خرافاتهم وأساطيرهموأن  نعيش أحلامهم.

إننا أمام رواية تخبرنا فيها هذه الشخصيات عن نفسها،وتشاركنا وجهة نظرها عن الوجود والعالم من حولنا، وعن الحياة مع الآخرين، وتحاول أن تجعلنا نفهم الوجود والعالم المحيط بنا؛ أن تجعلنا نعرف الحياة جيداً، إنها تساعدنا على معرفة أنفسنا ومعرفة في أي مكان من العالم نحن شُكلنا وتم اختراعنا... إننا أمام رواية لا تقول لنا شيئاً واحداً، إنها تقول الكثير والكثير من الأشياء، إنها تحرك الراكد فينا، وتثير قلقنا، فبعد قراءتها من المؤكد أننا لن نعود نمارس حياتنا بصمت.

تروي حياة قوم الهزارة في جبال أفغانستان واضطهادهم إثنياً أمام البشتون والسادة والطاجيك، ولكلٍّ من هذه مرتبة، ومن ضمن قوم الهزارة، تسرد رحلة «نيكه» منذ ولادته ثم الهجرة من قريته طفلاً مع أمه إلى قريتها حسنك، ثم تسلل الموت إليه طفلاً وشاباً ورجلاً، ثم أخذه إلى الجندية، ثم العودة والتمرد على خاله، ثم الهجرة إلى كابول وفترة الضياع، ثم العودة والبحث عن الكنز  والوهم، ثم اليقظة، ثم الانحراف، ثم العودة إلى إثبات الذات وإلى مجتمعه، ثم اكتشاف الذات، ثم نقطة التحول والثورة، ثم القائد، ثم إيجاد حبه الحقيقي بلقيس، ثمّ مرارات هذا الحب ودفع ضريبته، ثمّ الموت... هي ظاهرياً رحلة «نيكه» لكنّها حقيقة تاريخ ورحلة الشعب الأفغاني، أما أسطورته بلقيس فهي أفغانستان التي تستعصي أن تكون لأحد، كما أنها تتمرد على أن تُسجن في مكان واحد. وخلال هذه الرحلة نعيش مع الكثير من المغامرات والشخصيات: شمن (والدة نيكهبيوند (خاله)، وبيجوم (زوجة خاله)، وخليفة ضامن، والأسطى نجف، ونعيم المترنح، وماما شمسية، ولا ننسى أطرف الشخصيات وأغناها الملا يعقوب، ومدل عازف الطنبور، وبسكل، وحيدر القزم، وشاه ولي، وشاه كيدو الصوفي رجل الكرامات حارس الجبل في قبره... لكننا مع هذه الشخصيات نعيش الكثير من المغامرات والأحداث الطبيعية وغير الطبيعة والجدية والساخرة، القوية والهشة، المؤلمة والمفرحة….

في بنيتها تترحّل بنا الرواية في ثلاث مراحل تمزج الطبعية بالزمن، فتنتقل بنا من الجفاف، إلى درس سنابل القمح الرطبة، إلى انهيار الجليد، واجتماعياً أصدقاء الأمس أعداء اليوم، أما سياسياً وتاريخياً فبالتوازي من المَلَكيّة (الجفاف) إلى الانقلاب وقتل الملك (درس سنابل القمح الرطبة) إلى الثورة الشيوعية (انهيار الجليد).

أما الملكية فتبدأ برؤية الملا يعقوب الدجاجة تلحس الماء بلسانها كالقطط ولاتشربه بمنقارها ولا ترفع رأسها كعادتها، فكان أن هرع إلى كتابه (الملهمة) الذي يفسر من خلاله الظواهر غير الطبيعية: ليجد تعبيراً للحادثة، فعلم أن الدجاجة إذا سلكت سلوك حيوان آخر فهذا يدل على انفتاح الطريق لتسلل الموت... أما المرحلة الثانية فتبدأ (عندما يجرّون الجِمال للنحر، فيُصاب الملا يعقوب بالذعر فيسرع إلى فتح كتاب (الملهمة) وفي النهاية يرى في زاوية إحدى الصفحات أنّ قتل الجمل الپشتوني يدلّ على تغيير الملك. فينتاب الملا يعقوب قلقٌ كبير، ويتذكّر أنّه في أثناء تغيير الملك السابق، عصفت ريح حمراء وسوداء إلى درجة أنّ أحداً لم يستطع أن يتنفس بسهولة. في ذلك الوقت أيضاً كان قد راجع كتاب (الملهمة) وقرأ فيه أنّ ملكاً سيُقتل في الشرق. لقد قسّم الملا يعقوب العالم إلى الشرق والغرب، ورأى كابل في الشرقهذه المرة، أيضاً، تحقّق تفسير كتاب (الملهمة) سريعاً، فوقع انقلاب ضدّ الملك. وقال الپشتون، الذين جاؤوا في الربيع اللاحق، إنّ الملك الجديد أقوى من الملك السابق، وأخرجوا أوراقاً نقدية جديدة من جيوبهم، وأظهروا صورته. فرأى الناس أنّ رأس هذا الجديد أيضاً أصلع مثل رأس الملك السابق، ولهذا السبب لم يرَوا فرقاً كبيراً بينهما. أخرج نعيم المترنح من جيبه ورقةً نقدية قديمة احتفظ بها من أجل الأيام السوداء، ووضعها بجانب الورقة الجديدة، ونظر إلى صورتيهما، وقال: «قسماً بالله إنّ هذين الشخصين شخص واحد!»، فضحك الپشتون قائلين: «ليسا شخصاً واحداً، فالورقة النقدية التي لديك باتت الآن غير صالحة ولا قيمة لها»).

أما المرحلة الثالثة فمع انهيار الجليد جاءت الثورية الشيوعية، «ولكن هل الثورة مثل انهيار الجليد؟» يتساءل خليفة ضامن أحد شخصيات الرواية... لكن الذي حدث أن الملا يعقوب استيقظ وقد انهار الجليد على القرية وغطاها بالكامل... جعلتهم الثورة حالمين، لأنها تحمل شعار العدالة والمساواة، لكن الحلم تبخر والشعار كان زائفاً.

لقد عشت عوالم الرواية، وأدهشتني حركيّتها الرمزية، وإيقاعها المثير، وأساطيرها المدهشة، وطقوسها الحياتيةوالدينية، وتقنياتها الحكائية، فكان أن وقعت في أسر هذه الملحمة الأفغانية، فأبحرت في جغرافيتها من سفوح جبل ميخ إلى كابل، وحاورت عميقاً شخصياتها المتنوعة: القروية الساذجة في قمة البراعة، والسياسية المثيرة للسخرية إلى حدّ الوجع، والدينية المثيرة للجدل إلى حافة الخرافة، وعايشت أحداثها ذات الإيقاع السيمفوني المتصاعد والمثير للغضب الممتع…. لقد لخّصت مأساة أفغانستان (بلقيس) وشعبها (نيكه) باختصار.

كان على المرأة الفوز بحقّ الضحك – حوار مع سابين مليكور بونيه

تقول سابين ملكيور بونيه: «كان على المرأة الفوز بحقّ الضحك».

طالما كان الضحك. وجعل الناس يضحكون امتيازٌ ذكوري، وظل ضحك المرأة لا يحظى بشعبية في المجتمع؛ لأن الضحك يمتلك قوة تخريبية، والمجتمع لا يثق بالنساء الضاحكات. تروي المؤرخة الفرنسية سابين ملكيور بونيه المسيرة الطويلة لأولئك النساء، اللواتي يطمحنَ إلى المرح بحرية كاملة، فانتهى بهنَّ الأمر إلى رفع المحرمات.

» بالنسبة إلى المرأة، الصمت زينة» أَحب أرسطو أن يتذكر، نقلاً عن سوفوكليس. نبتسم أو نختنق. لم تنقصهم أبداً النصيحة بشأن اللباقة، يقول ممثلو الجنس بصوت عالٍ إن من المناسب إبعاد ضحك النساء، وبقي الأمر على حاله لعدة قرون. هذا ما نتعلّمه من خلال قلم المؤرخة سابين ملكيور بونيه، التي تستكشف، في مقالٍ غزير الإنتاج نُشر في نهاية نيسان/أبريل، التخيّلات والرهانات المرتبطة بضحك الإناث.

حوار مع سابين ملكيور بونيه

على الرغم من أن المرأة لم تتمكّن من الفوز بالحقوق إلا مؤخراً في التاريخ، غالباً ما نجهل أنّ قدرة النساء على الضحك وإضحاك الناس قد تمّ تحدّيها أيضاً لعدة قرون. كيف يمكنك تفسير ذلك؟

سابين ملكيور بونيه: طالما كان يُنظر إلى ضحك النساء على أنه موضوع إشكالي، لا بل خطير. بقدر ما يُعدُّ لدى الرجل بمنزلة ترفيه منصف، أو علاج لحزنه، يتمّ تشبيهه لدى المرأة بأنّه فيضٌ جامح وفاحش. لكن وراء وصمات العار المتعلقة بضحك الإناث، إنّ ما هو على المحكّ هو قوتها التخريبية، بعبارة أخرى قدرتها على تحدي الجدية الذكورية، ومن ثَمَّ سلطة الرجال.

ومن أين تأتي الحاجة إلى تدوين هذا المنع من خلال الكتابة؟

سابين ملكيور بونيه: إنها كراسات اللباقة هي التي تحظر، بشكل صريح، ضحك الإناث. بدأت إيطاليا الحركة في القرن الرابع عشر، وازدهرت هذه الأعمال في فرنسا في وقتٍ مبكر من القرن السادس عشر. في البداية كانت مخصصة للفئات الميسورة نسبياً، وستُنشر وصفاتهم من خلال المكتبة الزرقاء، وهي مجموعة من الأعمال لعامة الناس. لكن تجدر الإشارة إلى أنّ في قمّة السلم الاجتماعي كانت لدينا جميع الحقوق.

 

إنها الرغبةُ في السيطرة على جسدِ النساء التي تُنجَز، ولطالما كان هذا أمراً غريباً ومقلقاً للغاية في نظر الرجال.

 

سابين ملكيور بونيه، تعتبرين أنّ الشاعر اللاتيني أوفيد سيد استراتيجية الحبّ وأحدَ مصادر الإلهام لهذه المعايير.

سابين ملكيور بونيه: كان نفوذه حاسماً. لعدة قرون، سيتم الاستشهاد به من خلال كراسات التمدن وأطروحات الجمال. في كتابه فن الحب، انتقد ضحكة تشبه «صراخ حمارة عجوز تقلب حجر الرحى الخشن». المحبط في الأمر هو أنّ المرأة، التي تضحك وفمها مفتوح، وتكشف عن أسنانها تصبح، من ثَمَّ، ضبعاً، وبعبارة أخرى كائناً لاحماً. يشير هذا السجل المتوحش إلى شكل من أشكال الوحشية، بعيداً عن شرائع الجمال.

الجمال، إذاً، هو رافعة لتقدّم النساء خطوة إلى الأمام، بطريقة ما؟

سابين ملكيور بونيه: يتمّ الإساءة إلى الجمال والاحترام بداعي الضحك الجامح. يجب القول إنّ الضحك يغيّر الفراسة بشكل عميق؛ يستحوذ على الجسد بالتشنّجات، وينتفخ الوجه، وتنغلق العينان، ويظهر داخلُ الفم بوضوح، وفي ذلك الوقت، الذي كانت فيه حالة الأسنان شيئاً مرغوباً فيه، من المؤكّد أنّ هذا المشهد لم يكن دوماً مبهجاً. هذا ما سيشجع النساء على الضحك خلف المروحة. لاحظ في الوقت الحالي، هو عكس ذلك تماماً. من الواضح أنّ الضحك بصوت عالٍ يعدُّ نوعاً من الإغواء.

 

أنت تقتبسين، في هذا الصدد، الرأي اللاذع لأحد كُتاب التنوير، لويس سيباستيان مرسييه: «خذ سناً إلى هيلين الجميلة ولن تحدث حرب طروادة…»

سابين ملكيور بونيه: في الواقع، تمتلك هذه العبارة معنى الصيغة، لكن بصرف النظر عن هذه الاعتبارات الجمالية، غالباً ما ترتبط الأسنان بالحياة الجنسية؛ لذلك الكشف عنها يُعدُّ غير ملائم. نتحدث أيضاً عن «الفم العلوي» و«الفم السفلي»، فالأول يستحضر الثاني. الابتسامة فحسب يمكن أن تزيّن وجه المرأة؛ لأنها تجسد النعومة والحنان. إنها تشير إلى الصورة النموذجية للأم، وهي تميل على طفلها.

ومن وراء منع الضحك، إن الرغبة في التحكم في جسد النساء قيدُ التنفيذ، وتمثّل تلك الرغبة الغريبة والمُقلقة في نظر الرجال.

 

كيف تمّ اعتبار أن ضحك الأنثى لا يخضع لقوانين ضحك الذكور نفسها؟

سابين ملكيور بونيه: هناك العديد من المراجع على مرّ القرون، التي تشير إلى أن النساء كنَّ عرضةً للمشاعر القوية والمتغيرة. يحتلّ المنطق مكاناً أقلّ في دماغهم، كما هو الحال لدى الأطفال، ينبع ضحكهنّ بشكل أسرع. كما تمت الإشارة بإصبع الاتهام إلى مزاجهنَّ ورحمهنَّ. يقول الدكتور جوبير، على سبيل المثال، في كتابه مقالة عن ريس، في عام 1579، إنّ «غضب الرحم» يروّج للضحك العالي. ومن ثم، سيظل مرح النساء موصوماً بالجنون أو بالهستيريا، بعد فترة طويلة من إثبات شاركو أن الهستيريا ليست سمة خاصة بالمرأة.

بالرغم من ذلك، إذا كان الضحك محظوراً في الأماكن العامة، فمن حقه أن يُسمع على انفراد لكن في ظلّ ظروف معينة، وفقاً لبلوتارك عالم الأخلاق من روما القديمة.

سابين ملكيور بونيه: يذكر بلوتارك، في كتابه التعاليم الزوجية، أن المرأة هي مرآة زوجها. وهكذا يمكنها أن تدع نفسها تضحك في حضوره، «إذا كان التوقيت والمزاج بحالة ابتهاج». في هذه الحالة، يساهم الضحك في انسجام الزوجين.

على النقيض من هذه الرؤية، يؤكد روسو في كتابه جولي أو لا نوفيل هيلويز أن الضحك والزواج لا يمتزجان بشكل جيد.

سابين ملكيور بونيه: تتميز رؤيته للزواج بالفعل ببصمة الجاذبية. في هذه الرواية، التي ستؤثر بشدة في المؤلفين الرومانسيين، ستفضل كلير مكانتها، بوصفها أرملةً سعيدة، على الزواج، على عكس جولي التي ستموت بسببها.

 

بالرغم من ذلك، في عصور مختلفة، يتماشى الضحك والحب معاً. حيث تكتبين أن «الحب يجري من خلال الضحك كالدم في القلب«.  

سابين ملكيور بونيه: طالما كان الضحك استعارة للفعل أَحَبَّ؛ لأن ممّا لا شك فيه أنّ الضحك هو الموافقة. يقول أحد الأمثال بشكل أكثر فظاظة: «امرأة تضحك هي نصف سريرك». ومن هنا جاءت الحاجة إلى عدم التعبير عن نفسها علناً، ما سيضعها في موقف مزعج. فقط المحظيات ينغمسنَ في الضحك دون قيود.

بحسب الفيلسوف آلان: «هناك انتقام جميل في الضحك من الاحترام الذي لم يكن مستحقاً.... « في دوائر أخرى، يتدفق الضحك بحرية بين النساء، لا بل يتصف مظهره بالحيوية. حبذا لو تشرحي لنا ذلك.

سابين ملكيور بونيه: تمنح النساء أنفسهنّ الشعور بالفرح بمجرد هروبهنَّ من أنظار الرجال، في غرفة الغسيل، أو في السوق، أو في ورش العمل، أو في صالونات أحادية الجنس، «يطلقنَ سراحهنّ». لا يمكن كبح هذا السلوك إلا لفترة قصيرة فقط. عاجلاً أم آجلاً، يستعيد الجسد وضعيته. يُعدُّ الضحك متنفساً في سياق غالباً ما يكون عنيفاً بالنسبة إلى المرأة: عدم الاستقرار الاقتصادي، والزواج الإجباري، والولادة الخطرة.

حتى لو امتثلنَ لما هو متوقّع منهنَّ، لا تنخدع النساء؛ إنهنَّ يعرفنَ عيوب الرجال، والادعاءات الكاذبة، والفجوة بين الخطاب والواقع. يلخص الفيلسوف آلان الأمر جيداً: «هناك انتقام جميل في الضحك من الاحترام الذي لم يكن مستحقاً».

 

إذاً يُعدُّ الضحك مثالاً واضحاً للشفافية؟

سابين ملكيور بونيه: نعم، لكنْ هناك ضحك وضحك. يمكنك السخرية من الآخرين بروح شريرة، لتحقيرهم، أو لطرد الخداع وعدم التعلق بالأوهام. هذه هي فضيلة الضحك المحرّرة التي تحتفي بها فرجينيا وولف في مقالٍ رائع في صحيفة الغارديان عام 1905، قيمة الضحك. وتقول إن الضحك يفتح أعيننا؛ لأنه «يظهر لنا الكائنات كما هي، متخلصةً من رداء الثروة والمكانة الاجتماعية والتعليم».

 

لماذا فضلت النساء، في أغلب الأحيان، السخرية؟

سابين ملكيور بونيه: لطالما كان جعل الناس يضحكون من اختصاص الذكور. لذلك اختارت النساء هذا الضحك في الخفاء؛ هذا الضحك المخفي تحت عباءة هي قوة الضعفاء، هرباً من العقوبة.

تطالب كوليت وفرجينيا وولف بضحكة منقذة للحياة، كما تقولين، ضحكة يجب الظفر بها، تستمدّ جذورها من الطفولة

سابين ملكيور بونيه: نعم، تدرك كوليت تماماً التحريم الذي فُرض على النساء. يتوجب عليهنَّ إعادة الاتصال بهذه «الجنة المفقودة» من الطفولة. علاوة على ذلك، تتخلى العديد من بطلات رواياتها عن الزواج والأمومة، وينجحنَ في ذلك: ضحكهنَّ الذي لا ينضب هو الدليل.

حتى في مأساة الحياة، يتحلى هؤلاء الكُتاب بالضحك، مثل مارغريت دوراس، التي تستخدمه لتفخيخ سلطة الذكور، بما في ذلك سلطة الاستعمار. تستخدم أيضاً ناتالي ساروت وياسمينا رضا الضحك بشكل رائع.

 

يُعدُّ الزواج، الذي يُنظر إليه على أنه مثبط للتطلعات الأنثوية، موضوعاً لا ينضب. إن عروض المرأة الواحدة تقلل من الحب الزوجي، ولكنْ أيضاً الأطفال «صارخون أو متعفنون أو كذابون أو جانحون محتملون»

سابين ملكيور بونيه: النقد قاسٍ، لكنّه مبهج! هل يُنظر إلى العزوبة بأعين الحسد بالنسبة إلى هؤلاء النساء المتحررات؟ هذا أمر غير مؤكد. يعترفنَ بأنّ الحرية تعني أحياناً الوحدة. أعتقد أنهنَّ يضعنَ الجمهور في جيوبهنَّ أكثر من الرجال عندما يستهزئنَ من أنفسهنَ. أضع «زوك»في قمة البانثيون الخاص بي. إنّها حياتها التي تقدّمها على خشبة المسرح: إنّها لا تمثل ؛ إنها «هي» الفتاة الصغيرة، أو هذه الشخصيات التي رافقتها في مستشفى الأمراض النفسية. في الآونة الأخيرة، استولت على بلانش جاردين بعرضيها الفكاهة الجريئة وحتىالقمامة.

تلاحظين أنه إذا أخذ الرجال الأمر بصعوبة، موسومين بالتقلب والأنانية وعدم المسؤولية، فإن النساء يدفعنَ أيضاً ثمن ضحك الإناث.

سابين ملكيور بونيه: نعم، سواء كان ذلك في أفواه الفكاهيين، الذين يسمون النساء بالمتكيفات جيداً، أو الاصطناعيات، أو غير الذكيات، أم بريشة كلير بريتشر، على سبيل المثال، التي، في كتبها المصورة، تولت رئاسة النسويات الملتزمات، على الرغم من أنها تشاركهنَّ معركتهنَّ. لكن الضحك الأنثوي يستهدف أيضاً المصير المحتوم للضعفاء، وعبادة الأداء، والأوامر التي يجب على المرء أن يتوافق معها، سواء كان ذكراً أم أنثى.

 

من خلال الضحك، كما تقولين، تمكّنت النساء من التخلي عن «أصولهنّ الموروثة منذ القدم لكن المنفرة: الجمال، الإغواء، الشعور». هل هي ثورة؟

سابين ملكيور بونيه: أعتقد أن اللواتي عملنَ بشدّة قد أحدثنَ بالفعل ثورة ثقافية. لقد فزنَ بالحقّ في اللعب بالكلمات، بطبيعة الحال، ولكن أيضاً بأجسادهنّ، وقبل كلّ شيء، فزن بالشرعية ليقدمنَ العالم بشكلٍ هزليّ من وجهة نظرهنَّ.

«العاقل الذي ركل رأسه»… القلق المختبئ وراء ظهر الهدوء

هو القلق إذاً… الذي يسري بين سطور وربما كلمات هذا الكتاب، القلقُ الحرُّ غير المقيد بمعايير البحث الأكاديمي، أو يمكن أن نجرؤ ونقول إنه القلق المنقول بأمانة عن نقاشات الكتابة والقراءة بعيداً عن أروقة الثقافة، لكن قريباً جداً من القرّاء والكتّاب في أحاديثهم ودردشاتهم التي يمكن أن تكون قد بدأت على فنجان من القهوة الصباحية، أو على طاولة الغداء أو العشاء، أو ربما في زيارة بيتية على همس قطرات المطر وهي تتسلل على زجاج النوافذ، فموضوعات الكتاب، كما يؤكد المؤلف، «مُفكِّرة وليست حاكمة أو قاطعة بنتائج مطلقة. ينقل الفكرة على هيئة جُملٍ تحمل الأسئلة والأجوبة والآراء المختلفة»… «إن هدفه الذي يصبو إليه هو المشاركة في التفكير والآراء»… وهذا هو ما نلمسه في هذا الكتاب.

-1-

من جملة عابرة في إحدى قراءاته لإحدى الروايات «خطّ شاربه فوق شفته العليا» يثير المؤلف موضوعات القسم الأول من الكتاب، لكنها -وإن كانت عابرة- فجّرت لديه أسئلة القلق الكبرى لكاتبٍ وقارئ مثله ولغيره ممن يشاركونه هاجسي الكتابة والقراءة:  «كيف تم تكوين القارئ؟ ما الكتابة الإبداعية؟ كيف يتمكن الكاتب من صناعة عالمه؟ كيف تتم تلك العملية تبعاً لملكة الكاتب الساحرة، التي تدفع القارئ إلى الغوص في أعماق النص؟ ما مدى قدرة الكاتب في منح القارئ فرصة اكتشاف تفاصيل الإبداع؟»، ليتوقف عند محطّات النقد والذائقة، دون فرض قواعد خاصة، إنه يتجول بين عوالم القرّاء والكتّاب ويدوّن ملاحظاته، يريد الاقتراب أكثر من عالم القراءة والكتابة ليرصد الحركة التفاعلية بين القارئ والكاتب، إلى جانب تفاعل القراء في ما بينهم، وبين الكتّاب أيضاً.

وينطلق، على قاعدة الاختلاف، من حوارية مع روائي آخر حول قواعد الكتابة الإبداعية، التي لا تعدو كونها، في نظره، آراء لا تعني بالضرورة طرقاً أساسية للإبداع، فـ«على الروائي أن يوجه دعوة إلى مخيلة القارئ لحضور عالمه». الأمر متروك للقارئ؟

ومن خلال رحلة بحث صديقه التونسي عن الاعتراف به كاتباً، يطرح قضية الشرعية في الكتابة الإبداعية… بمعنى من يمنح النص الإبداعي شرعيته؟ ومن يمنح الروائي أو القاص أو الكاتب عموماً شرعية كونه روائياً أو كاتباً؟

هذا السؤال يؤدي به إلى قضية أخطر هي قضية الذائقة، فنجد أنفسنا أمام عدة أنواع للذائقة: الذائقة الاسفنجية، الذائقة الفطرية، الذائقة المعرفية، الذائقة العادية، الذائقة الخاصة…

إن المسألة لا تعدو أن تكون «محاولة بعضهم بناء مدارس للكتابة الإبداعية، وهم أقل بكثير من أن يؤدوا هذا الدور»… فقبل أن نطلق هذه الأحكام يمكن أن نطرح فكرة «ضرورة تحديد هوية العمل الإبداعي، دون أن ندخل في تفاصيل الأجناس الأدبية»…

لنقرأ الروائية والقاصة الأمريكية جنيفر إيغان. ماذا قالت عن عملها الذي حمل عنوان (زيارة من زمرة البلهاء)، والذي ترفض أن تصنّفه: «إنه لأمر مخيف أن تسكب الوقت والجهد في مشروع ليس له هوية أدبية واضحة، وبذلك يمكن أن يسقط بين الشقوق».

لكن، في المقابل، هل يمكن لنا الكتابة ومن ثم النشر تبعاً لرغبات القارئ، التي دفعت بأحد الناشرين إلى أن قرر طباعة كتاب محولاً هويته من موضوعات إلى جنس أدبي مرغوب فيه ألا وهو الرواية»… ماذا عن ما نجده اليوم مما يسمى «أدب الحثالة»، الأمر الذي  يدخل النص في اللا نوع؟

من جديد، الأمر متروك للقارئ، لكن أيّ قارئ؟ القارئ الذي يسعى دائماً إلى الرقي بمستوى الثقافة، أو كما قال نيتشه: «أجدني أتصوره (القارئ) على هيئة وحش شجاع شديد الفضول، كما أتخيله على هيئة مغامر ومكتشف بالفطرة، فهو شخص يتسم بالحذر والمكر والمرونة واللين…».

ولأنه ينطلق من قلقه ومن حريته، ولأن «العالم لم ولن ينحصر في أفكارنا فحسب، فهو أوسع بكثير من أن نبقيه على اتجاه فكر معين»، يوجه المؤلف نصيحته: «عزيزي الكاتب، وعزيزي القارئ أيضاً… لا يمكن للكاتب أن يهرب من النقد بحجة اختلاف الذائقة. هذا ما أراه من بعض الكتّاب، الذين يعانون من البحث عن مكانة تناسب نرجسيتهم في الوسط الثقافي».

وبالحرية ذاتها، بعيداً عن رقابة القيود الأكاديمية، يطرح ثنائية الإبداع والمال… يقول شوبنهاور: «فمحنة الأدب في هذه الأيام مرجعها أن كل من أعوزه المال يستطيع أن يجلس إلى مكتبه ويدبج شيئاً يبيعه، ما دام الناس في غفلة وبغباء يشترون كل ما يُطبع…». هل علينا أن نسلم بذلك؟

مهلاً، تطرح الكاتبة والروائية مارغريت أتوود القضية فتقول: «يجد الكاتب نفسه محشوراً بين مطرقة الفن وسندان اضطراره إلى أن يدفع إيجار المنزل. فهل يجب أن يكتب الكاتب من أجل المال؟ وإذا لم يكتب من أجل المال فمن أجل ماذا؟»، وتتابع مارغريت: «تطاردنا مثل هذه الكوابيس في لحظات يقظتنا، ناهيك عن لحظات نومنا، فنبدو مقيدين بالسلاسل إلى مكاتبنا… دون اعتبار لميولنا أو لمدى جودة هذه الأعمال، فنصبح عبيداً للقلم، ويا لها من معاناة شديدة».

يؤكد المؤلف كلامها، ويضيف: «ربما الأسوأ من ذلك أن نكون عبيداً للمال والشهرة من خلال القلم، وهذا ما وجدته في كتّاب المسلسلات» مثلاً.

وماذا عن الاهتمام بحياة الكاتب بعيداً عن كتبه ذاتها…؟ يقول: شوبنهاور: «ما هو أدعى للضحك، من اهتماماتهم في مجال الشعر؛ إذ ينصرفون عن العمل الفني إلى استقصاء الأحداث التي مرت بالشاعر، ومتابعة ظروف حياته. وهكذا إن الناس بدلاً من أن يمتعوا النفس بقراءة أشعار جوته يفضلون أن يقرؤوا ما كُتِب عن جوته…».

وماذا عن قواعد النشر والتسويق…؟ تقول مارغريت: «حتى لو تجنبنا توقيع صكوك الدين، بقي أمامنا العديد من العقبات؛ فهناك، على سبيل المثال، نظام النشر، الذي يخضع على نحو متزايد لعائد الربح».

وماذا عن موضة ورش العمل للتدريب على الكتابة؟

قد نوافق على هذه الورش بضوابط، كما يخلص المؤلف، لكن، كما يرى تولستوي، «الفن هو الإحساس الخاص الذي يعاني منه الفنان… كيف يمكن تعليم ذلك في المدارس؟».

«تشيخوف بدأ حياته الأدبية بالكتابة من أجل المال لإعالة أسرته التي أضناها الفقر. فهل يشينه ذلك؟… تشارلز ديكنز بمجرد عمله في الكتابة ترك عمله اليومي وعاش بالقلم. جين أوستن وإميلي برونتي لم يستطيعا ذلك، مع أن المزيد من المال لم يكن ليضيرهما. ومع ذلك لا يمكن القول إن أياً من هؤلاء يفوق الآخر قدراً، أو يقل عنه بسبب المال وحده».

يعود القلق ليستفز حامله -وهو المؤلف هنا- فيرمي بسؤال من الأسئلة الكبرى من جديد: ماذا بعد القراءة؟، فتأتي الإجابات لافتة ومفاجئة أحياناً: «القراءة… لا ترميني في مأزق الخجل والجهل حينما أُسأل عن أيّ معلومة أو حين خوض أيّ نقاش»… آخر: «القراءة تجعلني أحسن التصرف أثناء خوضي تجربة في الحياة». آخر: «لا أخفيك أنها مصدر السعادة بالنسبة إليّ، هي اللجوء في الوحدة والفراغ»…

ليخلص المؤلف إلى: «ما أراه أنا ليس بالضرورة أن يراه الآخر…»، فبعيداً عن المثاليّات التي لا يمكن تحقيقها، وعن التوهّم. إن ثمة «دوافع خاصة ينتفع منها الكاتب على المستوى الشخصي، وهذا لا يعيبه من وجهة نظر الكثيرين في شيء».

يحكي ماركيز: «صرّح فوكنر ذاته يوماً بأنه بعد كتبه الخمسة الأولى، وجد نفسه مضطراً إلى كتابة رواية إثارة؛ لأن الروايات السابقة لم تؤمن له من النقود ما يكفي لإطعام أسرته».

أفلا يركل العاقل رأسه بعد كل هذا؟

ومع ذلك، ما الذي يفعله القراء، ولا سيما في ضوء هذا العالم الافتراضي الذي خلقه الإنترنت؟

يجيبنا هارولد بلوم: «عليهم، بدرجة ما، اتباع غريزتهم، لكنّ هذا يقود في هذه الأيام إلى أنواع شتى من المشاكل، فالمرء ليس سعيداً بـ35 مليون نسخة من كتاب (Harry Potter)… أعتقد أن هذه ليست قراءة».

حسناً لم تُحسم المسألة، وكذلك أمر الذائقة، فـ«لا يوجد من النقاد والمهتمين في الشأن الأدبي والمعرفي مَن خرج بنتيجة واضحة حول ماهية الذائقة».

عدنا إلى الأسئلة الكبرى، ليس لمجرد الاستمتاع بطرح الأسئلة، بل لتأكيد أن الإبداع لا يمكن أن يخضع لشروط وقوانين: ما الجيد؟ وما الرديء؟

في حوارات أفلاطون، قال فايدروس: «ليس من الضروري لمن يُعِدّ نفسه لكي يكون خطيباً أن يعلم حقيقة العدالة، بل حسبه أن يعرف آراء الجمهور الذي سيكون له الحكم في موضوعه… فالمظهر لا الحقيقة هو مبدأ الاقتناع».

من جديد الأمر متروك للجمهور.

وعوداً إلى الذائقة، يؤكد المؤلف أنها في أصلها تكوين متغير… «تختلف من شخص إلى آخر… ومن زمان إلى آخر؛ فالمستحسن في الماضي ليس بالضرورة أن يكون مستحسناً في الحاضر… ومن مكان إلى آخر؛ فالقصيدة التي تصف أمجاد البحّارة لن تروق بمعناها وصورها لأهل البوادي، والعكس صحيح»… ومن لغة إلى أخرى، فماذا عن إمكانية عدم تذوق الأعمال الأجنبية… وفي حالة الترجمة قد تنقص الترجمة من مكامن الجمال فيها».

ويضرب المؤلف من جديد، في العمق هذه المرة، وفي الذائقة المعرفية… «وجه نجيب محفوظ سؤاله إلى طه حسين حول رأيه في ظاهرة انتشار القصة الفلسفية، فيجيب طه حسين: «… إنما القصة الفلسفية التي أوافقك على إنكارها هي بعض القصص التي تظهر الآن، وخصوصاً في فرنسا مثل قصص كامو… وناتالي ساروت… هو نوع من الإفلاس، لأن الأدب الفرنسي الآن معرض لأزمة، فهذا نوع من الثرثرة في غير فائدة».

أدب كامو إفلاس وثرثرة؟! أدب ساروت إفلاس وثرثرة؟!

يعطي المؤلف ناتالي فرصة الدفاع: «هل الرواية فن؟ وإذا كانت كذلك، أفليس هدفها هو إحداث هزة تؤدي إلى تغيير في شعور القارئ؟ هذا التغيير أليس في تلقي كلّ ما هو جديد وحيّ؟ فإذا تطلب هذا الجديد الحي عناصر كانت مختفية أو مجهولة أو بعيدة عن المواقف الأخلاقية، فهل يفضل عندئذٍ عدم تقديمها على الإطلاق؟ إن مهمة الفن التجديد والتجدد باستمرار، بصرف النظر عن الاهتمام بالمغزى أو بالحكمة أو بأي شيء آخر…».

-2-

كما انطلق المؤلف في القسم الأول من جملة عابرة، ينطلق في القسم الثاني من كتابه من جملةٍ، لكنها ليست عابرة، بل إنها في الصميم: ما الذي فعلته الأجيال لي؟

يقول أوسكار وايلد: «لماذا ينبغي عليّ أن أكتب من أجل الأجيال المقبلة؟ ما الذي فعلته الأجيال لي؟»، مثيراً (المؤلف) كعادته قضية كبرى هي قضية خلود الإبداع/المبدع:

إن عملية الكتابة،يراها أوسكار، تبادلية أو منفعية… يرى أوسكار وايلد أنّ رواج كتبه هي الخطوة التي تعينه على الاستمرار في حياته برضا، لتوافر المال، أما ما يقدمه للأجيال فلن ينفعه في حياته. ولهذا إن فكرة الخلود ليست سامية إلى هذا الحد عند الكثيرين، لكن عند اتساع الرقعة بين المجتمعات، أيضاً، لن يكون الإبداع إبداعاً إن لم يعترف به الآخر. الأمر متروك للقارئ من جديد.

تتفجر الأسئلة من جديد: هل يمكن عزل الكاتب عن إبداعه؟ هل للفضيلة علاقة بالخلود؟ القيم الأخلاقية؟

المفارقة، والشرط الإنساني القاسي، أن الخير تم تخليده، والشر كذلك تم تخليده، فكما أن أوسكار وايلد خُلِّد وخُلدت أعماله، كذلك هتلر خُلِّد وخلدت أعماله؟

لا تبتهجوا كثيراً، فالفضيلة ليست عاملاً أساسياً للخلود.

يتوهم بعض القرّاء ضرورة أنّ الكاتب، على وجه الخصوص، لابد له من أن يكون مثالياً، فاعلاً للخير، كاملاً، فاضلاً، مثالاً خالداً للاحترام والذوق الرفيع، وما يذكره في كتبه بالضرورة يعكس حقيقته…

يرى أنتوني ترولوب، الكاتب والروائي البريطاني، بإيمان قوي، أنّه ينبغي للروائي أن يُعلّم الناس الفضيلة من خلال رواياته، وفي رأي الكاتب الفرنسي، جورج ديهاميل، للكاتب وظيفة اجتماعية…

إذا ما أردنا أن نسلم بهذه المقدسات، فهل يمكننا أن نفصل محمود درويش عن إبداعاته، رغم الفوضى والشبهات في سيرته، التي قد تتخللها علاقته باغتيال ناجي العلي؟ ويطرح آخرون -هذه حقيقة وإن كانت صادمة- نزار قباني وثيمة الجنس في قصائده…

بهذه الحرية وهذا القلق يثير المؤلف هذه القضايا وغيرها في كتابه، لكنه يؤكد، في النهاية، أننا في عالم الإبداع لا يمكن أن نتجاهل فكرة أن «الأصالة تمنح قوة الصمود على البقاء، الأصالة التي هي الابتكار الذي يلامس جميع الأذواق». أما المفتاح الآخر فهو «أن يكون العمل الإبداعي مفتوح التأويل».

قد يركل العاقل رأسه، لكن مستقبل الحقيقة ضعيف جداً إن لم يتمكن أحد من تحمل ثقلها والعمل على إثبات وجودها.

السبيل إلى تعزيز إنتاجيتك الكتابية: خطة أنتوني ترولوب الاستراتيجية لكتابة ما يربو على خمسةٍ وأربعين كتاباً

السبيل إلى تعزيز إنتاجيتك الكتابية: خطة أنتوني ترولوب الاستراتيجية لكتابة ما يربو على خمسةٍ وأربعين كتاباً

بقلم: نيكول بيانكي

ترجمة: زينب بني سعد

قد يكون من الصعب علينا -نحن الكتّاب- أن نجد الوقت للكتابة أصلاً، ولكن عندما نتمكن أخيراً من إيجاد تلك السويعاتالثمينة، من المحبط للغاية ألّا نتمكّن من التركيز على كتابتنا.

 كان ترولوب أحد أنجح الروائيين في العصر الفيكتوري. وقد اكتشف روتيناً يومياً للكتابة مكّنه من إصدار الكتب بسرعة مثيرةللدهشة؛ فعلى مدى خمسة وثلاثين عاماً كتب سبعاً وأربعين رواية، فضلاً عن العديد من القصص القصيرة والكتب غيرالروائية والمسرحيات.

والأدهى من ذلك أنه أنجز أعماله الأدبية كلّها أثناء عملهِ مفتشَ مكتب البريد؛ إذ تطلبت منه وظيفته أن يسافر كثيراً، وأن يتعايش مع جدول أعمالٍ مزدحم، وهذا يعني أنه، عندما كان يجلس للكتابة، كان عليهِ أن يتأكّد له أنه يحقق  هدفه اليومي في عدد الكلمات. إذاً، كيف فعل ذلك؟ تابعوا القراءة لتكتشفوا استراتيجية ترولوب الفريدة!

 

روتين أنتوني ترولوب اليوميّ للكتابة

بادئ ذي بدء، كان على ترولوب أن يخصص عدة ساعات من الوقت للكتابة. وبسبب الساعات الطويلة، التي يتطلبها عمله، أدرك أنه لن يتمكّن من إيجاد وقت للكتابة إلا قبل أن يتوجّه إلى عمله.

ذكر إدوارد نيوتن، في كتابهِ (The Trollope Society)، أنّ: «ترولوب كتب لمدة ثلاث ساعات كلّ صباح من الخامسة إلىالثامنة صباحاً، ثم يتوجه إلى العمل، وأنه كان يدفع لخادم خمس جنيهات إضافية في السنة لإيقاظه بفنجان من القهوة».

وفي سيرته الذاتية، ذكر ترولوب «أنّ ذلك الخادم لم يتأخر قط، ولو مرة واحدة، في إيقاظي وفي  يده فنجان من القهوةوأعرف أني مدينٌ له، أكثر من أي شخص آخر، بالنجاح الذي حقّقتهفما إن تحلّ تلك الساعة المبكرة منالصباح، حتى يتسنّى لي إكمال مهمتي الأدبية قبل أن أرتدي ملابسي لتناول الإفطار».

 يقسم الكثير من الكتّاب بالاستيقاظ في الصباح الباكر والبدء في الكتابة قبل أيّ شيء آخر في  جدول يومهم المزدحم، وقد لاينجح هذا مع الجميع، لكنّ ما فعله ترولوب، بعد ذلك، أمرٌ  يستطيع أيّ كاتب أن يتبناه في روتينه اليومي.

استراتيجية الكتابة الموقوتة

حرص ترولوب على عدم إضاعة أيٍّ من هذه الساعات الثمينة الثلاث. أراد أن يضمن أنه  سيكتب باستمرار حتى لا يُبدد الوقت «وهو يقضم قلمه، ويحدق في الحائط أمامه، إلى أن يعثر  على الكلمات التي يريد التعبير بها عن أفكاره»!، وحلهِ لهذه المشكلة كانت ساعة جيب!

 في البداية، كان يقرأ مخطوطته قرابة نصف ساعة. يقول ترولوب:

«في تلك المرحلة، أصبح من عادتي، ولا يزال كذلك، وإن كنت في الآونة الأخيرة متساهلاً قليلاً مع نفسي، أن أكتب وساعتي أمامي، وأن أطلب من نفسي 250 كلمة كلّ ربع ساعة، ثم أدركتُ أن  الـ 250 كلمة تغدو في متناول يدي بشكل منتظم كماكانت ساعتي…».

وعليهِ، كانت جلسات الكتابة الموقوتة، التي حافظ عليها ترولوب، هي المفتاح لإنتاجه الوافر.

يضيف ترولوب: «أتاح لي هذا التقسيم للوقت كتابةَ أكثر من عشر صفحات من مجلد روائيّ  عاديّ في اليوم، ولو استمر ذلك لمدة عشرة أشهر، لكان من نتائجه ثلاث روايات من ثلاثة مجلدات في كل عام».

ما سبب نجاح استراتيجية ترولوب في الكتابة الموقوتة؟

كانت استراتيجية ترولوب في الكتابة الموقوتة فعالةً جداً؛ لأنه التزم بتجنيب نفسه كلَّ ما يشتت الانتباه خلال تلك الفترة الزمنية،وأجبر نفسه على التركيز على دقات ساعة التوقيت فحسب.  وهذا يعني عدم فعلهِ عدة أشياء في الوقت نفسه إطلاقاً؛ ففي عالمنا هذا، أصبح فعل عدة أشياء في الوقت نفسه شيئاً لا بأس فيه في حياتنا اليومية؛ حيث يصعب التخلص من تلك العادة؛ إذبينما نكتب، قد نتوقّف كلّ بضع دقائق تقريباً للتحقق من رسالة نصية على هاتفنا، أو إشعار  من فيسبوك، أو إنستاغرام.

 مع أن أدمغتنا لا تستطيع التركيز على عدد من المهمات في الوقت نفسه، وبدلاً من ذلك، على  الدماغ أن يتسارع لتحويل بؤرةتركيزه في كلّ مرة نبدأ فيها بفعل شيء مختلف! وعندما نقوم بمهمات متعددة أثناء العمل على مقال، أو أيّ نوع من مشاريعالكتابة، هذا يعني أن أدمغتنا تملك مسألة ثوانٍ فقط للانتقال ذهاباً وإياباً عندما نتحقّق من  الفيسبوك، ثم نكتبُ بضعة أسطر،ثم نتحقق بسرعة من بريدنا الإلكتروني، ونعود لنكتب بضعة أسطر أخرى، ثم نتحقق من رسائلنا النصية، وبعدها نعود إلىمشروع الكتابة. وبحسب مقالة في صحيفة وول ستريت جورنال:

«يستغرق استئناف المهمة، بعد مقاطعتها، أكثر من خمس وعشرين دقيقة كمعدل»، والأسوأ من ذلك «يستغرق الأمر خمس عشرة دقيقة إضافية لاستعادة التركيز المكثف نفسه، أو الاسترسال في الكتابة، كما كان قبل الانقطاع»؛ أي أربعين دقيقة كاملة، ناهيك عن المقاطعات المتعددة.

 بطبيعة الحال، لم يضطر ترولوب الى التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الخلوية، ولكن لا شكّ في أنه كانت هناك إغراءات مماثلة في أيامه يمكن أن تلهيه بسهولة عن مهماتهِ الكتابية. ولكن بوضع ساعته أمامه، تحدّى نفسه بألا يكسر تدفّق عملهالمكثف.

كيف بإمكاننا تطبيق استراتيجية الكتابة الموقوتة باستخدام «تقنية البندورة أو تقنية پومودورو» بالإيطالية؟ 

ليس كلّ واحد منّا لديه ثلاث ساعات في اليوم بوسعه تخصيصها للكتابة، ولن نتمكن جميعاً من تحديد وقت في الصباحللكتابة. ورغم ذلك، إنّ الكتابة الموقوتة هي استراتيجية  بسيطة وسهلة يمكن لأيّ كاتب توظيفها. في تلك الأيام، التي أدركتُ فيها أنني أواجه صعوبة في  التركيز على مشروعي، استخدمتُ أسلوباً مماثلاً لاستراتيجية ترولوب تُدعى «تقنية البندورة أو  تقنيةپومودورو»، وهي طريقة طورها طالبٌ جامعيّ إيطاليّ يدعى فرانشيسكو سيريلو في الثمانينيات؛ إذ كان مشتتاً خلال فترةدرسه على الدوام، وأخذ يبحث عن شيء يساعدهُ على التركيز.

استخدم سيريلو مؤقِّتاً على شكل ثمرة بندورة لتنظيم وإدارة وقته، وهي تعتمد مدداً زمنية متفرقة من ٢٥ دقيقة. وهكذا وُلِدتْ تقنية پومودورو، وپومودورو هي الكلمة الإيطالية لصلصة الطماطم.

إنَّ خمساً وعشرين دقيقة وقتٌ مثاليّ يقضيه المرء في الكتابة، ليس بالوقت القصير جداً ولا الطويل جداً، ثم بوسع المرء أن يحصل على بضع دقائق للتحقق من الفيسبوك، أو البريد الإلكتروني، أو لأخذ استراحة من الكمبيوتر، وتناول وجبة خفيفة! تلكالانقطاعات تتيح لدماغ المرء بعض الوقت لإعادة تنشيطهِ، وتبقيه مع التيار في الوقت نفسه.

سواء كنتَ تستخدم تقنية پومودورو أم طريقة أقلّ انتظاماً كاستراتيجية ترولوب، إنّ الكتابة  الموقوتة هي واحدة من أفضلالطرق للتغلب على المماطلة، وإنهاء مسألة تعدّد المهمات، والوصول إلى الهدف اليومي لعدد  الكلمات؛ إذ أدرك ترولوب أنه لم يكن في حوزته سوى وقت محدود للكتابة! كانت ساعاته ثمينة، وكان عليهِ استغلالها بحكمة. فالكتابة في وقت مضبوط ومحدد تساعدنا على الاستفادة من ساعاتنا بأفضل طريقة ممكنة، ووضع روتين يوميّ للكتابة.

وكما يقول ترولوب: «إنَّ إنجاز مهمة يومية بسيطة -شريطة أن تبقى مهمةً يوميةً بالفعل- من شأنها أن تتغلّب على أعمال عظيمالروم هرقل اللانظامي!»، ومن تأنّى نال ما تمنى.

الكراهية والسياسة والقانون … وجهات نظر نقدية حول مكافحة الكراهية

أصبحت الكراهية منبوذاً سياسياً في الديمقراطيات الليبرالية. وسواء تمّ التعبير عنها بالكلام، أم جرى تطبيقها في سلوكٍ إجرامي يومي، أم نُظِر إليها على أنها وقود للإرهاب والتطرف، تُعدُّ الكراهيةُ رذيلةً وشراً وتهديداً. في الخطاب العام، تُنسب الكراهية عادةً إلى الآخر (مجرمين، أعداء، غرباء، إرهابيين)، والصرخةُ ضد «الكراهية» تعني دعوة إلى العمل: إحصاءات جديدة أو تفصيلية أكثر، بنود قانونية للتجريم أو لتعزيز العقوبة، تدريب للشرطة والدفاع عن حقوق الإنسان. على كل حال، إنّ نتيجةَ التحريض الفعال ضدّ تهديد الكراهية المتصوَّر يعني التعبئة والتحشيد، و، في كثير من الأحيان، يعني بسط سلطة الدولة. يبدو أن الكثيرَ من العمل الأكاديمي حول الكراهية يشترك في الافتراض الأساسي أنّ الكراهيةَ سيئةٌ، وأن العالمَ سيكون مكاناً أفضل من دونها. لكننا نحن نشكّ في أنّ كل الكراهية سيئة، ونصرّ على أن محاربة الكراهية تحتاج إلى تمحيصٍ نقدي. هذه هي الفكرة الأساسية وراء كتابنا الكراهية والسياسة والقانون: تصوراتٌ نقدية حول مكافحة الكراهية، الذي صدر من مطبعة جامعة أكسفورد في 2018. كان هدفنا توسيع النظرة العلمية لكيلا تشتمل على الكراهية فحسب، بل على محاربة الكراهية أيضاً. وهذا يعني بدء استكشافٍ نقديٍّ ومناقشةٍ نقدية للافتراضات، والمُثلِ العليا، وجداولِ الأعمال الأساسية وراء المكافحة الحديثة للكراهية: ما الافتراضات المعيارية، والجذور الأيديولوجية، والوعود، والحدود، و-ليس أقلها-النقاط العمياء، في الحرب الحديثة على الكراهية؟ متى أصبحت محاربةُ الكراهية مشروعةً، ولماذا؟ ما الذي نقصده عندما نقوم بتأطير عملٍ ما، أو تعبيرٍ ما، فنقول إنه ينضح بالكراهية؟ كيف يرتبط الاستخدامُ الحديث والعام لمصطلح «الكراهية» بالتاريخ الأطول والأوسع لمفهوم الكراهية؟ ما الذي يكون على المحكّ في العلاقة الصعبة بين الكراهية والديمقراطية الليبرالية؟ تحقيقاً لهذه الغاية، يفتح الكتاب أربع مساحات للاستكشاف.

منظور تاريخي

لم تكن الكراهية دائماً شراً تجب محاربته، ولم تكن الكراهية والديمقراطية دائماً على خلاف إحداهما مع الأخرى. في الكتاب، يشرح باحث اليونانية واللاتينية القديمة، ديفيد كونستان (David Konstan)، كيف أنه في أثينا الديمقراطية القديمة، وفي روما الجمهورية، عُدَّت أشكالٌ محدّدةٌ من الكراهية ملائِمةً اجتماعياً ومرتبطةً بعداوةٍ شرعية، وليس بمرض اجتماعي. العاطفةُ، التي كانت تُعدُّ دافعاً للنزاع الاجتماعي المثير للمشكلات هي الحسد (الفثونوس phthonos)، وليست الكراهية (ميسوس misos). قد يكون الفهم الكلاسيكي للحسد مثيراً للاهتمام ليس لأغراض المقارنة التاريخية فحسب؛ بل أيضاً لفهمنا اليوم لجرائم الكراهية أو التحيّز. إن النظر عن كثب في الحسد يشجّعنا على أن نتعامل بجدّية أكبر مع مشاعر الظلم أو الخزي أو الإذلال، التي قد تكون عاملاً في العديد من جرائم الكراهية. بالتركيز على تاريخ تصنيف فئة «الكراهية» في ديمقراطياتنا الحديثة، يوضح عالم السياسة إريك بليش (Erik Bleich) أن التركيزَ السياسي والقانوني الحالي على الكراهية هو، إلى حد كبير، نتاجُ تراكمٍ تدريجي لقوانين وسياسات محددة ناشئة عن المخاوف من العنصريةعلى مدى أكثر من 50 عاماً. يشير هذا المسار إلى أنّ العنصرية –بغض النظر- لا تزال هي المثال للكراهية، وهذا يؤدي باستمرار إلى بناء فهم الجمهور للكراهية على أنّها نوعٌ محدّد من الشر.

تكوين فكرة عن الكراهية

ما المعرفة حول الكراهية، التي يحتاج إليها الأشخاص المنخرطون في مكافحة الكراهية؟ على قدر المستطاع يمكن للمرء أن يقدر تقديراً، وإلا فكيف سنحاربها؟ لكنّ معظم الدراسات حول جرائم الكراهية وخطاب الكراهية لا تبدو مهتمّةً كثيراً بالتفكير المفاهيمي المتعمِّق والمفصَّل. ربما يتعيّن على المرء أن يحتمل الإرجاعَ والإحالةَ إلى «الكراهية» في الخطاب العام والسياسي. قد يُمنح خطابُ الكراهية منحاً لأجل ضمانِ انتباه وسائل الإعلام، ولأجل إقامةِ تحالفات سياسية بين جهاتٍ فاعلة ومنظماتٍ لن تكون مترابطة من دونه. لكن وفقاً للعديد من العلماء، إن ما هو على المحكّ في مكافحة خطاب الكراهية وجرائم الكراهية ليس الكراهية «بعينها»، بل هو تلك الهيكليات من تحيزٍ وترتيبٍ هرميّ للسلطة غير مشروع، وتمييزٍ عنصري. ومن ثَمَّ، يدعو بعض العلماء إلى تغيير المصطلحات واستخدام تعبيرات مثل: خطابِ تشهيرٍ وتلويثٍ للسمعة، أو جريمةِ تحيز. هذا الرفض لاستخدام مصطلح الكراهية، باعتباره غير ملائم، يخدم غرضاً مهماً هو لفت الانتباه إلى التضمين البنيوي لخطاب الكراهية وجريمة الكراهية، وأن هذا التضمين هو السبب في جعلهما طبيعيَّيْن، وجعل طابعهما يتفشى في جهاز النظام. ورغم ذلك، إن صرف النظر عموماً عن وجوب التفكير بتوسعٍ بشأن الكراهية فيه تسرّع كبير للغاية. يعيد الفيلسوف توماس برودهولم (Thomas Brudholm) النظرَ في كتابات أفلاطون وأرسطو، موضحاً أنّ هناك إرثاً طويلاً من عَدِّ أشكالٍ معينة من الكراهية تحيزاً أو متلازمةً مرضية، وأيضاً من النظرِ إلى الكراهية (وربما ما زال بالإمكان رؤيتها هكذا) على أنها استجابةٌ عاطفيةٌ عادية تجاه شرٍّ متصوَّر تتجاوب مع أسبابٍ، وتقبل الضبطَ طالما لا ينقاد الأشخاص الكارهون، دائماً أو حتمياً، لاستهلاك أنفسهم بكراهيتهم هذه. تحلل عالمةُ النفس نيزا ياناي (Niza Yanay) الكراهيةَ على أنها مجموعة معقدة ومتناقضة للغاية من تشوق ورفض، واشمئزاز ورغبة، وهذه المجموعة تعمل على مكافحة الكراهية من داخل نزعات ورهاب المصالح ومن تحتها. ومن هنا تبرز الحاجة إلى فهم أعمق لازدواجية الكراهية، وعلاقتها الدقيقة المعقدة بالحب، لإيجاد استجابةٍ ضد الكراهية تكون دقيقةً بما فيه الكفاية في الديمقراطيات الليبرالية. أخيراً، يوضح الباحث القانوني إريك هاينز (Eric Heinze) كيف تظهر الكراهية بوصفها مفهوماً قانونياًفي خضم محاولةٍ تستهدف أشكالاً من مواقف عدائية غير مشروعة لا يمكن استيعابها داخل إطار قانون مكافحة التمييز العنصري. ورغم ذلك، إن استهداف مثل هذه المواقف، من خلال قوانين للخطاب، يضع الدولةَ الديمقراطية الليبرالية على خلافٍ مع التزامها بتجنب الإجراءات العقابية لوجهات النظر. وهكذا، الدولة تسير دائماً على حبل مشدود في سعيها لتنظيم المواقف قانونياً.

الاستجابات ضد الكراهية

يتعرض الناس، في جميع أنحاء العالم، للعنف والتخويف بسبب وضعهم أو انتمائهم إلى مجموعات معينة، ومثل هذا الأمر كان يجري على مرّ العصور، لكنَّ ما يميّز الخوفَ الحديث من الكراهية ليس العنفَ أو المضايقة في حد ذاتيهما، بل تفسيرُ العنف على أنه نوع محدّد من المشكلات الاجتماعية، وإدخالُ مجموعةٍ متنوعة من الاستجابات القانونية والسياسية لحلّها. ما نسميه الاستجابات على الكراهية (التجريم، وتعزيز العقوبة، ومقابلات الضحية والجاني، واستطلاعات الضحايا، والحملات العامة، والتعليم… إلخ) هو عملُ كلٍّ من الدول والجهات الفاعلة غير الحكومية. في كلتا الحالتين، ردودُ الفعل هذه على الكراهية مرتبطةٌ، بشكل معقد، بقيم ومبادئ المجتمع المستجيب. وعلى هذا النحو، تخبرنا هذه الاستجابات شيئاً مهماً عن الأسس المعيارية للديمقراطيات الليبرالية؛ مثلاً، ما يتعلق بالعدالة الجنائية، والتسامح، والمساواة، والحريات الأساسية. من الواضح أن إحدى الاستجابات البارزة كان التجريم والعقاب، لكنْ هل التجريم هو الحلّ المناسب، وإذا كان الأمر كذلك فهل العقوبات المشددة هي أفضل الطرق؟ يسعى فصلان (من تأليف الفلاسفة إيه آر داف (A R Duff)، وإس إي مارشال (S E Marshall) والعالِم المتخصّص في الجريمة مارك والترز (Mark Walters)) إلى سدّ الفجوة الحاسمة بين تأكيد ظلم الكراهية من جهة، والاندفاع إلى التجريم والمعاقبة من جهة أخرى؛ وهي فجوة غالباً ما يتمّ تجاهلها، أو الارتجال في معالجتها في الخطابات الحالية المناهضة للكراهية. من الواضح أنّ هناك أيضاً استجابات أخرى ضدّ الكراهية سوى الآليات القانونية للمساءلة الجنائية الفردية. تطرح عالمةُ الاجتماع بيرجيت شيبلرن جوهانسين (Birgitte S. Johansen) مشكلة حكمة ترويج التسامح (كفضيلة ليبرالية كلاسيكية) بوصفه ترياقاً مضاداً للكراهية، وتطرح المنظِّرة السياسية ميهايلا ميهاي (Mihaela Mihai) حجةَ مزايا الفن لدى العمل على التصرفات الجمعية الظاهرة والعدائية بلا تبصّر.

الكراهيات الديمقراطية

أخيراً، كان طموحنا مع الكتب هو أيضاً سبر النقاط العمياء محتملة الوجود في قانون وسياسة مكافحة الكراهية الحالية. وبالتحديد، من خلال التساؤل عمّا إنْ كان هناك وجود لشيءٍ مثل كراهيةٍ ديمقراطيةٍ ليبرالية، وإنْ كان الأمر كذلك فكيف يتبدّى؟ يجيب مؤرخ الأفكار ميكيل ثورب  (Mikkel Thorup)عن هذا السؤال من الناحية المفاهيمية، من خلال التحقيق في القواعد النحوية المختلفة للعداوة الناشئة عن الديمقراطية بوصفها نظاماً سياسياً يستبدل بالكراهية مثالياً عدمَ التوافق، ويستبدل بالعدو المنافسَ، ويستبدل بالعنف التصويتَ والاقتراعَ. الفكرةُ، التي تكوّن مفهوم الذات الديمقراطية، هي أن العنفَ هو الشرُّ، الذي قد تنقذنا الديمقراطية منه، وأنّ العنفَ موجودٌ في هذا العالم بسبب الآخرين غير الديمقراطيين والمليئين بالكراهية فحسب. يجيب فصلٌ آخر عن السؤال تجريبياً، من خلال استقصاءِ ما إذا كانت الدول الديمقراطية الليبرالية ترتكب، في واقع الأمر، ما تزعم أنها تحاربه بوصفه «كراهية». تجادل الباحثة القانونية كاثرين أبرامز  (Kathryn Abrams)بأن هذا، في الواقع، ما تفعله ولاية أريزونا بالضبط في ظلّ نظام «إنفاذ القانون عن طريق الاستنزاف» المنتشر ضدّ المهاجرين، الذين ليس لديهم وثائق شرعية. تُظهر القضية كيف يمكن لملامح محددة من كراهية الدولة أن تصبح قانونيةً بسهولة عندما لا يتمّ اعتبار الأفراد أعضاءَ في النظام السياسي، وعندما تتدثر الكراهية بخطاب المخاوف بدلاً من العدائية.

لقد أصبح تبنّي روحِ مناهضةِ الكراهية، ومواجهةِ خطاب الكراهية وجرائم الكراهية، طرقاً تحدِّد بها الدولُ الليبرالية والديمقراطية أعداءها، وتُعرّف عن هوية نفسها. ورغم ذلك، إن محاربة الكراهية ليست واضحة بلا لبس، ولا تمر من دون تكلفة. فكما أشار الباحث القانوني روبرت بوست (Robert Post)، في ملخصه الختامي، إن التحشيد لمفهوم الكراهية، باعتباره المنظار الذي تُعالَج وفق رؤيته قضايا مثل التحيز والتمييز العنصري، يُحتمل أن يفتح باباً لإقصاء الجناة المرتكبين: «باسم التسامح، يجري تحريم وإقصاء المذنبين بارتكاب جرائم الكراهية؛ نضعهم خارج دائرة “الحوار الممكن”. إن خلق جرائم الكراهية لا يطهر المجتمع من الكراهية، بل، بدلاً من ذلك، يعيد توجيهَ كراهيةٍ ديمقراطيةٍ نحو مرتكبي جرائم الكراهية». هل نحن، في قتالنا للكراهية، نخاطر بإقصاءٍ مليء بالكراهية للآخرين المكروهين من وسطنا؟ لا يقدم الكتابُ إجابةً عن هذا السؤال الصعب، لكننا نأملُ دعوةَ وإثارةَ النقاش حول العلاقات الصعبة بين الكراهية والسياسة والقانون.

المكتبة المظلمة .. حان وقت القراءة السعيدة

المكتبة المظلمة .. حان وقت القراءة السعيدة

بقلم إريك لوريت

إذاً، ما المشكلة؟ ما الخطب بالضبط؟ اختفاء الأدب والشعراء والكتب والقُرّاء والنقد…؟ من المؤكّد أنه ليس وليدَ اللحظة أنّ أنطوان كومبانيون (Antoine Compagnon)، تحدّث عن ذلك حينما قدّم درسه الافتتاحي «الأدب، من أجل ماذا؟» في المعهد الفرنسي (Collège de France)، لكنْ تمّ تزويد عام التحرير 2017-2018، بشكلٍ خاص، بكتبٍ تعالج مخاوف وصعوبات الكُتّاب في مواجهة انخفاض المبيعات، أو الخطابات الموجّهة ضدّ النصوص المتخلّفة «عاطفياً» (أي التي تدّعي «الأدب») التي تلحّ على طرح قضيّة ما هو حقيقيٌّ في الفن.

أَهي كبوة بسيطة أم تغيير عميق في النموذج الأدبي؟ كما أشرنا مسبقاً، سيكون هناك ملفٌّ للتحدّث عن هذا القلق، الذي يتشاركه العديد من الكُتاب؛ كقصة نويمي لوفيبفر(Noémi Lefebvre) شاعرية الاستخدام، وكتاب فريديريك سيريز (Frédéric Ciriez) عن النقد كتاب بيتي، ومجلدي تاريخ الأدب الحديث لأوليفيه كاديو (Olivier Cadiot) الصادرين عامي (2016 و2017)، ومقالة إصلاح العالم بقلم ألكسندر جيفين(Alexandre Gefen)  التي تأتي بمنزلة تشخيص للحالة. يُضاف إلى هذه القائمة كتابان من تأليف سيريل مارتينيز(Cyrille Martinez) ، أحدهما الشاعر الفظ وقصص أخرى الذي نُشر في كانون الأول/ديسمبر الماضي، والآخر قصة المكتبة المظلمة في الربيع. القصتان مرتبطتان ارتباطاً وثيقاً كجانبين للمشكلة نفسها باطني وخارجي؛ حيث تعالج الأولى قضية الكتابة، والثانية قضية القراءة.

قصة الشاعر الفظ تبدو نظريّة أكثر قليلاً، حيث تندرج، لحسن الحظ، ضمن هذا النوع: الحكاية، التي يذكرها كريستوف هانا(Christophe Hanna)  في المقدمة؛ حيث تمتلك «الأهمية المعرفية الأساسية […] في الكشف لنا عن أشكال التفاعل الاجتماعي والتواطؤ والتشابك المؤسسي الجديد نسبياً». قصة المكتبة المظلمة، وهي حكاية خيالية ومضحكة، تتخيّل مستقبل الكتاب (غير المؤكد)، وتستحقّ تقييماً لعرضها دراسةً اجتماعية لمرتادي المكتبة، أو التاريخ المرير للمكتبة الوطنية فرانسوا ميتيران، ولرأيها حول العلاقة بالقراءة في عصر الثورة الرقمية.

في هذا العمل الأخير، يقدم مارتينيز، وهو نفسه أمين مكتبة، كتاباً شاباً في حالة غضب (هذا عنوانه) لا يجد قارئاً. إنه ليس أفضل حالاً ولا أسوأ من الكتب التي يقتنيها القراء، لكنّه ضحية لما يسمّى، منذ فترة طويلة، «التناوب السريع». هناك مقابلة مع ديلوز (Deleuze) حول هذا الموضوع بعنوان«الشفعاء»(1985) ، صدرت في مجلة نقاشات؛ حيث يشير الفيلسوف إلى أنّ «بيكيت وكافكا المستقبل لا يشبهان تماماً بيكيت وكافكا الحقيقيين، فهما يخاطران بعدم العثور على ناشر ما، دون أن يلاحظ أحد ذلك بطبيعة الحال». كتابنا الشاب الغاضب يؤمن بالشيء نفسه: من خلال الاعتقاد بأنّ الروايات الأكثر قراءة هي بالضرورة الأفضل، نخاطر بعزل «الكتب الشابة […] بعيداً عن قرائها المحتملين»؛ لأن من الخطأ القول إنّ السوق هو منافسة حرة ينتج عنها الأفضل. منطق هؤلاء المتعصبين، على العكس من ذلك، يبدو سادياً: نظراً إلى أن التجارة الحرة تدمّر السلع، وتضع بدلاً منها سلعاً أخرى في القمة، كما يبرهنون، لنساعدها من خلال طرح المزيد ممّا يباع بالفعل بكثرة، وعدم الحديث عما يقلّ بيعه. لا يوجد شيء أقل حرية من هذه الليبرالية.

يندرج الخصم الآخر للكتاب الشاب الغاضب تحت كلّ ما هو رقمي. مثل جميع زملائه في المكتبة، ترهبه فكرة الرقمية. لا يعني ذلك أنه لا يحبّ الأجهزة اللوحية، أو القارئات الرقمية، لكنه يعتقد أن «طرق القراءة تختلف وفقاً للوسائل؛ لذلك من الضروري أن تتعايش وسائل القراءة المختلفة دون أن يكون بينها منافسة». يصف مارتينيز لبطله، بروح الدعابة، رقمنةَ قُراء المكتبة أنفسهم، الذين سرعان ما سيطلق عليهم «المستخدمون» و«المقيمون»؛ في الواقع، لم يعودوا يستعيرون الكتب، بل ما يهمهم فحسب جودة اتصال الواي فاي (Wi-Fi). في الجزء الثالث من القصة، يصبح الأمر أسوأ من ذلك؛ لأنه تتم إزالة ذكر كلمة «المكتبة» من المباني «بحجة أنها قد تكون مخيفة وتمييزية»: «تعدُّ القراءة شيئاً مخزياً، وهو أمر مؤلم نود التخلص منه لمصلحة المحتوى الذي يتطلب جهداً أقل».

حول هذه النقطة، يضم سيريل مارتينيز وجهة نظره إلى تشخيص ألكسندر جيفين في اقتراح نموذج «علاجي» جديد للأدب، لكنه يختلف في تشخيص المرض: «نريد مكتبة توفر لنا إمكانية زيادة قدراتنا الفكرية وقدرتنا على الإغواء، وتعبئتنا من أجل قضايا نبيلة، والوصول إلى الثروة، والحصول على معدات حاسوبية فعالة ورخيصة». التكملة تعكس ما خلص إليه سيريز من أن علاقات فكرية جديدة ترتسم في العالم: «نحن نحلم بأننا كُتاب ومحررون ومحاورون ووسطاء ونقاد فنّ وأفضل الأصدقاء لآلاف الأفراد. نحن بحاجة إلى مكتبة تمنحنا الأدوات التي نحتاج إليها للسيطرة على حياتنا».

بطبيعة الحال، كلّ هذا صحيح وخاطئ في الوقت نفسه. من المؤكد أننا لم نعد نقرأ الكثير من الورق، ونفضل التصفّح على الشبكات الاجتماعية. لكنّ القارئ، الذي يشغل مقعداً في المكتبة، دون استعارة الكتب، ليس جديداً تماماً (أعدْ قراءة هورتنس الجميلة لجاك روبو (Jacques Roubaud. من المؤكد أن هناك طلباً على كتب التربية والخير والكتب غير المؤذية التي تواسينا، ولكن ما الجديد في هذا؟ لو كنّا متوهمين تماماً، فسيبدو أن طلب الأغلبية موجود الآن في القراءات المريحة؛ وأن «النظام الجمالي» للأدب كان جافاً جداً، ولو أُجبر المرء على قراءة كلود سيمون(Claude Simon) من خلال المازوخية البحتة، بينما سيفضل المرء في الواقع غي دي كار (Guy des Cars. هناك العديد من علماء الموسيقا، الذين يبرهنون أنه لا يمكنك توقع أيّ شيء لدى شوينبيرغ (Schoenberg)، ومن ثَمَّ لا متعة في ذلك. باستثناء، كما يقول فرويد (Freud)، أنه حتى أسوأ العصابيين يجب أن يجد ضالته في معاناته، وإلا فسيتوقف (نسخة ليوتاردLyotard : المتعة الحديثة هي متعة تضرّ قليلاً). لطالما قرأنا أو استمعنا إلى الموسيقا بغرض المتعة أو العزاء، لطالما كان هناك استخدام علاجي للفن: لكنه اعتُبِر متداولاً فقط بقدر ما كان منبثقاً عن تطويرٍ ما. ربما ما يكون جديداً هو أن وسائل الإعلام والجامعة خفضت مجموعة «الكتب التي حققت نجاحاً كبيراً»، كما يقول مارتينيز، كممثلين لما بعد التاريخ الأدبي، فهي تضفي الشرعية على المتعة، التي تم الحصول عليها دون إثبات واضح للذات. لكن يوماً ما سيقع «الكتاب الشاب الغاضب» في يد قارئ جديد، وينتزعه من «الوقت المثمر» الذي يُدان به، ويعيد إليه طعم «القراءة السعيدة» والاشمئزاز من «الكتاب الذي يفعل الخير».

ورغم ذلك، يجب الاعتراف بأن هذه المتعة، التي تمّ الحصول عليها دون إثبات، وغسيل الدماغ هذا في أفق البشرية، يبدو أنهما يتجلّيان في الحكاية الخرافية. في قصة الشاعر الفظ، يكشف مارتينيز، في النهاية، هذا الخيال المأساوي والكارثي، لكن، سابقاً، في «شاعر شاب من مرسيليا» و«مؤدي»،يروي التدمير البشري لاقتصاد الكتاب من خلال سلسلة من الحكايات المروعة. يتعلق الأمر هنا بالشعر، لكن يمكننا استبداله بالأدب «الصعب» أو «المتطلب» أو «الهش» أو «غير المربح». نظراً إلى عدم وجود المزيد من القُراء الذين يُقرّون بأنّ القراءة من دون أيّ جمهور (توجب على المستمعة الوحيدة، في مهرجان الشعراء، مغادرة الغرفة بسبب تسرب في المبنى)، والناس الذين يطلبون منك النصوص دون الدفع لك، والآخرين الذين ينشرون أعمالك، لكنّهم يطلبون منك شراء المجلة التي تظهر فيها… «إنها قاعدة يجب الاعتراف بها لكي نفهم الشعر المعاصر: معظم قراء الشعر هم أنفسهم شعراء، وهناك شيء آخر يجب معرفته هو أن الشعراء غالباً ما يكونون ناشرين ومراجعي كتابة ومبرمجين»؛ لذلك نصادففي هذه الحلقة المغلقة شعراء في أحسن الأحوال يجهلون بعضهم البعض، ويسرقون أفكار بعضهم البعض بشكل عام، ويقتلون بعضهم البعض في أسوأ الأحوال، ولكنْ نصادف، أيضاً، الشخص الذي يأتي للترويج لنفسه في جنازة زميل له، والشخص الذي لا يقسم إلا «بالشعر التجريبي»، والشخص الذي يمتلك «إحساساً قوياً بالفشل»، وبشكل عام أولئك الذين قرروا التوقف عن الكتابة. هنا، مرة أخرى، يميل المرء إلى الاعتقاد بأن لا شيء جديداً تحت الشمس منذ قصيدة «الساعة الواحدة صباحاً» لبودلير .(Baudelair)

يصف مارتينيز المسار المثالي لأحد هؤلاء الشعراء الذين تخلّوا عن القضية. «لقد كانت تُخصّص مبالغ الحد الأدنى للدخل من أجل القراءات الشعرية، التي كانت تتقاضى أجرها بشكل جيّد ومنتظم. وعلى الرغم من أنّه كان من الصعب الحصول على القليل من المال في مدينة مثل باريس، كانت واحدةً من أفضل المدن أجراً بالنسبة إلى الشعراء». ورغم ذلك، لا تزال الشابة قلقة، معتقدةً أنه يتمّ نشر أعمالها من منطلق الالتزام الاجتماعي فحسب وليس لأهميتها. تتمثّل الحكاية، كما يقول هانا، في أنها دائماً مسألة «مواقف مؤسسية». في الواقع، ليس عليها أن تعتمد على المبيعات: لا يوجد في الشعر مفهوم الأكثر مبيعاً. يحاول الراوي إقناعها فيخبرها أنها حتى لو تم اختيارها بالتزكية تُعدُّ، على الأقل، جديرةً بالاهتمام. في أحد الأيام، غادرت باريس واختفت. يكتب إليها، ويسأل عن أخبارها: «بعد ثلاثة أيام أرسلت إجابتها: لقد أوقفتُ كلَّ نشاطٍ فنيٍّ، وفي الوقت نفسه وضعتُ حداً لشبكة العلاقات المرتبطة به… أتمنى لك ولعائلتك حياة سعيدة».

إنّ هذا الغياب الصريح والمثبط للقُرّاء هو، بالأحرى، تغيُّرٌ في مجموع القُرّاء. إننا، بطبيعة الحال، نبيع عدداً أقلّ وأقلّ من الصحف والكتب (وحتى عدداً أقلّ من كتب الشعر)، لكنّنا، ربما، لم نقرأ أبداً ما يكفي من التغريدات والمنشورات والقصص على الشبكات الاجتماعية. والأفضل من ذلك، ربما، أننا لم نكتب كثيراً ونشكّل صوراً من دون أي تصريح؛ أي كلّ حالة للمؤلف، كما هو الحال في العصر الرقمي. ربما لن يُحلَّ أيُّ تفاوت بهذه الطريقة ولن تتحسّن الديمقراطية، لكن لا يمكنك القول إن الكتابة أو القراءة قد ماتت. عندما يقول مارتينيز: «نحن نحلم بالكُتاب والمحررين والمحاورين والوسطاء ونقاد الفن» هذا صحيح. لا، بل نحن هذا كله. والنتيجة الطبيعية هي أننا لم نعد نهدف إلى العالمية، ولا إلى الأشمل، بل نهدف فحسب إلى نكون «أفضل أصدقاء لآلاف الأفراد»؛ أي أصدقاء لمجتمع متابعينا. يمكننا أن نستنتج أنّ ألكسندر جيفين كان مخطئاً عندما رسم نموذجاً «علاجياً» لما هو في الواقع «ركن مناسب» أضخم بالتأكيد من عشاق شوينبرغ، لكنّه لا يزال ركناً مناسباً لما يسمّيه مارتينيز «التنوع البيولوجي» لممارسات القراءة.

يمكننا القول مرة أخرى: إنّ الشاعرة، التي لم تعد تريد الكتابة، مخطئة؛ لأنّها لا تعرف شيئاً عن المتابعين الذين يمكن أن تمتلك، والجمهور الذي يمكنه التجمّع والالتفاف مؤقتاً حول نصوصها (عوضاً عن عملها). الكتاب الشاب الغاضب مخطئ في الاعتقاد بأنّ المكتبة سوداء، وسيريل مارتينيز محقّ في اقتباس الشاعر الفظ مثالاً هؤلاء الشعراء السعداء، الذين يعيشون في ما بينهم في إحدى القرى: «لقد تجاهلوا المراجعات النقدية القادمة من الصحافة الوطنية. لم يهتموا بأرقام المبيعات. كل ما كانوا يهتمون به هو قراءتهم من قبل العائلة والأصدقاء والجيران والأصدقاء والزملاء، وأيّ شيء آخر كان دون معنى. لم يأبهوا بالاعتراف الرمزي أو المالي. لم يفكروا في الأمر حتى. تختتم المرأة، أمام خمسة كتاب باريسيين، بحثاً عن النجاح والمجد: تخيلوا أنّهم كانوا سعداء جداً بهذا». فلتعلموا أنّ هؤلاء الكُتّاب يمكن أن يكونوا المستقبل؛ لأن «القراءة السعيدة» التالية، الرقمية أو المطبوعة، لن تكون مجرد «روائع أدبية»، بل ستكون ممارسة محلية ومحدّدة، أو لن تكون كذلك أبداً.

«ضحك النساء»… تفكيك سلطة الذكر واستعادة المهمّش الأنثوي حضوره المُقصى

ثق بي إذا قلت لك إن هناك الكثير من الأشياء التي يمكن أن تكون رأيتها أو سمعتها أو قرأت عنها، لكن الكتاب الذي يستولي على شغفك ويمسك بك ويأسرك هو ما يقدّم لك ما رأيت وما سمعت وما قرأت عنه كما لم ترَ ولم تسمع ولم تقرأ… هذا هو كتاب «ضحك النساء»، الذي تقرأه وفي الخلفية موسيقا كلِّ الدراسات المضادة المتمرّدة التي رفعت شعار تفكيك السائد والمهيمن والسلطوي واستعادة المُقصَى والمهمَّش… فالنصوص المهيمنة والسائدة والسلطوية، على كل حال، تحمل في كلماتها بذور تفكيكها، فإذا كان إدوارد سعيد قد استطاع أن يهز أركان عرش الاستشراق، وأن يسقط تماثيل معبوداته المرمّمة، وأن يعري ثقافة الغرب الإمبريالية الروائية والسينمائية والموسيقية، وإذا استطاع ميشيل فوكو أن يسقط سلطة صناعة السجون ومستشفيات الأمراض العقلية الخفية، وإذ استطاع جاك دريدا أن يسقط المركز الذي لا يكون مركزاً بلا هوامش، نقرأ سابين مليكيور بونيه وهي تسقط عرش الذكر من خلال سرد قصة صراع النساء المهمَّشات والمقصيّات في استعادة سلطتهنّ على الضحك؛ ضحك النساء، في عرض تاريخي شيّق وغزير ومتخم بأناقة البحث والعرض والتحليل والنقد… إنه كما يقول الفيلسوف آلان: «انتقام جميلٌ من الاحترام الذي لم يكن مستحقاً».

تاريخياً وكعادته لم يطلب النصّ الذكوري تغطية جسد المرأة فحسب، بل أراد تغطية عقلها، فبعناوين مثل اللباقة، وقواعد المحادثة الجدية والمحترمة، والأخلاق، أراد النص الذكوري للمرأة أن تكون قلباً نقياً وجسداً صامتاً، بعيداً عن الإغواء الذي يفجره الضحك بقوته الجنسية التدميرية، فللمرأة فموان فمها الذي تتحدث به وتضحك وفم رحمها، وقد اجتهد الرجال تاريخياً كثيراً ليؤكدوا أن الفم الأول يستحضر الفم الثاني، وأن اهتزاز الأول بالضحك يؤدي إلى اهتزاز الثاني.

منذ أرسطو وأريستوفانس وكلاسيكيات الأدب والأسطورة، إلى النصوص المقدسة، إلى فرجينيا وولف، وكوليت، ومارجريت دوراس، وناتالي ساروت، إلى عروض النساء الكوميدية اليوم، خاضت المرأة رحلة طويلة لاستعادة سلطتها على حريتها، وضحكها، وجسدها، لتكون امرأة ضاحكة ومضحكة، جميلة وربما شريرة، لا مبالية وربما سخيفة، لكنها ملكة منتقمة من كلّ ما حرمها حريتها باسم الاحترام الذي يسمح لها بأن تبتسم فحسب بدافع الرقة والتسلية، أو تبتسم، كما وُصفت ابتسامة الموناليزا الغامضة والمغلقة، ابتسامةً تكون «أفضل تعبير عن الانسجام الداخلي».

تقدم الباحثة والمؤرخة في الكوليج دو فرانس سابين ملكيور بونيه لنا قصة رحلة النساء هذه في استعادة ذواتهن وحريتهن بعد تاريخ طويل من الإقصاء والتهميش، واستعادة قدرتهن على الضحك وقدرتهن على إضحاك الناس، ورفض احتواء لغة أجسادهنّ باسم الجمال الأنثوي ونعومته تارةً وباسم الأدب والاحتشام تارة أخرى، لكن إذا كانت هذه الدراسة تطلق اليوم صوت المهمَّش والمقصَى، فإنها تؤكد أيضاً أن النساء على مر التاريخ لم يرضخنَ يوماً لتلك الكراسات الإكراهية، فقد كنّ يضحكن رغم كل شيء في الأرياف والمدن، في الأحياء الفقيرة والراقية، لكن متوارياتٍ عن أنظار الذكور، في الحمامات، وفي مخادعهن، وفي الأسواق، وفي الصالونات الأرستقراطية، وأحياناً في البلاط، متجاوزات قوانين الطبقية، حيث في المجتمع الراقي النبيلاتُ يتواطأن في الضحك مع الخادمات، حتى إنهن كسرن في ما بعد جدران الجليد بما يتمتعنَ به من محادثات مرحة وممتعة مع الرجال المتسللين إلى جلساتهنّ، لينتقل من ثَمَّ الضحكُ إلى كتاباتهنّ الممتلئة بالسخرية والاستهزاء من سلطة الذكر متحرراتٍ من صنميّة المرأة المشتهاة، كما نقرأ روايات كريستين دو بيزان ومارغريت دي نافار، ثمّ يظهرن في الكوميديات الساخرة الإيطالية والفرنسية يضحكن ويسخرن من الرجال والزواج، إلى أن يعلنّ ثورتهنَ فيصعدن مع بدايات القرن العشرين المسارح يرقصنَ في قاعات الموسيقا بفساتينهن القصيرة المضحكة.

هذا السرد التاريخي لقصة ضحك النساء لم يكتفِ برصد الحوارية الجدلية بين الذكر والأنثى، بل امتد ليرصد الأحداث الكبرى التي أثرت في الضحك صعوداً وانحداراً، حركةً وجموداً، فالثورة الفرنسية، بعد عقودٍ ازدهر فيها الضحك في المسارح والملاهي وحفلات المقاهي، أدت إلى جموده وانحداره، حيث ساد العمل الجاد كما سادت البرجوازية ومن ثم أحاديث السياسة والأعمال، فاختفت البهجة مع اعتزال الرجال وعزل النساء عن الجلسات المختلطة.

وكما كشف إدوارد سعيد تورط روايات جين أوستن وجوزيف كونراد كولونيالياً في «الثقافة والإمبريالية» تكشف هنا سابين تورط روايات بلزاك وزولا  في إقصاء النساء وتهميشهن، ولا سيما أولئك الجريئات اللواتي يرغبن في إظهار براعتهنّ، لكن النساء حتى لو أظهرنَ أنهن امتثلنَ لما هو متوقّع منهنَّ، كنّ دوماً نساء لا ينخدعنَ؛ إنهنَّ يعرفنَ جيداً عيوب الرجال، كما يلمسنَ بحدسهنّ الأنثوي الادعاءات الكاذبة، والفجوة بين استيهام الخطاب و صدق الواقع.

لقد نجحت النساء، في النهاية، في تحدي قدرتهنّ على الضحك وإضحاك الناس، ونزع وصمة العار عن ضحكهنّ، وفي تحدي احتكاره من قبل الرجال بوصفه ترفيهاً لهم وعزاءً لحزنهم، بل إن إحدى نقاط القوة العظيمة لضحك النساء هي أنهن تَمكنَّ من تجسيد الاستهزاء الذاتي. لقد سخرنَ من أنفسهنَّ، معترفاتٍ بعيوبهنَّ، كانتظار الأمير الفاتن على حصانه الأبيض، والسعي وراء السعادة بأيّ ثمن، ومكانة الأمّهات ضمن العائلة، وعمل النساء… إن ضحك النساء حقيقةً يؤكّد شفافيتهن أمام جدية الرجل الفارغة وغموضه وانخداعه وتعلّقه بالأوهام؛ إنّه الضحك الذي، كما تقول فرجينيا وولف، «يظهر الكائنات كما هي، خالعةً رداء الثروة والمكانة الاجتماعية والتعليم»؛ إنه الضحك الذي ينقذ الحياة، الضحك الذي يجب أن نظفر به، الضحك الذي يستمدّ جذوره من الطفولة ببراءتها ونقائها؛ إنه ضحك النساء الذي يقدم العالم بشكل هزلي من وجهة نظرهنّ.

أختم بقول ميلان كونديرا الذي اختتمت به سابين كتابها: «ليست أفضل القصص الساخرة تلك التي تجعلك تضحك أكثر، بل تلك التي تكشف آفاقاً جديدة». قد لا يجعلنا هذا الكتاب نضحك كثيراً لكنه لا شك يكشف لنا آفاقاً جديدة.

دوناتيين شخصية معقدة بمشاعر إنسانية

دوناتيين هي قصة عروس وأمّ شابة بريتانية ذهبت إلى المدينة للعمل مربيةً بغية مساعدة زوجها وأطفالها مالياً؛ منغمسة في دوّامة محادثات الخادمات الأخريات، بسبب عدم أخلاقيتهنّ، وتائهة بسبب الترف والمال المُكتسب بسهولة، تنسى ذويها، وتصبح عشيقةً لخادم مستهتر. غادر زوجها بؤسَ مزرعته، وهو تائهٌ على الطرقات مع أطفاله الثلاثة، وينتهي به الأمر بالفشل في منطقة الأوفيرن؛ حيث صار عاملاً في مقلع…

 دوناتيين هي شخصية معقدة، تحمل مشاعر إنسانية للغاية، ولها نقاط ضعفها وشجاعتها. مرت هذه الشخصية بدورة حياة متقلّبة: الرغبة في الفرار من تقوقع الريف وبؤسه، والانبهار بالمدينة وترفها، ونسيان وازدراء أصلها وقيمها، والفشل، والتعاسة، والندم، والوحدة، والتشكيك، ثمّ القرار، وأخيراً لمّ شمل عائلتها وثقافتها.

يمثل غطاء الرأس المميّز لمنطقة البريتاني رمزاً لانتمائها الثقافي، تخلعه أمام سخرية الرفاق لدى وصولها إلى باريس، وتعيده عندما تلتقي ذويها. تحاول هذه الرواية، على الرغم من أخلاقيّتها، أن تصف، مثل الروايات الخاصة بالكُتّاب الطبيعيين، الحالةَ الاجتماعية للخادمات، وأماكن سكنهنّ، ومكاتب التوظيف، لكنها تتناول، أيضاً، أعماق دوناتيين ونفسيتها، ولا سيما تعقيدات سعيها.

يتمثل السقوط والخلاص في شخصية واحدة كشخصيات مادلين وماري، ويمنحها ثراءً يبعدها عن الصورة الكاريكاتورية.

رينيه بازان هو روائي وأكاديمي فرنسي وُلد في 26 كانون الأول/ديسمبر 1853 في أنجيه. توفي في 19 تموز/يوليو 1932 في باريس.

بعد الدراسة في باريس وأنجيه، أصبح رينيه فرانسوا نيكولا ماري بازين أستاذاً للقانون في جامعة أنجيه الكاثوليكية. عرف، طوال حياته، كيف يبقى قريباً من سكان الريف ونشاطاتهم. تصوّر أعماله المبكرة حياة الفلاحين من وجهة نظر مثالية للغاية. فتحت له رحلاته إلى إسبانيا وإيطاليا، التي بدأت في عام 1893، آفاقاً جديدة، واكتسب إحساساً بعالمية موضوعات الفلاحين، التي أعطت المزيد من القوة لرواياته اللاحقة. تعالج رواية الأرض التي تموت (1899)، بشكل مؤثر، موضوع التخلي عن الأرض والهجرة، من خلال عائلة يهرب شبابها الواحد تلو الآخر من بؤس موطنهم الأم لافندي، بحثاً عن فرص أخرى في المدينة، أو حتى في أمريكا. تعالج رواية عائلة أوبرلي (1901) قضية ضم الألزاس واللورين من قبل ألمانيا، من خلال رسم صراعات الولاء التي تقسم هذه العائلة. حقّق الكتاب نجاحاً كبيراً، وبفضله استحقّ رينيه بازين دخول الأكاديمية الفرنسية في عام 1903. تروي دوناتيين (1903) ترحال زوجين شابين من منطقة البريتاني. بغية إعالة عائلتها، تذهب الأم الشابة، دوناتيين، للعمل في المدينة، وتقع في فجور حياة المدينة. بعد أن فقد مزرعته، يتحول الزوج إلى حياة بائسة لعامل متجول، ينتقل من مزرعة إلى مزرعة يجرّ أطفاله خلفه. بعد سنوات، تلتقي دوناتيين، الملطّخة، بعائلتها، وتتولى زمام الأمور، وكأن شيئاً لم يحدث، وتتابع حياتها بوصفها زوجة مزارع. يصف في روايته القمح ينمو (1907) فساد قاطعي الأشجار تحت تأثير النقابات العمالية.

وهكذا يصور رينيه بازين، في رواياته، الحياة الريفية في أعماق فرنسا، ويعبر، بلغة بسيطة، لكن أنيقة، عن حبه للطبيعة والقيم الأصيلة، مثل: العمل، ولاسيما العمل في الأرض. على الرغم من أنّ أعماله قد أصبحت الآن في طيّ النسيان، إلا أنه لا يزال أحد أبرز الكُتاب الممثلين لعصره، في الحركة الروحية للمؤلفين الكاثوليك، بمن فيهم موريس باريه، وجورج برنانوس، وفرانسوا مورياك.

«نسوية للجميع»… عندما تلامِسكم وتغيّر حياتَكم سترون أنّ النسوية للجميع

النسوية… هذا هو الموضعُ الذي تتوقف عندهُ الأسئلة، ويسود الصمت، ثم تبدأ الهمسات هنا وهناك: النسويات «سيئات»… كيف «يكرهن» الرجال؟ كيف يتعارضنَ مع الطبيعة والله؟ كلهنَّ «سحاقيَّات»… إنهنَّ يحظينَ بجميع الوظائف، ويجعلن من العالم صعباً على الرجال.

تحت ضغط هذا الصمت وهذا الفهم، تقدّم بيل هوكس في هذا الكتاب صوتاً عاطفياً آخر يتحدّث نيابة عن السياسة النسوية، معلنةً منذ البداية أنّ تقصير النسوية في التعريف بنفسها هو مقتلها؛ لذلك تطلق هنا صرخةً تريد لها أن تقتحم اللوحات الإعلانية؛ والإعلانات في المجلات، والإعلانات على الحافلات ومترو الأنفاق والقطارات؛ والإعلانات التلفزيونية؛ صرخةً تسمح للعالم بمعرفة المزيد عن الحركةِ النسوية. إنّها ترى الوعدَ والأمل متجسِّدينِ في الحركة النسوية. وهذان هما الوعد والأمل اللذين تريد أن تشاركهما مع قرائها ومع الجميع في هذا الكتاب؛ الوعد والأمل في عالم مجرَّدٍ من كلِّ هيمنةٍ؛ حيث الرُّؤية التَّشاركيَّة هي الروح التي تشكّل تفاعلنا.

لكنّ هذه النِّسويَّةُ أين تقفُ اليوم؛ إذ تفقدُ السِّياسات النِّسويَّةُ زخمها؛ لأنَّ الحركة النِّسويَّة فقدت التَّعريفات الواضحة. قد يكون لدينا تعريفات لكنّ علينا «تعديلها وتشريحها والبداية من جديد؛ فليكن لدينا قمصانٌ وملصقاتٌ ضخمةٌ، وبطاقات بريديَّةٌ، وموسيقا هيب هوب، وقنوات وإذاعات تجاريَّةٌ، وإعلاناتٌ في كلِّ مكانٍ، ولوحاتٌ إعلانيَّة… تعرِّفُ العالمَ على النِّسويَّةِ. يمكننا مشاركة رسالة بسيطة وقوية: إنَّ النسوية هي حركة تهدفُ إلى إنهاء الاضطهاد على أساس الجنس. لنبدأ من هناك. دع الحركة تولدُ من جديد».

لكن التَّوعية بالنسوية لا يجب أن تقف جامدة عند حدود المصطلحات، بل تحتاج إلى تغيير مستمرٍّ للقلب، ففي البداية على التوعية النِّسويَّة الثَّورية أن تشدّد على أهميّة قراءة النِّظام الأبوي بوصفهِ نظامَ هيمنةٍ، على أن ندرك أنّ الرجل، الذي تجرد من امتياز الذكر واعتنق السياسة النسوية، هو رفيق نضال لا يشكّل تهديداً للنسوية، في حين أنّ الأنثى، التي لا تزال متمسكة بالتفكير الجنسي، والسلوك المتسلل إلى الحركة النسوية، تشكل تهديداً خطيراً، لكن، بشكل عام، على النساء ألا ينسين قيمة الأختيَّةِ وقوَّتها؛ إذ «يجب أن ترفع الحركة النسوية المتجددة اللافتة عالياً مرَّةً أخرى لتعلن من جديد «الأختيَّة قوية»».

ثم تنطلق الكاتبة لتقدم عرضاً بأهم وأخطر الإشكاليات التي تشكل تحدياً للنسوية اليوم، ولنا أن نجرؤ على القول إنها باتت اليوم تهدد وجود النسوية، وأولى هذه الإشكاليات التعليم النسويٌّ القائم على الوعيٍ النقدي، فأحد أقوى وأنجح التدخلات للنسوية المعاصرة التَّأسيسُ لأَدبٍ نِسوِيٍّ كان يطالب دوماً باستعادة تاريخ المرأة، لكننا «إذا لم نعمل على إنشاء حركة جماهيرية تقدّم تعليماً نسوياً للجميع، إناثاً وذكوراً، فستتقوض دائماً النظرية والممارسة النسوية بسبب المعلومات السلبية المنتجة في معظم وسائل الإعلام السائدة. المعرفة النسوية للجميع».

الإشكالية الثانية جسد المرأة وذاتها، اللذين يتجسدان في حقوقها الإنجابيَّة، فالحاجة إلى المناقشة المستمرة لمجموعة واسعة من القضايا التي تندرج تحت عنوان الحقوق الإنجابية والتركيز عليها أمر ضروري لحماية حرية النساء والحفاظ عليها.

ولأن الجمال يقترن بالمرأة فليس لأيّ تجديد أو تغيير نِسويٍّ أن يتجاهل مفهومي الجمال الداخليّ والجمال المجرَّد للأنثى، فالتفكير الجنسي حول جسد الأنثى أحد أقوى التدخلات التي قامت بها الحركة النسوية المعاصرة. وأخطر ما يواجه هذه الثيمة النسوية مواصلة السماح للحساسيات الأبوية بالتَّحكُّم في صناعة التجميل في جميع المجالات؛ «إنّ رفض النسوية الصارم لتوق النساء إلى الجمال قد قوض السياسة النسوية. حتى تعود النسويات إلى صناعة التجميل، وتعود إلى الموضة، وتخلق ثورة مستمرة ومستديمة، لن نكون متحرِّرات. لن نعرف كيف نحب أجسادنا كما نحن».

وأحد أقوى تحديات النسوية الصِّراع الطَّبقي النِّسوي داخل النسوية، فالمواجهة تفرض حضورها بقوّة هنا مع النساء، اللواتي يتمتعنَ بسلطة طبقية، إذ يستخدمنَ، بشكلٍ انتهازيّ، برنامجاً نسوياً فيما يحافظن على نظام أبويّ سيعيد إخضاعهنّ في النهاية، فهؤلاء لا يخُنَّ النسوية فحسب؛ بل يخُنَّ أنفسهنَّ.

وبعيداً عن المحلية، وتحت شعار عالميّة النسوية، لا يجب أن نتجاهل قضايا المرأة العالمية مثل: الختان القسري للإناث، ونوادي الجنس في تايلاند، وحجاب النساء في أفريقيا والهند والشرق الأوسط وأوروبا، وقتل الفتيات الصغيرات في الصين، فهذه يجب أن تبقى من الشواغل المهمة؛ لكنّ معالجة هذه القضايا لا تتم إلا بطريقة لا تعيد ترسيخ الإمبريالية الغربية.

أما النِّساء في فضاء العمل، فالاكتفاء الذاتي الاقتصادي للمرأة لا يجب أن يكون هدفها الأساسي. لكن معالجة المحنة الاقتصادية للمرأة قد تكون أيضاً، في نهاية المطاف، المنصة النسوية.

من الطبقية والعمل تنتقل الكاتبة إلى العنصرية، وهذه ليست إشكالية مستجدّة في الفضاء النسوي، فقد مهّدت الحركة النسوية، ولاسيما الناشطات السود اللاتي يحملنَ رؤية، الطريقَ لإعادة النظر في العرق والعنصرية،  لكن يبقى العنفالهاجس الأكبر للمجتمع ككلّ رجالاً ونساء،فالكل يشعر بالقلق إزاء العنف، لكنّ جزءاً من هذا الكل يرفض ربط هذا العنف بالتفكير الأبوي أو الهيمنة الذكورية، وهنا على التفكير النسوي أيضاً أن يجد حلاً.

ربما أكثر المفاهيم، التي تطرحها النسوية وتثبت أنّ النسوية للجميع وليس للنساء فقط، مفهوم الذُّكوريَّة النِّسويَّة، لأن هذا المفهوم يعلمنا كيف نحبّ العدالة والحرية بطرق تعزّز الحياة وتؤكدها. تشكل الذكورية النسوية استراتيجية جديدة من أقوى وأكثر استراتيجيات التفكير النسوي أهمية وحيوية، لكن في التوازي مع هذا المفهوم المركزي  يأتي مفهوم الأبويَّة النِّسويَّة؛ «إن إنهاء الهيمنة الأبوية على الأطفال، من قبل الرجال أو النساء، هو الطريقة الوحيدة لجعل الأسرة مكاناً يمكن أن يكون فيه الأطفال آمنين؛ حيث يمكنهم أن يكونوا أحراراً؛ وحيث يمكنهم معرفة الحب».

لكن قبل ذلك علينا تحرير الزَّواج والأبويَّة، فهيمنة الذكور الأبوية في الزواج والشراكات هي القوة الأساسية، التي تسببت في حالات الانفصال والطلاق في مجتمعنا. فيما تظهر جميع الدراسات الحديثة للزيجات الناجحة أن المساواة بين الجنسين تخلق سياقاً يُرجّح فيه تأكيد كل فرد من الزوجين.

مع ما يترتّب على هذا التحرّر من مخاطر قد يكون أهمها الفهم الخاطئ للسِّياسة الجنسيَّة النِّسويَّة… فإذا كانت السياسة الجنسية النسوية التحررية تؤكد دائماً أن الوكالة الجنسية الأنثوية نقطةً مركزيَّةً، فلا يمكن لهذه الوكالة أن تظهر إلى الوجود عندما تعتقد الإناث أنّ أجسادهن الجنسية يجب أن تقف دائماً في خدمة شيء آخر.

وهنا ننطلق إلى قلب النِّسويَّة، إلى حيث أمانها واستقرارها، إلى الحب الحقيقي، الحب الذي يجمع بين الاعتراف والرعاية والمسؤولية والالتزام والمعرفة، فمع هذا الإدراك يأتي فهم أن الحب لديه القدرة على تغييرنا، ما يمنحنا القوة لمعارضة الهيمنة. «اختيار السياسة النسوية، إذاً، هو اختيار للحب».

تقدم الكاتبة بيل هوكس، في النهاية، رؤية النسوية، مؤكدة الحاجة إلى القيام بجهد جماعي لنشر رسالة النسوية؛ لكي تبدأ الحركة من جديد، بالفرضيّة الأساسية التي مفادها أن «السياسة النسوية هي بالضرورة راديكالية. ولمّا كان ما هو راديكالي غالباً ما يتمّ دفعه تحت الأرض في محيطنا، يجب علينا أن نفعل كل ما في وسعنا لإحضار النسوية فوق الأرض لنشر الكلمة».