حكايات “هدى جعفر” عن الحاجة لامتداد السينما فيما تكتب
حكايات “هدى جعفر” عن الحاجة لامتداد السينما فيما تكتب
بقلم: عبير اليوسفي
في إحدى المقالات التي كتبتها الناقدة السينمائية هدى جعفر، اقتبست جملة جاءت في رواية الإيطالي إيتالو كالفينو: “هل كنت سأكتب جيدًا لو لم أكن موجودًا؟”، لتسقطها على شغفها تجاه الكتابة السينمائية منذ حديثها عن نفسها أرادت هدى أن نقرأها بعيدًا عن محاولات تقييمها بصفتها امرأة يمنية اكتسحت الكتابة عن السينما وترتدي الحجاب الأسود في وقت لم يكن اليمن يهتم بهذه الصناعة، ويفتقر لهذا النوع من الكتابات، ونجحت في ذلك. مؤخرًا، أعلنت عن صدور مجموعتها القصصية، التي حملت عنوان “اليد التي علقت المرآة” عن دار جدل، ويعد هذا الإصدار الأول لها. تأتي المجموعة في سبع قصص قصيرة، تنوّعت في شخوصها وعناصرها ومواضيعها، رغم غلبة المصير المأساوي للشخصيات.
منذ القصة الأولى، وعند المشهد الأول، تلتقط ذاكرة الكاتبة السينمائية، فتأثيرها حاضرٌ في التفاصيل الصغيرة التي تواجدت. تستفتح المجموعة بـ”الباب وأنا وعنايات أبو سنة”، لتشدّ انتباهك نحو الدمية القطنية والسجادة الأصفهانية والمسرح الحاضر بجريمته، التي أفزعت طفلة ذات خمس سنوات، في مشهد كان وقعه مضحكًا على المشاهدين، بينما فتحت السكين المستقرة في منتصف جسد الراقصة البابَ نحو الأسئلة: “هل يكون الحضور عن طريق الغياب؟ أين ذهبت عنايات أبو سنَّة بعد السكِّين التي اخترقَتها؟ من أيِّ باب انسلَّت؟ في أي قصة كانت قبل هذه القصَّة؟ لماذا سمح المشاهدون للضحك بأن يأخذهم بعيدًا عن جثة الجميلة المقتولة؟”.
يظهر اليمن بحقائقه الواقعية ومجتمعه الخانق، في ثلاث حكايات وثلاث مدن مختلفة. الأولى صنعاء في “حديث الساعات” وجبالها فج عطان ونقم، وأحياؤها وبيوتها، وفتاة يمنية ترقص على أنغام أبو بكر سالم وتحاول فهم علاقتها بالزمن غير المستقر حين قادها عملها لمصادفة امرأة مجهولة تطالبها بسرد القصة التي تخصها. ليمتد السرد من نهار صنعاء حتى فجرها وينتهي بتساؤلها عن العلاقة مع الزمن “اليوم الغريب الذي انتهى بقصةٍ عن ساعةٍ قديمةٍ، صنعاء التي ابتلعت ساعتي، أو صنعاء التي ألقمتها ساعتي، أنا وصنعاء، من مِنَّا أوقف ساعة الآخر؟”. ثم تدرك حالما تطأ قدمها خارج المنزل، أن لا شيء سيعود كما كان، فثمة تغير في زمنها، لتقلب تلك الليلة مسار حياتها، وتصبح الساعات المعلقة على الحائط هي الشيء الوحيد الذي يؤكّد حقيقة ما حدث.
على خلاف مدينة صنعاء وزمنها الحاضر، ظهر مجتمع القرية بزمنه القديم في قصة “شعرة على صحن العالم” بمدرجاته الزراعية، وبيوته الحجرية ولهجته البسيطة. استردت الكاتبة واقعية حياة الريف من تفاصيل صغيرة ارتبطت به، ونجحت في تصوير تفاصيل المرأة الريفية التي تعمل في الأرض عبر جليلة “كانت جليلة قوية وجميلة، لها عينان صغيرتان، وأنف أخنس، وفلجة بين الأسنان، وبشرة لم تغيرها الشمس بسبب الكُركم الذي تفرده على وجهها كل يوم، وقد انسابت خصلات شعرها المتعرِّج البُنيِّ من تحت غطاء الرأس”. ومن الشطر الشمالي الذي يقع تحت حكم الأئمة الزيدية، تنتقل البطولة بكل خفة إلى عدن، التي تقع تحت حكم الإنجليز، المنفتحة على مختلف الجنسيات، وشهقة “علي” عند اللقاء الأول: “وعندها رأيتُ الله؛ رأيتُ بحر عدن. وفي تلك اللحظة بالذات من حياتي، في تلك الثانية التي شهدَتْ عيناي الموجات العالية تضربُ الصخور، شعرتُ بيدٍ تكسر كلَّ الأشواك داخلي”.
يختزل السردُ التغيراتِ السياسيةَ والمجتمعية التي شهدتها عدن وحروبها الداخلية وتأزم العيش فيها، ممّا دفع عليًّا للهروب منها، لينتهي مشهده الأخير داخل دكان.
تتلاشى القرية في ذاكرته لتحل عدن مكانها بتفاصيلها التي استوقفته “بنايات نظيفة متجانسة الألوان من خمسة وستة وسبعة طوابق، شوارع عريضة مُعبّدة، دكاكين تبيع كل شيء من البِسباس (الفلفل) الهَرري، وحتى السيارات الأوروبيَّة، شوارع وأزقة يرتدي الناس فيها ملابس مختلفة عن الزقاق المُجاور: فساتين إنجليزية، سواري هنديَّة، فُوطًا يرتديها الرجال حول خواصرهم تزينها مربعات كثيرة، طواقي زنجبارية، بنطلونات من أقمشة سميكة، كعوبًا عالية تدق الشوارع طوال اليوم، ملابس إفريقية فاقعة، دروعًا شفافة تكشف خصور النساء الدقيقة، وشومًا بدويَّة على الجباه والذقون. عدن كانت بلادًا لكل شيء، وأنا كنتُ في قلب هذا الكُلّ”.
لا تغيب السينما عن الذكر، فقد ظهرت في مشهدين ضمن معجزات عدن الكثيرة، وأهمّها “البحر والسينما”؛ الأول عن تجربة “علي” حين دخلها للمرة الأولى، والآخر مشهد بكائه بخيبة أمام سينما “هريكن”. يختزل السردُ التغيرات السياسية والمجتمعية التي شهدتها عدن وحروبها الداخلية وتأزم العيش فيها، مما دفع عليًّا للهروب منها، ينتهي مشهده الأخير داخل دكان، ودون أن يدرك أنّها الليلة المأساوية، يقرر إعداد الزربيان الذي امتهن صنعته في عدن.
في “صلاة مسعود”، تقابلك تعز بعتبة منزل عاقل الحارة، والقطط الخمسة التي تلتهم بقايا الطعام، أربعة رجال يناقشون الحدث المهم، ومسعود أمام المرآة يتساءل: “ما الذي جعل حَلَمة النهد هذه تنبتُ فجأةً على جبينه!”، تتضح لك معالم المدينة بسوق الشنيني والمجلية وشارعها ٢٦ سبتمبر أو شارع الحب الذي يضج بقصة “جبهة مسعود”. وبعد أن سعى في الأرض بحثًا عن علاج لتلك الحلمة البارزة، يقترح الشيخ طه على مسعود أن يغطيها بقطعة قماش، كون “جسد المرأة عورة” وجبينه تتزين بحلمة لأنثى لذا وجب سترها، لكنه يقرر كسب المال عن طريقها بالتقاط الصور معه. يشتهر مسعود بحدثه الغريب، وبين التساؤل إذا ما كانت تلك حلمة رجل أم أنثى، يسيل الحليب ذات يوم ليؤكد أنوثتها، ويجد مسعود نفسه يُلقمها لطفلة ألقيت في القمامة بعد أن جرته العجوز “جمالة”، ثم يأتي الحدث الذي أفزعه ليدرك أنّه الحلمة لم تكن فقط للأطفال المنبوذين، بل للرجال الذين ليس لهم إمكانيات لمس امرأة.
“تعز غافية في إشفاقٍ ككلبٍ ينتظر كرم سيِّده، تعز تأتي بإقدامٍ كسيّدٍ يعرف أنَّ عبيده وكلابه في انتظار كرمِه، المدينة تنظر إلى مسعود من علٍ، مسعود ينظر إلى الأشياءِ من جبينِه لأول مرَّة في عمره الذي تجاوز الأربعين، ما هذه المدينة التي تقتر على كل شيء، لكنَّها تمنح حَلَمة فائضة عن الحاجة؟!”، في اللحظة التي تصالح مع وجودها على جبينه واعتبرها جزءًا منه لا يحتاج إلى التغطية، يختفي ويظل الناسُ يتناقلون مصيره المجهول.
جاءت هذه الحكايات عن حاجة امتداد السينما في كتاباتها، مما جعلها تمتاز في إطعام عملها نصوصًا ذات مشاهد تصويرية بديعة.
ما يميز أسلوب هدى جعفر، هو أنها كونت علاقة وثيقة مع القارئ في نبش ذاكرته للمدن والأماكن والأغنيات، وملامسة أزماته الداخلية عبر شخوصها، فضلًا عن نجاحها في وصف أبسط الأشياء التي تستدعي الحنين. وصفت الروائح وأعطتها صورة شاعرية، كالضيفة الخضراء التي لها رائحة الكتب المهجورة، والحقيبة الزرقاء التي لها رائحة الهجران، والبيت الذي له رائحة القماش الذي لم يجف جيدًا. كما أنّ للمدن روائحها؛ وصفت رائحة عدن، “الأبخرة المُتصاعدة من قدور الطبخ التي تحمل نكهات البصل، والبهارات، واللحوم، والسميد، والسكر، فكانت رائحة عدن، تطيرُ حتى تترسخ في ذاكرة الغيم وقمم الجبالِ، حيث كان يقف والداي ذات يوم”، وكانت رائحة تعز تفوح من الجبن البلدي، “الرفوف الخشبية مشبعة برائحة اللفَح المُستخرج من أمعاء صغار الماعز، الهواء بارد، وجبل صَبِر يبدو من بعيد، كظهر رجلٍ يغادر مطأطئ الرأس؛ لأنَّه فضَّل تفحُّص الأرض على تأمل السماء”.
عودة إلى مقالها المنشور على مجلة المدنية، صرحت عن شغفها في اختيارها الكتابة عن السينما، بأنه “نتيجة لإشباع حاجة بداخلي”، وربما جاءت هذه الحكايات عن حاجة امتداد السينما في كتاباتها، ممّا جعلها تمتاز في إطعام عملها نصوصًا ذات مشاهد تصويرية بديعة. وقد تبدو الكتابة مع شخص يمتلك هذا الشغف، خاليةً من التعقيدات، فاستدعاء تفاصيل المكان يأتي من ذاكرة أتقنت التقاط الأحداث اليومية، ممّا خلق الواقعية على الشخصيات حتى يخيل أنك تقرؤها وتراها، وكما هي شخصيات نجيب محفوظ التي عاشت في ذاكرة أعماله، تعيش فجر وبدور وعلي ومسعود في ذاكرة قارئ هدى جعفر.
المصدر: مع خيوط