«عشرة أيام في عين قسيس الإنجيلي» فينومينولوجيا الذات والمجتمع عندما تصبح الكاتبة نفسها هي البطل
رجاء البوعلي في«عشرة أيام في عين قسيس الإنجيلي»
فينومينولوجيا الذات والمجتمع عندما تصبح الكاتبة نفسها هي البطل.
بقلم: د. وائل احمد الكردي
كتب (ديستويفسكي) الشهير في روايته (الأخوة كارامازوف) معلقاً على (زوسيما): «يقال.. أنه غارق في العديد من الأسرار والأحزان، وقد اعترف لنفسه أنه في النهاية قد بلغ درجة من وضوح الإدراك بما يمكنه من مجرد اللمحة الأولى لوجه الوافد الغريب أن يخبرنا لأي سبب هو جاء، وماذا يريد، وأي نوع من أوجاع عذاب الضمير هو يعاني». فقال الفيلسوف التحليلي المعاصر (لدفيش فيتجنشتاين) معقباً: «نعم، يوجد بالفعل مثل أولئك الناس الذين ينفذون بأبصارهم مباشرة نحو نفوس الآخرين وفض مغاليقها».. «إن العمليات الباطنة تظل في حاجة إلى معيار خارجي». وفي مجموعة (عشرة أيام في عين قسيس الانجيلي) القصصية كان هناك معيار تخرج به العمليات الباطنة كأنها هي الظاهر الواضح فيحسب من يرى ذلك أن الظاهر كما لو كان هو باطنها.
صدرت مجموعة (عشرة أيام في عين قسيس الانجيلي) القصصية لمؤلفتها الروائية السعودية (رجاء البوعلي) وأبرز ما فيها القصة التي تحمل ذات الاسم، لذلك فهي مستند هذا التحليل الأساسي. لقد كان من عادة الروايات في الغالب الأعم أن يصنع المؤلف فيها بطلاً متخيلاً أو حتى مستوحى من وقائع فعلية، ثم يدعه يتكلم أو يتكلم الراوي باسمه أو يتكلم هو عنه. ولكن في هذه الأقاصيص كان البطل فيها هو الكاتبة عينها وبذاتها مما يبدو من سياقها المباشر وبكل ما تحمله من هوية وعي جمعي لشعبها صبغت بطابعها هويتها الذاتية عبر التفاعل الإنساني في أحاديث ووقائع القصة، والتي يمكن القول أنها تمثل تجسيداً روائياً لمنهج الفلسفة الظاهراتية (المنهج الفينومينولوجي Phenomenology كما وضعه أدموند هوسرل) بكونه منهجاً للرؤية ولإعادة إدراك الظواهر المختلفة في بنائها (الحسي/ الشعوري)، وذلك وضع الظاهرة المراد إدراكها والحكم عليها بين قوسين أي عزلها عما هو ليس متصل بسياقها الوجودي والماهوي وعن كافة الأحكام المسبقة بصددها، ومن ثم يتاح لدينا التواصل معها شعورياً في الأساس على نحوها الكلي لإعادة تكوينها عقلياً ووجدانياً في لحظة واحدة بكونها كائناً يحمل ظاهره باطنه في هيئة واحدة أي لا تمييز حقيقي بين ظاهر وباطن فيه، إذ هذا التمييز – بحسب الفلسفة الظاهراتية – إن هو إلا تمييزاً لفظياً اصطلاحياً أكثر الشيء وليس تمييزا جوهرياً. وهذا التوجيه الإدراكي الشعوري نحو الظاهرة لإعادة بنائها في الوعي بعد عزلها بين قوسين إنما يتم من خلال زاوية الرؤية التي ننظر منها إليها، وأياً كانت الزاوية التي ننظر منها تختفي عنها اشكال الزوايا الأخرى فإنها تعطي الماهية الكلية لها بحد سواء.
(ب)
“لا أحد يسمع الأصوات الداخلية وهي تفترس رأسي – (عين قسيس الإنجيلي)”..
هكذا وضعت الكاتبة – بطلة القصة- نفسها بين قوسين، وسلطت شعاع شعورها نحو ذاتها وماهيتها الوجودية لتحقق بذلك الشعور إدراكا مباشراً ومجرداً عن أي متعلقات أو مؤثرات خارج سياق هذه الذات تكون مانعة عن فهم حقيقة هذا البناء الشعوري لتلك الظاهرة أي (الذات). وهنا يتبين الفارق بين المستوى الفلسفي التجريدي والمستوى الروائي الأدبي التطبيقي للمستوى الفلسفي، فالفلسفة تضع المنهج الذي ينظر الانسان به الى الاخرين والاشياء غيره من واقع شعوره الذاتي، أما الأدب فله أن يضع الذات الناظرة نفسها كموضوع للفهم والبناء والحكم الشعوري من خلال الرواية الأدبية. ويمكن القول أن أشهر من برع في تجسيد هذا المنهج الفينومينولوجي في الرواية أو القصة هو (ديستويفسكي) لاسيما في روايته (المراهق) بدلالة ما جاء فيها مثلاً “قررت أن أعود إلى الحديث عن فكرتي.. وللمرة الأولى سأصفها، بادئاً منذ البداية.. أي منذ تولدت وتبلورت في مخيلتي.. قررت أن أكشف عنها أمام القارئ، وبالتالي كي أسلط الأضواء على ما قد يفحص من العرض الذي سأقدمه.. ورغم ذلك وجدتني أقع في دوامة الروائي وما يعمد إليه من تبديل وتحوير في مواضيعه.. وليست الفذلكات الروائية هي التي اجبرتني على الصمت حتى الآن، ولكنها طبيعة الأشياء”.
(ج)
“علي أن أنظر جيداً لمنطقتي كجزء وليس ككل – (عين قسيس الإنجيلي)”..
لعلنا نستلهم مقولة (الوجود –هناك Da-Sein) للفيلسوف الفينومينولوجي الوجودي (مارتن هايدجر) التي تفيد أن الإنسان الفرد يجدد اكتشافه لذاته بصورة مستمرة، وفي كل لحظة يواجه فيها موقفاً جديداً فإنه يتفاعل معه بنحو غير مسبوق فالإنسان بذلك هو مشروع دائم للتحقق بكونه تفاعلات متعددة ومتغيرة وكلها تنبع من هوية وأصل وجودي واحد للفرد، فكذلك كل مجتمع وشعب إنما تنبع أفكاره ورؤاه المتجددة والمتنوعة عن أصل مصدري وماهية ذاتية أصيلة للوعي الجمعي به، وهذا ما يعكسه الفرد من هوية مجتمعية عندما يضع ذاته بين قوسين كموضوع للإدراك الشعوري المباشر. وعلى هذا الأساس، يمكن القول، أن الكثير من الروايات والأقاصيص إذا كانت تعبر في جوهرها عن ظاهر وحال الثقافات المحلية المربوطة بواقع شعوبها، أما (عين قسيس الانجيلي) فقد نحت نحو الكشف عن أصول ومصادر الثقافة المحلية من حال التفاعلات التلقائية لدى الانسان المنتمي لها في مواجهة مؤثرات خارجية لثقافات أخرى عديدة ومختلفة. ومما هو مشهود أن الغوص الأدبي في جذور واصول طريقة الحياة هو مهارة ذات خصوصية حدسية تجمع بين قراءة الذات وفي نفس الوقت قراءة العقول الأخرى في تفاعلها أمام الذات وتفاعل الذات أمامها، وهذا المنحى الروائي هو من الوعورة بمكان ويحتاج الى حفر بقلم كالمعول.
(د)
“الجميل في هذه الحوارات المفتوحة أنها تجعلك سفيراً دون أن تشعر – (عين قسيس الإنجيلي)”..
لقد كان نمط الوعي وطريقة الحياة التي وضعت بين قوسي المنهج الفينومينولوجي في تجربة المؤلفة هو الوعي العربي السعودي البارز في بعض اشاراتها بصدد حالته المعاصرة الراهنة، ولكنها إشارات مركزة تثبت القيم المتجذرة لهذا الوعي فيما قبل العقود المتأخرة وإلى قرون خلت، وبرغم مرور هذا الوعي بمراحل حضرية وتكوينية متغيرة الى ان استقر على ما هو عليه راهناً فقد ظل هذا النسيج المميز للثقافة المحلية وطريقة الحياة ممتداً على هويته بطول مسيرة هذه التحولات، وهذا ما يمكن الاصطلاح عليه بمسمى (التفاعلية السعودية) في اطار (التفاعلية الخليجية العامة) التي تسم إنسان تلك الأرض، حيث ابرزت القصة أن احتفاظ هذا النمط للوعي الخليجي بالثنائيات الضدية (إما.. أو) في أحكام الصواب والخطأ المُعترض عليها من قبل البعض في ذاك المحفل لم يعد ينظر إليه كحالة منغلقة بل كمدعاة للتبادل التفاعلي مع الثقافات المتعددة وفي نفس الوقت الاحتفاظ بالهوية الذاتية لهذه المجتمعات الخليجية. وهذا يستبين من تقديم التعبير الروائي عن هذا الوعي من خلال الصراع التفاعلي الإيجابي لشعوب أخرى اجتمعن جميعاً لعشرة أيام في عين قسيس الإنجيلي.
“فلقد وافق الجميع على سفري لوحدي تقديراً لرؤيتي للحياة حيث أدوار الإنسان –عين قسيس الإنجيلي”.
المصدر: جريدة اليمامة