القول المأثور من كونفشيوس حتى تويتر.. مقاربة متعمقة لنوع أدبي له سحره
القول المأثور من كونفشيوس حتى تويتر.. مقاربة متعمقة لنوع أدبي له سحره
بقلم: محمد سليم شوشة
في رأينا أن كتاب (القول المأثور من كونفشيوس إلى تويتر) للمؤلف أندرو هيو الأستاذ المساعد بجامعة يال-نوس كوليج بسنغافورة من ترجمة الدكتور حمادة علي أستاذ الفلسفة بجامعة جنوب الوادي والصادر عن دار منشورات جدل عملا أدبيا وفكريا بالغ الأهمية لعدد من الأسباب والسمات الخاصة به سنفصل القول فيها، وقد بذل فيه جهدا كبيراً وأخرجه في صورة مميزة تجعله كما لو كان دراسة مكتوبة باللغة العربية برغم بعض المشكلات التي يمكن أن يستشعرها القارئ مثل إشكالية تضارب المصطلح الأدبي والفلسفي، والكتاب برغم تصنيفه في الأدب المقارن يمثل تجربة نقدية ثرية ويمكن تلقيه بوصفه كتابا فكريا أو فلسفيا أو حتى في تاريخ الحضارات، إذ يصبح التأريخ للقول المأثور مكافئا بصورة ما للتأريخ للحضارة أو لما وصلت إليه حضارة معينة من الحكمة والمعرفة والبلاغة والرغبة في تدوين معارفها وتداولها والاحتفاظ بها أو تخليدها أو اختبارها وإقامة جدل تأويلي وتفسيري حولها.
لقد قارب المؤلف تاريخ القول المأثور في الثقافات المختلفة وقارب تباينه أو اختلافاته بين الحضارتين الشرقية والغربية أو نقاط الاتفاق والاختلاف بينهما، فكما كشف عن الاختلاف الحتمي والطبيعي في القول المأثور نتيجة اختلاف الثقافات والحضارات بين الشرق والغرب، فقد قارب كذلك نسقيته والروابط التي جعلته شكلا واحدا أو صنعت منه روحا بلاغية واحدة ربطت ما هو إنساني وما هو نسقي ومنتظم فكريا ويمثل شكلا من الحكمة في العقل البشري.
وقد ذهب أندرو هيو بعيدا في مقاربة علاقة القول المأثور بالنسقية الفكرية والفلسفة والتراكم المعرفي في مرحلة ما قبل الفلسفة وفي مراحل الأديان السماوية أو مراحل التعاليم الصينية لكونفوشيوس وغيره من المعلمين والحكماء والآباء الروحيين والزعماء أو القادة، بمثل ما تنقل بأريحية وبالعمق ذاته نحو القول المأثور في الثقافة الغربية الوسيطة والحديثة وكذلك بعض حضارات الشرق الأوسط وبخاصة الحضارة العربية والإسلامية، وركز على بعض النماذج التي يراها من وجهة نظره مثالا عالميا للقول المأثور في القرآن الكريم(مثل ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)، وحتى شهادة أن لا إله إلا الله، رآها نموذجا للغة المكثفة ذات الطابع الاستخلاصي الذي يظل خالدا أو يملك مقومات البقاء والانتقال من عقل إلى آخر بأريحية مطلقة.
ولم تكن مقاربته في الحقيقة مقصورة على المحتوى الدلالي والفكري برغم أهميتها الكبيرة، بل غلّب في كثير من الأحيان دور الناقد واللغوي الخبير بداخله، وقارب البنية والمحتوى الشكلي والسمات التكوينية والخصائص البنائية للقول المأثور وركز تحديدا على التكثيف، كما ركز كذلك على عمليات التلقي وحالات التأويل وتنشيط عقل المتلقي، أو ما توالد عن القول المأثور من أثر ثقافي وتأثير في البنى المعرفية للأمم والحضارات المختلفة، أي تأثير حضور القول المأثور في العقل الجمعي، فيما يمثل دراسة ثقافية متعمقة وتمثل تنبيها لخطاب في غاية التأثير والتعمق بامتداده الرأسي عبر التاريخ هو خطاب القول المأثور وركز على سلطته فيما يمثل إعمالا وتمثيلا عمليا ناعما لنظرية سلطة الخطاب لميشيل فوكو.
وفي تجربة هذا الكتاب المهم يصبح المتلقي أمام دراسة تتسم بالشمول والعمق، فالمسح الشامل للقول المأثور عند كونفشيوس وعند الفلاسفة والمسيح وفي الثقافة العربية الإسلامية في القرآن والسنة وبعض فلاسفة المسلمين مثل الفارابي وغيره، وصولا إلى العصر الحديث والفلسفة الغربية بثرائها وسياقاتها المتنوعة وتماوجاتها اللامحدودة تقريبا، ثم وصولا إلى عصر الميديا ووسائل التواصل الاجتماعي وأثرها في السياسة أو في المعرفة أو الحكمة والفلسفة وخلخلة الرأي العام وغيرها من الآثار والتداعيات الواسعة أو اللامحدودة، فيما يمثل تنبيها مهما لمخاطر أنواع الخطاب وما يمتلك من سلطة وقدرة في كل العصر بما يجعله يحكم سلوك البشر وتشكيل العقل الجمعي وصياغته.
كما قارب المؤلف كذلك بنية القول المأثور الفنية واستكشف سماته أو خصائصه الأدبية عبر العصور والثقافات المختلفة، فهو حسب المؤلف: “إن القول المأثور من أدب الحكمة، بسيط في العادة، وعبارته منسوجة على نحو حسن، ومتوازية في الإيقاع، وهذا يجعل سردها واستدعاءها أمرا يسيرا”.
ويبدو أن المؤلف قد كان شغوفا بالقول المأثور في التراث الصيني تحديدا، حيث نال وقفة مطولة في الكتاب، قارب فيها أثر القول المأثور في الثقافة الصينية القديمة وأهميته بالنسبة للمعلم الروحي والقائد في تلك الحضارات والدويلات المتجاورة، ودوره في نقل التعاليم والأخلاقيات والخبرات وترسيخها، وتأثير القول المأثور في تكوين ما يعرف بالمدرسة الروحية أو الافتراضية إذ كانت سلطة المعلم هي المدرسة أو هي المؤسسة إن شئنا الدقة في التوصيف. فكأن القول المأثور هو ما كان يحرك البشر في بعض المراحل أو يتحكم في ذهنيتهم وكان يتحكم فيما يتحقق من حالات من النزاع أو التوافق أو غيرها من التحولات المختلفة في الثقافة الصينية التي غلب عليها الحكمة، وهي حكمة إن شئنا الدقة ارتكزت على الشعر الروحي والقول المأثور والتأملات النقدية والبلاغية لثقافة منحت اللغة قدرها ومكانتها وتقدير دورها في تشكيل الحضارة ورسم ملامحها.
وهكذا نجد أن المؤلف قد غاص عميقا في درس القول المأثور واستكشافه على المستويات التاريخية والسياقية واختلافه من حضارة إلى أخرى ومن عصر أو زمن إلى آخر، فقد كان القول المأثور اختزالا بصورة ما للثقافة التي يصدر فيها، وكذلك غاص في استكشافه على المستويين التركيبي والبلاغي، وفي التركيبي كان لمّاحا في استكشاف السمات اللغوية بمثل ما حاول استكشاف السرد وحاول أن يتفاعل تأويليا مع بعض الأمثلة والنماذج والأنماط من القول المأثور، بما هو متحقق فيها من التباين أو الاختلاف بين نماذج سلسلة تماما وذات طابع نسقي واختزالي للمعرفة والخبرات الإنسانية وأخرى ذات طابع تأملي فلسفي ربما لا يكون مطلقها نفسها واعيا تماما بكل ما فيها من دلالات ومعان. واستكشف المؤلف كثيرا من النماذج التي تتأرجح الدلالات فيها بين الخبرات الحياتية والتعاليم السلوكية والأخلاقية وبين أخرى فيها تأمل وجدل أو ديالكتيك بين التعبير والصمت أو بين الأرض والسماء، بين الفيزيقي والميتافيزيقي، وهكذا تتضح الوشائج ونقاط الالتقاء والارتباط والجذور الأولى التي تجمع بين القول المأثور والأقوال العقدية والدينية والروحية.
وتتجلى في القول المأثور اختزالات ليست أدبية فقط، لكنها بالأحرى فلسفية وروحانية كانت منحة اللغة للبشر ليسجلوا ما يدور في نفوسهم وداخل عقولهم حتى يتم تناقلها عبر الأجيال والأزمان، وسيشعر المتلقي أن القول المأثور وفق هذه المقاربة المتعمقة أقرب للغة تفرض نفسها على صاحبها أو أنها تجربة لغوية فوق كل لغة، فهي في المساحة البينية للشعر ولغة النثر والحياة اليومية أو لغة العبادة والتعاليم، ليكون القول المأثور في هذه المنطقة الوسطى التي تلتقي فيها كل هذه الأنواع الأخرى، ليكون مزيجا منها جميعا في بعض صوره وتمثلاته أو حالاته ونماذجه التي أنتجها الحكماء أو الفلاسفة ورجال الدين، فهي نصوص غير دينية ولكن لا يمكن نزعها وفصلها تماما عن النسق الديني والروحي العام الذي شكّل منبعا لكثير منها، وهي كذلك ليست نصوصا فلسفية خالصة، ولكن أيضا لا يمكن فصلها عن منابعها الفلسفة ودوافعها الأولى التي هي دوافع فلسفية لكنها تبدو أكثر عفوية وأكثر تحررا من المنهج والصرامة الفكرية.