«عشرة أيام في عين قسيس الإنجيلي» فينومينولوجيا الذات والمجتمع عندما تصبح الكاتبة نفسها هي البطل

رجاء البوعلي في«عشرة أيام في عين قسيس الإنجيلي»

فينومينولوجيا الذات والمجتمع عندما تصبح الكاتبة نفسها هي البطل.

 بقلم: د. وائل احمد الكردي

كتب (ديستويفسكي) الشهير في روايته (الأخوة كارامازوف) معلقاً على (زوسيما): «يقال.. أنه غارق في العديد من الأسرار والأحزان، وقد اعترف لنفسه أنه في النهاية قد بلغ درجة من وضوح الإدراك بما يمكنه من مجرد اللمحة الأولى لوجه الوافد الغريب أن يخبرنا لأي سبب هو جاء، وماذا يريد، وأي نوع من أوجاع عذاب الضمير هو يعاني». فقال الفيلسوف التحليلي المعاصر (لدفيش فيتجنشتاين) معقباً: «نعم، يوجد بالفعل مثل أولئك الناس الذين ينفذون بأبصارهم مباشرة نحو نفوس الآخرين وفض مغاليقها».. «إن العمليات الباطنة تظل في حاجة إلى معيار خارجي». وفي مجموعة (عشرة أيام في عين قسيس الانجيلي) القصصية كان هناك معيار تخرج به العمليات الباطنة كأنها هي الظاهر الواضح فيحسب من يرى ذلك أن الظاهر كما لو كان هو باطنها.
صدرت مجموعة (عشرة أيام في عين قسيس الانجيلي) القصصية لمؤلفتها الروائية السعودية (رجاء البوعلي) وأبرز ما فيها القصة التي تحمل ذات الاسم، لذلك فهي مستند هذا التحليل الأساسي. لقد كان من عادة الروايات في الغالب الأعم أن يصنع المؤلف فيها بطلاً متخيلاً أو حتى مستوحى من وقائع فعلية، ثم يدعه يتكلم أو يتكلم الراوي باسمه أو يتكلم هو عنه. ولكن في هذه الأقاصيص كان البطل فيها هو الكاتبة عينها وبذاتها مما يبدو من سياقها المباشر وبكل ما تحمله من هوية وعي جمعي لشعبها صبغت بطابعها هويتها الذاتية عبر التفاعل الإنساني في أحاديث ووقائع القصة، والتي يمكن القول أنها تمثل تجسيداً روائياً لمنهج الفلسفة الظاهراتية (المنهج الفينومينولوجي Phenomenology كما وضعه أدموند هوسرل) بكونه منهجاً للرؤية ولإعادة إدراك الظواهر المختلفة في بنائها (الحسي/ الشعوري)، وذلك وضع الظاهرة المراد إدراكها والحكم عليها بين قوسين أي عزلها عما هو ليس متصل بسياقها الوجودي والماهوي وعن كافة الأحكام المسبقة بصددها، ومن ثم يتاح لدينا التواصل معها شعورياً في الأساس على نحوها الكلي لإعادة تكوينها عقلياً ووجدانياً في لحظة واحدة بكونها كائناً يحمل ظاهره باطنه في هيئة واحدة أي لا تمييز حقيقي بين ظاهر وباطن فيه، إذ هذا التمييز – بحسب الفلسفة الظاهراتية – إن هو إلا تمييزاً لفظياً اصطلاحياً أكثر الشيء وليس تمييزا جوهرياً. وهذا التوجيه الإدراكي الشعوري نحو الظاهرة لإعادة بنائها في الوعي بعد عزلها بين قوسين إنما يتم من خلال زاوية الرؤية التي ننظر منها إليها، وأياً كانت الزاوية التي ننظر منها تختفي عنها اشكال الزوايا الأخرى فإنها تعطي الماهية الكلية لها بحد سواء.
(ب)
“لا أحد يسمع الأصوات الداخلية وهي تفترس رأسي – (عين قسيس الإنجيلي)”..
هكذا وضعت الكاتبة – بطلة القصة- نفسها بين قوسين، وسلطت شعاع شعورها نحو ذاتها وماهيتها الوجودية لتحقق بذلك الشعور إدراكا مباشراً ومجرداً عن أي متعلقات أو مؤثرات خارج سياق هذه الذات تكون مانعة عن فهم حقيقة هذا البناء الشعوري لتلك الظاهرة أي (الذات). وهنا يتبين الفارق بين المستوى الفلسفي التجريدي والمستوى الروائي الأدبي التطبيقي للمستوى الفلسفي، فالفلسفة تضع المنهج الذي ينظر الانسان به الى الاخرين والاشياء غيره من واقع شعوره الذاتي، أما الأدب فله أن يضع الذات الناظرة نفسها كموضوع للفهم والبناء والحكم الشعوري من خلال الرواية الأدبية. ويمكن القول أن أشهر من برع في تجسيد هذا المنهج الفينومينولوجي في الرواية أو القصة هو (ديستويفسكي) لاسيما في روايته (المراهق) بدلالة ما جاء فيها مثلاً “قررت أن أعود إلى الحديث عن فكرتي.. وللمرة الأولى سأصفها، بادئاً منذ البداية.. أي منذ تولدت وتبلورت في مخيلتي.. قررت أن أكشف عنها أمام القارئ، وبالتالي كي أسلط الأضواء على ما قد يفحص من العرض الذي سأقدمه.. ورغم ذلك وجدتني أقع في دوامة الروائي وما يعمد إليه من تبديل وتحوير في مواضيعه.. وليست الفذلكات الروائية هي التي اجبرتني على الصمت حتى الآن، ولكنها طبيعة الأشياء”.
(ج)
“علي أن أنظر جيداً لمنطقتي كجزء وليس ككل – (عين قسيس الإنجيلي)”..
لعلنا نستلهم مقولة (الوجود –هناك Da-Sein) للفيلسوف الفينومينولوجي الوجودي (مارتن هايدجر) التي تفيد أن الإنسان الفرد يجدد اكتشافه لذاته بصورة مستمرة، وفي كل لحظة يواجه فيها موقفاً جديداً فإنه يتفاعل معه بنحو غير مسبوق فالإنسان بذلك هو مشروع دائم للتحقق بكونه تفاعلات متعددة ومتغيرة وكلها تنبع من هوية وأصل وجودي واحد للفرد، فكذلك كل مجتمع وشعب إنما تنبع أفكاره ورؤاه المتجددة والمتنوعة عن أصل مصدري وماهية ذاتية أصيلة للوعي الجمعي به، وهذا ما يعكسه الفرد من هوية مجتمعية عندما يضع ذاته بين قوسين كموضوع للإدراك الشعوري المباشر. وعلى هذا الأساس، يمكن القول، أن الكثير من الروايات والأقاصيص إذا كانت تعبر في جوهرها عن ظاهر وحال الثقافات المحلية المربوطة بواقع شعوبها، أما (عين قسيس الانجيلي) فقد نحت نحو الكشف عن أصول ومصادر الثقافة المحلية من حال التفاعلات التلقائية لدى الانسان المنتمي لها في مواجهة مؤثرات خارجية لثقافات أخرى عديدة ومختلفة. ومما هو مشهود أن الغوص الأدبي في جذور واصول طريقة الحياة هو مهارة ذات خصوصية حدسية تجمع بين قراءة الذات وفي نفس الوقت قراءة العقول الأخرى في تفاعلها أمام الذات وتفاعل الذات أمامها، وهذا المنحى الروائي هو من الوعورة بمكان ويحتاج الى حفر بقلم كالمعول.
(د)
“الجميل في هذه الحوارات المفتوحة أنها تجعلك سفيراً دون أن تشعر – (عين قسيس الإنجيلي)”..
لقد كان نمط الوعي وطريقة الحياة التي وضعت بين قوسي المنهج الفينومينولوجي في تجربة المؤلفة هو الوعي العربي السعودي البارز في بعض اشاراتها بصدد حالته المعاصرة الراهنة، ولكنها إشارات مركزة تثبت القيم المتجذرة لهذا الوعي فيما قبل العقود المتأخرة وإلى قرون خلت، وبرغم مرور هذا الوعي بمراحل حضرية وتكوينية متغيرة الى ان استقر على ما هو عليه راهناً فقد ظل هذا النسيج المميز للثقافة المحلية وطريقة الحياة ممتداً على هويته بطول مسيرة هذه التحولات، وهذا ما يمكن الاصطلاح عليه بمسمى (التفاعلية السعودية) في اطار (التفاعلية الخليجية العامة) التي تسم إنسان تلك الأرض، حيث ابرزت القصة أن احتفاظ هذا النمط للوعي الخليجي بالثنائيات الضدية (إما.. أو) في أحكام الصواب والخطأ المُعترض عليها من قبل البعض في ذاك المحفل لم يعد ينظر إليه كحالة منغلقة بل كمدعاة للتبادل التفاعلي مع الثقافات المتعددة وفي نفس الوقت الاحتفاظ بالهوية الذاتية لهذه المجتمعات الخليجية. وهذا يستبين من تقديم التعبير الروائي عن هذا الوعي من خلال الصراع التفاعلي الإيجابي لشعوب أخرى اجتمعن جميعاً لعشرة أيام في عين قسيس الإنجيلي.
“فلقد وافق الجميع على سفري لوحدي تقديراً لرؤيتي للحياة حيث أدوار الإنسان –عين قسيس الإنجيلي”.

المصدر: جريدة اليمامة

حميد الرقيمي يواجه “عمى الذاكرة” بتدوين سيرة ضحايا الحرب وسرد أوجاعهم

حميد الرقيمي يواجه “عمى الذاكرة” بتدوين سيرة ضحايا الحرب وسرد أوجاعهم

 

تتألف الرواية من أجزاء/ فصول، تبلغ 26 جزءًا، لكل جزء/ فصل عنوان مستقل، بدءًا بالفصل الأول “لحظة الهروب”، وانتهاءً بالفصل الأخير الذي حمل عنوان “عندما سألتني بكيت”. بالإضافة إلى الإهداء “إلى كل من طالتهم نيران الحرب…”، والافتتاح الذي تضمن مقطعًا من قصيدة “ابتهالات” للشاعر الكبير الراحل عبدالعزيزالمقالح.

 

الكاتب اليمني الشاب الذي شهد كثيرًا من فصول الحرب الدامية عندما كان في اليمن، قريبًا من جبهات القتال الملتهبة، يبدو في هذه الرواية -كما في أعماله السابقة- شاهدًا على بشاعة ما تعيشه البلاد وقسوة ما يعانيه ملايين اليمنيين، سواء في ذلك من يعيشون في اليمن، أو من غادروها، فقد عاش حميد في اليمن السنوات الأولى من الحرب، قبل أن يغادرها إلى السودان ثم إلى مصر.

  

في كلا الحالتين كان حميد في الواجهة، في اليمن كان إعلاميًا يغطي جانبًا من الحرب، وفي الخارج هو الكاتب والناشط والمتابع لما يجري لأبناء بلده، وما يواجهون من أهوال.

 

الرواية التي اختار مؤلفها “عمى الذاكرة” عنوانًا لها، تسلط الضوء على ما تختزنه الذاكرة اليمنية عن بؤس الحرب وقسوة الواقع وانسداد الأفق أمام اليمنيين، بخاصة فئة الشباب الذين أجبرتهم ظروف الحرب على البقاء تحت وطأتها أو الهروب بحثًا عن الخلاص، مع ما يكتنف ذلك الهروب من مخاطر وصعوبات، وهما خياران أحلاهما مرٌّ.

 

ويرى النقاد أن “الكاتب يتمكن -من خلال السرد- من إخراج تجربته من الأطر المكانية والزمانية المحدودة، وسكبها في ذاكرة لا نهائية الاتساع وهي الذاكرة البشرية كلها” (تمام طعمة، تقنيات السرد الروائي)، وهو ما فعله الكاتب في “عمى الذاكرة”، حين تمكن من إخراج الأحداث إلى ذاكرة القارئ، دون أن يقع في فخ التقريرية أو المتابعة والتغطية الإخبارية، فهذه مهمة الصحفي لا الروائي.

 

ما تبوح به الذاكرة هنا يأتي كمعادل موضوعي لـ”عمى الذاكرة”، الناجم عن عطبٍ تحدثه الحرب في جدار الذاكرة الخاصة ببطل الرواية، لا سيما وأن ذاكرته تنشطر بين اسمين وأسرتين وأكثر من حياة، ناهيك عن أشكال عديدة للموت، كان يعيش حياته القاسية بهويتين وذاكرتين وقلبين”، ولايزال يجهل كيف “استطاعت الذاكرة أن تنام بين الأشلاء والأطلال، حتى عادت بقذيفة أخرى وبعد غياب طويل”.

 

وقد استطاع الكاتب أن يشيد بناءه السردي موظفًا عدة تقنيات سردية في هذا البناء الآسر، دون أن يضع للرواية إطارًا زمنيًا، فالحرب التي تشتعل بين سطور الرواية عابرة للأزمنة والأجيال، تعصف بالبلد وتخترق الذاكرة فتصيبها بالعمى، وتحيلها أكوامًا من الخراب، من البداية إلى النهاية، لا حدود للخراب والندوب التي تتركها الحرب. منذ ميلاد بطل الرواية الذي تزامن مع انفجار أودى بحياة والديه، حتى قرر مغادرة البلاد على وقع أصوات الانفجارات التي لم تتوقف لحظة واحدة.

 

يوظف الكاتب لغته الشاعرية واطلاعه الواسع في سرد الأحداث بتكثيف يمنحها الكثير من الدهشة والجمال، على الرغم مما تتضمنه من أوجاع وانهيارات تطال كل شيء في البلد المثخن بالحرب، إذ تتراءى الأحداث المؤلمة لوحاتٍ معبرةً عما يعيشه اليمنيون، وقد أجاد الكاتب رسم لوحاته بكلماتٍ ناضحة بالمعاناة وعبارات راسخة في صدقها الفني والوجداني، إنها فاجعة الحرب ومآسيها اليومية اختزنتها ذاكرة المؤلف، ثم أعادت رسمها وسردها في قالب روائي ممتع فيه من الجاذبية، ما يجبر القارئ على إكمال قراءتها بمجرد مطالعة بداياتها الأولى.

 

اجتاز الكاتب مراحل عدة حتى وصل إلى هذا المستوى المتقدم من السرد، وهو الذي لم يفارق احتراف الكلمة منذ نعومة أظفاره، إذ عرفته مدينته معلقًا رياضيًا يتجاوز عمره الصغير حينها بأداء يبهر الجميع، ثم غدا إعلاميًا يراسل عددًا من القنوات الفضائية، ناقلًا بالصوت والصورة وقائع الحرب. فكان هو الصوت الذي تردد في جنبات المكان لسنوات عدة، وغدا اسمه حاضرًا في المشهد الثقافي والإعلامي بعدما حفره بيقين الواثق وثقة المبدع.

 

بين انفجارين ولد البطل “بدر” أو “يحيى”، ثم عاش في كنف أسرة أخرى تتألف من الجد الحكيم، وأب وأم جديدين، ارتبط بجده وأمه الجديدة “لطيفة”، بينما كان الأب يقضي معظم أيامه بعيدًا عن المنزل والأسرة، لظروف سيعرفها “يحيى” في ما بعد.

 

انتقل بعدها للدراسة الجامعية في صنعاء، وهناك تعرف على حب حياته “يافا “، غير أن طبول الحرب دقت مرة أخرى، فأوقفت نبض الحب في قلب البطل، أو أجلته حتى إشعار آخر، إذ قرر مع مجموعة من الشباب مغادرة البلاد إلى أوروبا التي لم تكن الطريق إليها سالكة، فدونها أهوال وأهوال، من مطار عدن كانت الانطلاقة، وتطل محطات التوقف عبر مساءات القاهرة، ثم نهارات الخرطوم التي أفضت بالمهاجرين إلى حدود ليبيا، حيث فتحت لهم الصحراء أبواب التشرد والضياع على امتداد الأفق، وفي رمالها الحارقة دفنوا أول رفيق لهم، لم تمهله أوجاع الكلى حتى قذفت به جثة هامدة.

وقبل الوصول إلى البحر كانت عصابات التهريب في انتظارهم لأخذ ما تبقى لديهم من مال، وفي رحلة البحر صوب الخلاص في الشاطئ الإيطالي تنتصب أشباح الموت، وتترصد القادمين الذين تقذف بهم الأمواج في أعماق الخوف والخطر. “وهذا الليل الطويل الذي يسلخني ويلتهمني لا حدود له، كنت أشاهد كل شيء ينحدر أمامي، وكنت ألمس الجراح واقفة على كل باب، وفي كل عين تراقب عبوري أسمع ألف أمنية للهروب”.

مخاطرة الهجرة إلى أوروبا عبر البحر كان المؤلف قد تابع كثيرًا من تفاصيلها عندما غرق مجموعة من الشباب اليمنيين، وكان هو الذي تولى التواصل مع الجهات الرسمية اليمنية والليبية والجزائرية لمتابعة تطورات الأحداث حينها، لذلك فقد بدا سرده المكثف هنا دافقًا ودافئًا بما لديه من حقائق ومعلومات ومشاعر وانطباعات وتفاصيل عاشها أبطال روايته -على الورق- كما عاشها بعض أصدقائه على الواقع، ولايزالون يعيشونها.

 

“كانت العتمة مفروشة على كل البقاع، وكانت الدمعة خجولة من بكاء القلوب التي لا تمنحها حقها في التعبير والهذيان، تحجرت في عيني الرؤية، وغابت على قدر المسافة التي قطعتها بين صنعاء وعدن ذكريات عمري كلها، ولم يبقَ مني إلا أشلاء موزعة على كل خطوة”.

أنتوني ترولوب: كاتب أيرلندي مُشرِّف وجديرٌ بالاحترام

أنتوني ترولوب: كاتب أيرلندي مُشرِّف وجديرٌ بالاحترام 

بقلم: جون مكُرت

ترجمة: زينب بني سعد

ثمة مقولة شهيرة للروائي ناثانيال هاوثورن يذكرفيها أنّ روايات أنتوني ترولوب الإنكليزية مكتوبةٌ، على نحوٍ مثاليّ، «بمتانة شريحة لحم بقري، ومن خلالإلهام بيرة المِزرْ». وبالمثل، قال الناقد الأيرلندي ستيفن غوين إن ترولوب كان «إنكليزياً بقدر  ما كان جون بُل». 

بَيدَ أنهُ، على عكس العِظام من الكُتّاب الإنكليز الآخرين في العصر الفيكتوري،  وصل ترولوب إلى ما  هو عليهِ من خلال مغادرته وطنَه،وبدء حياته عبر البحر في أيرلندا؛ حيث حقق هناك نجاحاتهِ الأولى في مهنتهِ، بوصفه مفتشَ مكتب البريد، وحياته الأدبية على حدٍسواءشعر ترولوب، في سن السادسة والعشرين، «بوصفه موظف بريد في لندن»، أنه منخرطٌ في عملٍ ليس هناك مجال للتقدم فيهِ، وبعد أنفشل في إنهاء رواية خيالية بالفعل، رأى أن ليس لديهِ ما يخسره في قبول وظيفة لا يرغب فيها شخص آخر في مقاطعة أوفاليالنائية في مدينة بانغروعلى مدى السنوات الخمس عشرة التالية تعرف على الجزيرة كلها،  وعاش وعمل في كلونميل، وملوُ،وكورك، وبلفاست، ودبلن.

وبمجرد وصوله إلى أيرلندا، بات رجلاً ثانياًفما إن نزل من على متن الباخرة، حتى بدأ عمله  الدؤوب، والتقدُّم في عمله بمثابرةٍ مبهرةٍعلى حدٍ سواءأقواله الخاصة عن أحد أبطاله السياسيين، اللورد بالمرستون، تنطبق على ترولوب ذاته  تماماً منذ ذاك الحين:«كان العمل الشاق، في نظرهِ، الضرورةَ الأولى لوجوده».

وفي أيرلندا بدأت موهبته الأدبية الجبارة في الظهور أخيراًحتى لو كانت أعظم رواياته إنكليزية، مكاناً وحبكةً، بشكلٍ لايمكن إنكاره، وتُهيمن عليها الشخصيات الإنكليزية، إنّباكورة أعمالهِ كانت أيرلندية، وهو يعود إلى الموضوعات الأيرلنديةمن حينٍ إلى آخر، وإن كان ذلك بنجاحات متفاوتة طوال حياتهِ المهنية الطويلةتشكل كتاباته  الأيرلندية مجموعةً حيوية ومتنوعة منالأعمال، وتضيف، بشكل كبير، إلى رؤيتنا الشاملة للكاتب، وتمثل مساهمة غنية لكن مستهاناً بها في المبادئ الأدبية للروايةالأيرلندية في فترة القرن التاسع عشر، ما يزيد من تعقيد المجموعات التعسفية، التي يتم رسمها بين التقاليد الإنكليزية والأيرلنديةشعر ترولوب أنه كان في وضع فريد بوصفه وسيطاً ثقافياً بين أيرلندا وإنكلترا، مع مزايا العيش لفترة طويلة في أيرلندا،والالتزامات الأخلاقية التي فرضتها عليه هذه الإقامة المؤقتةولهذا حاول على مرّ الزمن أن يمنح شكلاً سردياً عنالتعقيدات التي تعاني منها دولة لم يكن صوته مسموعاً فيها عن طيب خاطر في بريطانيا، صوتاً واهناً في منتصف القرنالذي هيمن عليه الجوع.

ولئن كان صحيحاً، كما ذكر الباحث جون سادلير في أوائل القرن العشرين، أنّ ترولوب في أيرلندا  أصبح «سفيراً لإنكلترا،يعيش في وئام متنازع عليه مع واحدةمن أكثر الأمم وعياً بالعِرق في العالم»، فإنه أصبح أيضاً مبعوثاً لبلده الثاني، أيرلنداوإلى جانب تقديرنا لترولوب روائياً إنكليزياً مشهوراً، يتعيّن علينا أن ننظر إلى ترولوب باعتباره كاتباً أيرلندياً جديراً بالاحترامذا إنجازات عظيمة، كاتباً لم يتهرب قط من القضايا الخطيرة والرهيبة أحياناً، مثل التحريض  على مسألة الأراضي، والحكمالذاتي أو الداخلي لأيرلندا، والمجاعة والقحط، التي أثرت في البلد على جميع المستويات  الاجتماعية أثناء إقامته الطويلة هناك،وبعد ذلك.

في الغالب، يظهر ترولوب، في رواياته الأيرلندية، أقلّ شهرة وغيرمعهود، شخصية متضاربة، وأحياناً يكاد يبدو متمرداًومحشوراً بين آرائه «الرسمية» و«غير الرسمية»، متردداً بين تأييد وجهات النظر الإنكليزية  القياسية حول أيرلندا، وتقديم بدائلخاصة به، وأحياناً محرجة، وقراءات مضادةفعن طريق المصادفة، بدلاً من التصميم، أصبح عابراً للحدود، وكان لزاماً عليه أنيتقبل حقيقة مفادها أنّه بعد بداية عمله موظفاً في مكتب البريد، وكاتباً ناجحاً في أيرلندا،  سوف يظلّ دوماً بين الناس، وسوفيقع في شرك الولاء المتضارب للثقافتين في بعض الأحيان، وهذا من شأنه أن يضع ترولوب في  حالة إنتاجية إبداعية حتى لوتمكن تدريجياً من كبح جماح تعاطفهِ مع وجهات النظر الأيرلندية، والتراجع إلى موقف «إنكليزي» أكثر دفاعاً

لكن رحلته الأدبية الأيرلندية، التي لم ينصحه الناشرون بها، رحلةٌ حريٌّ بالقُرّاء أن يقتفوا أثرها اليوم، بدءاً من مأساوية(Macdermots of Ballycoran) (1847)، التي تعرض مناقشاتٍ ثاقبة لأسباب الاضطرابات في المناطق الريفيةالأيرلندية، والرحلة الأكثر تفاؤلاً وهزلاً في روايتهِ 

(The Kellys and the O Kellys) (1848)، التي تُعدُّ أُنموذجاً أوليّاً قيّماً لبعض روايات ترولوب اللاحقة (والأكثر أهمية) عن قصص الزواجومن الأعمال الجديرة بالاهتمام وإن كانت معتقداته السياسية موضع شك في أحسن الأحوالرواية عن المجاعة ألفها ترولوب، وكثيراً ما كانت مؤثرةً بشكلٍ عميق، هي رواية (Castle Richmond) (1860)،إلى جانب الروايتين الثانية والرابعة من سلسلة روايات (Palliser novels)، اللتين تحملان عنوان فينياس فين (Phineas Finn)، وتكملتها التي تحمل عنوان العضو الأيرلندي (1869) (The Irish member)، وفيناس ريدوكس (Phineas Redux) (1874).

بطلهما الأيرلندي فينياس فين، الذي يكافح من أجل شقّ طريقه في العالم السياسي الإنكليزي، وجد نفسه محاصراً بينتأثيرين مُتناقضين لزواجٍ مُحتمل في أيرلندا وإنكلتراتتحدى السلسلة الأدبية، بأكملها، الصور النمطية الأيرلندية، وتدعو إلىالتأمل في اثنين من أكثر المفاهيم شيوعاً عن الأيرلندية أولهما عن أيرلنديوا المسارح، أو كما يُعرف بالصورة النمطية للشعبالأيرلندي، الذي كان شائعاً في المسرحيات. ويشير هذا المصطلح إلى تصوير مبالغ فيه، أو كاريكاتوري، للسمات الأيرلنديةالمفترضة في الكلام والسلوك؛ المفهوم الثاني هو  أيرلندا بوصفها ضحية مؤنثة

الروايتان الأيرلنديتان الأخيرتان (The admonitory An Eye for an Eye) (عام 1879)، و (The Landleaguers)، آخر رواياتهِ وأكثرها إثارةً للجدل، تستحقان أن تأخذا مكانتهما ضمن سلسلة  المحاولات الشجاعة –وإن كانت معيبة– لاحتواء مشكلات أيرلندا في شكلٍ روائيّ وخدمتها في العقود الأخيرة الحالكة من القرن التاسع عشر، تحذيراً لقرائه الإنكليز من أن عدم أخذ المشكلات الأيرلندية على محمل الجد سيؤدي حتماً  إلى عدم الاستقرار والفتنة والعنف الذي قديمتد عبر البحر الأيرلندي.

جون مكُرت: كاتب دبلني. أستاذ اللغة الإنكليزية في جامعة ماشيرتا، وهو مؤلف كتابة الحدود: أنتوني ترولوب بين بريطانياوأيرلندا

حكايات وحكاؤون في رواية الاستدارة الأخيرة

تحذّر رواية «الاستدارة الأخيرة» من مستقبل مظلم للرجل على يد التسلط والإبادة النسوية، وهي رواية دستوبية مختلفة عن الروايات التي تخيلت خطورة الآلات والإنسان الآلي والكائنات الفضائية والأفاعي والعناكب وتشوه الطبيعة البشرية وغيرها. فمن الطبيعي أن يستشعر الإنسان ويتخيل توحش كائنات أخرى، وحتى أقوام أخرى ورغبتها في السيطرة عليه، ولكن أن يكون الخطر المحدق به من قبل الأنثى التي تشاركه حياته، ولا يكتمل الوجود إلا بها، فهنا مكمن الغرابة والخطر. ولكن في المقابل، فإن تسلط المرأة وتحكمها في البيت واقع لا يُمكن إنكاره؛ فلها الكلمة العليا والقرار النهائي في كثير من شؤون الأسرة الداخلية والخارجية، ولا شك، أن السلطة الحقيقية للمرأة في المجتمع، وإن كانت من وراء ستار، ولها تأثير بالغ في السياسة والاقتصاد وغيرها من خلال تأثيرها وسطوتها على الرجل، والتاريخ، وإن كان مزورا في معظمه، يؤكد ذلك.
يُمكن الحديث عن الرواية من جوانب وزوايا كثيرة؛ فهي ميدان خصب لكل من أراد أن يكتب عنها وحولها، غير أن اللافت فيها الحكايات والحكاؤون التي شكلت نسيج الرواية بكاملها، حيث إن معظم شخوص الرواية الرئيسيين حكاؤون، كما أن الرواية تألفت من ثلاث حكايات رئيسية متداخلة ومستقلة في الآن نفسه؛ حكاية الراوي، وحكاية الرجل النبيل، وحكاية الملوك والملكات، وتشكل معا ثلاث دوائر رئيسية متحدة المركز، بالإضافة إلى دوائر فرعية تشكل في مجملها ماندالا روائية مشوقة وجاذبة.

حكاية التاريخ

التاريخ بشكل ما حكاية؛ حكاية المنتصر أو الأقوى، حكاية السلطة المتنفذة التي تكتب التاريخ كما تريد، وإن خالف الوقائع ومجريات الأحداث الحقيقية، ولذا فإن التاريخ في مجمله تاريخ مزور، مترع بالأكاذيب والمبالغات والإنجازات الوهمية والانتصارات الدونكيشوتية «التاريخ فنّ الحكايات الكاذبة»، وإذا كان واقعنا الذي نعيش فيه يتم تحريفه وتزويره على مرأى العين، فكيف بالتاريخ البعيد؟ وأي سلطة تقبل أن يُكتب عنها، أو عن أسلافها ما يُشين أو يقلل من قيمتها ومكانتها وهيبتها؟!
في الرواية، ترفض أستاذة التاريخ الجامعية كتابة الرجال للتاريخ، بزعم أن «التاريخ ذاكرة تصونها النساء»، وأن «التاريخ لا يعرفه الرجال»، وتؤكد أن «المؤرّخات، لا يخطئنَ في كتابة التاريخ»، وتقول: «لا أتذكّر أنّ الرجال كتبوا التاريخ أصلا. وإن كتبوه، فهو كذب. نعم، الكذب من الرجال؛ فهم لا يعرفون الحكايات»، ولذلك أُوكل كتابة تاريخ المملكة إلى مؤرخات من النساء، فهن ذاكرة لا تخطئ، والرجل خصم غير مؤتمن، لا يمكن أن يكون منصفا وليس محلا للثقة. وزاد الأمر أن مُنع الرجال من دراسة التاريخ في الجامعات إلا لحالات فردية نادرة، لئلا يكون لهم كلمة أو تأثير في تدريس التاريخ أو تدوينه أو روايته.
وفي مفارقة واضحة؛ فإن حكايات هذه الرواية الرئيسية نقلها العجوز؛ «الرجل النبيل»، وليس امرأة، صحيح أنه نقل معظمها عن الملكة، ولكن يبقى رجلا، ولا يعني أنه كان أمينا وحرفيا في روايته، فلا بد أنه أضفى عليها من ذاته وتأويلاته ونكهته الخاصة. وبشكل عام، فأي رواية لأي حكاية، يعني تحريفا ما مهما كان بسيطا، ومع توالي الروايات الشفهية، يزداد التحريف، ومع الزمن، تُقلب الأحداث والحقائق وتكاد لا تمت بصلة إلى أصل الحكاية.

نحن حكايات

الإنسان؛ أي إنسان هو حكاية بعد أن يموت، وبعضهم حكاية وهو حي، ومن الأفضل أن يكتب كل منا حكايته بنفسه كما يريدها وكما عاشها، بدلا من أن يتركها للآخرين ليكتبوها كما يرتأون، وهنا لا بد أن تخضع للتحريف والتعديل حسب أهوائهم ورؤيتهم وما يخدم مصالحهم. وبقدر عدد البشر توجد حكايات، ولكل أسرة حكاية، ولكل قبيلة أو عشيرة حكاية، ولكل قرية أو حي أو مدينة حكاية، ولكل مجتمع أو دولة حكاية، وهذه الحكايات تتناسل بين وقت وآخر، ولكن، لا تدوين إلا لحكايات السلطة وأزلامها، أما حكايات الشعوب والناس البسطاء فتهمل ويطويها النسيان، إلا ما كان منها يوافق حكاية السلطة ويدعمها ويزيد في سمعتها ويرفع من شأنها. في الرواية، ثمة حكايات لأشخاص عاديين، وأشخاص ارتبطوا بالسلطة، وأشخاص تحالفوا مع السلطة، فظهرت حكاياتهم إلى العلن ودونت، ومن هذه الحكايات حكاية الراوي وطفولته مع عمته، ثم انتقاله إلى بيت الأب وزوجة الأب المتسلطة المتحكمة، التي لها الكلمة الفصل في كل ما يتعلق بالبيت والأسرة، فيما كان الأب مجرد خادم، بل كان عبدا ليس له رأي ولا كلمة.
وتبرز حكاية الرجل النبيل، ومعاناته في سبيل العيش، ثم هروبه وتخفيه خوفا من البطش به كغيره من الرجال إلى أن تدخل ساعي بريد وأنقذه واتخذه مساعدا، مما فتح له أبواب القصر واتخذته الملكة الأولى كاتبا وكاتما لأسرارها وحكاياتها. وهذا الرجل النبيل هو الذي روى جميع قصص وحكايات الملوك والملكات من البداية إلى النهاية.
كما ذكرت الرواية حكاية الجدة الزعيمة التي كانت تحكم إحدى القبائل المتحالفة مع الملك على أطراف المملكة، والتي احتضنت بنته الطفلة، ورعتها، ومن ثم توجتها ملكة بالتعاون مع القبائل المتحالفة بعد القضاء على عدوها الأكبر. وتطرقت حكاية هذه الجدة إلى طقوس القبيلة وعاداتها وثقافتها ومعتقداتها وحروبها وغيرها من الأمور التي تشكل مادة دسمة وطريفة وغريبة في الآن نفسه. ومع أن الرواية في ظاهرها منحازة ضد المرأة، وقد تقابل بنقد نسوي قاسٍ، إلا أنها تعترف للمرأة بالذكاء الخارق، وسعة الحيلة، وقدرتها على التلاعب، والتخلص من الأخطار، وفرض رؤيتها وشروطها، بالإضافة إلى قوتها وقدرتها على التخطيط والتنفيذ بحنكة وكفاءة. كما أن الرواية ذكرت نموذجا طبيعيا للأنثى دون انحياز أو تطرف، فقد كانت «لورا» أنثى عادية تتفاعل مع الرجل ولا ترى فيه عدوا، أو خصما أو حتى منافسا، بل إنسانا يستحق العيش والحياة والكرامة مثلها، وكانت صديقة للراوي، تشاركه زياراته للعجوز، وتهتم لأمره وتؤازره، وتشجعه على الكتابة، كانت شريكة حقيقية، صادقة في مشاعرها وكلماتها، وفي سلوكها هذا رفض وتمرد على السائد من تسلط المرأة وإقصاء الرجل والتنكيل به.

الرواية حكاية

الرواية؛ أي رواية هي حكاية، ولكنها كُتبت بلغة جميلة وفنيات وشروط إبداعية، والحكاية هي العمود الفقري للرواية، ولا يُمكن أن توجد رواية دون حكاية. وعلى هذا؛ فالروائي حكّاء على الورق، يسرد حكايته ويحاول أن يأسر بها لب القراء، ويستأثر على اهتمامهم ومتابعتهم، وهذا يتطلب مهارات وقدرات إبداعية عالية المستوى، وليس كل من كتب رواية حكّاء ناجحا بالضرورة، فقد يفشل، وتكون روايته مجرد حكاية مروية بأسلوب باهت لا يستثير أحدا.

إن رواية «الاستدارة الأخيرة» لأحمد الزمام حكاية مثيرة وممتعة، وصادمة أيضا، ومرعبة في بعض مفاصلها، وأرى أن الزمام حكّاء ماهر في هذه الرواية التي نجحت في جذب القارئ ومتابعته للتعرف على حكايات هذه المملكة التي تحكمها النساء وتترأسها الملكات، والرجل فيها مطارد، لا قيمة ولا أهمية له، ولا يُحتفظ ببعض الرجال إلا لغايات التكاثر واستمرارية الحياة. ولعل المرعب في هذه الرواية، أن يضطر الرجال للبس ملابس النساء، واستخدام المكياج؛ للتخفي وتجنب الملاحقة والقتل، ولكن الأكثر رعبا أن يتوجه بعض الذكور لارتداء ملابس النساء والمكيجة عن طيب خاطر، إيمانا منهم بأن السلطة للنساء، ومن كان كالنساء فله حظ وافر. وأكدت الرواية حقيقة مخيفة أن الملكة الثانية ما هي إلا ذكر في حقيقتها، ولكن أمه الملكة ربته منذ الطفولة على أنه أنثى، وتوج ملكة على هذا الأساس، وفي هذا اغتصاب للرجولة وإعدام لها، وحرمان للذكر أن يكون على طبيعته، ولم يستطع أن يتمرد، على الرغم من أنه أصبح ملكا/ملكة بسبب البطانة الأنثوية التي حوله، والتي لن تقبل بأن يحكمها ذكر، وإن كان سليل الملكة السابقة، بالإضافة إلى أنه لا يعرف ما هي الرجولة، وكيف يتصرف ويحكم كرجل، وفي هذا تعريض ورمزية لا تخفى على اللبيب!

والغريب أن الملكة الأولى التي قادت حملة الانقلاب على الرجل، تعهدت في طقس التحالف بحضور زعماء القبائل التي ستدعمها لاستراد عرش والدها أن يكون «الشعب نساء ورجالا»، وكان هذا شرطها للموافقة، ولكن هذا الشرط كما يبدو حمّال أوجه؛ فيكفي وجود بضعة رجال ليتحقق الشرط، وتفي بتعهدها. وفي تقديم النساء على الرجال دلالة واضحة على نواياها المبطنة.

وبعد؛ فإن رواية «الاستدارة الأخيرة» للروائي الكويتي أحمد الزمام، صدرت عن دار رشم في مدينة عرعر السعودية عام 2024 في 424 صفحة، وهي رواية مختلفة وتحذر من الأسوأ المقبل، وليس شرطًا أن يكون الخطر قادما من النساء، فثمة مصادر للخطر لا تحصى، وأقربها لنا خطر الأجهزة الذكية على اختلاف أنواعها، والذكاء الصناعي، والخطر النووي وأضرابه، والحروب المدمرة، والكوارث البيئية، وغيرها. وأيا كانت الأخطار المتوقعة، فإن الكائن البشري في طريقه للأفول أو الاستعباد بسبب ضعفه المتسارع، واعتماده على الآلة والتقنية، وتعطيله لمعظم قدراته ومهاراته الطبيعية، وإيثاره للكسل، وشراهته للاستهلاك الأعمى، وتجنبه التفكير والتطلع إلى المستقبل.

تدق الرواية ناقوس الخطر، وتدعو للتفكير في مستقبل البشرية، وأن يتدارك العقلاء الدحرجة المتسارعة نحو الهاوية، والمصير الضبابي. ويبقى الأمل موجودًا، على الرغم من طبقات الظلام التي تحيط بنا، والحروب التي تنذر بالويل والدمار، والتهديدات التي لا تتوقف، وكثير من المجانين الذين يحكمون العالم.

قراءة  الأديب موسى أبو رياش.

المصدر: جريدة القدس العربي

القول المأثور من كونفشيوس حتى تويتر.. مقاربة متعمقة لنوع أدبي له سحره

القول المأثور من كونفشيوس حتى تويتر.. مقاربة متعمقة لنوع أدبي له سحره

بقلم: محمد سليم شوشة

في رأينا أن كتاب (القول المأثور من كونفشيوس إلى تويتر) للمؤلف أندرو هيو الأستاذ المساعد بجامعة يال-نوس كوليج بسنغافورة من ترجمة الدكتور حمادة علي أستاذ الفلسفة بجامعة جنوب الوادي والصادر عن دار منشورات جدل عملا أدبيا وفكريا بالغ الأهمية لعدد من الأسباب والسمات الخاصة به سنفصل القول فيها، وقد بذل فيه جهدا كبيراً وأخرجه في صورة مميزة تجعله كما لو كان دراسة مكتوبة باللغة العربية برغم بعض المشكلات التي يمكن أن يستشعرها القارئ مثل إشكالية تضارب المصطلح الأدبي والفلسفي، والكتاب برغم تصنيفه في الأدب المقارن يمثل تجربة نقدية ثرية ويمكن تلقيه بوصفه كتابا فكريا أو فلسفيا أو حتى في تاريخ الحضارات، إذ يصبح التأريخ للقول المأثور مكافئا بصورة ما للتأريخ للحضارة أو لما وصلت إليه حضارة معينة من الحكمة والمعرفة والبلاغة والرغبة في تدوين معارفها وتداولها والاحتفاظ بها أو تخليدها أو اختبارها وإقامة جدل تأويلي وتفسيري حولها.

لقد قارب المؤلف تاريخ القول المأثور في الثقافات المختلفة وقارب تباينه أو اختلافاته بين الحضارتين الشرقية والغربية أو نقاط الاتفاق والاختلاف بينهما، فكما كشف عن الاختلاف الحتمي والطبيعي في القول المأثور نتيجة اختلاف الثقافات والحضارات بين الشرق والغرب، فقد قارب كذلك نسقيته والروابط التي جعلته شكلا واحدا أو صنعت منه روحا بلاغية واحدة ربطت ما هو إنساني وما هو نسقي ومنتظم فكريا ويمثل شكلا من الحكمة في العقل البشري.

وقد ذهب أندرو هيو بعيدا في مقاربة علاقة القول المأثور بالنسقية الفكرية والفلسفة والتراكم المعرفي في مرحلة ما قبل الفلسفة وفي مراحل الأديان السماوية أو مراحل التعاليم الصينية لكونفوشيوس وغيره من المعلمين والحكماء والآباء الروحيين والزعماء أو القادة، بمثل ما تنقل بأريحية وبالعمق ذاته نحو القول المأثور في الثقافة الغربية الوسيطة والحديثة وكذلك بعض حضارات الشرق الأوسط وبخاصة الحضارة العربية والإسلامية، وركز على بعض النماذج التي يراها من وجهة نظره مثالا عالميا للقول المأثور في القرآن الكريم(مثل ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)، وحتى شهادة أن لا إله إلا الله، رآها نموذجا للغة المكثفة ذات الطابع الاستخلاصي الذي يظل خالدا أو يملك مقومات البقاء والانتقال من عقل إلى آخر بأريحية مطلقة.

ولم تكن مقاربته في الحقيقة مقصورة على المحتوى الدلالي والفكري برغم أهميتها الكبيرة، بل غلّب في كثير من الأحيان دور الناقد واللغوي الخبير بداخله، وقارب البنية والمحتوى الشكلي والسمات التكوينية والخصائص البنائية للقول المأثور وركز تحديدا على التكثيف، كما ركز كذلك على عمليات التلقي وحالات التأويل وتنشيط عقل المتلقي، أو ما توالد عن القول المأثور من أثر ثقافي وتأثير في البنى المعرفية للأمم والحضارات المختلفة، أي تأثير حضور القول المأثور في العقل الجمعي، فيما يمثل دراسة ثقافية متعمقة وتمثل تنبيها لخطاب في غاية التأثير والتعمق بامتداده الرأسي عبر التاريخ هو خطاب القول المأثور وركز على سلطته فيما يمثل إعمالا وتمثيلا عمليا ناعما لنظرية سلطة الخطاب لميشيل فوكو.

وفي تجربة هذا الكتاب المهم يصبح المتلقي أمام دراسة تتسم بالشمول والعمق، فالمسح الشامل للقول المأثور عند كونفشيوس وعند الفلاسفة والمسيح وفي الثقافة العربية الإسلامية في القرآن والسنة وبعض فلاسفة المسلمين مثل الفارابي وغيره، وصولا إلى العصر الحديث والفلسفة الغربية بثرائها وسياقاتها المتنوعة وتماوجاتها اللامحدودة تقريبا، ثم وصولا إلى عصر الميديا ووسائل التواصل الاجتماعي وأثرها في السياسة أو في المعرفة أو الحكمة والفلسفة وخلخلة الرأي العام وغيرها من الآثار والتداعيات الواسعة أو اللامحدودة، فيما يمثل تنبيها مهما لمخاطر أنواع الخطاب وما يمتلك من سلطة وقدرة في كل العصر بما يجعله يحكم سلوك البشر وتشكيل العقل الجمعي وصياغته.

كما قارب المؤلف كذلك بنية القول المأثور الفنية واستكشف سماته أو خصائصه الأدبية عبر العصور والثقافات المختلفة، فهو حسب المؤلف: “إن القول المأثور من أدب الحكمة، بسيط في العادة، وعبارته منسوجة على نحو حسن، ومتوازية في الإيقاع، وهذا يجعل سردها واستدعاءها أمرا يسيرا”.

ويبدو أن المؤلف قد كان شغوفا بالقول المأثور في التراث الصيني تحديدا، حيث نال وقفة مطولة في الكتاب، قارب فيها أثر القول المأثور في الثقافة الصينية القديمة وأهميته بالنسبة للمعلم الروحي والقائد في تلك الحضارات والدويلات المتجاورة، ودوره في نقل التعاليم والأخلاقيات والخبرات وترسيخها، وتأثير القول المأثور في تكوين ما يعرف بالمدرسة الروحية أو الافتراضية إذ كانت سلطة المعلم هي المدرسة أو هي المؤسسة إن شئنا الدقة في التوصيف. فكأن القول المأثور هو ما كان يحرك البشر في بعض المراحل أو يتحكم في ذهنيتهم وكان يتحكم فيما يتحقق من حالات من النزاع أو التوافق أو غيرها من التحولات المختلفة في الثقافة الصينية التي غلب عليها الحكمة، وهي حكمة إن شئنا الدقة ارتكزت على الشعر الروحي والقول المأثور والتأملات النقدية والبلاغية لثقافة منحت اللغة قدرها ومكانتها وتقدير دورها في تشكيل الحضارة ورسم ملامحها.

وهكذا نجد أن المؤلف قد غاص عميقا في درس القول المأثور واستكشافه على المستويات التاريخية والسياقية واختلافه من حضارة إلى أخرى ومن عصر أو زمن إلى آخر، فقد كان القول المأثور اختزالا بصورة ما للثقافة التي يصدر فيها، وكذلك غاص في استكشافه على المستويين التركيبي والبلاغي، وفي التركيبي كان لمّاحا في استكشاف السمات اللغوية بمثل ما حاول استكشاف السرد وحاول أن يتفاعل تأويليا مع بعض الأمثلة والنماذج والأنماط من القول المأثور، بما هو متحقق فيها من التباين أو الاختلاف بين نماذج سلسلة تماما وذات طابع نسقي واختزالي للمعرفة والخبرات الإنسانية وأخرى ذات طابع تأملي فلسفي ربما لا يكون مطلقها نفسها واعيا تماما بكل ما فيها من دلالات ومعان. واستكشف المؤلف كثيرا من النماذج التي تتأرجح الدلالات فيها بين الخبرات الحياتية والتعاليم السلوكية والأخلاقية وبين أخرى فيها تأمل وجدل أو ديالكتيك بين التعبير والصمت أو بين الأرض والسماء، بين الفيزيقي والميتافيزيقي، وهكذا تتضح الوشائج ونقاط الالتقاء والارتباط والجذور الأولى التي تجمع بين القول المأثور والأقوال العقدية والدينية والروحية.

وتتجلى في القول المأثور اختزالات ليست أدبية فقط، لكنها بالأحرى فلسفية وروحانية كانت منحة اللغة للبشر ليسجلوا ما يدور في نفوسهم وداخل عقولهم حتى يتم تناقلها عبر الأجيال والأزمان، وسيشعر المتلقي أن القول المأثور وفق هذه المقاربة المتعمقة أقرب للغة تفرض نفسها على صاحبها أو أنها تجربة لغوية فوق كل لغة، فهي في المساحة البينية للشعر ولغة النثر والحياة اليومية أو لغة العبادة والتعاليم، ليكون القول المأثور في هذه المنطقة الوسطى التي تلتقي فيها كل هذه الأنواع الأخرى، ليكون مزيجا منها جميعا في بعض صوره وتمثلاته أو حالاته ونماذجه التي أنتجها الحكماء أو الفلاسفة ورجال الدين، فهي نصوص غير دينية ولكن لا يمكن نزعها وفصلها تماما عن النسق الديني والروحي العام الذي شكّل منبعا لكثير منها، وهي كذلك ليست نصوصا فلسفية خالصة، ولكن أيضا لا يمكن فصلها عن منابعها الفلسفة ودوافعها الأولى التي هي دوافع فلسفية لكنها تبدو أكثر عفوية وأكثر تحررا من المنهج والصرامة الفكرية.

أمينة مكتبة جيه بي مورغان امرأة سوداء في زمن العنصرية

لديّ اعتراف: أنا لست من محبّي المجاز التصويري الماضوي. بدءاً من فيلم نيلا لارسن الكلاسيكي مضى في عام 1929، إلى النسخة الأصلية من تقليد الحياة (فيلم من 1934، من بطولة فريدي واشنطن في دور بيولا الذي لا يضاهى؛ الفتاة الصغيرة التي أرادت أن تكون بيضاء)، وصولاً إلى رواية بريت بينيت لعام 2020 النصف المختفي، فإن فكرةَ شخص أسود يتمظهر كأبيض للهروب من سواده هي فكرةٌ تُشعِر… بالتعب والملل.

«في الأعماق، يريد كلّ السود أن يكونوا بيضاً». سمعت هذه العبارة في أحد صفوف علم النفس الاجتماعي تتكرَّر كما لو كانت حقيقةً بديهية، وهي ليست كذلك. في عدة مراحل من طفولتي، وبوصفي شخصاً بالغاً، أحببت فكرة أن أكون ثرية، لكن بيضاء؟ لا أستطيع تخيّل ذلك. لن أكون أنا.

وهذا، أساساً، هو جوهر كتاب أمينة المكتبة الخاصة، وهي رواية جديدة من تأليف هيذر تيريل (Heather Terrell) (وهي تَكتب باسم ماري بنديكت) وفيكتوريا كريستوفر ميوريه. كانت بطلتهما، بيل دا كوستا غرين، واحدة من أبرز النساء العاملات في عصرها. بصفتها أمينة المكتبة الخاصة للخبير المالي جي بي مورغان، تابعتْ ونظمتْ مجموعةً من الكتبِ النادرة، والمخطوطاتِ، والقطعِ الفنية، التي أصبحت مشهورة عالمياً.

تسجيلهم كبيض يسبّب انفصال الأسرة

ما لم يعرفه العالم أنّ بيل دا كوستا غرين كانت سوداء، أو، بِلُغةِ اليوم، ملوّنة. وُلِدت غرين في عائلة بارزة من سكان واشنطن الخلاسيين في عام 1883. كان والداها من المثقفين؛ حيث والدها، ريتشارد تي غرينر، كان أول أسود يتخرج في جامعة هارفارد، كما كان أيضاً رجلاً متحمّساً قضى حياته يضغط لأجل المساواة العرقية. قررت والدة غرين، جينيفيف فليت، أنّ المساواة العرقية لن تحدث في مدّة حياتها، ولهذا، بعد انتقال الأسرة إلى نيويورك، صرّحت بأن العائلة بيضاء في إحصائيّة تعداد ولاية نيويورك عام 1905. أصبحت هذه الخدعة سبباً لصَدعٍ كبير: انفصل والدا غرين، وعاشت عائلتها بعد ذلك بيضاء.

بيل ماريون غرينر صار اسمها بيل دا كوستا غرين، ودا كوستا يشير إلى جدة برتغالية مختلقة، وهو تفسير مناسب لبشرة بيل زيتونية اللون. (تُظهر الصورُ المعاصرة امرأةً جذابة يميِّزُها العديدُ من السودِ، على الفور، كقريبةٍ لهم؛ وتظهر أن الأشخاص البيض من العصر الذهبي كان خداعهم أسهل).

بيل تجتمع مع جيه.بيربونت مورغان

اعتمدت حظوظ العائلة بأكملها (مكان معيشتهم ومهنهم وكل شيء)، بشكل كامل، على هوية بيل البيضاء، كما كانت والدتها تذكِّرها باستمرار. عندما صارت صديقة لابن شقيق الخبير المالي جيه بيربونت مورغان، وقد كانا يعملان في مكتبة الكتب النادرة في برينستون، اقترح الشاب مورغان على عمّه أن يعتبر بيل أمينةً لمكتبته الخاصة. أثناء المقابلة، راقَ لمورغان شيءٌ شفَّ عن ذكاء الشابة، وروح الدعابة لديها؛ فتم تعيينها على الفور.

أصبحت بيل قوةً بذاتها، يتودّد إليها تجار الأعمال الفنية، ويتبنّاها أصحاب النفوذ الاجتماعي، وتوصف بأنّها محترفة أنيقة في وقت كانت فيه النساء العاملات نادرات.

عندما بدأ الاثنان العمل بشكل وثيق معاً، صار مورغان يثق في رؤية بيل وخبرتها، وكان يعي أن مجموعته، تحت عينيها الفطنتين، ستكون مجموعة متنوعة من النوادر لا يمكن إلا لرجل واحد فقط من أغنى أغنياء العالم أن يقتنيها. كان باستطاعة بيل أن تمدّ وتزوّد بما فُقد من ربطٍ مهم: السياق. وبالفعل، أصبحت مكتبة مورغان معروفةً بوصفها مجموعةً خاصة من الكتب النادرة والمخطوطات والفنون، التي تنافس المؤسسات العامة المرموقة مثل المتحف البريطاني. بصفتها كانت، حَرْفياً، وجهَ المكتبة، أصبحت بيل قوة في حدّ ذاتها، يتودد إليها تجار الأعمال الفنية، ويتبناها أصحاب النفوذ الاجتماعي، وتوصف بأنّها محترفة أنيقة في وقت كانت فيه النساء العاملات نادرات.

دفع الثمن لحياة جديدة

ولكن، كما أظهرت بنديكت وميوريه، كانت هناك تكلفة باهظة للحفاظ على تلك الواجهة؛ انقطعت بيل عن عائلتها المحبوبة في العاصمة. تقول: «بمجرد أن اتخذتْ أمي القرار بأن نعيش كالبيض لم يعد بإمكاننا المخاطرة». وبينما كان لديها العديد من العشاق (بمن في ذلك مؤرخ الفن الشهير برنارد بيرينسون)، لم تستطع الزواج من أحد:

«لقد عرفتُ دائماً أنّ العلاقة التقليدية، بسبب إرثي، لن تكون ممكنةً بالنسبة إلي… لأنّ الزواج يعني الأطفال، وهذا شيء لا يمكنني المخاطرة به. من دون البشرة الفاتحة لأقربائي، لم أستطع أبداً تحمل أن يولد لي طفلٌ ربما يكشف لونُ بشرته خداعي».

تقوم بنديكت، وهي بيضاء، وميوريه، وهي أمريكية من أصل أفريقي، بعمل جيّد في تصويرهما الحبلَ المشدود الذي سارت عليه الحسناء، وصراعها الداخلي من كلا الجانبين: الرغبة في التمسك برغبات والدتها والمضي عبر العالم كبيضاء، وتوقها إلى أن تظهر لوالدها أنّها فخورة بعرقها. وكما كانت لدى بيل وربِّ عملها، كانت لدى بنديكت وميوريه كيمياءُ فورية تقريباً، ونتيجةً لذلك أصبح سردُ الكتاب سلساً. وعلى الرغم من نفوري من المجاز التصويري الماضوي، بتُّ مشدودةً للكتاب.

بيل دا كوستا غرين ليست، الآن، في مقدمة وقلب قصة مكتبة مورغان، بل ستكون أكثر بروزاً عندما تحتفل المكتبة بالذكرى المئوية لتأسيسها كمؤسسة عامة في عام 2024، وهو أمر مناسب؛ حيث أقنعتْ جاك مورغان بالتبرّع بمكتبة والده المذهلة للمدينة. إنها هديةٌ تكرّم جيه. بي. مورغان وأحفاده، وأمينة المكتبة الخاصة، التي كانت عاملاً حاسماَ في نجاح مورغان.

بقلم: كارين غريغسبي بيتس

نظرية السيارة الحمراء

سارة العتيبي

في موسوعةِ الخيال تخيَّل بأنك تقودُ السيارة متوجهاً الى العمل، وتم سؤالك كم عدد السيارات الحمراء التي رأيتها اليوم في الطريق ؟
من المحتمل .. لن تعرف الإجابة؛ لأنَّك لم تبحث عنها بمُبالاة ولم تُعرها اهتماماً.
ولكن ماذا لو تم اخبارُك قبل أن تقود سيارتك الى العمل بأنّ تلاحظ عدد السيارات الحمراء في طريقك ؟
وبالمقابل على كل سيارة حمراء تجدها ستحصل على 100 دولار نقداً، ستلاحظ نفسك بدأت بالبحث عن سياراتٍ حمراء تلقائيًا وبوعيٍ تام وبتركيزٍ أكبر، وسوف تبدأ بملاحظة سياراتٍ حمراء موجودة في كل مكان وسيصبح عقلك اكثر وعياً بها، وبذلك ستبدو السيارات الحمراء وكأنَّها تتكاثر بينما هي في الواقع عكس ذلك.
نظرية السيارة الحمراء (Red car Theory) هي نظرية تشير إلى آلية إدراك الفرص المحيطة وملخصها أن إدراك الأفراد للفرص المحيطة بهم يتأثر بما يختارون التركيز عليه من أهداف، وعليه سيشعرُ الفرد كما لو أن الفرص زادت من حوله بعد أن ركز على هدف معين.
آلية تطبيق نظرية السيارة الحمراء:
يمكن الاستفادة من نظرية السيارة الحمراء في تحقيق إنجازات عديدة على الصعيدين الشخصي والمهني، ويمكن تطبيقها من خلال برمجة الدماغ على التفكير بالطريقة الآتية : التركيز على الهدف المراد تحقيقه وإمداد العقل بالكلمات المفتاحية التي تساعد على ذلك، – وبناء تصور عقلي يركز على النتيجة المراد تحقيقها من الحصول على الفرص، والمثابرة في التركيز على الأهداف المرجوة، وتوسيع الوعي بالفرص المحيطة.
• عندما تسيرُ في الحياة وأنت غير واعي بما يدورُ حولك، ستمرُ الحظوظ والفرص وانت لم تعرها اهتماماً قط، إنَّ كلُ شيءٍ يمكن تحويلهُ الى فرصة!. كُن أكثر وعياً واستمِر في البحث.

يا ترى كم سيارة حمراء ستلاحظها اليوم؟

سنة حلوة يا أنتوني ترولوب! بعد أن أكمل ترولوب 200 سنة، جربوا القراءة لهُ. قد تستيقظوا من نومكم ضاحكين!

قد لا يكون أنتوني ترولوب، بشكل عام، جزءاً أساسياً من فهم الناس للأدب الفيكتوري؛ فهو لم يحقق النجاح الذي حقّقه آخرون أمثال ديكنز أو إليوت، ولكن لمّا كان بلغ مؤخراً ٢٠٠ سنة من عمرهِ، فقد ترونه على أختامكم البريدية على موائد الإفطار عمّا قريب. يبدو أنَّهُ الوقت المناسب لتشجيعكم على قراءته.

كتبَ ترولوب ونشرَ بلا كلل. كان يسيطر على المشهد الأدبي طالما أنّهُ يلاقي اهتماماً من الطبقات الوسطى المُنعّمة بالرفاهية، في أكثر أعمالهِ شعبيةً خلال ستينيات القرن التاسع عشر. تخيّل القراء شخصياته، وكتبوا عنهم كما لو كانوا أشخاصاً حقيقيين. وقد كان ترولوب صورة لحياة أرباب المهن الحرة وأصحاب الأراضي ممن يعترف الناس بهم ويثقون. كان ديكنز يبيع المزيد من نُسخ أعمالهِ باستمرار وهذه حقيقةًوكان لديه العديد من القُرّاء من الأُسَر الأقل ثراءً. وقد يُقال: إن كل من قرأ لترولوب قرأ لديكنز كذلك، ولكنليس كل قُرَّاء ديكنز كانوا من معجبي ترولوب.

تخصص ترولوب في الكتابة عن حياة الطبقات الوسطى والعليا، وجهود الأفراد للتصرف بأخلاقية في عالمٍ يتغير سريعاً؛ حيث يحقق الناس ثروات ويخسرونها، وتتم الزيجات مقابل المال أكثر منها لأجل الحب. لقد تم تحديث عالم جين أوستن إلى عالم السكك الحديد، والباخرات، والتلغرافات، وإصلاح النظام الانتخابي، والجدالات من أجل حقوق المرأة، والتمثيل السياسي للطبقة العاملة.

كانت الحياة حافلةً أكثر، وكانت القطارات تنقل الناس من أبعد المناطق الريفية إلى لندن كلّ يوم، جالبين معهم أزياء لندن، وأموال لندن، وجرائم لندن، وأفكار لندن إلى الريف. حتى في كنيسة إنكلترا، بدأت الأفكار الجديدة والطموح الاجتماعي والسياسي والسعي وراء الثروة تزداد وضوحاً بصورةٍ يومية

روايات ترولوب مسلية ومُشوَّقةً للغاية ومؤثرة في أحيانٍ كثيرة، ولكن،في جوهرها، ثمة مشكلةٌ أزليةٌ حول كيفية عيش حياةٍ هانئة في عالمٍ خطِر وشرير رُبما. تتساءل شخصياته باستمرار في حال كان بإرادتهم القيام بأفضل ما يمكنهم لأجل أنفسهم، فباستطاعتهم أيضاً فِعلُ أشياء جيدة لعائلاتهم وللإنسانية برمّتها.

نساء ترولوب

يتوق الشبّان والشابات إلى زواجٍ يُلّبي الرغبات المناقضة للعلاقات الغرامية، والإشباع الجنسي، والثراء، والاحترام الاجتماعي؛فالفكتوريون مُتهمون، غالباً، بتجاهل جنسانية الشخصيات، ورغمذلك، ابتكر ترولوب شخصية شابة أرستقراطية تقول إنها تودّ أن «تظفر» بشاب وسيم من أعضاء البرلمان. وشخصية ابنة مراهقة لعائلة محترمة تقول: إن الزواج، بالنسبة إلى الرجال، مثل شراء الجُبْن: يرغبون في تذوق العديد من القِطع قبل أن يشتروها

ينبغي أن تُقرأ روايات ترولوب بتبصُّر، وهذهِ عقبةٌ أمام شُهرتهِ اليوم؛ فرواياته طويلة، وتتطلب منا الاهتمام بكلّ درجات الفكر والمشاعر المحيطة بأفراد أُسَر الطبقة الوسطى أو العليا في الفترة ما بين 1850-1882. ولكن، إذا نظرنا إلى ما بعد تفاصيل هذه الفترة نجد أنّ ترولوب هو  الروائي الذكر الذي يمنح شخصياته النسائية أكثر الأفكار والطموحات قوةً.

إذ إنّ نساءه، على وجه العموم، ذكيات وذوات معرفة واسعة، في كثير من الأحيان، مثل رجاله. لا يمكنك قول هذا عن شخصيات نساء ديكنز، وثاكري، وميريديث، أو كولينز. ولكن، بطبيعة الحال، إنّ روايات ترولوب مكتوبة لتكون مقبولةً اجتماعياً كما يقول الفيكتوريين؛ حيث يمكن للأم أن تسمح لابنتها بقراءتها. وقبل كلّشيء، إنّ رواياته ممتعة. اقرأوا كلمة الأميرة الملكية، التي كتبت إلى والدتها، الملكة فيكتوريا، في عام 1858، قائلةً:

«أعجبتني رواية (صروح بارچستر) كثيراً؛ إنها تجعل المرء يضحك حدَّ البكاء؛ إنها حقيقيةٌ للغاية؛ لكنّي أظنها ماكرة ومثيرة إلى حدٍّ ما». 

ويُقال إن الكاردينال نيومان (شاعر ولاهوتي وفيلسوف وكاهنأنجيليكانيّ) استيقظ في الليل ضاحكاً على ما قد قرأه لترولوب.

من أين نبدأ القراءة لأنتوني ترولوب؟

رواية صروح بارچستر (1857) ممتازة للقارئ بوصفها بدايةً؛إنها عمل ترولوب المبكر. قد لا تكون مهتماً بسياسة حرم الكاتدرائية، لكن لا يزال هناك الكثير فيها لتستمتع به. رواية الدكتور ثورن(1858) ممتعة وسهلة القراءة على حدّ سواء. ورواية جواهر ثمينة هي الرواية المفضلة لظرافتها وإبداعها، وهي، بالمناسبة، الرواية التي ينتظر الرجل العجوز الأعمى في قصيدة تي.إس.إليوت «جيرونشن»المقتبسة جزئياً من الشاعر إدوارد فيتزجيرالدأن يقرأها «ولده» له.

تُشكِّل العديد من رواياته استفزازاً أكبر مثل رواية الطريقة التي نحيا بها اليوم (1874-1875)، وتُعدّ بمنزلة هجماتٍ متواصلة على مجتمع يسيطر عليه المال والمضاربات التجارية؛ إذ يمارس الأثرياء سلطة سياسية غير متكافئة. أما رواية رئيس الوزراء(1875-1876) فهي من الأعمال التي أُسيء فهمها إلى حدٍّ كبير، وهي حول التخلي عن السلطة من قبل سياسي أرستقراطي ثريّ يحب القيم القديمة، التي نشأ معها، لكنه، مثل مؤلفه، يريد للقوى السياسية والرفاهية أن ينتشرا على نطاق واسع بما يمليه عليه ضميره

لقد استصعب ترولوب أن يعيش حياةً هنيئةً حقيقية في عالم معطوب. من الصعب أن نعرف لماذا يعتقد الناس أن ترولوب رضخ للأمر، بشكلٍ مطلق؛  لأنه فهم عصره وضحك عليه. والحقيقة أنه تحول، بوساطة منتقديه، إلى شخص مُمتثل للأعراف والعادات ومنغلق، وذلك لأن العديد من منتقديه كانوا، شخصياً، مُمتثلين للأعراف والتقاليد، ومُنغلقين على مرّ السنين.

اقرؤوا ترولوب بذهنٍ منفتح، وتحلّوا بالصبر على الأسلوب الكتابيّ لعصر يعيش معظم أُناسه حياة مرفهة.اتبع الراوي فحسب، وسوف تجد طريقك عَبْرَ هذا العالم الثري جداً لهذا الروائي العظيم الذي عاش في منتصف الحقبة الفيكتورية

 

بقلم: ديفيد سكلتون

ترجمة: زينب بني سعد

وقفات تأملية مع رواية «الاستدارة الأخيرة» لأحمد الزمام

بطبعي لا أميل للروايات والنصوص الأدبية السطحية التي لا تعتمد على أفكار عميقة أو «تيمة» معينة تجمع شتات العمل الأدبي، وتجعلني أستحضر الكاتب كقيمة فكرية وفلسفية أثناء القراءة، وهذه – أي الأفكار والفلسفات- قد تكون متناثرةً في النص، ونقبل بها على هذا النحو ونتغاضى- على مضض- عن غيابها المحوري، فالأفكار الأساسية يصعب تحميلها بهذا الهم، وهو ما درجت عليه كثير من الروايات العالمية، ومع ذلك لا يمكننا تجاهل حقيقة أنَّ نجاح الكاتب في الانطلاق من أفكار رئيسة بهذه المواصفات؛ يعد إبداعًا وتوفيقًا يُسهِّل عليه إتمامَ العمل ومنحَـه الصفةَ الإبداعية، ولدينا أيضًا شواهدُ كثيرةٌ من الإبداع الروائي العالمي، نحا هذا المنحى كرواية «المسخ» لـ «فرانس كافكا» و»شيفرة دافنتشي» لـ «دان براون»، وعلى المستوى العربي، نراه في «ذاكرة الجسد» لأحلام مستغانمي، واللص والكلاب لـ «نجيب محفوظ»، وغيرها كثير من الأعمال الإبداعية العالمية.

ذلك بالطبع ما وقَفْتُ عليه من اللحظة الأولى التي أمسكت فيها برواية «الاستدارة الأخيرة» للكاتب الكويتي المبدع، أحمد الزمام التي تقع في 424 صفحة من القطع المتوسط، عندما وجدتُـه ينطلق من فكرةٍ خلَّاقةٍ؛ تعتمد على جنس الإنسان وجندريته، والصراع الكبير المحتدم بين الجنسيين لفرض أجندتهما، وسعي كل واحد منهما لتهميش الآخر والقضاء عليه، وعدم اعترافهما بالفطرة السوية التي خُلقا عليها، بمقتضياتها التي تسندُ لكل منهما مهامَّ وواجبات وحقوقًا محددة، لا ينبغي تخطيها، فتصور لنا السردية عالـمًـا افتراضيًا تخيليًا أصبح أنثويًا وليس ذكوريًا، وتخلق صراعًا دراميًا كبيرًا تحت هذه المظلة، وهو التصور المبنى على أرقام متداولة تخشى من ازدياد أعداد الإناث مستقبلًا، مقارنة بعدد الذكور، وتأثير هذا البعد الديموغرافي على الحياة الاجتماعية للبشرية، ما دفع كاتبَنا المبدع لاستلال هذا البعد الواقعي؛ ومزجه بالخيال والانطلاق بنا في رحلة ماتعة، لتصور هذا العالم الجديد، الخاضع كليَّةً لهيمنة الإناث من خلال المملكة النسائية؛ التي بات فيها الرجل كمًّا مُهملاً يزدريه الجميع، وتطبق عليه الأنظمة الظالمة التي كانت تطبق على النساء وقت أن كان العالمُ ذكوريًا، بل وصل الأمر لمحاولة اجتثاثهم كلية، والإبقاء على عدد قليل جدًا يُستخدمون للتكاثر والإنجاب فقط، بالضبط كما يحدث في تدجين الحيوانات المستأنسة.

هذه الفكرةُ الخلاقةُ منحت العملَ قيمةً كبيرةً؛ خاصةً مع وجود راوٍ متكلمٍ ذكر، يعايش كل هذه الانتكاسة للفطرة الإنسانية، ويعاني الأمرَّينِ من اضطهاد الأنثى له، من خلال زوجة أبيه ومعلمته، وهو ما ينسحب بالتأكيد على كل الرجال بعد أن أصبحت العصمة بأيديهن، وأصبح القرار لهن، والجميل أنه أطلق السرد من انفراجة بسيطة في هذه العتمة التي أصبح العالم الافتراضي يعيشها، مستغلًا تنويرًا معينًا يسبق عادة التغيير الجذري ويهز أركان الواقع من جذوره، ليأخذنا برفقة هذا الشاب المشغول بالتاريخ وقد بات يتململ من الظلم الواقع على الرجال ما جعل غاية أمنياتهم أن يكونوا إناثًا.

هذه الرحلة الشيقة التي أجاد الراوي المتكلم في وصفها، متنقلًا بين الحِقب العمرية التي عاشها كطفلٍ وشابٍ؛ أظهرت لنا البعد الفلسفي الجميل، الذي تريد السرديةُ مناقشتَهُ بشكل إبداعي، تغيب عنه المباشرةُ والتقريرية، رغم اعتمادها على أفكار فرعية مهمة، تُصور – على سبيل المثال – العاطفة الأنثوية، وقدرتها على التحكم في قراراتهن، وكذلك الحدية المرضية التي عادة ما تتصف بها أغلب الإناث فسيولوجيًا؛ ويقلل من تأثيرها علمها وثقافتها وتحضرها، وكذلك وجود الرجل العاقل الذي يهذب كثيرًا من جنونها السلوكي وشطحاتها؛ إن كان زمام الأمر بيده؛ وكان بالمواصفات المثالية، ولم يكن الوجهَ الآخرَ لنفس العملة.

هذا الأثر السلوكي عادة لا يظهر مع استمرارية دورة الحياة الاجتماعية، التي تخفي كثيرًا من عيوبها، رغم التجاذبات والإشكاليات الداخلية، فكان الحل في مناقشة هذه الفكرة الجنونية سرديًا، من خلال البعد التخييلي، وخلق واقع افتراضي يحمل كل هذه المكونات ويفاقم من ظهورها وشيوعها، وبالتالي قلب الصورة، ووضع الأمر كله في أيدي النساء، ليظهر ما خفي من سلوكيات الأنثى المهيمنة، وترك هذه الحقيقة تتشكل تدريجيًا من خلال السياق الدرامي المتنامي، ودون أي تدخلٍ مباشرٍ من الكاتب، وقد اختار منح المشاهد – بمكوناتها المادية وغير المادية – القدرة على التعبير، وإيصال المفاهيم المستهدفة موضع النزاع، وتشكل رأي القارئ بطريقة غاية في الروعة، اعتمادًا على الصراع الدرامي الواقعي المحتدم في النص.

هذه الفكرة الإبداعية ستصل للمتلقي متى ما استطاع تجاوز البداية التي شابها شيء من صعوبة الفهم والاندماج معها، مما قد يصرف القارئَ العجولَ أو غيرَ الواثق بالكاتب والكتاب؛ لافتقارها إلى حد ما للاستحواذ الإبداعي، الذي يعد ركيزة أساسية في صياغة بداية الأعمال الكتابية الإبداعية، وكان حريًا بالكاتب الاهتمام به في المعالجة النهائية، طالما كان بصدد تدوين عمل كبير يشعر بقيمته، فالغموض والاستفهامات المحفزة للقارئ، والتشويق والإثارة وكل ما يتعلق بتجويد البداية المستحوذة؛ يعد سلاحًا ذو حدين، واللعب به قد يجرح النص أو يقتله، لذلك ينبغي توخي الحذر الشديد عند استخدامه خشية صرف القارئ عن المتابعة في حال لم يقنن هذا الاستخدام، كما ينبغي تأجيل إظهار قوة النص وقيمته في البعد الفكري والفلسفي، إلى ما بعد بناء علاقة جيدة بالقارئ ودفعه لمحبة العمل، وفي كل الأحوال لن نأتي بجديد إذا قلنا: إنَّ البدايات هي وقودُ النهايات، ولا يمكن لأي عمل إبداعي إهمال أي منها.

وإذا ما تجاوزنا هذه البداية المجهدة، سيفصح العمل عن قيمته الحقيقية وسيأخذنا معه في رحلة محفوفة بالجمال والإبداع، مُظهرًا لنا قدرة النص العجيبة والفائقة على التنقل بين المشاهد، من دون أي محددات شكلية، فالمشاهد متصلة في تدوينها – رغم انفصالها وابتعادها الزماني والمكاني وتعدد شخوصها وأصواتها – بطريقة غاية في الصعوبة، تجعلك تشعر وكأنك في دوامة لا تستطيع الخروجَ منها، مما يتطلب تركيزًا كبيرًا من القارئ، حتى لا يفلتَ أحدُ خيوطَ الحكاية من بين يديه، فالسارد أجاد التنقل برشاقة كبيرة بين عدة مشاهد تختلف أمكنتها وأزمنتها، وحتى شخوصها، والعودة في كل مرة للمشاهد الابتدائية بطريقة غاية في الروعة، وكانت تحمل شيئًا من التشويق، وذكاء النص وإن كانت تخلق مكابدة في الفهم والتتبع، قد لا يقوى عليها القارئ العادي إن لم تستهوِه الحكاية وتدفعه لتتبع أحداثها وتوقع نهاياتها، وفي كل الأحوال يمكننا القول: إنَّ السرد نجح في ضبط هذا التلقي بدرجة كبيرة للقارئ النخبوي، رغم إنَّ الخيوط كادت تفلت من بين يديه في بعض المواضع، فالمنهجية الكتابية التي اتبعت هنا مرهقة جدًا في الكتابة والتلقي على حد سواء، ما يجعلني أكاد أجزم أنها أرهقت الكاتب كثيرًا، ودفعته لإعادة حياكتها على هذا النحو الإبداعي المتحدي للقارئ، ولم تكتب هكذا من بدايتها، ولا أظنه إلا قد عانى الأمرين في ربطها بهذا الإحكام، والعودة لجزئياتها في كل مرة، والاستمرار في تسلسلها من دون انقطاع، لكنه في ما يبدو هاجس الإبداع، الذي استحوذ على الكاتب ودفعه لتعمد خلق صعوباتٍ معينةٍ والتلذذ بتجاوزها، وأظنه نجح كثيرًا في ذلك، وأصبحت سمة فريدة تميز هذا العمل، وتخلق قيمته الحقيقة على الجانب البنائي والأسلوبي بعيدًا عن الفكرة الأساس التي يناقشها.

غياب المحددات الذي اتسم به العمل شمل أيضًا أساليب السرد المختلفة وتقنياته بذات السلاسة، فلا تكاد تشعر بالتنقل بين الوصف الصريح، والتلغيز المبهم، وتعرية الوقائع وفلسفتها، والمونولوج الداخلي، والحوار، والتقديم والتأخير للنهايات والبدايات، وتعدد الرواة؛ وتنقلهم بين ضمير المتكلم بشقيه الأنثوي والذكري، والراوي العليم الذي بقي حاضرًا معهما حتى آخر قطرة من السردية، وكل ذلك يدفعنا للانبهار بقدرة الكاتب على خلق هذا المزيج الإبداعي التعددي، من دون ضياع النص من بين يديه، تاركًا لنا أنموذجًا فريدًا وأصيلًا للكتابة الإبداعية المتطورة جدًا.

= الوقوف عند التفاصيل الصغيرة كمنهجية إبداعية؛ نالت حقها أيضًا من الاهتمام في مجمل العمل، ويمكن رؤية ذلك في تنامي المشاعر بين السارد الأساس، وحبيبته «لورا» على سبيل المثال، وهو البعد الرومانسي الجميل الذي لم يُهمل رغم ثانويته وهامشيته، ووجدنا الكاتب يبدع في عرضه وتناميه واستيلاده من العدم بطريقة رائعة وجميلة وواقعية، تاركًا له المساحة السردية التي تتناسب مع حجمه واتصاله بالفكرة الأساس، لنشاهد على مكث ولادته الطبيعية ونموه ونضجه على نار هادئة، وهي الصورة المثالية للعلاقة العاطفية التي غالبًا ما تمر بفترة مخاض صعبة سواء أكانت ظاهرة موصوفة أم مضمرة تظهرها الأنساق المختلفة للعلاقة، ولقد نجح الكاتب بامتياز في رسم هذه العلاقة بالدقة المطلوبة، إذ إننا وصلنا إلى الصفحة الثمانين دون أن يظهر بشكل واضح نوع العلاقة التي تربط لورا بالبطل، بل إنَّ المصارحة الحقيقية بالمشاعر لم تظهر إلا في الصفحات الخمسين الأخيرة، وكانت إشارة خفيفة لا تتعدى المفردة أو المفردتين إذ إنَّ أغلب شواهد هذه العلاقة، بقيت مضمرة تتشكل داخل ذهن القارئ، وتنساق خلفها مشاعره، وتظهرها ابتساماته المتعددة، أثناء القراءة، والجميل أنَّ تلك اللحظات المسروقة من سياق الفكرة الأساس، لا تبتعد عنها بالمطلق إذ إنها جسدت اهتمامات مشتركة حول القلعة وما يحيط بها من غموض، وتعمد الكاتب توظيفها كمتضادات ترسم لنا الصورة الإنسانية المثالية التي لا يمكن استبصارها ووصول مغازيها العميقة بدونها، فانتك اس الفطرة السوية يحتاج إلى شاهد يظهره؛ تمثل في لورا والسارد المتكلم الأساس، فكلاهما حمل مشاعر معتدلة ومنصفة للجنسين تبتعد كلية عن الحدية التي غرق فيها الجميع تقريبًا، إذا ما استثنينا الشيخ الحكاء الذي مثل ضلعهم الثالث، واستلم زمام السرد معهما وأوكل إليه فك تشابك الحكاية وتمهيد الطريق نحو النهاية.

إن قيمة هذا العمل في بعده الفلسفي؛ لم يغيِّب الاهتمام باللغة الأدبية، بل كانت اللغة الأدبية ضمن أهم ما تميز به من خلال عدد كبير جدًا من الأساليب البلاغية والجمل البديعة والصور الشاعرية والأنسنة والتشيئة، يمكننا رؤية هذا الجمال في عدد كبير من المحطات كقول السارد ص182: «لم أكن أدري أنَّ الحياة ستصبّ جامَ قسوتها عليَّ. كانت لطيفة ودودًا بوجود أبي، إنّه الأمان الذي حرس الروح من كلِ ّ الشرور،» وقوله ص318: «ظلّت لورا تتضوَّر انزعاجًا طوال طريقنا»، وقوله أيضًا ص322: «أتذكَّر كيف ألقت بزخم أفكارها على الأرض ترسمها، وتضع لكلِّ احتمالٍ حدثًا من الأحداث، ولو كان ضئيلاً، وتوجد حلَّا لا يعرقل خطَّتها.» وقولها ص325: «صاح الحفيد بصوت مسموع حين اكتملت الاستدارة الأولى: «الأولى»، ثمّ راح الجمع من عشيرة مامي يعدّون معه عدًّا يفهمنا جميعًا أنَّ عليَّ الوقوف نهاية الاستدارة السابعة، ولكن، قبل لفظ كلمةٍ أغرب بها عن وجه الحياة،» وقولها ص 381: «يحين مجيء النعاس ساخرًا مع طلوع الشمس، ويعاركني الأرق، فيجعلني أضحوكته التي يتسامر عليها طوال الليل،» ولعلي أختم بعبارتين تستحق التمعن فيهما أتت أولاها في ص 398 قبل مغادرتنا بقليل وهي المحطة الكتابية التي تكثر فيها الأخطاء، وتتسم بالسرعة غير المنضبطة، بينما وجدنا السارد هنا لايزال محافظًا على انضباطية سرده، ولم يغب الجمال، وبقيت التفاصيل الصغيرة الإبداعية عنوانًا للمشهد تجلى كل ذلك في قوله: «لم أجد تعلَّة لطلبي ملابسَ نساء، غير أبي الذي خطر فجأة..» وكأن النص يتعمد وداعنا بمفردة جميلة نعبئ بها ذاكرتنا اللغوية كـ «تعلَّة» التي تعني علة أو سببًا يهرب به من استحقاق معين ويختبئ خلفه، وهو ما امتازت به هذه السردية باعتدال إبداعي دون اقتار أو تبذير، والقول الآخر أتى في ص 402 عند قوله: «لقد أصبت بإرهاق شديد، ويخُيَّلُ إليَّ أنّني أركض على أسطوانة التاريخ التي لا تنفكُّ تدور بلا توقُّف، مقاومًا السقوط إلى نهاية الحياة»، ليسحَرنا هنا بالتصوير الفني الإبداعي خلاف اللغة عند استخدامه أسلوبًا سرديًا، لا يخلو من الذكاء اللفظي والاحترام الشديد للمتلقي الجيد وصنع نهاية مدهشة، تربط القارئ بالعمل وتزيد من تعلقه به، فهذه العبارة على إيجازها الشديد وبساطتها، حملت معانيَ كبيرة وصورًا دقيقة، وهي تظهر لنا التاريخ المكتوب على هيئة برميل اسطواني يدور، وكاتبه يسير فوقه مما يرضه لخطر السقوط في كل لحظة، ويُشغله كثيرًا بمحاولة الحفاظ على اتزانه واستقراره فوقه، متأثرًا بعدة عوامل توشك أن تسقطه، منها دوران البرميل وتناسق حركة الجسد معها، والتأثير العقلي والهرموني، وأيضًا تأثير الرياح، ما ينعكس سلبًا على هيئته ويبطئ كثيرًا من تقدمه، وهذا بالضبط ما يحدث مع المؤرخ الذي تتنازعه أيضًا عدة عوامل كالحقيقة، وأهواء نفسه، ومشاعره الداخلية والخارجية، وكذلك القوة السياسية المهيمنة، فيتخبط بين كل هذه المؤثرات الشديدة في كتاباته التي يستشهد بها لاحقًا، ويتعامل معها المستفيدون منها وكأنها حقائق دامغة، بينما هي أبعد ما يكون عن ذلك.

أيضًا تجلى الاهتمام باللغة الأدبية، في طريقة صياغة الحوارات وتفردها وجمالها الأخاذ وبساطتها ومرورها العابر على السرد، من دون الشعور بها، حيث إنَّ حضورها كان بنفس الطريقة التي تحدثنا عنها سلفًا من غياب المحددات وعدم الاستقلالية ومزجها مع كافة العناصر السردية، حيث تظهر وتختفي فجأة، بالقدر الذي يتناسب مع الدور المنوط بها فقط، وبالقدر الذي يستحقه، وكان ذلك ظاهرًا في مجمل السرد لم يختلف كلية في كل الحوارات، حتى إننا بالكاد نشعر أنَّ العمل يتخلله أي حوار، كقوله ص 319: «كانت ابتساماته التي يرسلها بين الحين والآخر تثير استغرابي، ويخفيها عنّي كلَّما التفتُّ إليه. «ما الذي يسعدك لتبتسم هكذا؟!». «لا شيء». ثمّ ضحك ضحكة خفيفة، وأشاح بوجهه عنّي. «هل تكتم أمرًا؟!». «لا، فقط كنت أتذكّر جدّتي وطرافتها لأهوِّن على نفسي قليلاً شقاءَ المسير. »شقاء المسير؟!« أنت اقتطعت مسافات طويلة وشاقَّةً جدًّا منذ صغرك. لا، ليس الأمر كذلك». عاد يقهقه قائلاً: «هل نسيت ِ أنيِّ عدت من رحلة صيد قبل يومين؟». «أهذا ما أتعبك؟! لا أصدّق». ضحك.» وكما يلاحظ هنا أنَّ الحوار بسيط لا يخلو من الجمال وغياب المحددات، ولا يرهق السرد على الإطلاق، بل يمتزج معه بطريقة غاية في الجمال والسمو.

وشاهد آخر على تلك الحوارات الماتعة ما نطالعه في ص 332 في قوله: «ابتسمت. سألني الحفيد مشاكسًا: «ل ماذا هذه الابتسامة الآن؟». «قاسمتك ذاكرتَك التي تستعيد منها طرافة الجدّة». ضحك، ثمّ تنهد يقول: «أجل سأطمئنّ. لقد حملتكِ في صغركِ أمانةً من القلعة إلى جدّتي لتعودي إليها آمنة منتصرة». التزمت الصمت من دون أن أُشعره بأنَّني أسرُّ في قلبي شيئًا يبهجني، لا يعرفه أحد، وهو أمر جميل يصعب عليَّ إظهاره. هذا ما جعل للحبّ ألـمًا بالغًا. كانت تلك اللحظة الأخيرة المتردّدة التي أبت الرحيل هي الزواج به.» وهكذا نجد أغلب الحوارات – إن لم نقل جميعها – تصاغ بهذه الطريقة البسيطة والجميلة، وبهذا الاندماج الكلي في السرد من دون أي محددات لا شكلية ولا حتى كتابية، فقط ما يساعد على الانتباه لها وتمييزها كأسلوب كتابي مختلف امتازت به هذه السردية.

لفتني أيضًا في هذه السردية قدرتها على طرح الأفكار والفلسفات بطريقةٍ مبتكرةٍ وأصيلةٍ ومختزلةٍ، اعتمادًا على الخبرات المباشرة الموصوفة التي يظهرها السرد، بانت في أكثر من موضع وكان فيها إفصاح عن القدرات الفكرية والفلسفية التي يتحلى بها الكاتب واحتاجها العمل السردي، واستطاع توظيفها في جل المشاهد وإن كان أجملها في ظني مشهد تنصيب الملكة، باستداراته السبع، التي فيها إشارة واضحة لعنوان العمل، فالاستدارة الأخيرة إنما كانت الاستدارة السابعة، التي أعقبها تحدث الملكة أمام وفود العشائر، وهي التي لم تُخبـــَر بهذا الموقف مسبقًا ولم تُلقَّن أي كلمة من الكلمات التي كان عليها التفوهُ بها، فرغم الصعوبة التي عانت منها الملكة المتوجة والإحراج الشديد إلا أنها أدركت لاحقًا قيمته عندما تحدثت معها الجدة وأخبرتها بمغزى ما حدث في قولها ص 328 «لقَّنتني الجدَّةُ درسًا قويًّا لا يُنسى. تلك الورطة التي دفعتني إليها فعلتُها عمدًا لأصبح ملكة حرة، ومنها أملك الثقة التي لا يقدر أحد ٌ على انتزاعها منّي. أنا مدينة جدًّا لتلك الجدّة.» فكان في هذا المشهد تحديدًا أكثر من مستهدف فهمي وإدراكي، إذ يحيل القارئ إلى مدلولات الرقم سبعة الدينية والاجتماعية والفكرية، ويطلب منه ربطه بالحكاية المروية، كما يُظهر القيمة الحقيقية للزعامة السياسية التي تستحق بالفعل القيادة وهي التي تُلقِّنُ ولا تُلقَّن، وتُصدر الأوامر ولا تتلقاها، وكان في ذلك أيضًا تعريةٌ لأغلب القيادات السياسية التاريخية الهلامية، التي غالبًا ما تكون على العكس تمامًا من ذلك، وهو ما قالته السردية بطريقة غير مباشرة وترك الحدس للقارئ.

استطاع الكاتب تمرير فلسفاته وأفكاره تلك، من دون إخلال بالسرد، أو الوقوع في الإخبارية الممقوتة، أو تعالي النص ومثاقفته التي تضر كثيرًا بالتلقي الجيد للنصوص، كتلك الذكريات المسرودة على لسان عمته، التي لم تخلُ من بعض الأفكار الجميلة، كقولها في ص 175: « لا يمكن أحدًا يمتلك عقله أن يرمي بنفسه على هامش الحياة، ويقضي كلَّ وقته في الاستمتاع بلا عمل « وقولها: «موت الإنسان يكون بموت الطبيعة» – وكما يلاحظ- فقد كثف وأوجز في أسطر قليلة، ومرر أفكاره على لسان العمة، ثم عاد بعد ذلك بسلاسة عجيبة لسرديته الجميلة، وكان ذلك مما ميز السردية، حيث استطاع السارد إشعال فتيل التلقي بطرق متنوعة واستخدم الإيجاز الإيجابي، لاستنهاض قدرات القارئ العقلية، ودفعه للتفكير واستكمال الحلقات الناقصة، وفي ذات التوقيت بث ما يريد قوله من أفكار وفلسفات عادة ما تكتب الروايات الإبداعية من أجلها.

ومما ميز هذا السردية أيضًا؛ ابتعادُها كلية عن ذكر الأسماء، فالشخوص جميعهم رجالًا ونساءً كانوا نكرات غير معرَّفين، وبدا لي أنَّ هذا الأمر لم يكن عرضيًا وإنما متعمدًا، فالحكاية في أساسها قامت على الجزء الخفي من الإنسان، أي بواعث سلوكياته المضمرة ومشاعره الدفينة وغيب الظاهر، فلم يكن مهمًا معرفة اسم الملك الأول، أو الثاني، أو الثالث، أو حتى الرابع، رغم أهميتهم ومحورية حضورهم السردي، وكذلك الحال بالنسبة للنساء جميعهن، حضرن بأفعالهن وأقوالهن، وغابت أسماؤهن، أريد لهذا النهج الكتابي؛ تكريس الضوء وتسليطه على الفكرة الأساسية التي يتبناها النص السردي، وعدم تشتيت القارئ بأمور هامشية لا قيمة لها، ظهر ذلك في كل التقنيات السردية المستخدمة، فغابت أيضًا الحوارات والأوصاف المحددة والمستقلة، وتم تغييب الزمان والمكان الواقعيين الحقيقيين، فالنص اجتهد كثيرًا في دمج كل هذه العناصر والتعاطي معها ككتلة واحدة، وأظنه نجح في ذلك أيما نجاح، ما دفع القارئ لتكريس جهده في محاولة فهم التجاذبات النفسية العميقة التي تسردها الحكاية، وعدم الاهتمام بالنواحي الشكلية، بل لم يعد يهتم بالسارد نفسه الذي لم يستقر له قرار، والتوجه فقط باتجاه تفاصيل الحكاية الماورائية الدقيقة، التي يمكن اختزالها في الجدلية الكبيرة بين القيمة الإنسانية الحقيقية للرجال والنساء والتفاضل بينهما.

هذا التهميش المتعمد للأسماء، لا يتناقض مطلقًا مع ذكر اسم «لورا» الذي تردد كثيرًا، وكأن الن صَّ يستلها من بينهم، ويستخدمها كشاهد على الأنثى الحقيقية، بالمواصفات التي تؤهلها للنهوض بدورها في الحياة، من ذلك حفظ قيمة الرجل، وتثمين وجوده، وحاجة المرأة إليه، وممارسة دورها الأنثوي بالاعتدال المطلوب، من دون إفراط أو تفريط، كما بدا أنَّ السردية تعمدت زرع هذه السيميائية المهمة المفضية إلى الفكرة الأساس للعمل، التي سبق ونوهت عنها، بإظهار اسمها وحدها، وتغييب الرجل العَلَم، اعترافًا منها بأهمية المرأة وأنها عصب الحياة البشرية، وتعدُّ المصنعَ الذي يخرج لنا كلا الجنسين، ويؤهلهما للممارسات الحياتية المثالية، وهو ما يشير إلى اعتماد السردية في هيكلها البنائي، بتفرعاته المتعددة على فلسفات حياتية عظيمة، أجادت عرضها وإيصالها بطريقة حكائيةٍ مقنعةٍ جدًا.

ومما يلاحظ في هذه السردية أيضًا؛ كثرة استخدام النعوت غير الجيدة في التعريف بالبشر، شأنها شأن رواية «الحارس في حقل الشوفان» للكاتب الأمريكي «جيروم ديفيد» وكان ذلك خيارًا سرديًا ذكيًا بالفعل الهدف منه، إعادة الإنسان إلى همجيته التي تسبق تنويره وعلمه وتأديبه بالأديان السماوية؛ والخبرات الحياتية الإيجابية المكتسبة، في إشارة ذكية إلى حقيقة أنَّ انتكاس فطرة الإنسان السوية، وتبادل الأدوار بين الجنسين، نتيجتها الحتمية؛ الفوضى في كل مناحي الحياة، ولن ينهض به غير الجهلاء، ولقد نجح السارد بالفعل في رسم هذه الصورة في ذهن القارئ بحيث لم يكن واردًا تمجيده لهذه الحياة التخيلية التي يطالعها، حتى وإن كان في قرارة نفسه، مما يحيلنا لأهمية هذا العمل، وإظهار قيمته الفلسفة والفكرية، وقدرته على مناقشة أطروحاته بطريقة غاية في الإمتاع والإقناع.

امتازت هذه السردية أيضًا، باهتمامها بأدق التفاصيل لكل المشاهد، من الزمان والمكان الافتراضيين، والشخوص «مجهولي الهوية» بانفعالاتهم قبل حركاتهم وسكناتهم، وهي بالمناسبة مواصفات إبداعية لا يكتمل الجمال الكتابي والدرامي بدونها، وتعد ضمن مستهدفات الكتابات الروائية الإبداعية، ومع أنَّ العمل كما أسلفنا اعتمد البعد الفلسفي في السرد، بطرح بعض الأفكار الخارقة ومناقشتها، ومحاولة تشريحها وإقحام القارئ في فهمها وتناولها، وتحديد قراره منها، وهذه قد يكون فيها إغراق في الحديث الوصفي التشريحي، بعيدًا عن المشاهد، إلا أنه رغم ذلك؛ كان السرد دقيقًا في منح كل عناصر الإبداع ما تستحقه من اهتمام، وجدت ذلك حتى في المنهجية المعتمدة لزرع التشويق والإثارة في ثنايا النص، حيث لم تكن أبدًا مفتعلة، أو غير مقنعة، أو ظاهرة التوظيف، رغم قيمتها العالية واعتماد السردية عليها كمنهجية كتابية إبداعية، إذا ما نظرنا إليها من زاوية التلقي وحاجة النص الملحة إليها، لكنها رغم كل ذلك كانت تأتي في وقتها وفي أنساق كتابية غاية في الروعة، تزرع الابتسامة على شفاه المتلقي الجيد، وهو يرى السارد كالأب الحنون لا يغفل عن شيء من تفاصيل حياة أبنائه، رغم كثرتهم، وتباين طلباتهم واهتماماتهم، فيحيط كل ذلك بقدرته على العطاء واستعذابه النهوض بهذا الدور، بعدل مطلق ومحبة تكاد تغرقهم جميعًا.

= بقي القول إنَّ رواية «الاستدارة الأخيرة» هي محطة مهمة ضمن محطات الرواية العربية، ينبغي التوقفُ عندها، ودراستها بتمعن، وتستحق أكثر من دراسة نقدية أكاديمية، كونها تتمتع بالأصالة والتفرد، في جوانب متعددة، يأتي في مقدمتها تأكيد فكرة أنَّ الإبداع الحقيقي ليس عفويًا، وإنما صناعة عظيمة ينهض بها المبدع عندما تكتمل استداراته الإبداعية.

بقلم: حامد أحمد الشريف

المصدر: جريدة الجزيرة

رواية الأسير عصمت منصور عن غوانتانامو الإحتلال

بيني وبين الكاتب المغربي عبد القادر الشاوي صداقة تمتد إلى منتصف السبعينات وهو فتى غضّ، قبل أن يُسلخ من عمره أربعة عشر عاماً وراء القضبان إيماناً بقضية ووطن.

حين أطلق سراحه هو ورفاقه، ظهر إلى العالم الخارجي ليسترجع حريته، وفي الوقت وُلد كاتباً. ففي السجن كتب روايتيه الأوليين: “كان وأخواتها” (1986) و”دليل العنفوان” (1989). الشاوي (القُطب) كما يلقبه أصدقاؤه الخُلّص، ويتسمّون طوعاً مريدين، إنسان رقيق الحاشية، هادئ بطبعه، يضحك من عينيه، قد يتدفق، لكنه لا يزأر أو يثور، إلا لما ثار على نظام. لكن، إن فاه أحدٌ أو لمّح أن ما كُتب خلف القضبان هو (أدب سجن) تراه يغضب، لأنّ ما كتبه ورواه هو أدب كامل لا يجوز حصرُه بقيد.

أردت هذا مدخلاً لتقديم رواية باهرة ومؤثرة لأسير فلسطيني، قضى في سجون الاحتلال الإسرائيلي عشرين عاماً بعدما حكم عليه بالسجن المؤبد، ولطفت به الأقدار فتحرر قبلها. “الخَزنة” عنوان الرواية التي كتبها عصمت منصور (منشورات طباق، رام الله، 2023).

للفائدة، فإن “الخزنة” هو الاسم الذي يُطلق على سجن جلبوع الواقع في وادي هارود، عند سفح جبل جلبوع غربي مدينة بيسان. وهو أحد أكثر سجون الاحتلال تحصيناً ويلقب في إسرائيل بـ”الخزنة الحديدية” لتَحكُّم إجراءات صارمة ضد أي محاولة فرار فسُمِّيَ غوانتامو إسرائيل.

سيسهل عليّ اختصار حكاية هذه الرواية (من 167 صفحة قطع متوسط) موضوعاً وأحداثاً وشخصيات. معرفة هذه الأمور يستحسنه المتعطشون للحكاية، فلنبدأ بهم لننصرف إلى الأهم. يروي عصمت منصور جزءاً مما عاشه طيلة سنوات أسره، فقد تنقل في سجون آخرها الخزنة. هذا هو المكان والفضاء الذي سيحكي لنا عمّا عاش فيه أو بالأحرى اختار أن يقدم.

من البداية إلى النهاية هو معنيٌّ بسيرة رفاقه الأسرى، يعطيهم أسماء لا نعرف صحتها من افتراضها وإن ظهر لنا منها المعروف. معنيٌّ بوصف الفضاء السّجني، وظروف العيش فيه، أقسامه وغرفه وأثاثه وطعامه والمعيش العام للمحتجزين، في مواجهة سجّانيهم بسحناتهم وسلوكهم وجبروتهم.

أنت القارئ المتلهف للحكاية مدعوٌّ للصّبر قليلاً، تتعرف أولاً على هذا التقديم بمثابة الإطار العام يُعطاك تدريجياً قبل أن ينقلك الكاتب الروائي السارد إلى تجربة أسْر محددة، خاصة، هي المرويةُ في كتابه، ومطيّةُ ومطلبُ روايته، فلا رواية إلا بتجربة شخصية أو هي خبرٌ عام. سيسرد لنا التجربة من زاوية وضع أسير محدد هو رفيقه في القسم والغرفة التي تسع ثمانية أفراد.

إنه سامر الذي تربطه به علاقة نضالية متينة، فهو من كلفه وسلّحه ليقوم بعملية انتحارية قبل أن يلتقيا في (الخزنة) حيث يمضيان مع رفاق من تنظيمات فلسطينية مختلفة سنوات الحبس. يرصد السارد اللحظة الفارقة في حياة سامر عندما تنبت في رأسه فكرة الهرب وتتحول تدريجياً إلى مشروع. يبرره بمنطق أنه: “محظور على السجين أن يألف السّجنَ مثل السّجان” (19) لينجوَ من عذاب: “أن يتحول الأسير إلى شبح منسيّ وغيرِ مرئي” (23).

تشويق

من هنا شروع التحول، تنفيذ مشروع الهرب الذي يستغرق القسم الأوّل من الرواية. هنا تبدأ الأحداث والأفعال وتتعدد الشخصيات العاملة بين رصد موقع الحَفر وأدواتِه ومنفذيه وظروفه ومختلف ملابساته، وهو يتم عبر عملية تشويقية تحبس الأنفاس وتستدعي التوقعات لدى القارئ، سواء بين أوقات التنفيذ ومخاطر القصوى تحت رقابة صارمة من السجان والتذكير بالعقوبات في حالة الفشل بناءً على تجاربَ سابقة قام بها الأسرى. عندئذ سنستحضر جميعاً أفلاماً عالجت الموضوع أشهرها عملية الهروب الناجح من السجن الفدرالي الأميركي (ألكاتراس) الأشهر. نتابع يوماً بيوم وبالساعات والدقائق تواصل عملية الحفر داخل سجن الخزنة والمفاوضات بين تنظيمين فلسطينيين لتوحيد خطتهما بعد أن تبين أن كليهما بصدد مشروع واحد، انتهاءً بوقت الخروج من النفق حيث ستفشل ويلقى القبض على سامر ويفلت الرفيق السارد من قدّمه عليه في دور الخروج، سيلقى سامر فصولاً مروّعة من العذاب تَنتهك جسده وكرامته ولا يفنى.

تحمل رواية “الخَزنة” عنواناً فرعياً (الحب والحرية)، ذلك أن سامر عاش في فترة من أسره تجربةَ حبّ ضارية من أثر تعرّفه على زائرة فلسطينية منتدبة للدفاع عن الأسرى، وبعد تكرار جلساتهما ينجذبان لبعضهما البعض وتسكن المحامية (سهام) وجدانه ومخيّلته ويشعر رفاقه في القسم بتبدله وتنتابه مشاعر شتى متناقضة بين عاطفته واستحالة تحقيقها وهو المحكوم بالمؤبد، ليقرر بنفسه في ذروة اشتعال الحبّ بين الطرفين وضع نهاية قطعية وفجائية لهذا (الرومانس) الواقع في طيّ سياق الأسر وأحد عذاباته الأخرى، وبما يبقي للأسير بعض إنسانيته المفقودة. ينضم إلى التجربة العاطفية المتوهجة معاناة أخطر للأسرى حين يُقدمون على الإضراب عن الطعام، نعرف أنها احتجاجات تمّت في السّجون الإسرائيلية جرّاء قسوة المعاملة والحرمان من الضروريات ومنع الزيارات. نطّلع في الرواية على محنتهم ومعاناتهم موصوفة بدقة موجعة. ويعانق السارد الحرية كما ألمعنا تاركاً شخصيته، سامر وراء أسوار الخزنة البطل الأشرس.

هذا محكيُّ الرواية فقط، ويمكن سماع وقراءة مثله وأفدح من أمّهات الأسرى وزوجاتهم، وكذلك في نشرات ومدونات شخصية لمن تحرر منهم. وهي جزء من الصورة الكبيرة والمرعبة لما يتعرض له الفلسطينيون مقاومين وأفراداً عاديين من ضروب التنكيل وتُعدّ من أدبيّات السجون. أما الروائي، فهو إخراج هذه الصورة وإبرازها بوضع ذاتٍ بؤرةٍ فيها وجعلها مركز جاذبية وفعل وشعور، تنطلق منها وتمتد في محيطها وترتدّ إليها. هذا ما صنعه عصمت منصور الذي عرّفنا بنفسه من البداية أسيراً سابقاً يشكر من احتضنوه من أصدقاء بعد التحرير. ثم حافز الكتابة المتمثل في حادث الهروب الشهير من سجن جلبوع (في السادس من سبتمبر/أيلول 2021 تمكّن 6 فلسطينيين من حركة الجهاد الإسلامي وواحد من حركة فتح من الهرب عبر نفق حفروه بداخله)، فأعاده الحادث إلى تجربة أسره لذلك نوّه في العتبة: “جزء كبير من أحداث هذه الرواية وشخصياتها مستوحاة من قصص معاشة”(7). إنها، إذاً، معيشة، أي حقيقية، ومستوحاة، أي خضعت لصناعة، لإعادة تشكيل وتصوير ووضع على ألسنة شخصياتها خطاباً، بالمجمل إنها صياغة وإنجاز تخييل، وهذا ما تطمح إليه الرواية وينبغي أن تحققه.

يمثل الشوق إلى الحرية ووجود الإنسان بأداتها وداخلها والمثابرة لبلوغ المستحيل، منه الخروج من وراء أسوار منيعة، التيمةَ المركز لهذه الرواية، وتشبثَ الإنسان (= الأسير) بهذا الحق هو يقين سامر نقرأها لازمةً تتردد مونولوجاً من البداية إلى النهاية، منها مثلاً: “الإنسان لا يعرف سوى شيء واحد، أن يتوالد من ذاته، وأن يعيد بناء وترميم عالمه من جديد في كل مرة يسقط فيها. لا شيء سوى أنه هو والحياة والاستمرار أصبحوا شيئاً واحداً”(122). من رسوخ هذا اليقين ينسج منصور قصصاً تتوالد من بعضها البعض وهو يعبُر شخصيات السجن كل واحد يسلم خيط حكايته إلى الثاني، وقد تنقَّل بين السجون فنرى كيف حوّل المحتلُ البلاد إلى سجن كبير، ومعه نتبين إرادة الصمود وقوة التحدي الفلسطيني في مخاطرات الهروب لانتزاع الحرية. ولو قلنا إنه من البدَهي أن تمثل قيمة الحرية موضوع كل سجين ومطلبه وسرداً يُكتب عنه، أرد، نعم، إن بقي هنا حصراً، وعولج بتقريرية ومسلّمة، وفي “الخزنة” شيء مختلف.

إنه الحب يعزز التيمة المركزية ويفردها. إنه يفتح أسوار سجن جلبوع بدخول سهام من الخارج بين ذهاب وإياب. ويحرر روح سامر تخترق القضبان وترحل به، يخاطب رفيق الزنزانة: “لا أعرف يا صديقي إن كانت جميلة أم لا! لم أكن أرى امرأة، بل روحاً هائمة في فضاء الغرفة أصابتني في أعماقي” (113).

لم يعد أسير السجان الإسرائيلي يجرفه: “هذا الحبّ الذي يسيل مثل ينبوع صاف من حدقات عيوننا ويروي ظمأ روحينا” (123). ونبلغ ذروة الكتارسيس والحرية بأجنحته وسامر يبوح لنفسه لها مباشرة في إحدى زياراتها: “أنا أحبك قبل أن أراك.. خُلقت كي أحبَّك.. وانتظرتُك بصبر نبيّ.. وأيقنتُ أنك ستأتين أيضاً كيقين الأنبياء” (127). من نافل القول بعد هذا أن عصمت منصور سرد قصته مع قصص رفاقه وهي فردية ومتعددة في إطار بطولة جماعية وطنية في مواجهة محتل وعدو واحد، يمكن الانتصار عليه بإرادة التشبث بالحرية وفي ثناياها القدرة على التنفس والحلم بالعاطفة الأبدية أكبر من جبروت الاحتلال.

سرد عصمت منصور روايته ورسم فضاءها وأنطق مشاعر شخصياتها بمهارة العارف بصنعتها، وإن تخللتها فقرات خطاب مباشرة انسجمت مع محكيّها. طيلة السرد امتزج بشخصيته وتباعد، مستثمراً (ثقافته السّجنية) لو صحّ التعبير، ومستغنياً عن سيرته دمَجَها في سيرة رفيقه. لذلك، ولعناصر أخرى، فإن هذه الرواية بعوالمها ووقائعها وتجربتها كلها هي داخل السجن، لكنها أكبر من حبْسها في نطاق (أدب السجون) وهو خلافاً للمعتقد ليس كتابة ناقصة، هي تيمة بحكم وضع خصوصي وعندنا منه مئات النصوص عن زمن الاستعمار وحكم الدكتاتوريات. أليس لنا أن نتساءل بعد هذا: ماذا يمكن للسجين سياسياً أو غيره أن يكتب غير ما عاشه؟ منصور سُجن عشرين عاماً والشاوي أربعة عشر والفرنسي جان جيني أيضاً، ثلاثتهم روى ما عاش بالطريقة التي ناسبت استعداده، وهو هنا أدبي، ولم يملك حياةً أخرى ليرويَها، لذلك تبقى الطريقةُ، الشكلُ، الأسلوبُ أداة حاسمة في التصنيف، وكذلك الاستمرار في الكتابة. في المغرب نمتلك خزانة كاملة من المحكيات عمّا يسمى “سنوات الرصاص” وكذلك في شيلي والأرجنتين، وهذه أدب سجون. ومنصور عصمت وهبنا رواية واقعية ومتخيلة تفوق ما يكتب “الأحرار”.

المصدر: جريدة النهار العربي