الأدب والفلسفة:

 

من الحوار بين آيريس مردوخ وبريان ماغي
الأدب والفلسفة:

الأدب يوفر المتعة ويفعل الكثير من الأمور، أما الفلسفة فتفعل أمراً واحداً فحسب …

لطالما كان بعض عظماء الفلاسفة كُتّاباً عظاماً بحسب مايعتقد الأدباء العظام ذوو الصنعة الفنية الراسخة، وأظن أن الأمثلة الأكثر تعبيراً عن هؤلاء الكتّاب – الفلاسفة هي: أفلاطون ، القديس أوغسطين، شوبنهاور ، نيتشه ،،، وثمة آخرون وإن كانوا لا يعدّون قاماتٍ عظيمة مثل السابقين الذين ذكرتهم لكنهم كانوا بالتأكيد كُتاباً على قدر كبير من الصنعة الجيدة: ديكارت، باسكال، بيركلي، هيوم، روسو. في وقتنا الحاضر ( وقت إجراء الحوار ، المترجمة ) فإن كلّاً من برتراند راسل و جان بول سارتر قد مُنحا جائزة نوبل للأدب؛ لكن ثمة في الوقت ذاته فلاسفة عظامٌ هم كُتاب سيئون، ويحضر في الذهن على الفور كانت وأرسطو اللذان كانا فيلسوفين عظيمين و إثنين من أكثر الكُتّاب رداءة في الكتابة الأدبية، أما آخرون سواهم -مثل القديس توماس الأكويني وجون لوك – فكانوا على قدر غير قليل من الركاكة الأدبية. الأمر بالنسبة إلى هيغل مختلف عمّا سواه؛ فقد صار عمله أنموذجاً للكتابة المكتنفة بالغموض والتعمية حتى بات الأمر مثار سخرية ومزحة سمجة في سياق الحديث عن الفلسفة الموظّفة في الكتابة الأدبية، وأظّن من جانبي أن هيغل هو الكاتب الذي تتطلب قراءته جهداً ومشقة غير مجدية أكثر من كل الكُتاب الآخرين ذوي الشهرة المدوية على مستوى العالم بأسره.
إنّ ماتكشف عنه الأمثلة السابقة بوضوح هو أن الفلسفة ليست تفريعاً أو حقلاً معرفياً منتمياً للأدب؛ إذ أن نوعية الكتابة الفلسفية وأهميتها تكمن في إعتبارات أبعد من القيمتين الأدبية والجمالية، وإذا ماكان الفيلسوف -أي فيلسوف- يجود في طريقة كتابته فتلك مزّية تحسب له بالتأكيد وستجعله على قدر كبير من الغواية التي تدفع الآخرين لدراسته؛ غير أن الكتابة الفاتنة لن تجعل منه فيلسوفاً أفضل، وأقول هذا بوضوح صارم ومنذ البدء لأنني وفي سياق هذه المحاورة سأتناول بعض الجوانب التي يمكن أن تكون مناطق تداخل بين الفلسفة والأدب في عمل كاتبة تمتد خبراتها لتشمل عالمي الفلسفة والأدب معاً.

 

المصدر: كتاب نزهة فلسفية في غابة الأدب
المؤلف: بريان ماغي
ترجمة وتقديم: لطيفة الدليمي

ما الأدب؟

 

وداعاً أيها الأدب:
اقتربت نهاية الأدب وصارت وشيكة، فالزمن اختلف وغلبت عليه وسائط جديدة غير الكتاب. وعلى الرغم من ذلك فالأدب خالد وعالمي، وسوف يبقى رغم كل التغيرات التكنولوجية والتاريخية، فالأدب ملمح من ملامح كل ثقافة إنسانية في كل زمان ومكان. وهاتان المقدمتان المنطقيتان هما ما ينبغي أن تقوم عليه أية محاولة جادة لتناول “الأدب” في أيامنا هذه.

ما السبب في هذا الموقف الذي تناقض جوانبه بعضها بعضاً؟
إن للأدب تاريخاً، وأقصد بالأدب هنا ما نعنيه هنا في الغرب عند استعمال الكلمة ومرادفاتها في اللغات المختلفة:
‏literature ( الإنجليزية والفرنسية )،
و letteratura ( الإيطالية )،
و literatura (الإسبانية ) و literatur ( الألمانية ). وكما يوضح ” جاك دريدا ” في كتابه
“السكن: القص والشهادة ” فإن كلمة literature ذات أصول لاتينية ولا يمكن فصل الكلمة عن أصولها الرومانية المسيحية الأوروبية، أما الأدب بمعناه الحديث كما نعرفه نحن في الغرب الأوروبي فقد ظهر في أواخر القرن السابع عشر على أقصى تقدير، و حتى في ذٰلك الحين لم يكن للكلمة معناها الحديث، إذ يخبرنا معجم “أكسفورد”: أن كلمة literature لم تستخدم لتعنى ما نعنيه بها الآن إلا حديثاً جداً ، بل إن التعريف الذي يضيف إلى الأنواع الأدبية المختلفة (من قصائد ومسرحيات مكتوبة وروايات) أنواعاً أخرىٰ لا نعدها اليوم أدبية (كالمذكرات والسير الذاتية والكتابات التاريخية والمراسلات بين الأشخاص والرسائل البحثية العلمية) لم يظهر إلا بعد أن وضع الدكتور “صمويل جونسون” معجمه الشهير عام 1755، وقصر كلمة الأدب على القصائد والمسرحيات والروايات أحدث من ذٰلك بكثير.
ولقد عرَّف الدكتور ” جونسون ” كلمة الأدب تعريفاً أكثر قصراً وتخصيصاً لمعناها ومجالها، وهو تعريف صار ينظر إليه باعتباره تعريفاً عفا عليه الزمن، إذ يقول الدكتور جونسون “إن الأدب هو:
۱ ) معرفة القراءة والكتابة
۲ ) التعليم التهذيبي أو الإنساني
۳ ) الثقافة الأدبية
ويعود واحد من الأمثلة التي يوردها معجم “أكسفورد” لاستخدام الكلمة إلى عام 1880، والمثال هو:
‏He was a man of small literature
( أي: لم يصب من التعليم سوى النزر اليسير ). ولا يشير معجم أكسفورد إلى معنى الأدب كما نعرفه إلا متأخراً، إذ يورد ما يلي باعتباره معجم المعنى الثالث للكلمة:

تشير الكلمة إلى الإنتاج الأدبي ككل، أي مجموع الكتابات المنتجة في بلدٍ ما أو حقبةٍ ما ، أو في العالم كله بوجه عام، كما صارت الكلمة في وقتنا هذا تستعمل بمعنى أكثر تحديداً وتقييداً للإشارة إلى الكتابة التي يقصد أخذ الشكل الجمالي لها وتأثيرها الشعوري على النفس في الحسبان عند تقييمها .

ويقول معجم أكسفورد “إن هذا التعريف لم تعرفه إنجلترا وفرنسا إلا حديثاً” ومن الممكن أن نجد لهذا التعريف أصولاً في بعض الكتابات التي ظهرت في منتصف القرن الثامن عشر، -وهو يرتبط في إنجلترا على الأقل- بكتابات “جوزيف وطوماس وارتون” ( 1722- 1800:1728-1790 )، واللذين احتفى بهما “إدموند جوس” في مقال كتبه بين عامي 1910و 1919بعنوان “جوزيف وطوماس وارتون رائداً الرومانسية” . قال “جوس” في ذٰلك المقال: إن “طوماس و جوزيف وارتون” قد منحا الأدب تعريفه الحديث. وعلى أية حالٍ فإن الأدب -بهذا المعنى التقليدي الحديث- قد أوشك على أن ينتهي ويندثر، فالوسائط الحديثة ماضية قُدُماً في طريق اغتصاب عرش الكتاب الورقي.

المصدر: كتاب عن الأدب
المؤلف: ج.هيليس ميلر
ترجمة: سمر طلبة

تأملات في الحجر

شوق محمد

لا أغبط هذه الأيام إلا سكان الأرياف والقرى،وتلك البيوت المجاورة للمزارع فبوسعهم أن يتسكعوا قليلا في مساحة واسعة تحت قبة السماء والظفر بهواء نقي من دون مراقبة أو تسجيل مخالفة. بعكس حالنا بهذه المدينة الكبيرة جداً والمزدحمة دوماً بعدما فرض عليها الحظر الكلي .

أعتقد بأن تجربة العزل هذه ستجدد علاقة الناس بمنازلهم كيف تبدو وإلى أي مدى هي تشبههم،
كما ستطرح فكرة أنسنة المساكن أكثر مما هي عليه الآن. فحين تتأمل الشكل الغالب على منازلنا من الخارج ستبدو لك كصناديق من الإسمنت محاطة بالأسوار العالية والزنك،فهي قد تكون مريحة للعيش لكن هل هي مروحة عن النفس؟

وهنا أذكر سر جمال وراحة وحميمية البيوت القديمة وأعني ببيوت أجدادنا فغير أنها كانت تبنى من الطين وقريبة من تكوينا ، فهي أيضا تستخدم هندسة بسيطة وصحية اكثر ؛ بحيث كانت تعتمد على أن يكون الفناء وسط المنزل والحجر تحيط بهذا الفناء ،فالبتالي اضاءة جيدة طوال ساعات النهار وفائدة أكبر من ضوء الشمس والتي بدورها انعكست على صحة أفراد الأسرة جسديا ونفسيا . وبالمجمل تاريخياً كانت العمارة تستوحي تصميماتها من الطبيعية ومن الحيوانات والإنسان فأثبتت الكثير من الدراسات بأن الانسان ينجذب للأشكال الطبيعية،وكان للماء والمساحات الخضراء دور كبير في التقليل من التوتر والإجهاد عند الإنسان ولكن سرعان ما تغير ذلك مع الوقت إذ أصبح الفناء خارج المنزل والمنزل داخله .
فبسبب التطور ووصول الأسمنت والحديد تغير شكل العمارة بشكل كبير ومغاير عما كانت عليه في السابق الا أن العامرة الحديثة راعت الجانب الاقتصادي أكثر من الجانب الصحي..حتى أصبحت تعد العمارة الحديثة ،وخاصة التي بدأت بعد الستينيات هي من أسوأ العمارة في الوطن العربي.

وهذا السوء بدوره انعكس على سلوك وصحة أفراد المجتمع المدني. فلو أخذنا مدينتة الرياض كمثال بسيط لوجدنا الكثير فشوارعها واسعة وكبيرة وطويلة كأنها مضمار سباق و الأماكن المخصصة للمشي فيها قليلة كما أنها تستولي على أكثر من ثلث مساحة المدينة،كذلك المنازل فيها اتسعت وتباعدت عن بعضها واعتلت أسوارها وزادت معها الخصوصية فارتخى بذلك حبل المودة والرغبة بالتعرف على الجيران حتى بدأيتقلص مفهوم الحارة في كثير من أحيائها ويتلاشى كلياً في ضَل سطوة النمط العمراني الحديث .
هذا بالنسبة لمدينة الرياض، فكيف بتلك المدن التي تكثر بها ناطحات السحاب حد أنها تمنع وصول أشعة الشمس لسكانها حتما ستزيد من عدوانية سلوكهم وسوء صحتهم النفسية والجسدية بسبب ؛ نقص فيتامين (د) كصحوة ضد نمط لا يتلائم مع طبيعتهم كبشر فهم بحاجة للسعة وضوء الشمس والطبيعة .

تقول بعض الدراسات بأن البيوت القديمة ليست لها قيمة تاريخية فحسب بل حتى قيمة صحية لأنها كانت تراعي البيئة المحيطة ،وتؤمن أفضل الظروف الصحية للإنسان .
بعكس النمط العمراني الحديث والذي لا يؤثر على نفسية وصحة الفرد بل ايضا على فنه وحسه الإبداعي .
يقول المخطط الحضري فؤاد عسيري بأحد اللقاءات عن المدينة: ( هنا معمل التجارب الانسانية من هنا تتولد القصص ثم تتحول إلى روايات لكن إذا كنت أنا في العمل أشغل سيارتي و أروح إلى البيت ثم أروح الإستراحة أقابل ناس أقابلهم منذ عشرين سنة من أين تتولد القصة حتكون قصص أنا ماخذها من التلفاز وليست قصتي ..ويمكن أن نشاهد تجارب الروائيين السعوديين في الستينيات والسبعينيات عندهم تجارب تحكى لأن كان في تفاعل إنساني في مشاكل في تحديات في الحارة والحي )”

فعلا المدينة تفرض على الفرد بأن يكون منظما ومرتبا في عيشه وسيره ومواعيد خروجه ودخوله وخاصة مع النمط الحديث. فأنت حين تذهب لعملك تسلك ذات الطريق كل يوم وترى ذات المناظر و بنفس التوقيت،وهذا التكرار يفرض الرتابة والذي يغيب عنصر المفاجئة المثير والمحفز على الإبداع والخروج عن المألوف والابتكار ..كما انه يزيد من فرصة حضور الملل والذي سينعكس مع الوقت على سلوكنا وتعاملنا مع كل ماهو حولنا وأخيراً نظرتنا للمستقبل وللحياة .

لذلك من المفترض أن نراعي أكثر هذا الجانب ببالغ الاهتمام ونحاول أن نخلق ونبني مدناً مريحة وجميلة وصحية ومفعمة بالتنوع والحياة واقتصادية في ذات الوقت .
فالعمارة في الأخير وكما تقول لبنى الخميس”ماهي الا انعكاس لروح المجتمع وسمات العصر ، الانفتاح أو الإنغلاق، الزهد أو الرفاة ، التحفظ أو الجموح “.
ويقول أيضا ونستون تشرشل: “إننا نقوم بتشكيل مبانينا وبعد ذلك تقوم هي بتشكيلنا” .

فأي صورة سنشكل بواسطتها لنجد أثرها على أنفسنا وطريقة عيشنا، وأي حكاية سنتركها خلف جدرانها لتحكي للأجيال القادمة عنا ؟

القارئ الأسفنجة

خُلُود / قِدّيسِّة

” القراءة حياة أُخرى نعيشها ” .. ” القراءة تجعلنا نعيش مرتين ” ..

جملتان مُفعمتان بالحياة، جملتان رنانتان ويالهذه الأكذوبة التي يرتّد صداها في جوف الكثير من الذين يدّعون القراءة. لكن أكثر الشعارات توهجاً ” أمة اقرأ تقرأ ” ليُصبح فعل القراءة في فوضى أشبه ما تكون ببقعة خراب فاسدة.

تتكاثر هذه الشعارات والذين يبشرون بها يتزايدون، إنهم لعنة ..! ليسوا فقط لعنة بل ورطة سيكولوجية. فعندما يعمل أحدهم على غرس قيمة القراءة بمفهومها الخاطئ، سنجد الحمقى يتساقطون من سماء الإدعاء نيازكاً، فهم لا يموتون وينتهون، بل يُخلفون شيئاً بهم للآخرين من حولهم بطرقٍ شتى.

ثمة قراءة والتي تُعدّ في وقت برامج التواصل الاجتماعي ( عملية تباهي ) حيث يتباهى البعض بها. جاعلاً إياها كقطعة حُلّي عُلقت في جِيد العنقاء. أو ربطة في عنق الغول. إنه أمر يُثير اهتمامي مُوخراً، فقد زادت هذه الظاهرة خلال السنوات الأخيرة بشكلٍ ملحوظ ومُبالغ فيه.

تكون البداية لهذه الكارثة هي أن البعض يُمارسون القراءة كهواية، ثم يبدأ السقوط التدريجي الذي يبدأ من القراءة اللامنهجية، فيبتلع القارئ هذا الطعم واصلاً بذلك مرحلة العدوى. فيأخذ على عاتقة حمل زمام المبادرة في النصح والإرشاد بطريقة غير مُباشرة للتأثير في المتلقي. تُستكمل الرحلة بهدوء كي تبدو الأمور ذات جدوى وأن قطوفها الدانية قد حان تناولها. فتتكاثر هذه النجاحات – الاخفاقات – بشكلها الممسوخ، لنجد ( القارئ الأسفنجة ) ذلك آخر الألقاب التي قُلتها في حديث طويل لي مع أبناء أخوتيّ حول القراءة.

( القارئ الأسفنجة ) وهو لقب لا يحتاج لشرح مُفصل لوضوحه في أفكار هذه الأسفنجة، فهي تمتص كل ما تقع عليه دون أدنى محاولة في تحليلها أو التفكير بمعناها الحقيقي. فنجد تلك الأسفنجة عندما تمتلئ تبدأ بترك أثر خفيّف وراءها. إنه الأثر الذي يُعّد سُمّاً قد انتشر في الجسد كله. تستمر الحكاية في تكرارها وقبل أن تكاد تنتهي – أقول تكاد لأنها لا تنتهي بل تستمر في ازدياد منقطع النظير -. فنجد الأسفنجة قد تم تمجيّدها من قِبل الأيدي التي تُصفق لها على كل شيء. حتى تألف هذا التصفيق وتبحث عنه.

تكتمل الصورة الآن في مُخيلة القارئ لهذه السطور؛ لذا سأتجاوز السرد التحليلي وأرسم الخطوط التابعة للمشهد. فيتحول القارئ الأسفنجة إلى أيقونة في عالم القراءة. ويبدأ في فرض سيطرته على من حوله بلباقة – ذلك أن الإنسان لا يُجيد التصرف بحريته، بل يُحب عبوديته التي لو فقدها لفقد ذاته – لدى البعض بكل تأكيد. تمضي الأيام، الشهور، والسنوات كذلك ويزداد حجم تلك الفقاعة فنجد ذلك المرء وقد انحدر في ( وحل الإعلان ).

الإعلان المادي الذي إمّا لكتاب أراد مؤلفه أن يقوم بعملية تسويق بسيطة له من خلال هذه الأيقونة في عالم القراءة، حيث تتم عملية تبادل إما بين صورة للكتاب مُقابل مبلغ مادي. أو بصورة للكتاب مع عدد من الاقتباسات بمقابل مادي أعلى سعراً هذه المرة، ونُبذة لا علاقة لها بمحتوى الكتاب. في كثير من الأوقات وبعد التجارة بهذا الشكل يدخل الشخص إلى عالم التسويق لمنتجات أخرى، وسيظل هو ركيزة أساسية لدى مريدوه فهم يمجدونه حدّ التقليد الأعمى.

المشهد في توسع وازدياد، وهو مشهد ينحدر بالمرء، فالأمر بات منافسة أكثر من كونه حالة طارئة. ربما ستتفاقم هذه المشكلة فعلاقاتها تبدو علاقة طردية مع الأيام. لكن هناك دوماً نهايات لهذه الظواهر. فلا شيء يبقى كما هو.

لماذا نقتبس ؟

شوق محمد

‏”كل اقتباس هو كتابة ثانية” كما يقول كيليطو ، واختيار المرء قطعه من عقله كما يخبر الجاحظ عليه.؟فالإقتباس ليس مجرد نقل للفظ منسوب؛بل له علاقة بذوق المقتبس وعلمه ،و اشارة لدقة فهمه و جمال احساسه.لكن الغريب أنك تلاحظ أن هناك اقتباسات لكلمات عادية فقط لأنها منسوبة لكاتب كبير أو فيلسوف.
‏فهناك اقتباسات لعبارات لاتحمل مضموناً لافتاً ولا بلاغة استثنائية ولا معنى فريد، كل مافي الأمر أنها مذيلة باسماء كبيرة، مثل تولستوي أو ديستوفسكي و غيرهم، وهذا أجده يزداد انتشاراً مع الوقت، فيما يتم اغفال عبارات بارعة وكلمات فريدة؛ لأن قائلها ليس له ثقل أو ليس من مشاهير الكتّاب”.

تغريدة قديمة لعمر دافنشي كنت قد قرأتها منذ مدة طويلة جعلتني أتسائل ، لماذا بات الناس يفضلون الاقتباسات ويستعينون بها في حواراتهم ونقاشاتهم،و البعض قد يكون مأخوذاً بها وإن لم يفهم ما تعنيه حقيقة معانيها، فقط لأنها تحمل اسم كاتب مشهور، وكيف للإسم كل هذا التأثير على المعلومة المنقولة وهل هذ أمر طبيعي؟

يعود سبب تفضيل الناس للإقتباسات وحب تداولها والإستعانة بها في النقاشات وغيرها إلى
وهج الفقرة القصيرة، وهذا الوهج يحدث لأسباب:

١- البساطة وعدم التركيب، فلا تحتاج لكد ذهن ولا تفكير طويل، وهذا يناسب المزاج العقلي العمومي.
٢- اعتمادها كثيرا على الالفاظ، مثل المفارقة والرنين الجرسي.
٣- سهولة التداول عبر (شبكات التواصل، تويتر خاصة روجت لهذا النوع من الفقرات بشكل مسرف).
٤- إيهامها بالخلاصة، لاحتوائها على القطع والتركيز وإهمال الاستثناءات والنقد المضاد.
٥- أنها تمنح صوتا لمن لا صوت له مناسب، بالضبط كما تفعل الأبيات الشعرية والأمثال الشائعة.تقدم للمستهلك صيغة لغوية تفسر او تبرر او تعقلن او تسهل او تقوي أفكاره.

أما بالنسبة للإسم وتأثيره على المحتوى المنقول
فيعود ذلك بسبب ، ” الهالة” التي تخلقها السمعة فتجذب الناس وتجعلهم يؤيدون جل ما قد يقوله هذا الشخص ،وهذه طبيعة بشرية..
فهم ‏يكتبون أي جملة ثم يضعون بعدها الشقيري الشعراوي ابن القيم.. لتطير الجملة في الآفاق.. اكتبها نفسها بغير اسم لن يكون بها الاحتفاء الكبير
و‏أظن لذلك اسباب متعلقة بأمور :

‏١- طبيعة البشر في حبهم للقدوة أو الأسوة أو “الآيدول” بحيث يتبعونه بشكل واعٍ أو لا واعٍ.
‏٢- عدم قدرة كثير من الأشخاص على التوثق من المعلومة فإذا كانت باسم من يثق به ارتاح لها ولم يتعب نفسه في التأكد من صحتها.
‏ضع اي معلومة فيزيائية وبعدها اسم آينشتاين.. يرتاح القارئ لصحتها ولا يسأل عنها مهما كانت غريبة.
‏٣- حب الشخصيات المشهورة يورث حب كلامهم.
٤- في حالات الخصومة أو الجدل ذكر اسم شخص مشهور كفيل بقلب الجدال لصالح من ذكره لذلك يحب الناس الاستشهاد بهم.
‏٥- عدم قدرة كثير من الأشخاص على تفكيك المعلومة أو العبارة ونقدها ،وعدم قدرته على التحقق منها يجعله بحاجة لاحد يسلّم له بها.
‏٦- بعض الأشخاص لا يملكون الفكرة.. يمكنك أن تقنعهم بالفكرة وضدها معا لخلو بالهم عن تجريدها والنظر فيها، بالتالي يكون اقناعهم بذكر فلان الذي يحبون أيسر بكثير من المجردات.

وبينما كنت أدون ذلك استحضرت موقف حدث مع الغزالي ،أثناء خلوته في الجامع الأموي ،
حين أجاب على أحد المستفتين ، إلا أنه لم يقتنع بإجابته لأنه لم يكن يعلم أنه الغزالي .فتبين لي أن
الناس حقيقة يتأثرون بالمظهر وكثير ما يعتمد قبلوهم للأمر على “القائل” لا “القول ”
وقد ألمح القرآن الكريم لهذا المعنى قال الله تعالى :(( وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم ، وإن يقولوا تسمع لقولهم )) .
و أيضا هناك موقف مشهور حدث لأحد علماء الهند اعتقد ، وقد كان يكفر الشيخ محمد بن عبدالوهاب، فقدم له أحدهم كتاب التوحيد للشيخ بعد أن نزع الغلاف منه، فأعجب المكفر به ثم لم عرف دعا للشيخ وتوقف عن تكفيره.

إذاً الأمر طبيعي جداً وللهالة أهمية وتأثير كبير .
ولكن !! ماذا لو جردنا الفكرة من أصحابها وإن كان ذلك صعبا..لمن أنفسنا قدرة على التمحيص والتقدير ؟!
يقول مالك بن نبي :
‏إننا عندما نربط الأفكار بالأشخاص نحرم أنفسنا من الفكرة الجيدة حين تأتي من الضد، ونتورّط في الفكرة السخيفة طالما جاءت من صديق.

فهل نستطيع ؟!