الفن – آرثر شوبنهاور

نوره بابعير

الفن – آرثر شوبنهارو

الفن هو شكل من أشكال المعرّفة ، و من المعرفة التي هي أرقى من العلم . إنه موضوع النص الموالي : الفن هو عمل عبقري ، إنه ملكة للتأمل ، أي الاستعداد للتحرر من مبدأ العقل .

الفنان هو راء أولاً ، تتوفر عنده إمكانية تجاوز المظاهر لكي يرى الفكرة في ذاتها .

يُكتب شوبنهارو ” الفن هو تأمل الأشياء في استقلال عن مبدأ العقل ” إنه لا يمكن أن يرى فيه هكذا نبوغا علميا لأن النبوغ يتحدد بالقدرة على التغلب على وجهة النظر العلمية عن الواقع . ويلحق ذلك ، أن للفنان القدرة على إعطاء الفكرة مظهرا ملموسا ، أي خلق عمل يحدده شوبنهاور باعتباره مرآة ثقيلة للعالم .

الفن ، هو نتاج العبقرية .
حينما نرتقي بقوة الذكاء ، ونتخلى عن النظر إلى الأشياء عن نحو متداول ، حينما نكف عن البحث على ضوء التعابير المختلفة لمبدأ العقل . عن العلاقات الوحيدة للأشياء فيما بينها ، علاقات تقتصر دائماً ، وفِي نهاية التحليل ، في علاقة الأشياء بإرادتنا الخاصة ، آي حينما لا نعمل على أخذ بعين الاعتبار لا للمكان ، ولا للزمان ، و لا للماذا ، ولا للجدوى من الأشياء ( بل نبحث ) عن طبيعتها بلا قيد ولا شرط فضلا عن ذلك .

حينما لا نسمح للفكر المجرد ، ولا لمبادئ العقل أن تحتل الوعي ، لكن ، بدل كل هذا فإننا نعمل على تحويل كل قوة ذهننا نحو الحدس ، ونغوص فيه بالكامل ، مالئين لو عينا بالتأمل الهادىء لشيء طبيعي ، حاضر الآن ، في اللحظة التي نعمل فيها على نسيان فرديتنا و إرادتنا و لا نبقى إلا ذاتا خالصة ، كمرآة مجلوة ” بإمكانها عكس ” الشيء كما لو أن الشيء على نحو ما يوجد وحده ، دون شخص يدركه ، حتّى يستحيل التمييز بين الذّات وبين الحدس نفسه ، وأن هذا الحدس مثله مثّل الذّات وحدسيتها إن ما هو معروف هكذا إذن ، ليس هو الشيء الخصوصي باعتباره شيئا خصوصيا

بل هو الفكرة . الشكل الأبدي ، الموضوعية الفورية للإدارة .

شوبنهارو ” العالم كإدارة وتصور ”
هل هناك معرفة خاصة تنطبق على ما يستمر في العالم خارج وفِي استقلال عن كل علاقة ، بما يشكّل بالضبط جوهر العالم ، والموضوع الحقيقي للظواهر ، ” مثلما تنطبق على ” ما تخلص من آي تغيّر ، و بالتالي يكون معروفا وفقا لحقيقة متساوية في كل الأزمنة ، آي الأفكار ، التي تشكل الموضوعية المباشرة والمنطبقة على الشيء في ذاته .

آي على الإرادة ؟ عالم المعرّفة هنا هو الفن . إنه نتاج العبقرية . يعمل الفن على إنتاج الأفكار الأدبية التي عمل على إدراكها بواسطة التأمل الخالص آي الأساسي والدائم في كل مظاهر العالم . إنه تحديدا ، وفقا للمادة التي يستعمل في هذا الإنتاج .

فهو يأخذ اسم الفن التشكيلي ، والشعر أو الموسيقى ” ويظل ” أصله الفريد في معرفة الأفكار ، وهدفه الوحيد يكمن في تواصل هذه المعرّفة . حسب تتبع التيار اللانهائي للأسباب و النتائج ، مثلما هي تظهر تبعا لهذه الأشكال الأربعة ، فأن العلم يوجد عند كل اكتشاف ، مردودا دائماً إلى لحظة تالية .

لا يوجد بالنسبة له ، للوصول لكسب السباق ، الذي يتحدد في النقطة التي تلامس فيها السحب الأفق .

على العكس يجد الفن في كل مكان مجاله ، في الواقع إنه ينتزع الشيء من ” مجال ” تأمله أثناء مجرى الظواهر ، العابر ، إنه يحتاز عليه معزولاً أمامه وهذا الشيء الخاص الذي لم يكن في مجرى الظواهر سوى جزء عابر ولا يعني شيئا ، يصير بالنسبة للفن ، يمثّل كل شيء المعادل لهذا التعدد اللانهائي الذي يملأ الزمان والمكان ، يتمسك الفن بهذا الشيء الخصوصي ، يعمل على إيقاف عجلة الزمن ، وتختفي العلاقات بالنسبة إليه ” بحيث ” لا يبقى إلا ما هو أساسي ، آي الفكرة التي تشكل شيئيته.

بإمكاننا إذن أن نعمل على تحديد الفن في : إنه تأمل الأشياء باستقلال عن مبدأ العقل ، إنه يتعارض هكذا مع نمط المعرّفة المحدد سابقا . التي تقود إلى التجربة وإلى العالم .

ترجمة : أ. بوردو
مجلة : طنجة الأدبية

عن صعود الصورة و انحسار الأفكار

نوره بابعير

عن صعود الصورة و انحسار الأفكار
الكاتب والصحفي : ماريو بارغاس يوسا

أعتقد في الثقافة ، في الثقافة المعاصرة أن شيئاً ما يُحدث شيء يمكن وصفه كالتالي :

أعتقد أن الصور بدأت تستبدل الأفكار كلاعب رئيسي في الثقافة المعاصرة . هذا حدّث بسبب ثورة الميديا الكبيرة ، ثورة الشاشات ، وأعتقد أن كل هذا يقوم بالتدريج بالتقليل من أهمية الأفكار و الكتب في المجتمع .

وهذا يجب أن يجعلنا نقلق ، فإذا قامت الصور باستبدال الأفكار بالكامل ، فإن قوة هذا العالم ستتلاعب بالمجتمع بسهولة ، بل حتى تدمر المؤسسات التي تحمي الحريات وتحمي حقوق الإنسان . كل هذا يقلل بل يقمع الأفكار ببطء وأنا أظن أن ناقل الأفكار العظيم هو الأدب ، قد استُبدل تماماً بالصور .

انطباعي هو أن الصور وهي شيء مسلي وممتع ، ولكن انطباعي هو أن الصور تقدم وصف للعالم تافه ومبهر . فعلى عكس الأفكار ، الصور تقدم وصف سطحي للعالم الحقيقي ، ولأنها تافهة وسطحية ، أظن أن من الممكن التلاعب بها بسهولة بواسطة السلطات .

أنا لا أدعو لتدمير الصور . كلا ..
وإنما أدعو لبقاء الأفكار مع وجود عالم الصور المذهل الذي أنتجته ثورة الميديا .

ترجمة : الحلقة المعرفية

عن اللذة و الإحباط – آدم فيلبس

نوره بابعير

عن اللذة و الإحباط – آدم فيلبس

THINKINGALOUD
thinking aloud.com

.
ADAMPHILLIPS
Interviewed by Tyler Krupp & Rachel Stuart

THINKINGALOUD
On Pleasure and Frustration

عن اللذة و الإحباط

إحدى العقبات هي المطالبة في أن نكون سعداء
أن نستمتع بحياتنا ، أعتقد بأن ذلك إلهاء عظيم ويدمر حياتنا تدميرًا هائلًا ، فالعيش في ثقافة شبه تلذذية مشكلة عويصة وهي مشكلة لأنها .

-دعني أقل ذلك بعبارة جافة، في الأيام الخوالي كان الدافع الداخلي أن تكون صالحاً لكن الدافع الآن هو أن تكون سعيداً أو أن تُمتع نفسك وهذا إلهاء لعدة أسباب، أولها: أن الحياة مؤلمة وهذا جانب بسيط و واضح و يبدأ ذلك منذ الطفولة، فالشخص الذي يرضيك قادرٌ كذلك على إحباطك لا مفر من ذلك.

لن يتغير ذلك أبداً
وهذا يعني أن على كل شخص أن يتعامل مع ازدواجية مشاعرة أن يتعامل مع حقيقة أنه يحب ويكره الشخص الذي يحبه (ويكرهه) تروج لنا إمكانيات اللذة على الدوام وكأن كل ما نريده هو التخلص من الألم و الاستزادة من اللذة أرى بأن هذه نظرة فقيرة للحياة وأن كان ينبغي على كل حياة أن تتعامل مع الألم وأن تتلذذ لكن ثمة اختلاف بين التخلص من الألم والإحباط وبين تلطيفهما و تخفيفهما وما حُرمنا منه هذه الأيام هو الإحباط لا نمتلك تفسيراً مُعتبراً لمكانة الإحباط و كأننا نعاني من رهاب الإحباط فحالما نعيش لحظة إحباط نشعر بأنه ينبغي علينا أن نملأها بشيء ما فالوضع مشابه لأم تبالغ في إطعام ابنها وهي تفعل ذلك لكي تحد من شهية طعام طفلها وشهية الطعام أمر مزعج فيبدو لي بأن هناك محاولة لمنع شهية الطعام وهذا يعني الحد من قدرات البشر على التفكير فيما يفقدونه في حياتهم وفيما يريدونه وفيما قد يفعلونه من أجل الحصول على ذلك المفقود خيالات الرضا عن مخربات اللذة.

أحد النقاشات التي ينبغي علينا خوضها تتعلق بطبيعة الرضا، أي: ما الذي نريده حقًا ؟ وما الذي يمنحنا اللذة ؟ وما هي اللذائذ التي نريدها ؟ ويبدو لي بأن ذلك يتعلق بإقرار ثقافي جماعي .

إذ يبثُ ناس أفكارهم في الثقافة أو يكون ذلك عبر المسرحيات و الرقصات ، إلخ.. بحيث يمنحنا ذلك صورًا لأشكال من الوجود نسعى إليها أو نحبها أو نقدرها أو نحاكيها وهذا أمر يحسن بالثقافة فعله .

أعتقد بأننا نحتاج إلى أن نحسن من اغراءات مرحلة البلوغ والرشد ولا تكون عن أن يصبح الشخص خارق القدرة و المعرفة وأن يحظى بكل الفتيات و المال ، إلخ.

فكل هذه الأمور تافهة وطفولية ، نحتاج أفضل مما لدينا عن الرضا والقناعة ، تصور مرتبط بفهم العالم فهماً راشدًا ناضجًا لكن مرحلة الرشد حظيت بسمعة رديئة في زماننا ولسبب ما ، تم إضفاء مسحة سحرية و مثالية على الأطفال وأعتقد بأن سبب ذلك هو أنهم غير راشدين .

أن ذلك عرض على يأس بالغ قد أصاب الثقافة فما فاد ذلك هو : بلوغ سن الرشد حدّث كارثي بينما في الحقيقة ستكون أفضل مراحل حياتك وفي واقع الأمر ، أن تكون طفلاً أمر مريع من عدة جوانب فحينها أنت عاجز و ضعيف الحيلة .

أعتقد بأنه من الممكن أن نحظى بتصورات عن الحياة الطيبة قائمة بحيث لا يمكن للشخص أن يفشل فيها .

إذ إن فكرة الحياة هذه واقعية بحيث تكون في متناول يد المرءُ فإن قال لك طفل : أريد أن أصبح رائد فضاء فلا ترد : لا لا أنت لست إلا طفلاً عمره خمسة أعوام بل تقول : هذه فكرة عظيمة .

لكن إن قال لك شخص راشد : أريد أن أصبح رائد فضاء ترد قائلًا : هل يمكنك تحقيق ذلك ؟ وكيف ؟ بعبارة أخرى .
سنتحدث وفقا لتلك التصورات الواقعية عن سرد قصصي وليس عن مُثل عليا بمعنى أننا سنتحدث عن أفكار قابلة للتطبيق والنقل بمعنى من المعاني بدلاً من الحديث عن مُثل عليا ينبغي عليك الإذعان لها و التقييد بها .

إذ يبدو لي أن المثل العليا عادة ما تخلق حالة ” إما المواجهة أو الاستسلام ” فإما أن تهرب من هذه المثل العليا و تتخلص منها و تأتي بغيرها أو تواجهها وتتصارع معها لكنني مهتم بحالة أن ينتج الناس عددًا من السرد القصصي تكون قابلة للنقاش بحيث تكون ممكنة واقعيًا بدلاً من أن تكون مُذلة فيوجد جانب آخر من المثل العليا في الثقافة وهو أنها قائمة لكي تذلنا أما السرد القصصي فلن ينتقص من قدرنا بحيث ستكون هذه القصص الخيالية ممكنة التحقيق واقعيًا لكنها ستحتفظ مع ذلك بفكرة أننا لا نعرف ما قد نصبحه في المستقبل وما نريد أن نكونه أمر في غاية الأهمية .

ترجمة : رزم

هل يُروى عطش القراءة بلمسة إبهام؟

 

المتأمل في المشهد الثقافي العربي في صيغته التفاعلية الرقمية الجديدة، يلحظ عطشا قرائيا يُروى بصيغة pdf ؛ لترتفع المكتبات الإلكترونية الشخصية بآلاف نسخ الكتب التي لا يكلف بنائها في أحايين كثيرة سوى لمسة إبهام؛ لتُسلب حقوق المؤلف و دار النشر في فوضى إلكترونية وتطرح عدة أسئلة حولها: هل ساهمت في رفع معدل القراءة للفرد العربي على الرغم من كسرها لحقوق المؤلف و دار النشر و كيف يمكن ضبط تلك الفوضى؟ وما مدى تأثير تلك الحالة في المشهد الثقافي و الوعي العام ؟

أسماء الزرعوني: لا بد من ضوابط لنضمن حق الكاتب والناشر

الثورة الرقمية واكتساحها لكل مظاهر الحياة والثقافة والإبداع غيّرت الملامح الجمالية للنص وخصائصها البنيوية لنقف عند بنية جديدة تستدعي آليات اشتغال جديدة، وما يهمنا هنا الكتاب الرقمي الذي جاء ليحل مكان الكتاب الورقي، صحيح إن هذه الثورة سهلت لنا الكثير من الأمور في يومياتنا وأيضا اجتاحت عالم المراهقة والطفولة لدرجة أن الأطفال يتعاملون معه أكثر من تعاملهم مع أي شيء آخر وهذا خطر جسيم ، الكثير منا تفاعل معه ولكن إلى الآن تنقصه الكثير من المعرفة لكنه في نفس الوقت أقلق الكثير من القراء والباحثين، والمهتمين بالكتابة الجادة في مجال الدراسات والنقد وخصوصاً أنه في كثير من الأحيان لا تنطبق عليه الصحة والدقة.

لا أعتقد أنها ساهمت في تحسين مستوى القراءة أو أضافت، بل أجد أنه سلب حق الناشر والكاتب، وذلك لأنه لا يوجد على الكتاب الإلكتروني الحقوق الإلكترونية، فأصبح من السهل أن يسرق ويتداول ويبقي الكتاب الورقي في مخازن الناشر، ضاعت حقوق كثيرة من خلال الكتاب الرقمي أحياناً حتى قبل أن ينزل السوق نجد إما أنه نشر بطريقة ما عبر هذه الوسائل، وليس من العدل أن نجد أحياناً في هذه الوسائل مادة واسم كاتبها مبهم غير الكتاب الورقي الذي كلما فتحنا الكتاب تقع أعيننا على اسم الكاتب قبل دار النشر وفي الآونة الأخيرة انتشرت ظاهرة السرقات الأدبية الذين يقومون بقص ولزق المادة ويتم نسبتها لشخص آخر دون أي تعب سوى تغيير بعض الجمل لذا فالسلبيات أكثر من الإيجابيات فلا بد من ضوابط لنضمن حق الكاتب والناشر.

نعيمة الخالدي: يتميز الكتاب الإلكتروني بسهولة الاستخدام.

بات السؤال عن معدلات القراءة للفرد العربي مقولباً بربع صفحة سنويا – حسب بعض الإحصاءات العالمية والعربية – وعلى الرغم من الاتفاق على تدني تلك المعدلات بشكل عام؛ إلا أن القفز بالسؤال إلى تأثير الفضاء الإلكتروني عليها يمكن أن يولد أسئلة أخرى عن مدى دقة تلك الأرقام!

خاصة إذا ما توقفنا عند نتائج تقارير الاستخدام الإلكتروني؛ إذ يشير تقرير اقتصاد المعرفة العربي 2015م-2016م، إلى أن العالم العربي يشهد حقبة جديدة عنوانها «النمو في عدد مستخدمي شبكة الإنترنت»، والذي يتوقّع أن يبلغ نحو 226 مليون مستخدم بحلول العام 2018م.

وفق هذه المعطيات لا يمكن تصور أن المكتبات الإلكترونية لم تساهم في رفع معدلات القراءة، إلا أنها تختلف – ولا شك- حسب المجال المعرفي، ففي حين يتميز الكتاب الإلكتروني بسهولة الاستخدام والوصول إلى المعلومة من جهة، يتميز الكتاب الورقي بسهولة استرجاع المعلومة، الأمر الذي يوضح الفرق بين القراءة العامة والقراءة البحثية أو النقدية؛ وبالتالي تفسير الفرق بين الإحصاءات المتناقضة لنسبة الإقبال على كلا النوعين من الكتب، من هنا يمكن ملاحظة بعض المؤشرات على تأثير هذه الحالة على المشهد الثقافي والوعي العام، مثل:

1- يتزامن ارتفاع مبيعات معارض الكتب الدولية مع ارتفاع معدلات توفر الكتاب الإلكتروني، ما يعني أن الأخير يسوق للكتاب الورقي، لذلك يعد رافداً له لا بديلاً عنه، ومؤثراً إيجابياً في رفع مستوى الاهتمام بالقراءة.

2- وجدت كثير من الكتب الموقوفة رقابيا الطريق إلى حريتها في فضاء النشر الإلكتروني، ومثلها تلك التي حجزها العامل المادي عن الطباعة، ما يمثّل كسراً للقيود التقليدية للنشر، ومجالا أرحب للحرية الثقافية.

3- أوجدت مواقع التواصل الاجتماعي – و تويتر بشكل خاص الذي يسجل فيه السعوديون أعلى نسبة استخدام عربياً حسب تقرير الإعلام الاجتماعي العربي 2017م- بيئة تفاعلية بين المؤلف والقارئ، يمثّل الكتاب الإلكتروني أو المقالة الإلكترونية وسيطاً ميسّراً بينهما، وتعد تجربة د. عبدالله الغذامي في وسم# نقاش_الغذامي حول كتبه الذي بدأ عام 2012م عبر تويتر نموذجا إيجابيا لهذا التفاعل، وللمشهد الثقافي بشكل عام.

أما الوجه السلبي للنشر الإلكتروني فيظهر عبر عمليات النسخ والقرصنة التي تتعرض لها الكتب مودية بحقوق المؤلف ودار النشر الفكرية والمادية، ورغم وجود قوانين حماية الملكية الفكر ية إلا أن الخلل يكمن في قصور تطبيقها، الأمر الذي يلقي بالمسؤولية على عدة جهات، من أبرزها جمعيات واتحادات الناشرين العربية، للوصول إلى الآليات المناسبة لتفعيل تطبيق قوانين الحماية، وإبداع إجراءات للنشر عبر السوق الإلكترونية بما يساهم برفع نسبة المبيعات من جهة، وضمان آلياتها القانونية من جهة أخرى.

علي الجبيلان: فوضى لا أخلاقية

بدايةً أود أن أقول: إن هذه الفوضى في أكثر صورها -وبكل أسف- فوضى لا أخلاقية، مما يُبعِد أن تكون فوضى خلاقة ثقافيًا، سمتها البارزة في ظني لا تتعلق بالقراءة وانتشارها بقدر تعلقها بالانتهاك الصارخ لحقوق المؤلف والناشر والمنشور، بل إني لأظن ظنًا أن لها تأثيرًا سلبيًا مباشرًا وبالغًا جدًا على حركة الثقافة والتأليف في العالم العربي اليوم – أي على القراءة في محصلة الأمر – والإسهام في ضعفها وركودها مقارنة بأمم أخرى، و لربما لو أجريت دراسةٌ بحثيةٌ في هذا الباب لكشفت عن ضرره وأثره بوضوحٍ شديد. غياب ثقافة الحقوق في حقوق الثقافة خاصةً بطبيعة الحال لا يتوقع أو ينتظر منه ترقية إن لم تكن من آثاره التردية.

عودًا على السؤال عمّا إن كانت ظاهرة فوضى الكتب المحمولة رقميًا قد أسهمت في رفع معدل القراءة عند الفرد العربي على فوضويتها وانتهاكها وحاجتها الماسة إلى ضبطٍ صارم، فلعله يحسن التساؤل قبل ذلك: ما معدل قراءة الفرد العربي المقررة أصلاً قبل ظاهرة الكتب المرفوعة رقمياً والإنترنت عامة؟ هل من دراسات وإحصاءات حديثة تعالج هذه المسألة كي يمكن الخروج برؤية من خلالها؟! للأسف، لغياب مثل تلك المباحث أو شحها على الأقل، يكاد يكون الجزم بشيءٍ حول ذلك غير متأتٍ، وإن كانت كثيرٌ من الظواهر والشواهد لتذهب بالناظر إلى أن يؤكد هذا الرأي ويؤيده، ولكن بلا معطياتٍ بينة، كيف يمكن للناظر تقرير ما إن كانت ظواهر الكتب المصورة رقميا قد أسهمت في رفع معدلات القراءة أم غير ذلك؟

ولكن لنفترض بدءًا أن الإجابة نعم، أفاد انتهاك حقوق الطبع وسهولة الحصول رقميًا على أكثر الكتب حداثة بعد نشرها ورقيًا بقليل بلا تكلفة مادية في انتشار القراءة ورفع معدلاتها بين العرب، ولكن هذا سيقودنا إلى سؤال: فكيف لم تظهر آثار ذلك الارتفاع على الأقل في شبكة الإنترنت نفسها كمًا وكيفًا؟! فعلى مستوى الكم، تبدو نسبة المحتوى العربي على الشبكة العنكبوتية مخجلة في الحقيقة، فلا تجاوز في أحسن الأحوال حسب بعض الإحصاءات الحديثة 3 % من مجموع المحتوى العالمي، قياسًا على اتساع رقعة الوطن العربي واتساع مساحاته وتعداد سكانه الناطقين أصالةً بالعربية، بل إن من المخجل بحق ألا يكون لبعض الهيئات والجهات المعنية بالثقافة والآداب والفكر مواقع وحسابات تواصلية خاصة بها،وأما من ناحية الكيف، فتفحص وتصفح خاطف لكثير من المواقع العربية الثقافية – أيًا كان قالب الثقافة التي تقدمها- من شأنه أن يوحي بنسبة الانتشار الهائلة للمادة المتناسَخة المنقولة كما هي بقضها وقضيضها، غثها وسمينها، جيدها ورديئها. ولعل هذا لا يوحي بفعل قرائي جاد، إضافةً إلى كونه في جزءاً جوهرياً من آلية تعاطيه بهذه الصورة متعلقًا بالكيف القرائية. وربما يبعث هذا ويدعو في المقابل إلى افتراض الشق الثاني والطرف المضاد من الإجابة: وهو أن ظاهرة الكتب المرفوعة رقميًا لم تسهم في رفع معدل القراءة، بل العكس في تدنيها، بعد أن أسهمت في ابتذال صورة القراءة مادتها ومظانها والإيحاء بضعف أهمية اقتناء الكتاب وعدم جدواها لتوفره متى ما أريد بمجرد طلبه في محرك بحث!وبالتالي أسهمت هذه الظاهرة إسهامًا مباشرًا -ومع غياب حقوق الملكية الفكرية في معظم بلدان الوطن العربي- في إضعاف حركة التأليف والنشر.. فهل يصدق هذا الأمر أم ذاك؟ طلب جواب دقيق قريب يتطلب جهدًا بحثيًا منهجيًا في ظني.. ولا أظن التعويل على المشاهدات الشخصية والانطباعات الذاتية يمكنه الإرشاد إلى إجابة مقبولة.

سيف المعمري: هذه الظاهرة تتفاقم وتعقد من الوضع الثقافي

إن المتأمل في الوضع الثقافي العربي يجده مليئاً بالتناقضات؛ ففي الوقت الذي تقل فيه معدلات القراءة بين السكان العرب يزداد الجدل حول الصراع بين ثنائيات الكتاب الورقي والكتاب الإلكتروني، وتخرج أصوات تنادي بأفول عهد الكتاب.. وكأن هذا الكتاب يعيش أزهى عهوده، وفي الوقت الذي لا يحصل الكاتب العربي على ما يساعده على العيش من كتاباته نتيجة قلة القراءة وأيضاً نتيجة عدم احترام الحق في الملكية. نجد أن الأمر لا يرتبط فقط بهدم التزام دور النشر بهذه الحقوق ولكن أيضاً عدم التزام كثير من السكان بذلك نتيجة تحويل الكتب إلى صيغ إلكترونية وتداولها من أجل تعزيز القراءة وتمكين الناس منها والسؤال بالفعل هل أدى مثل هذه النهج الذي لا يحترم حقوق الكتاب ودور النشر إلى رفع معدلات القراءة؟ وهل أسس لعلاقة قوية مع الكتاب؟

إن هذه الظاهرة تتفاقم وتعقد من الوضع الثقافي المعقد أصلاً وهي في الواقع نتاج لأزمة كبرى تعيشها المجتمعات يمكن أن يطلق عليها أزمة تنوير أو أزمة مواطنة لم تتمكن فيها هذه المجتمعات من بلورة وعي تحترم فيه الحقوق، وتراعى فيها الملكيات لاسيما وإن كانت لفئة لا تحظى بأي اهتمام وهي فئة الكتاب، وفي الوقت الذي يمتهن الكتاب في الغرب الكتابة ويعيشون منها؛ يكتب الكتاب العرب في ظروف صعبة وهم غير مفرغين ويدفعون من أجل نشر إنتاجهم، تنتهك حقوقهم من قبل الكثيرين من خلال التبادل الإلكتروني للكتب.

لا أرى أن هذه الظاهرة يمكن أن نحد منها لأنها مرتبطة باتجاهات نحو الكتاب فكثيرون يرون أن الفكر ليس له قيمة وأنه يفترض أن يحصل عليه مجاناً، يدفع لأشياء كثيرة قد لا تكون ذات قيمة ولكنه يتوقف عند الكتاب ويصر أن يحصل عليه مجاناً منتهكاً حقوق فئة تواجه العديد من الصعوبات من أجل النشر، هل يمكن أن يحدث الاشتغال على الوعي من الظاهرة أما أن الأمر يتطلب تشريعاً كبقية التشريعات التي وضعت للحد من تداول مقاطع وصور وكتابات تمس بأشخاص وفئات ومؤسسات، إن غياب الدعم للكتاب والمؤلفين ربما يتغاضى عنه رغم أهميته لكنه إن صاحب ذلك التغاضي عن انتهاك حقوق المؤلفين فالأمر يقود إلى تفاقم في وضع الحياة الثقافية المتردي أصلاً.

يوسف الزهراني: وصول الناس لنتاج الكاتب يُعتبر زكاة

ينصب اهتمام القارئ بالدرجة الأولى على الوصول إلى الكتاب واقتنائه، وهو بهذا لا يتنبه إلى حقوق الكاتب الفكرية أو المادية، وهي حقوق مشروعة بكل تأكيد نظير ما بذله من جهد فكري ووقت وتواصل مع دور النشر في سبيل خروج إنتاجه الكتابي إلى النور، وهنا يرى القارئ أنه غير ملوم، ذلك أن هدفه الوصول إلى المعرفة، ولديه، كما يعتقد أسباباً منطقية تجعله يقتني الكتب بصيغة pdf، يأتي على رأسها غلاء قيمة الكتاب الورقي، وقد شاهدتُ مقارنات بين الأسعار أثناء إقامة معارض الكتاب، مع أسعار يقدمها شباب يشترون الكتب ويوصلونها بالشحن إلى باب القارئ أينما كان، ومن بين تلك الأسباب في رأي القارئ عدم وجود مكتبات كبيرة في المدينة التي يعيش ويقيم بها، مما يجعل الوصول إلى الكتاب أمرًا بالغ الصعوبة، يستوجب السفر في كثير من الأحيان، مع الأخذ في الاعتبار ما يتعلّق بالسفر من تكاليف مادية مرتفعة، كلّ ذلك لأجل الوصول إلى الكتاب، ويدخل في هذا طلاب وطالبات الجامعات ومن هم في مرحلة الدراسات العليا أو لديهم أبحاث علمية، وبعضهم ضمن برنامج الابتعاث الخارجي، وكلهم يقولون بأن أسعار الكتب غالية أو بعيدة عنهم مكانياً، وما من سبيل لاقتنائها سوى طباعتها من شبكة الإنترنت بصيغة pdf.

وستستمر هذه الحكاية طالما استمرت أسبابها، وهنا لا مناص للكُتّاب والمؤلفين من التوصل إلى صيغة حل مع دور النشر، من خلال تسعيرة منطقية للكتاب، والتعهد بخدمة انتشار الكتاب داخل دولة المؤلف وخارجها، واستخدام التواصل الإلكتروني مع القراء لإيصال الكتب إليهم أينما وجدوا بأسعار معقولة لا تضيع معها جهود الكاتب، ولا تحمّل القارئ تكاليف مادية لا يطيقها، وخصوصاً أن أكثر القراء من الشباب والشابات طلاب الجامعات الذين ليس لديهم وظائف يجنون منها الأموال كما أسلفتُ القول.

هذه الطريقة ستسهم كثيرًا في اتزان الأمور بين الكاتب والقارئ، علماً بأنه من الصعوبة إيقاف ما يقوم به كثيرون من نسخ الكتب بصيغة pdf، وعلى الكاتب والمؤلف أن ينظر للأمر من زاوية إيجابية، وهي أن وصول الناس لنتاج الكاتب يُعتبر زكاة لحصيلته من العِلم والمعرفة، ويكفيه شرفاً أن اسمه وأفكاره وصلتْ للناس، حتى لو كان الأمر بطريقة لا يرى صوابَها.

 

الكاتب: حمد الدريهم

المصدر: جريدة الجزيرة | عدد السبت 06 مايو 2017

طالبة

ندى سمير

مرحبًا، أنا ضحية البشر! أنا الطفلة الساذجة التي كانت تقابل البشر بوجهها الحقيقي، التي تصدق أكاذيبهم، حين يبتسم الآخرون أمامي أبتسم لهم و لا أدري أن يدهم التي صافحوني بها هي ذاتها التي طعنوني بها، كان ذلك خطئي وحدي، أنا من شققت لهم طريق الوصول إلي، أنا من سمحت لهم بالتلاعب بي، طيبتي و عدم قدرتي على التعامل معهم بحذر و دهاء تسببا في سقوطي و استدراجي إلى الفخ.

لا بأس أن تكون إنساناً خيّيراً، لكن عليك أيضاً أن تكون داهية و ذا فراسة كي لا تُلدغ من سمومهم و لا تقع في الجحر الذي خططوه لك، لا تقلق لم أمت لكن فقدت روحي و ثقتي بذاتي و إيماني بنفسي أصبحت أضحوكة بالنسبة إليهم، أعدكم بأني سأكون أقوى و أنجح كي أثبت أني لستُ فريسةً سهلة المنال، أنا صقر تهابه الجموع، أنا أذكى مما تتصورون، لم أعد تلك الطفلة الصغيرة التي تتعثر بحجرة في طريقها فتتكسر، التي اغتربت عن العالم و انعزلت في كوخ صغير رُبما، لست أنا هي الغريبة رُبما هم.

لم تكن الحياة هكذا منذ ١٤ عام، لم يكن البشر سيئين إلى هذا المدى ما الذي أختلف؟!

أشعر فكأنني كنت مغيبة عن الواقع أو أنني كنت حبيسة احتلال لزمن بعيد أو كنت نائمة نومة أهل الكهف فخرجت من كهفي لأرى كل شيء من حولي قد اختلف، الجميع تبدل وانا كما أنا حسنة النية و بسيطة و عميقة في ذات الوقت، لا أمتلك خبرات كافية للتعامل مع البشر و أيضا لا أجد من يفهمني و يحترم حدودي و لا يلزمني بشيء، يتقبل فكرة أني لا أهتم بلغو و ثرثرة الناس كغيري، يوقن أني مميزة حتى و إن لم أكن الأفضل، لكن يكفيني اختلافي وتفردي، يكفي أني مستقلة لدي أفكار قارئة مطلعة لا أشبه أحداً و لا أقارن نفسي بأحد مهما كان.

لا امتلك قدوة لأني أنا قدوتي أنظر لنفسي في المرآة و أقول أنا أقوى أقوى بكثير، أنا فارسة محاربة أما أنتم تحاربون الضعفاء أشباهي في الماضي، لأنكم غير قادرين على مواجهة الأقوياء، أراهن أني سأصبح منهم قريبًا قريبًا يا هؤلاء!

اختتم بمقولة قرأتها و أعجبتني:

“‏السُّموم أنواع، أحيانًا تكون حتّى الطِّيبة الزائدة سامَّة على صاحبها”

شعراء تحت رحمة اللغو.

حذّر الفيلسوف اليوناني أرسطو مِن أنّ الكتابة نظماً لا تخلق شاعراً، مشيراً إلى أن امبيدو كلس كتب شعراً ولكنه يجب أن يُدعى فيزياوياً بدلاً من “شاعر” !

وهنا تحضر مقولة لدانتي: “أن الكلام بالنسبة للشاعر، كالحصان بالنسبة للجندي، فأفضل الجُند حريّ به أن يركب أفضل الجياد، وأفضل الكلام ما يلائم خير الأفكار؛ لخدمة موضوع فخم، كما يفهمه العقل المتسامي”.

وإزاء هذا المدّ اللافت المُتشاعر الذي ينساب في الصحف والمجلات الدورية، وكذا وسائل التواصل الاجتماعي التي باتت منصّة تستقبل مئات الأبيات تحت ذريعة قول الشِّعر تستوقفك حالة مآل هذا الفن الشعري، وتجعلك تتساءل: هذا الانفلات والتجاسر على اقتراف المقول الشعري هل هو دليل عافية في المشهد الشعري؟ وهل لازالت جذوة الشعر مشتعلة ومتوهّجة كما كانت مع قامات شعرية تركت أثراً جمالياً خليقاً بالتذكُّر والخلود؟

لكنّ تأمّلاً واقعيّاً وفحصاً رصيناً يجعلك تصل لقناعة مفادها خواء هذا القول، وعدم أهليّته لإطلاق صفة الشعريّة عليه إذ ليس ثمّة دهشة أو انقصافة شعورية يُحدثها لديك حين تلقّيه، بل إنّه يُشعرك بحالة انطفاء شعوري وذوقي جرّاء كميّة الهذر الذي يلوكه بلا أي مُتعة أو لذاذة في تعاطيه.

لكن ما العمل و”الشِّعر” هو مخزوننا الحضاري إنّك لو أخذت دبّوساً -وفقاً للشاعر الكبير نزار قباني- وأدخلته تحت جلد أي مواطن عربي فإنّ سائلاً سحريّاً سوف يتدفّق. وهذا السائل ليس نفطاً.. ولا هو من مشتقات النفط، وإنما هو سائلٌ أخضر اللون، ذهبيّ الشُّعلة، أبديّ التوهّج، اسمه الشِّعر.

وقدرنا كشعب عربي محكومٌ بالشّعر، فهو موجود في كل تفاصيل حياتنا اليومية، في الأفراح، نقدّمه مكان الورد الأبيض والقرنفل.

ولعلنا نتّفق مع الناقد عقيل مهدي يوسف حين يشير ببراعة لافتة قائلاً: “وحيث يخون الإلهام الشاعر يتركه تحت رحمة اللغو، والسُّخف…”، ويشير في مقالة له بعنوان: “من يعتذر للشعر” إلى ما كتبه فيليب سيدني كتابه “اعتذار للشعر” فيقول: نشر في عام (1595) وهو يتهّم الآراء السائدة عن الشعر ويقول:

“إنه هبط من أعلى تقديراً للمعرفة؛ ليكون لعبة الأطفال المضحكة حتى استطاع البعض وتجرّأ على تشويه الشعر، الذي كان النور الأول الذي أضاء دياجير الجهل، وكأنهم يلعبون مع الشعر لعبة الأفاعي الخبيثة، التي تقتل عند ولادتها والديها!”

قد نتفق أو نختلف مع درايدن حين ينادي بالحرّية وبلا سلطة إرشادية عُليا في الأدب، بل الأساس هو ذوق العصر، وإسعاد الآخرين، ويؤكد على “المتعة” ليجعل ناحية ما في الناس أفضل، فالأدب فن لا تعليماً، أو هو لا يعلّم إلا عندما يسر.

لكنّ المحبِط في الأمر هو انطفاء ما تظنّه وميض إبداع وشرارة تجاوُز بعد قراءته وكأنّك معين الشعرية نضب بأفكاره ومغامراته وفضاءاته التخييلة وهو ما يستدعي في المقابل أسماء شعرية فذة ظهرت في سماء الشعر كومض لكنه خالد بخلود الشعر وجمالياته.

فحين يلوح الذاكرة قامة شعرية كرامبو، وتجد الدراسات تنكبّ على منجزه الشعري بعد قرن ونصف يتملّكك العجب، فهذا الشاعر لازال نصّاً لا يُستنفد، على مرّ الدراسات والأبحاث والسنين والأجيال العاكفة عليه، وهو ما دعا كاتب مقدمة ديوانه وترجمته إلى العربية رفعت سلام ليقول: لم تخطر الحماقة ببال أحد فيُعلِن-أو حتى يُضمر- أنه قال أو كتب كلمة أخيرة فيما يتعلّق بأيٍّ من تضاريسه -أي رامبو-.

ولعل مساحات الدهشة تزداد حين نعلم أن إنجازات رامبو الشعرية كانت في خمسة أعوام فقط فمنجزه الشعري اختصار للذات الأقصى والتكثيف الاستثنائي للطاقات والنفي الصارم للتكرارات والتشعبات، والحدة اللغوية القاطعة ونهب الزمن.

والسؤال:هل يمكن امتلاك العالم -بكل تضاريسه،وتحولاته، وتواريخه، وصرخاته وغنائه، ودمائه وحروبه في نصّ شعري؟

هو إذن النّص المستحيل.

 

الكاتب: عبدالله الحسني
المصدر: صحيفة الرياض
السبت 5 شعبان 1436 هـ – 23 مايو 2015م – العدد 17134

هل تعزز العزلة الإبداع حقاً..؟

من أبرز صفات المبدعين اهتمامهم بالمخالطة الاجتماعية.

في مذكراتها (أتغير) كتبت الممثلة ليف أولمان «لطالما اعتبرت الكتب كائنات حية بعد أن صادفت مؤلفين غيروا حياتي قليلاً، فبينما أمر بفترة ارتباك ما، أبحث عن شيء لا أستطيع تحديده، إذا بكتاب معين يظهر، ويتقدم مني كما يفعل صديق، يحمل بين دفتيه الأسئلة والأجوبة التي أفتش عنها».
وكما وصفت أولمان علاقتها بالكتب كان كتاب «فلسفة الوحدة» للفيلسوف النرويجي لارس سفيندسون الذي أجاب عن الكثير من أسئلة الوحدة والعزلة والفرق بينهما، كيف تكون وحيدا أو مستوحدا؟ لماذا يكون الشعور بالوحدة مؤلما للغاية؟ وسؤاله الذي استوقفني «هل العزلة في الصحراء أقل قسوة من العزلة بين البشر؟»
لقد تعرض العالم خلال الفترة الماضية إلى عزلة إجبارية في زمن جائحة «كوفيد – 19» فقد أصبحنا في مواجهة مع أنفسنا رغما عنا، واختفت تلك المشاغل الاجتماعية والالتزامات التي كانت تملأ أوقاتنا، وبقينا في المنازل نمارس العمل والدراسة عن بعد من خلال التطبيقات الإلكترونية، ورغم ادعائنا بالراحة والتخلص من عبء الواجبات الاجتماعية في فترة انتشار الفيروس، فإن تلك العزلة كانت مؤلمة للبعض، وذلك بسبب عدم امتلاكهم للشجاعة في مواجهة ذواتهم والتعرف على المشاعر الحقيقية التي تعترض الجميع دون استثناء في هذه الفترة.
الوحدة في مواجهة الذات

الوحدة الدائمة كما عرفها سفيندسون هي حالة يعاني فيها الشخص من الألم المستمر بسبب عدم وجود علاقات مرضية مع الآخرين، إن الوحدة تخبرنا شيئا عن أنفسنا وعن مكاننا في العالم، إذ إنها تخبرنا عن مدى أهمية وجودنا من عدمه، فهي ترتبط بشكل خاص بالعار وبالصعوبة التي يواجهها الناس في الاعتراف بالوحدة علنا، باختصار الوحدة هي ألم اجتماعي يشير إلى أن حياة الفرد الاجتماعية ليست مرضية، فنحن ماهرون بشكل مدهش في خداع الذات، ويمكننا الفرار من الآخرين بالابتعاد جسديا أو إيقافهم عقليا، لكننا لا نستطيع الهرب من أنفسنا ومواجهتها بالحقيقة. هكذا أصبح بقاؤنا في المنزل يشعرنا بنوع من التهديد، فقد فرضت علينا هذه المواجهة مع الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي، وتعرض روتين حياتنا اليومي إلى ارتباك، وخلق بقاؤنا في المنزل لفترات طويلة الكثير من التساؤلات عن تلك المشاعر التي تعترضنا في هذه الفترة تحديدا، وسببت تلك العزلة المفروضة نوعا من الشعور بالوحدة والعزلة مع اكتشاف الفجوة الهائلة بيننا وبين أقرب الناس لنا.
يشير الفيلسوف وعالم الاجتماع جورج هربرت ميد، إلى أننا نخلق ذواتنا من خلال تفاعلنا مع أنفسنا، وبالتالي لا يمكننا بناء تمييز بين أنفسنا والآخرين، ومن هذا المنظور ترى أن الذات هي نتاج اجتماعي وليس فردياً، فأنت تتعرف على نفسك من خلال حكم الشخص الآخر عليك، والآخر هو شخص يحكم عليك، وأثناء ذلك نعلّم أنفسنا بأن نتصورها كما يفعل الآخرون ونحوِّلها من خلال تفاعلنا مع ذاتنا، وفي الوقت نفسه تحافظ النفس على استقلال معين فيما يتعلق بالآخرين، وتلك التجربة كما وصفها جورج هربرت تشكل علاقتك بالآخرين فهم يحكمون عليك، مع ذلك فأنت بحاجة لهم لأن الاعتراف الذي تطلبه يجب أن يأتي منهم، ولكي يكون لهذا الاعتراف قيمة يجب عليك أيضا الاعتراف بالآخرين، وتعتمد قيمة اعتراف الآخرين بك على حسب تقديرك له.
الإنسان المعاصر هو إنسان جماهيري واجتماعي بجدارة، لكنه في الوقت نفسه وحيد للغاية، كيف يكون الإنسان محاصرا داخل نفسه وعلى مسافة بعيدة جدا من أي شخص حوله. وقد عبر ديفيد ريزمان عن هذه الظاهرة بشكل لافت للنظر، في كتاب «الحشد المتوحد» قائلا: لقد أصبح الإنسان المعاصر أكثر نأيا عن الآخرين، وهو يواجه معضلة، فهو خائف من التواصل عن قرب مع الآخر، وهو خائف بالقدر نفسه من الوحدة وعدم وجود أحد يتواصل معه، إذ إن الإنسان يحتاج إلى الصداقة والحب في حياته، وأحد الأسباب التي تجعل العيشَ في عزلة صعبا، هو أن البشر مخلوقات اجتماعية، ولا يتم تثبيت هويتك الذاتية بعمق داخل نفسك وهي منفصلة عن الآخرين، بل يتم تثبيتها من خلال ارتباطك بالآخرين.كما ورد في كتاب «فلسفة الوحدة» أننا نطور العادات العاطفية عن طريق تغيير التقييمات الخاصة بنا بحيث يمكننا تغيير مشاعرنا، وتغيير ممارستنا وعاداتنا وبالتالي أيضا مشاعرنا، إن كل عواطفنا هي بالاستمرار عناصر التنظيم تجاه كل شيء وما تشعر به هو بالكاد نوع من الاختيار، ولكن هو نتيجة التصرفات سواء الفطرية أو المكتسبة، أنت لست مسؤولا عن الميل إلى الشعور بالوحدة لكنك مسؤول عن كيفية إدارتك لهذا الاتجاه، لذلك أنت مسؤول إلى حد ما عن وحدتك.

* كاتبة وتشكيلية وأكاديمية في جامعة البحرين
*وحدي… ولستُ وحيدا!

تؤمن الثقافات القائمة على التدين، بأن العزلة مهمة من أجل تحقق الإلهام والتنوير، فيكتب أوشو «التأمل هو فن الاستمتاع بالوحدة» وقد درست الأبحاث الحديثة الرابط بين العزلة والتركيز الذهني، فأثناء العزلة الاجتماعية تحدث حالة الراحة الدماغية، التي تسير جنبا إلى جنب مع ما يصاحب العزلة من هدوء وسكون، ولا بد أنك لاحظت حين يحضر شخص آخر بجوارك لا يستطيع دماغك إلا أن يعيره بعض الانتباه.
الكاتبة سوزان كين مؤلفة كتاب «الصمت: قوة الانطوائيين في عالم لا يتوقف عن الكلام» تنتمي إلى ذلك الطراز، الذي لا يحب الأجواء الاجتماعية الصاخبة، وتميل إلى ممارسة أنشطتها بشكل منفرد. فمن أبرز صفات المبدعين هي قلة اهتمامهم بالمخالطة الاجتماعية، هذا ما أظهره بحث عالم النفس الإبداعي غريغوري فيست، الذي أجراه على عدد من العلماء والفنانين، يصف «فيست» حالة الفنانين الذين يعكفون على عملهم بشكل منفرد: «الفنانون يحاولون فهم عالمهم الداخلي والكثير من التجارب الشخصية الداخلية، التي يحاولون التعبير عنها، وإضفاء معنى عليها من خلال فنهم، فالعزلة تتيح للمرء التفكر وإمعان النظر، وهذا من ضرورات العملية الإبداعية».
ولذلك، من الأهمية بمكان أن نتعلم كيف نتسامح مع الشعور بالوحدة فهي ليست أمراً سيئاً على الدوام، وبسبب ظروف الحياة والعمل ووسائل التواصل الاجتماعي أصبحت الضوضاء في كل مكان وأصبحنا نفتقد قضاء وقت قصير مع أنفسنا، لهذا يقتضي أن نحول تلك الوحدة إلى عزلة اختيارية، فأدمغتنا بحاجة إلى الراحة وهذا أمرٌ عادي يقره علماء النفس، حيث يصرح فيست «يوجد خطر لدى الناس الذين لم يمارسوا الوحدة أو العزلة على الإطلاق» لتكون العزلة سببا للراحة والإنتاجية والإبداع.

 

الأربعاء – 7 محرم 1442 هـ – 26 أغسطس 2020 مـ رقم العدد [ 15247] المؤلف: د. مياسة السويدي ..
المصدر: جريدة الشرق الأوسط

سيكولوجية الحب في ثقافات الشعوب.

تبدو مفردة الحب بحد ذاتها كون خاص في الجمال والاحساس الصادق بالوجود، والدينامية البشرية التي تشكل نجمات ساطعة في سماء تلك المفردة النابضة بالحياة، وتغيب تلك المفردة بلا عودة في عوالم الأشكالات الأجتماعية التي تتأزم نحو تدمير الذوات والوجود، ويشكل ذلك الغياب أسرار انسحاب الإحساس بالوجود مع تلك التأزمات و نكهة الشعور بالسعادة في الحياة .

وشغلت تلك المفردة عوالم الأدباء في مساحات الإحساس المرهف، وعوالم السيكولوجيين في دراسة الدينامية المحركة لتلك المفردة الهادئة الصاخبة في الآن ذاته في حياة البشر، وماهية دوافع تلك المفردة في تحريك الوجود، وما يؤول معها إلى أسرار ساحرة، في اكتسائه بالورد والسلام، وألق تجليات المعاني السامية بين الآنام، وروعة تألقه بطيور الحب المسافرة بلا حدود في اطياف حياتنا المتنوعة .

وبعيداً عن الرؤية المقارنة لتنظيرات المدارس النفسية التي تعاطت مع هذه المفردة العذبة علمياً، فإنها تؤطر جميعاً بعيداً عن صخب الأقوال وتناقضاتها، في اعتبار تلك المفردة دافعاً محفزاً في أن يكون للفرد علاقة حميمة بآخر يبادله المحبة ويفهمة ويتجاوب معه، وهي سمة فطرية نولد بها، في عوالم الأحساس والمشاعر، وليس لها أسباب فسيولوجية، وتؤول انعكاسات فيما نبديه أو نتلقاه من معاملة طيبة وحنان ورعاية، أو قد تظهر في حرارة اللقاء والمصافحة باليد، وقد تترجم فيما يرتسم على ملامحنا من سرور وحبور وكلام مؤثر يؤطر تلك المشاعر المرهفة، وقد نسقطها على الوجود شعراً، وقد تكون مناجاة مع الطبيعة بكل موجوداتها الجميلة، وقد يعبر عنها بالتقبيل والاحتضان، وقد تؤول مع أوج الإنفعالات إلى دموع غزيرة في لغة الفرح، وهنا تبدو هالة المساحة التي شغلت المفكرين بين الفرح والحزن في الخط الفاصل بينهما، عندما يؤول أوج الفرح إلى صورة شكلية للحزن من خلال الدموع ، والعكس صحيح عندما يؤول اوج الحزن والصدمة إلى لغة شكلية للفرح عبر جنون الضحكات ، وهو الجدل بحد ذاته القائم بين العبقرية والجنون في الخط الفاصل بينهما، حيث تختلط المفردات جميعا في جدلية هذا الحد الفاصل بينهما سواء بين الفرح والحزن أو العبقرية والجنون .
لذلك فإن الحاجة إلى الحب في حياتنا هي عين الحاجة في أن يكون إلى جوارنا من يشبع فينا حاجات متنوعة ترتقي من الحاجات الحسية التي تتعلق بالحواس كلها، إلى أن تغدو مجردة عند نضج الإنفعالات فتصبح حاجات معنوية تتعلق بالمعاني والجوهر، بعيداً عن الشكل المحسوس والمظهر الخارجي المادي، وهذه المعادلة تخضع لجدلية واسعة لأن الصورة التعبيرية للحب تبقى حالة وسط بين لغة الحواس ولغة المشاعر، ويصعب أن تتجرد إلى المعنى المطلق دونما أن تختلط بحراك حسي يعبر عنها، سواء في لغة المعاملات البشرية الرقيقة أو الصورة الأوج من خلال اللغة الجنسية، وفي ظل تلك الجدلية تبرز طروحات السيكولوجيين في تفسير مضامين اللغة الصوفية وما يعتريها من معاني الحب الإلهي ولغة التوحد بالوجود، حيث تعبر عن المعنى المطلق في لغة الحب والتجرد بلا حدود، حيث تغدو الذات والوجود في هالة تلك المفردة حيث تكتسي بالقداسة في البدء والإنصهار والختام .

ويقابل هذا النمط من المشاعر الصوفية المتفردة في الجوهر المطلق في أعلى درجاته، النمط المادي البحت في أعلى درجاته، فيما يعرف بالحب من النظرة الواحدة، إذ يعتبر ضرب من الشهوة، وذلك لأن اتصال النفوس وتلاقيها على حد قول ابن حزم الأندلسي لايكون إلا بعد أن تتهيأ لهذا الإتصال وتسعد له بعد ايصال المعرفة اليها بما يشاكلها ويوافقها، ومقابلة الطبائع التي تخفى على المحب من محبوبه بما يشابهها عنده، وحينئذ يكون اللقاء صحيحاً ويحدث أثره، وأما ما يقع من أول وهلة ببعض أعراض الإستحسان الجسدي فهذا سر الشهوة ومعناها على الحقيقة، فإذا تجاوزت المحبة الشهوة إلى توافق الطبائع يكون العشق، وهنا تدخل إشكالية أن يحب المرء اثنتين ويتزوج اثنتين، فالأولى لاتتحقق، لأنه ليس للمحب من وقت وجهد يصرفه على غير محبوبه من أسباب دنياه، فكيف يشتغل قلبه وفكره بحب ثان في الآن ذاته، و إنما الزواج يصح لأنه يقرأ من خلال الشهوة ويسمى محبة على الظاهرفهو كناية مجازية تحت مضمون المحبة لا على وجه الحقيقة، ولا تتحقق على وجه الحقيقة إلا لامرأة واحدة لااثنتان أو اكثر في الآن ذاته، وهنا أنوه بأن ما ذكر سابقاً هو حول نوعية الحب التي تدور فطريا بين الرجل والمرأة في الزواج وفلك العلاقات التي تدور في هذا الإطار، لا مشاعر الحب التي تدخل تحت مظلةالأمومة والرحم، لأن هناك أغصان متنوعة لشجرة الحب في الحياة، بدءا من المفردة التي تكتسى بالقداسة في لغة الإيمان والروحانيات، أو حب الأباء أو الحب الأخوي، وهناك الحب المرتبط بالجنس فقط، وهناك الحب الموضوعي عندما يشحن الوجود بمشاعره وجدانيا، يقابله الحب الذاتي الذي يتمركز في الطفولة نحو دائرة الأم، وهناك صور سلبية تنطلق من مشاعر الحب عندما ينحرف عن السوية فيكون في صورة الحب الجنسي المثلي، الذي يعد شذوذاً جنسياً، والحب العصابي الذاتي عندما يحب الشخص نفسه كما لو كانت موضوعاً خارجياً وهو عندما يتعاطى مع الطرف الآخر كأن يكون زوجاً مثلاً فهو في الصورة الخارجية يشبع بمشاعره الطرف الآخر ظاهراً، ولكن في الواقع يشبع كل منهما في الآخر ناحية عصابية، وليس تعلق أحدهما بالآخر، وهناك الحب الشفاف الذي يتجاوز حدود الموضوع الجنسي ليؤول في إطار المحبة المتجردة الشفافة، التي تتشكل مدادها من التوافق وارادة كل من الطرفين، على تأطير تلك العلاقة بالطهر والشفافية ولغة الاستمرارية رغم كل الحواجز المعيقة، وتعنون بصورة الحب الزوجي الحقيقي أو المنشود في الديانات، حيث ينطلق إلى الجوهر ويتجاوز الحقيقة الشبقية المحضة، وربما تفتقد تلك المعاني حقيقة في واقعنا مع كافة اشكال الأزمات التي تهدد العلاقات بين البشر، وربما نجدها ولكن في مساحة جد ضيئلة في واقعنا المتخم بالماديات ولغة المصالح وتضخم الأنا والنزوات الشخصية المحضة .

وما سبق ذكره يؤكد تلك الجدلية السيكولوجية التي تميز بين الحب كعاطفة وبين ان يكون علاقة بدنية، وهنا الخط الفاصل لمعاني الطهر والشفافية في العلاقات، ولغة النزوة والأنا في ادارة تلك العلاقات، او ما يعرف بلغة الأسقاطات السيكولوجية في هذا الصدد .

وفي إطار تجلية تلك المفردة سيكولوجياً، تبرز تساؤلات حول لغة الشعوب في التعاطي معها، فالمشاعر واحدة في البشر، ولكن اشكال التعبير عنها متفاوت بحسب لغات العالم، وما تترجمة تلك اللغات من انعكاس في الواقع الأجتماعي، لأن اللغة ليست موضوعا خارجاً عن المجتمع؛ انما هي من رحم المجتمع، والعلاقة متداخلة بينهما، فكل منهما يفد إلى الأخر في علاقة دورية لاتنتهي .

فالمرأة الفرنسية تمارس الحب على طبيعتها، في اطار التلذذ والسيكولوجيا المفتوحة، ولاتستنكف ان تظهر عواطفها علناً، وتنأى عن لغات الكبت في مشاعرها، في حين تكتنف لغات التعبير عن عاطفة الحب لدى الأسبان والأيطاليين بعض التحفظات، وهذا يؤكده الأدب الفرنسي حول مفردة الحب الذي كتب فيه حتى الثمالة، في حين لم تظهر بجلاء مشتهرلدى الأدب الأسباني، وربما يفسره في ادبهم تأثرهم بالحضارة الأسلامية، التي حافظت لديهم على حمرة الخد عند مخاطبة المرأة بمفردة الحب ومتعلقاتها، كما يسجلها تراثهم الأدبي، اما في البعد الأيطالي فتحفل لغة المآسي والألم مقارنة مع هذه المفردة العذبة وانعكاساتها الأجتماعية، الذي اتخمته الملاحم والألالم والحروب والتناقضات الأجتماعية .

وترتبط مفردة الحب لدى الألمان بسيكولوجيا الحرمان والعذابات، وهذه لغة انعكاساتها في الأدب الألماني، وربما التراث الألماني احدث انعكاساته بجلاء في هذا الصدد، والقرءاة المتأملة له عبر رحلة الصراعات الدموية، والقومية المتفردة .

وفي الأدب الأنكليزي هناك تقدير لمفردة الحب في اللغة الشعرية، ولكنها لغة عملية ترتبط بالمادة اكثر، وهي لاتخلو من مشاعر رقيقة، ورسالة متميزة احدثت اثرها في الأدب العالمي عامة .

أما المرأة الأمريكية فهي أقل نساء العالم الغربي معرفة بالحب الحقيقي، الجوهر المطلق، وربما أثرت حركة البراجماتية التي قادها ديوي، في إحداث انعكاساتها على المجتمع والسياسة، في ظل لغة المنفعة والمصالح المتوقعة، ومن هنا وردت على مساحات علاقات الحب لغة تجربة الحبيب وفيما بعد تقرر المرأة اعجابها به، بناء على العلاقة الجسدية المحضة، والمنافع المادية وقد تتزوجه وسرعان ما يحدث الأنفصال في ظل العلاقات المحكومة بالأنا والنزوات على غرار السياسة الأمريكية لتيار المحافظين، فهي تحتفي بحلفائها وسرعان ما تجهز عليهم بسياسة العزل والحصار والأنفصال حتي القتل بنخب الثمالة، كما تعكسها سياسة بوش والمحافظين العاشقين لمفردة الحرب مقابل مفردة الحب والفرق بينهما راء ولكنها تعني للسياسة الأمريكية الشئ الكثير في تدمير الذوات والأرض والحضارة معاً .

وعلى سبيل الإستطراد تعد امريكا من أعلى دول العالم في معدلات الطلاق، ويعد الأمريكي من أكثر الناس قصورا في النضج الإنفعالي في موضوع الحب، وأشدهم جهلا في مشاعر الأنوثة ومتطلباتها سيكولوجيا، لأنه يعي الحب وسيكولوجيته في ظل الموضوع الجنسي ونزوات الذات وتلذذها في لغة الأنا المحضة على الوجه الأغلب لا التعميم بالطبع .

وفي التراث العربي حفلت مفردة الحب بمساحات واسعة في لغة الشعراء والعاشقين، وبلغت حد الجوهر المعنوي في التعاطي مع المحبوبة ولغة الإسقاطات بكافة تجلياتها على ديار المحبوبة ومتعلقاتها المادية، وفي الواقع العربي، الذي نحيا مخاضه الآن، لايمكننا أن نجد سمة فاصلة لتلك المفردة في الواقع العربي الذي أتخم بالتبعية، بحيث يصعب سيكولوجيا ايجاد سمة سيكولوجية فاصلة له، فهو متأثر بلغة ماضوية سلبية كبلت المرأة وبالتالي كبلت تلك المفردة وخضعت لإطار حرمان تلفظها والخوض في أبعادها إلا في أطر معينة، أو انسحبت لتغدو موضوعا جنسيا بحتاً كما في مساجلات بعض الفقهاء وربما لعبت الحركة الفنية عبر صورها الدرامية المتنوعة في ترسيخ تلك الرؤية القاصرة لتلك المفردة، وربما تطرفت لتغدو في بعد الأباحية المطلقة حينا كما هي في اللغة الفرنسية أو اللغة الأمريكية البراجماتية النفعية، وربما نجدها متأثرة بسيكولوجيا الحرمان والألم كما هي في التراث الشيعي، وربما وجدناها محددودة المجالات في إطار الهي مقدس، يحرم الخوض بها في مجالات أوسع و أكثر رحابه لأن ذلك خروجا عن الثوابت كما في اطارها السلفي، وما زال الإطار الإسلامي المعتدل يحوم حول الدائرة السلفية ولم يخرج إلى مجالات أكثر رحابة في التعاطي معها، والجدلية الدائرة هنا تعود للخط الفاصل بين تلك المفردة ومضامين الثقافة الجنسية وما يعتري تلك الثقافة من كبت في التعبير والمداولة الواقعية تحت مظلة التأصيل والإنفتاح معا .

وما سبق ذكره يعزز عدم إمكانية تحديد سمات فاصلة لتلك المفردة في واقعنا العربي المعاصر رغم أننا نستطيع استخلاص سمات فاصلة لها في التراث الثقافي والأدبي على وجه التحديد للحضارة العربية الإسلامية .

 

الكاتب: د. سعاد جبر – كاتبة وناقدة في مجال سيكولوجيا الأدب
المصدر: موقع أنطولوجي

من يمثل الثقافة العربية؟

 

ترتبط كثير من الثقافات والآداب العالمية بكُتُب معينة وأسماء بعينها، بحيث لا يمكن أن نذكر تلك الآداب أو تلك الثقافة من غير ذِكر ذٰلك الكتاب أو ذٰلك الاسم. وهكذا غدا اسم غوته بديلاً عن ألمانيا أدب وثقافة، كما صار اسم شكسبير وثيربانطيس وهوغو بدائل عن إنجلترا وإسبانيا وفرنسا ..

كان الأخ عبد الفتاح كيليطو طرح السؤال ذاته فيما يخص الثقافة العربية، واستخلص أن الاسم البديل عنها في أعين من يتأملها خارجاً ليس اسم علم هذه المرة، وإنما عنوان كتاب، هو ” ألف ليلة وليلة “.

ربما يتبدى لأول وهلة أنه لاختبار صدق التمثيل الذي يقترحه كيليطو أن يعمد المرء إلى تقصي أوجه الشبه التي تربط العرب أدباً وثقافة ب الليالي. إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة، ولا هو حتى في هذا الاتجاه. وهذا، بالضبط، ما يلحظه بورخيس في إحدى محاضراته. فعلى عكس ماهو متوقع. فإن جميع البُلدان قد “اختارت” ممثلاً عنها أفراداً، قد لا يشبهونها في شيء.

فعوضاً عن أن يقع اختيار إنجلترا، على سبيل المثال، على صامويل دجونسون، فإنها ربطت نفسها بشكسبير، والحال أننا يمكن أن نقول “إن شكسبير أقل الأدباء الإنجليز تَنَجْلُزاً” كما يلاحظ بورخيس. إذ إن ما يميز الإنجليز هو أنهم يلمِحون و “يقولون أقل ما يريدون قوله”، على عكس شكسبير تمام الذي”يميل إلى الغُلُو في استعاراته”.

الأمر عينه ينطبق على ألمانيا،”هذا البلد العجيب الذي يميل بكل سهولة نحو التَّعصُب”، ومع ذلك فقد اختار، بالضبط رجلاً سمحاً أبعد ما يكون عن التعصُب، بل” رجلاً لا يهمه كثيراً حتى مفهوم الوطن” هو غوته.

فيما يخص فرنسا يلاحظ بورخيس أن ليس هناك اسم بعينه تم الحسم بصدده. والغريب أن الكاتب الأرجنتيني لا يقترح اسم ديكارت، بل يؤكد أن الميل ينحو نحو اختيار هوغو ممثلاً عن فرنسا. غير أنه سرعان ما يُعقب: “إلا أنني أعتقد أن هوغو ليس مَن هو أولى بتمثيل فرنسا” لما تتميز به كتاباته من لجوء إلى استعارات فضفاضة”.

حالة أخرى أكثر غرابة يقف عندها بورخيس هي حالة إسبانيا. فهو يرى أن مَن كان أولى بتمثيلها هو لوبي دي فيجا، إلا أن إسبانيا ترتبط في ذهن الجميع بثيربانطيس. “ومع ذلك فهذا الرجل لا يتصف لا بمناقب الإسبان، ولا بمثالبهم”.

كل بلد من هذه البلدان، إذن، يظُّن أن مَنْ يخالفه هو الأولى بتمثيله. فكأنه يشعر برغبة في التعويض، ف “يختار ” مَن لا يقاسمه أوجه الشبه.

إذا كان الأمر على هذا النحو، يصعب علينا أن نُجيب عن سؤالنا: من يمثل الثقافة العربية؟ إذ إن الأسماء التي هي من هذه الثقافة من غير أن تلتقيَ كثيراً مع مميزاتها غير قليلة. فالثقافة العربية مَلأى بمتونها،لكن، أيضا، بهوامشها. قد نلجأ على غرار ما يفعل ابن خلدون إلى اقتراح أسماء هي أَوْلى من غيرها في تمثيل فرع من فروع تلك الثقافة، بيد أن المقصود هنا ليسَ هذا، ليس انتقاء اسم يجسِّد الكلام، وآخر يمثِّل الشعر، وآخر يمثل البلاغة… وإنما الاستعاضة عن الثقافة بمجموعها باسم واحد.

ربما كان الأجدر، إذن، التساؤل ليس عمَّن يُمثل الثقافة العربية” أحسن تمثيل؟ وإنما لماذا لم تلجأ الثقافة العربية تلقائياً إلى فرض اسم واحد بعينه بديلاً عنها دالاً عليها، حتى إن كان سيتبيَّن فيما بعد أن ذلك الاسم ليس هو الأنسب؟ لماذا استغنت هذه الثقافة عن البحث عن اسم، يعوضها عن نواقصها؟ ألِشُعورٍ بعدم الحاجة؟ أم لأنها من السعة، بحيث لم تجد لا في المتنبي ولا في ابن خلدون ولا في التَّوحيدي، ولا في الجاحظ، من هو أوْلى من غيره في أن يكون غوته العرب؟

 

المؤلف: عبد السلام بنعبد العالي.

المصدر: كتاب لا أملك إلا المسافات التي تُبعِدني.

الذكاء اللُّغويّ بوصفه أمَارَةً للعبقريّة

 

أنْ تُولد بملَكةٍ لُغويّة [جبّارة] مقارنةً بأقرانك فقد وُهِبتَ آلةً بالغة التفوّق تُمَكِّنك من العيش ببراعة، وما عليك إلا الثقة بها والحِفاظ عليها.
حسناً! لنتّفق -بدايةً- على تعريفٍ جامعٍ لماهية الذكي لُغويّاً، إضافةً إلى مخزونه اللغويّ الواسع وقدرته على التصرّف بالكلمات -كوحدة لُغويّة-، ونَفَسه الجدليّ العالي، وقابليّته الذهنية لتعلّم اللغات، فهو مَن يُعطي اعتباراً للمتلقي، ويبَني تعبيراته -بإيجاز- من منطلق السياق والمعرفة المشتركة بينهما، كما يبرع في شرح مقاصده بلا تشنّج؛ لثقته المُتّزنة بقُدرته. كما أنّ اللغةَ والمنطق لا ينفصلان، إذ ستجده لمّاحاً ومقنعاً ومنطقياً في نقاشاته. ولكونهِ يعرف مكامن اللغة وحدودها فإنه الأقدر على تجنّب الَّلغوِ والتطويل والغريب من الألفاظ.
والتعريف مانعٌ عمَّن يحتشد اللغة ويَلوكها بشاعريّة مفتعلة إلى أنْ يُرقِّق من وزنِ فكرته الخام فيقع في الحشو اللغويّ (فكرة واحدة تُكرَّر في نصٍّ واحد بأكثر من صيغة وصورة بلاغيّة)، وهنا أجرؤ على تحليلٍ لساني- نفسيّ إلى أنَّ البعدَ المقصود عن الإيجاز ناتجٌ إمّا عن الخوف من عدم التأثير على المتلقي، فيجيء الحشو كمحاولات إقناع واستجداء، وإما قد يكون ناتجاً عن التشكيك الشخصيّ بجودة الفكرة المطلوب إيصالها للمتلقي.
قد وقعتُ على اقتباسٍ ثمين لحالة الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير لمّا قال: “حين أقع في السجع المبتذل أو التكرار السيِّئ، أعلم يقيناً أنني أتخبّط في الغلط. […] إذْ لا تغيب المفردةُ أبداً إذا كان المرء مسيطراً على فكرته”.
أعتقد غالباً بإمكانية أن يكون أي شخص ذكياً، بل عبقرياً، ولكن حصيلته اللغوية تجعله يبدو مفلساً فكرياً. فمهما أقدم على ترجمة فِكره ومكنونات نفسه فإنه يخفق، ولربّما ظَنَّ واهماً بأنه ليس صديقاً للغة وانغمس في وهمهِ بينما يُلقّن ذاته بعبارات مغلوطة، مثل: “أنا ذكي منطقيّاً، لكني فاشلٌ في اللغة”، وهذا -على الأرجح- خلطٌ وسوء تقدير واضح، فبحسب دراسات خبراء الذكاء، فإن هذين النوعين من الذكاء، أعني الذكاء اللغوي والمنطقيّ، يرتبطان ببعضهما ارتباطاً جذريّاً، ويدعم كل منهما الآخر؛ فكلاهما لغات طبيعية تحتوي على الأبجديات الأساسية الصغيرة (الحروف/الأعداد)، وكلاهما يدمج بين عناصر أبجدياته لتكوين مجموعات فرعيّة أو مجموعات كبرى ذات معنى (كلمات/جمل، مجموعات/معادلات)، كما أنهما من المكوّنات الأساسيّة لاختبارات الذكاء النموذجيّة، حيث يشتركان في كون مادتهما تتحدّى العقلَ وتُحفّزه من أجل تكوين الروابط بين عناصرهما، كما أنها تلهم العقلَ بالإبداع والابتكار، وتدفعه إلى تهذيب وصقل عمليّاته، وعلى الفَهْمِ والتفكير بصورةٍ أجلى، وعليهِ، فلا حجة للافتراض السابق، بل العكس هو الصحيح. والأمر مشروطٌ فقط بالتطويرِ فالممارسة؛ لإيقاظ المَلكة اللغوية الكامنة، وذلك بواسطـة الألعاب والأحجيات؛ لكونها تزيد من نشاط المناطق المتعلقة بالحديثِ والكلام في المخ. بالإضافة إلى ممارسة التدريبات اللغوية التقليديـة كالقراءة، والكتابة التجريبية، والحديث المتصل بموضوعات عميقة، وغيرها.
هذا وينطبق الأمر نفسه على الذكي لُغويّاً الذي يَزعم ضعفه في المنطق/ الرياضيات لمجرّد ميله الذوقيّ للُّغة، أو لكونه لم يختبر ذكاءه المنطقي بعد، أو أنه رغِبَ الركونَ إلى هذا الوهم؛ ليُريح ذهنه في منطقة الراحة، بالرغم من أنه المخوّلُ للتجاسر على مناطق فاعلة أكبر، فبحسب البروڤيسور “لويس إم. تورمان” (خبير الذكاء من جامعة ستانفورد) فإن الذكاء اللغويّ مؤشرٌ ناجح للغاية على النجاح المثالي في الحياة الأكاديمية والمهنية وفي مستوى الذكاء العام ككل! كما نعرف أن الذكاء اللغوي ما هو إلا واحد من عشرةِ أنواع مختلفة من الذكاء، من بينها الإبداعي، والاجتماعي، والمكاني، والمنطقي، والروحي، والشخصي، والحسيّ، والجنسي، والجسماني، وكل واحد منها ينتفع من تحسين الأنواع التسعة الأخرى. لذا، عندما تسعى نحو تطوير ذكائك اللغويّ تعمَل في الآن نفسه من أجلِ تطوير باقي الأنواع التسعة. فإن اللغةَ هي ترسانة الأسلحة الخاصة بالعقل البشريّ

تأليف: أروى الفهد
المصدر: القافلة مارس-أبريل 2021