شعراء تحت رحمة اللغو.

حذّر الفيلسوف اليوناني أرسطو مِن أنّ الكتابة نظماً لا تخلق شاعراً، مشيراً إلى أن امبيدو كلس كتب شعراً ولكنه يجب أن يُدعى فيزياوياً بدلاً من “شاعر” !

وهنا تحضر مقولة لدانتي: “أن الكلام بالنسبة للشاعر، كالحصان بالنسبة للجندي، فأفضل الجُند حريّ به أن يركب أفضل الجياد، وأفضل الكلام ما يلائم خير الأفكار؛ لخدمة موضوع فخم، كما يفهمه العقل المتسامي”.

وإزاء هذا المدّ اللافت المُتشاعر الذي ينساب في الصحف والمجلات الدورية، وكذا وسائل التواصل الاجتماعي التي باتت منصّة تستقبل مئات الأبيات تحت ذريعة قول الشِّعر تستوقفك حالة مآل هذا الفن الشعري، وتجعلك تتساءل: هذا الانفلات والتجاسر على اقتراف المقول الشعري هل هو دليل عافية في المشهد الشعري؟ وهل لازالت جذوة الشعر مشتعلة ومتوهّجة كما كانت مع قامات شعرية تركت أثراً جمالياً خليقاً بالتذكُّر والخلود؟

لكنّ تأمّلاً واقعيّاً وفحصاً رصيناً يجعلك تصل لقناعة مفادها خواء هذا القول، وعدم أهليّته لإطلاق صفة الشعريّة عليه إذ ليس ثمّة دهشة أو انقصافة شعورية يُحدثها لديك حين تلقّيه، بل إنّه يُشعرك بحالة انطفاء شعوري وذوقي جرّاء كميّة الهذر الذي يلوكه بلا أي مُتعة أو لذاذة في تعاطيه.

لكن ما العمل و”الشِّعر” هو مخزوننا الحضاري إنّك لو أخذت دبّوساً -وفقاً للشاعر الكبير نزار قباني- وأدخلته تحت جلد أي مواطن عربي فإنّ سائلاً سحريّاً سوف يتدفّق. وهذا السائل ليس نفطاً.. ولا هو من مشتقات النفط، وإنما هو سائلٌ أخضر اللون، ذهبيّ الشُّعلة، أبديّ التوهّج، اسمه الشِّعر.

وقدرنا كشعب عربي محكومٌ بالشّعر، فهو موجود في كل تفاصيل حياتنا اليومية، في الأفراح، نقدّمه مكان الورد الأبيض والقرنفل.

ولعلنا نتّفق مع الناقد عقيل مهدي يوسف حين يشير ببراعة لافتة قائلاً: “وحيث يخون الإلهام الشاعر يتركه تحت رحمة اللغو، والسُّخف…”، ويشير في مقالة له بعنوان: “من يعتذر للشعر” إلى ما كتبه فيليب سيدني كتابه “اعتذار للشعر” فيقول: نشر في عام (1595) وهو يتهّم الآراء السائدة عن الشعر ويقول:

“إنه هبط من أعلى تقديراً للمعرفة؛ ليكون لعبة الأطفال المضحكة حتى استطاع البعض وتجرّأ على تشويه الشعر، الذي كان النور الأول الذي أضاء دياجير الجهل، وكأنهم يلعبون مع الشعر لعبة الأفاعي الخبيثة، التي تقتل عند ولادتها والديها!”

قد نتفق أو نختلف مع درايدن حين ينادي بالحرّية وبلا سلطة إرشادية عُليا في الأدب، بل الأساس هو ذوق العصر، وإسعاد الآخرين، ويؤكد على “المتعة” ليجعل ناحية ما في الناس أفضل، فالأدب فن لا تعليماً، أو هو لا يعلّم إلا عندما يسر.

لكنّ المحبِط في الأمر هو انطفاء ما تظنّه وميض إبداع وشرارة تجاوُز بعد قراءته وكأنّك معين الشعرية نضب بأفكاره ومغامراته وفضاءاته التخييلة وهو ما يستدعي في المقابل أسماء شعرية فذة ظهرت في سماء الشعر كومض لكنه خالد بخلود الشعر وجمالياته.

فحين يلوح الذاكرة قامة شعرية كرامبو، وتجد الدراسات تنكبّ على منجزه الشعري بعد قرن ونصف يتملّكك العجب، فهذا الشاعر لازال نصّاً لا يُستنفد، على مرّ الدراسات والأبحاث والسنين والأجيال العاكفة عليه، وهو ما دعا كاتب مقدمة ديوانه وترجمته إلى العربية رفعت سلام ليقول: لم تخطر الحماقة ببال أحد فيُعلِن-أو حتى يُضمر- أنه قال أو كتب كلمة أخيرة فيما يتعلّق بأيٍّ من تضاريسه -أي رامبو-.

ولعل مساحات الدهشة تزداد حين نعلم أن إنجازات رامبو الشعرية كانت في خمسة أعوام فقط فمنجزه الشعري اختصار للذات الأقصى والتكثيف الاستثنائي للطاقات والنفي الصارم للتكرارات والتشعبات، والحدة اللغوية القاطعة ونهب الزمن.

والسؤال:هل يمكن امتلاك العالم -بكل تضاريسه،وتحولاته، وتواريخه، وصرخاته وغنائه، ودمائه وحروبه في نصّ شعري؟

هو إذن النّص المستحيل.

 

الكاتب: عبدالله الحسني
المصدر: صحيفة الرياض
السبت 5 شعبان 1436 هـ – 23 مايو 2015م – العدد 17134

هل تعزز العزلة الإبداع حقاً..؟

من أبرز صفات المبدعين اهتمامهم بالمخالطة الاجتماعية.

في مذكراتها (أتغير) كتبت الممثلة ليف أولمان «لطالما اعتبرت الكتب كائنات حية بعد أن صادفت مؤلفين غيروا حياتي قليلاً، فبينما أمر بفترة ارتباك ما، أبحث عن شيء لا أستطيع تحديده، إذا بكتاب معين يظهر، ويتقدم مني كما يفعل صديق، يحمل بين دفتيه الأسئلة والأجوبة التي أفتش عنها».
وكما وصفت أولمان علاقتها بالكتب كان كتاب «فلسفة الوحدة» للفيلسوف النرويجي لارس سفيندسون الذي أجاب عن الكثير من أسئلة الوحدة والعزلة والفرق بينهما، كيف تكون وحيدا أو مستوحدا؟ لماذا يكون الشعور بالوحدة مؤلما للغاية؟ وسؤاله الذي استوقفني «هل العزلة في الصحراء أقل قسوة من العزلة بين البشر؟»
لقد تعرض العالم خلال الفترة الماضية إلى عزلة إجبارية في زمن جائحة «كوفيد – 19» فقد أصبحنا في مواجهة مع أنفسنا رغما عنا، واختفت تلك المشاغل الاجتماعية والالتزامات التي كانت تملأ أوقاتنا، وبقينا في المنازل نمارس العمل والدراسة عن بعد من خلال التطبيقات الإلكترونية، ورغم ادعائنا بالراحة والتخلص من عبء الواجبات الاجتماعية في فترة انتشار الفيروس، فإن تلك العزلة كانت مؤلمة للبعض، وذلك بسبب عدم امتلاكهم للشجاعة في مواجهة ذواتهم والتعرف على المشاعر الحقيقية التي تعترض الجميع دون استثناء في هذه الفترة.
الوحدة في مواجهة الذات

الوحدة الدائمة كما عرفها سفيندسون هي حالة يعاني فيها الشخص من الألم المستمر بسبب عدم وجود علاقات مرضية مع الآخرين، إن الوحدة تخبرنا شيئا عن أنفسنا وعن مكاننا في العالم، إذ إنها تخبرنا عن مدى أهمية وجودنا من عدمه، فهي ترتبط بشكل خاص بالعار وبالصعوبة التي يواجهها الناس في الاعتراف بالوحدة علنا، باختصار الوحدة هي ألم اجتماعي يشير إلى أن حياة الفرد الاجتماعية ليست مرضية، فنحن ماهرون بشكل مدهش في خداع الذات، ويمكننا الفرار من الآخرين بالابتعاد جسديا أو إيقافهم عقليا، لكننا لا نستطيع الهرب من أنفسنا ومواجهتها بالحقيقة. هكذا أصبح بقاؤنا في المنزل يشعرنا بنوع من التهديد، فقد فرضت علينا هذه المواجهة مع الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي، وتعرض روتين حياتنا اليومي إلى ارتباك، وخلق بقاؤنا في المنزل لفترات طويلة الكثير من التساؤلات عن تلك المشاعر التي تعترضنا في هذه الفترة تحديدا، وسببت تلك العزلة المفروضة نوعا من الشعور بالوحدة والعزلة مع اكتشاف الفجوة الهائلة بيننا وبين أقرب الناس لنا.
يشير الفيلسوف وعالم الاجتماع جورج هربرت ميد، إلى أننا نخلق ذواتنا من خلال تفاعلنا مع أنفسنا، وبالتالي لا يمكننا بناء تمييز بين أنفسنا والآخرين، ومن هذا المنظور ترى أن الذات هي نتاج اجتماعي وليس فردياً، فأنت تتعرف على نفسك من خلال حكم الشخص الآخر عليك، والآخر هو شخص يحكم عليك، وأثناء ذلك نعلّم أنفسنا بأن نتصورها كما يفعل الآخرون ونحوِّلها من خلال تفاعلنا مع ذاتنا، وفي الوقت نفسه تحافظ النفس على استقلال معين فيما يتعلق بالآخرين، وتلك التجربة كما وصفها جورج هربرت تشكل علاقتك بالآخرين فهم يحكمون عليك، مع ذلك فأنت بحاجة لهم لأن الاعتراف الذي تطلبه يجب أن يأتي منهم، ولكي يكون لهذا الاعتراف قيمة يجب عليك أيضا الاعتراف بالآخرين، وتعتمد قيمة اعتراف الآخرين بك على حسب تقديرك له.
الإنسان المعاصر هو إنسان جماهيري واجتماعي بجدارة، لكنه في الوقت نفسه وحيد للغاية، كيف يكون الإنسان محاصرا داخل نفسه وعلى مسافة بعيدة جدا من أي شخص حوله. وقد عبر ديفيد ريزمان عن هذه الظاهرة بشكل لافت للنظر، في كتاب «الحشد المتوحد» قائلا: لقد أصبح الإنسان المعاصر أكثر نأيا عن الآخرين، وهو يواجه معضلة، فهو خائف من التواصل عن قرب مع الآخر، وهو خائف بالقدر نفسه من الوحدة وعدم وجود أحد يتواصل معه، إذ إن الإنسان يحتاج إلى الصداقة والحب في حياته، وأحد الأسباب التي تجعل العيشَ في عزلة صعبا، هو أن البشر مخلوقات اجتماعية، ولا يتم تثبيت هويتك الذاتية بعمق داخل نفسك وهي منفصلة عن الآخرين، بل يتم تثبيتها من خلال ارتباطك بالآخرين.كما ورد في كتاب «فلسفة الوحدة» أننا نطور العادات العاطفية عن طريق تغيير التقييمات الخاصة بنا بحيث يمكننا تغيير مشاعرنا، وتغيير ممارستنا وعاداتنا وبالتالي أيضا مشاعرنا، إن كل عواطفنا هي بالاستمرار عناصر التنظيم تجاه كل شيء وما تشعر به هو بالكاد نوع من الاختيار، ولكن هو نتيجة التصرفات سواء الفطرية أو المكتسبة، أنت لست مسؤولا عن الميل إلى الشعور بالوحدة لكنك مسؤول عن كيفية إدارتك لهذا الاتجاه، لذلك أنت مسؤول إلى حد ما عن وحدتك.

* كاتبة وتشكيلية وأكاديمية في جامعة البحرين
*وحدي… ولستُ وحيدا!

تؤمن الثقافات القائمة على التدين، بأن العزلة مهمة من أجل تحقق الإلهام والتنوير، فيكتب أوشو «التأمل هو فن الاستمتاع بالوحدة» وقد درست الأبحاث الحديثة الرابط بين العزلة والتركيز الذهني، فأثناء العزلة الاجتماعية تحدث حالة الراحة الدماغية، التي تسير جنبا إلى جنب مع ما يصاحب العزلة من هدوء وسكون، ولا بد أنك لاحظت حين يحضر شخص آخر بجوارك لا يستطيع دماغك إلا أن يعيره بعض الانتباه.
الكاتبة سوزان كين مؤلفة كتاب «الصمت: قوة الانطوائيين في عالم لا يتوقف عن الكلام» تنتمي إلى ذلك الطراز، الذي لا يحب الأجواء الاجتماعية الصاخبة، وتميل إلى ممارسة أنشطتها بشكل منفرد. فمن أبرز صفات المبدعين هي قلة اهتمامهم بالمخالطة الاجتماعية، هذا ما أظهره بحث عالم النفس الإبداعي غريغوري فيست، الذي أجراه على عدد من العلماء والفنانين، يصف «فيست» حالة الفنانين الذين يعكفون على عملهم بشكل منفرد: «الفنانون يحاولون فهم عالمهم الداخلي والكثير من التجارب الشخصية الداخلية، التي يحاولون التعبير عنها، وإضفاء معنى عليها من خلال فنهم، فالعزلة تتيح للمرء التفكر وإمعان النظر، وهذا من ضرورات العملية الإبداعية».
ولذلك، من الأهمية بمكان أن نتعلم كيف نتسامح مع الشعور بالوحدة فهي ليست أمراً سيئاً على الدوام، وبسبب ظروف الحياة والعمل ووسائل التواصل الاجتماعي أصبحت الضوضاء في كل مكان وأصبحنا نفتقد قضاء وقت قصير مع أنفسنا، لهذا يقتضي أن نحول تلك الوحدة إلى عزلة اختيارية، فأدمغتنا بحاجة إلى الراحة وهذا أمرٌ عادي يقره علماء النفس، حيث يصرح فيست «يوجد خطر لدى الناس الذين لم يمارسوا الوحدة أو العزلة على الإطلاق» لتكون العزلة سببا للراحة والإنتاجية والإبداع.

 

الأربعاء – 7 محرم 1442 هـ – 26 أغسطس 2020 مـ رقم العدد [ 15247] المؤلف: د. مياسة السويدي ..
المصدر: جريدة الشرق الأوسط

سيكولوجية الحب في ثقافات الشعوب.

تبدو مفردة الحب بحد ذاتها كون خاص في الجمال والاحساس الصادق بالوجود، والدينامية البشرية التي تشكل نجمات ساطعة في سماء تلك المفردة النابضة بالحياة، وتغيب تلك المفردة بلا عودة في عوالم الأشكالات الأجتماعية التي تتأزم نحو تدمير الذوات والوجود، ويشكل ذلك الغياب أسرار انسحاب الإحساس بالوجود مع تلك التأزمات و نكهة الشعور بالسعادة في الحياة .

وشغلت تلك المفردة عوالم الأدباء في مساحات الإحساس المرهف، وعوالم السيكولوجيين في دراسة الدينامية المحركة لتلك المفردة الهادئة الصاخبة في الآن ذاته في حياة البشر، وماهية دوافع تلك المفردة في تحريك الوجود، وما يؤول معها إلى أسرار ساحرة، في اكتسائه بالورد والسلام، وألق تجليات المعاني السامية بين الآنام، وروعة تألقه بطيور الحب المسافرة بلا حدود في اطياف حياتنا المتنوعة .

وبعيداً عن الرؤية المقارنة لتنظيرات المدارس النفسية التي تعاطت مع هذه المفردة العذبة علمياً، فإنها تؤطر جميعاً بعيداً عن صخب الأقوال وتناقضاتها، في اعتبار تلك المفردة دافعاً محفزاً في أن يكون للفرد علاقة حميمة بآخر يبادله المحبة ويفهمة ويتجاوب معه، وهي سمة فطرية نولد بها، في عوالم الأحساس والمشاعر، وليس لها أسباب فسيولوجية، وتؤول انعكاسات فيما نبديه أو نتلقاه من معاملة طيبة وحنان ورعاية، أو قد تظهر في حرارة اللقاء والمصافحة باليد، وقد تترجم فيما يرتسم على ملامحنا من سرور وحبور وكلام مؤثر يؤطر تلك المشاعر المرهفة، وقد نسقطها على الوجود شعراً، وقد تكون مناجاة مع الطبيعة بكل موجوداتها الجميلة، وقد يعبر عنها بالتقبيل والاحتضان، وقد تؤول مع أوج الإنفعالات إلى دموع غزيرة في لغة الفرح، وهنا تبدو هالة المساحة التي شغلت المفكرين بين الفرح والحزن في الخط الفاصل بينهما، عندما يؤول أوج الفرح إلى صورة شكلية للحزن من خلال الدموع ، والعكس صحيح عندما يؤول اوج الحزن والصدمة إلى لغة شكلية للفرح عبر جنون الضحكات ، وهو الجدل بحد ذاته القائم بين العبقرية والجنون في الخط الفاصل بينهما، حيث تختلط المفردات جميعا في جدلية هذا الحد الفاصل بينهما سواء بين الفرح والحزن أو العبقرية والجنون .
لذلك فإن الحاجة إلى الحب في حياتنا هي عين الحاجة في أن يكون إلى جوارنا من يشبع فينا حاجات متنوعة ترتقي من الحاجات الحسية التي تتعلق بالحواس كلها، إلى أن تغدو مجردة عند نضج الإنفعالات فتصبح حاجات معنوية تتعلق بالمعاني والجوهر، بعيداً عن الشكل المحسوس والمظهر الخارجي المادي، وهذه المعادلة تخضع لجدلية واسعة لأن الصورة التعبيرية للحب تبقى حالة وسط بين لغة الحواس ولغة المشاعر، ويصعب أن تتجرد إلى المعنى المطلق دونما أن تختلط بحراك حسي يعبر عنها، سواء في لغة المعاملات البشرية الرقيقة أو الصورة الأوج من خلال اللغة الجنسية، وفي ظل تلك الجدلية تبرز طروحات السيكولوجيين في تفسير مضامين اللغة الصوفية وما يعتريها من معاني الحب الإلهي ولغة التوحد بالوجود، حيث تعبر عن المعنى المطلق في لغة الحب والتجرد بلا حدود، حيث تغدو الذات والوجود في هالة تلك المفردة حيث تكتسي بالقداسة في البدء والإنصهار والختام .

ويقابل هذا النمط من المشاعر الصوفية المتفردة في الجوهر المطلق في أعلى درجاته، النمط المادي البحت في أعلى درجاته، فيما يعرف بالحب من النظرة الواحدة، إذ يعتبر ضرب من الشهوة، وذلك لأن اتصال النفوس وتلاقيها على حد قول ابن حزم الأندلسي لايكون إلا بعد أن تتهيأ لهذا الإتصال وتسعد له بعد ايصال المعرفة اليها بما يشاكلها ويوافقها، ومقابلة الطبائع التي تخفى على المحب من محبوبه بما يشابهها عنده، وحينئذ يكون اللقاء صحيحاً ويحدث أثره، وأما ما يقع من أول وهلة ببعض أعراض الإستحسان الجسدي فهذا سر الشهوة ومعناها على الحقيقة، فإذا تجاوزت المحبة الشهوة إلى توافق الطبائع يكون العشق، وهنا تدخل إشكالية أن يحب المرء اثنتين ويتزوج اثنتين، فالأولى لاتتحقق، لأنه ليس للمحب من وقت وجهد يصرفه على غير محبوبه من أسباب دنياه، فكيف يشتغل قلبه وفكره بحب ثان في الآن ذاته، و إنما الزواج يصح لأنه يقرأ من خلال الشهوة ويسمى محبة على الظاهرفهو كناية مجازية تحت مضمون المحبة لا على وجه الحقيقة، ولا تتحقق على وجه الحقيقة إلا لامرأة واحدة لااثنتان أو اكثر في الآن ذاته، وهنا أنوه بأن ما ذكر سابقاً هو حول نوعية الحب التي تدور فطريا بين الرجل والمرأة في الزواج وفلك العلاقات التي تدور في هذا الإطار، لا مشاعر الحب التي تدخل تحت مظلةالأمومة والرحم، لأن هناك أغصان متنوعة لشجرة الحب في الحياة، بدءا من المفردة التي تكتسى بالقداسة في لغة الإيمان والروحانيات، أو حب الأباء أو الحب الأخوي، وهناك الحب المرتبط بالجنس فقط، وهناك الحب الموضوعي عندما يشحن الوجود بمشاعره وجدانيا، يقابله الحب الذاتي الذي يتمركز في الطفولة نحو دائرة الأم، وهناك صور سلبية تنطلق من مشاعر الحب عندما ينحرف عن السوية فيكون في صورة الحب الجنسي المثلي، الذي يعد شذوذاً جنسياً، والحب العصابي الذاتي عندما يحب الشخص نفسه كما لو كانت موضوعاً خارجياً وهو عندما يتعاطى مع الطرف الآخر كأن يكون زوجاً مثلاً فهو في الصورة الخارجية يشبع بمشاعره الطرف الآخر ظاهراً، ولكن في الواقع يشبع كل منهما في الآخر ناحية عصابية، وليس تعلق أحدهما بالآخر، وهناك الحب الشفاف الذي يتجاوز حدود الموضوع الجنسي ليؤول في إطار المحبة المتجردة الشفافة، التي تتشكل مدادها من التوافق وارادة كل من الطرفين، على تأطير تلك العلاقة بالطهر والشفافية ولغة الاستمرارية رغم كل الحواجز المعيقة، وتعنون بصورة الحب الزوجي الحقيقي أو المنشود في الديانات، حيث ينطلق إلى الجوهر ويتجاوز الحقيقة الشبقية المحضة، وربما تفتقد تلك المعاني حقيقة في واقعنا مع كافة اشكال الأزمات التي تهدد العلاقات بين البشر، وربما نجدها ولكن في مساحة جد ضيئلة في واقعنا المتخم بالماديات ولغة المصالح وتضخم الأنا والنزوات الشخصية المحضة .

وما سبق ذكره يؤكد تلك الجدلية السيكولوجية التي تميز بين الحب كعاطفة وبين ان يكون علاقة بدنية، وهنا الخط الفاصل لمعاني الطهر والشفافية في العلاقات، ولغة النزوة والأنا في ادارة تلك العلاقات، او ما يعرف بلغة الأسقاطات السيكولوجية في هذا الصدد .

وفي إطار تجلية تلك المفردة سيكولوجياً، تبرز تساؤلات حول لغة الشعوب في التعاطي معها، فالمشاعر واحدة في البشر، ولكن اشكال التعبير عنها متفاوت بحسب لغات العالم، وما تترجمة تلك اللغات من انعكاس في الواقع الأجتماعي، لأن اللغة ليست موضوعا خارجاً عن المجتمع؛ انما هي من رحم المجتمع، والعلاقة متداخلة بينهما، فكل منهما يفد إلى الأخر في علاقة دورية لاتنتهي .

فالمرأة الفرنسية تمارس الحب على طبيعتها، في اطار التلذذ والسيكولوجيا المفتوحة، ولاتستنكف ان تظهر عواطفها علناً، وتنأى عن لغات الكبت في مشاعرها، في حين تكتنف لغات التعبير عن عاطفة الحب لدى الأسبان والأيطاليين بعض التحفظات، وهذا يؤكده الأدب الفرنسي حول مفردة الحب الذي كتب فيه حتى الثمالة، في حين لم تظهر بجلاء مشتهرلدى الأدب الأسباني، وربما يفسره في ادبهم تأثرهم بالحضارة الأسلامية، التي حافظت لديهم على حمرة الخد عند مخاطبة المرأة بمفردة الحب ومتعلقاتها، كما يسجلها تراثهم الأدبي، اما في البعد الأيطالي فتحفل لغة المآسي والألم مقارنة مع هذه المفردة العذبة وانعكاساتها الأجتماعية، الذي اتخمته الملاحم والألالم والحروب والتناقضات الأجتماعية .

وترتبط مفردة الحب لدى الألمان بسيكولوجيا الحرمان والعذابات، وهذه لغة انعكاساتها في الأدب الألماني، وربما التراث الألماني احدث انعكاساته بجلاء في هذا الصدد، والقرءاة المتأملة له عبر رحلة الصراعات الدموية، والقومية المتفردة .

وفي الأدب الأنكليزي هناك تقدير لمفردة الحب في اللغة الشعرية، ولكنها لغة عملية ترتبط بالمادة اكثر، وهي لاتخلو من مشاعر رقيقة، ورسالة متميزة احدثت اثرها في الأدب العالمي عامة .

أما المرأة الأمريكية فهي أقل نساء العالم الغربي معرفة بالحب الحقيقي، الجوهر المطلق، وربما أثرت حركة البراجماتية التي قادها ديوي، في إحداث انعكاساتها على المجتمع والسياسة، في ظل لغة المنفعة والمصالح المتوقعة، ومن هنا وردت على مساحات علاقات الحب لغة تجربة الحبيب وفيما بعد تقرر المرأة اعجابها به، بناء على العلاقة الجسدية المحضة، والمنافع المادية وقد تتزوجه وسرعان ما يحدث الأنفصال في ظل العلاقات المحكومة بالأنا والنزوات على غرار السياسة الأمريكية لتيار المحافظين، فهي تحتفي بحلفائها وسرعان ما تجهز عليهم بسياسة العزل والحصار والأنفصال حتي القتل بنخب الثمالة، كما تعكسها سياسة بوش والمحافظين العاشقين لمفردة الحرب مقابل مفردة الحب والفرق بينهما راء ولكنها تعني للسياسة الأمريكية الشئ الكثير في تدمير الذوات والأرض والحضارة معاً .

وعلى سبيل الإستطراد تعد امريكا من أعلى دول العالم في معدلات الطلاق، ويعد الأمريكي من أكثر الناس قصورا في النضج الإنفعالي في موضوع الحب، وأشدهم جهلا في مشاعر الأنوثة ومتطلباتها سيكولوجيا، لأنه يعي الحب وسيكولوجيته في ظل الموضوع الجنسي ونزوات الذات وتلذذها في لغة الأنا المحضة على الوجه الأغلب لا التعميم بالطبع .

وفي التراث العربي حفلت مفردة الحب بمساحات واسعة في لغة الشعراء والعاشقين، وبلغت حد الجوهر المعنوي في التعاطي مع المحبوبة ولغة الإسقاطات بكافة تجلياتها على ديار المحبوبة ومتعلقاتها المادية، وفي الواقع العربي، الذي نحيا مخاضه الآن، لايمكننا أن نجد سمة فاصلة لتلك المفردة في الواقع العربي الذي أتخم بالتبعية، بحيث يصعب سيكولوجيا ايجاد سمة سيكولوجية فاصلة له، فهو متأثر بلغة ماضوية سلبية كبلت المرأة وبالتالي كبلت تلك المفردة وخضعت لإطار حرمان تلفظها والخوض في أبعادها إلا في أطر معينة، أو انسحبت لتغدو موضوعا جنسيا بحتاً كما في مساجلات بعض الفقهاء وربما لعبت الحركة الفنية عبر صورها الدرامية المتنوعة في ترسيخ تلك الرؤية القاصرة لتلك المفردة، وربما تطرفت لتغدو في بعد الأباحية المطلقة حينا كما هي في اللغة الفرنسية أو اللغة الأمريكية البراجماتية النفعية، وربما نجدها متأثرة بسيكولوجيا الحرمان والألم كما هي في التراث الشيعي، وربما وجدناها محددودة المجالات في إطار الهي مقدس، يحرم الخوض بها في مجالات أوسع و أكثر رحابه لأن ذلك خروجا عن الثوابت كما في اطارها السلفي، وما زال الإطار الإسلامي المعتدل يحوم حول الدائرة السلفية ولم يخرج إلى مجالات أكثر رحابة في التعاطي معها، والجدلية الدائرة هنا تعود للخط الفاصل بين تلك المفردة ومضامين الثقافة الجنسية وما يعتري تلك الثقافة من كبت في التعبير والمداولة الواقعية تحت مظلة التأصيل والإنفتاح معا .

وما سبق ذكره يعزز عدم إمكانية تحديد سمات فاصلة لتلك المفردة في واقعنا العربي المعاصر رغم أننا نستطيع استخلاص سمات فاصلة لها في التراث الثقافي والأدبي على وجه التحديد للحضارة العربية الإسلامية .

 

الكاتب: د. سعاد جبر – كاتبة وناقدة في مجال سيكولوجيا الأدب
المصدر: موقع أنطولوجي

من يمثل الثقافة العربية؟

 

ترتبط كثير من الثقافات والآداب العالمية بكُتُب معينة وأسماء بعينها، بحيث لا يمكن أن نذكر تلك الآداب أو تلك الثقافة من غير ذِكر ذٰلك الكتاب أو ذٰلك الاسم. وهكذا غدا اسم غوته بديلاً عن ألمانيا أدب وثقافة، كما صار اسم شكسبير وثيربانطيس وهوغو بدائل عن إنجلترا وإسبانيا وفرنسا ..

كان الأخ عبد الفتاح كيليطو طرح السؤال ذاته فيما يخص الثقافة العربية، واستخلص أن الاسم البديل عنها في أعين من يتأملها خارجاً ليس اسم علم هذه المرة، وإنما عنوان كتاب، هو ” ألف ليلة وليلة “.

ربما يتبدى لأول وهلة أنه لاختبار صدق التمثيل الذي يقترحه كيليطو أن يعمد المرء إلى تقصي أوجه الشبه التي تربط العرب أدباً وثقافة ب الليالي. إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة، ولا هو حتى في هذا الاتجاه. وهذا، بالضبط، ما يلحظه بورخيس في إحدى محاضراته. فعلى عكس ماهو متوقع. فإن جميع البُلدان قد “اختارت” ممثلاً عنها أفراداً، قد لا يشبهونها في شيء.

فعوضاً عن أن يقع اختيار إنجلترا، على سبيل المثال، على صامويل دجونسون، فإنها ربطت نفسها بشكسبير، والحال أننا يمكن أن نقول “إن شكسبير أقل الأدباء الإنجليز تَنَجْلُزاً” كما يلاحظ بورخيس. إذ إن ما يميز الإنجليز هو أنهم يلمِحون و “يقولون أقل ما يريدون قوله”، على عكس شكسبير تمام الذي”يميل إلى الغُلُو في استعاراته”.

الأمر عينه ينطبق على ألمانيا،”هذا البلد العجيب الذي يميل بكل سهولة نحو التَّعصُب”، ومع ذلك فقد اختار، بالضبط رجلاً سمحاً أبعد ما يكون عن التعصُب، بل” رجلاً لا يهمه كثيراً حتى مفهوم الوطن” هو غوته.

فيما يخص فرنسا يلاحظ بورخيس أن ليس هناك اسم بعينه تم الحسم بصدده. والغريب أن الكاتب الأرجنتيني لا يقترح اسم ديكارت، بل يؤكد أن الميل ينحو نحو اختيار هوغو ممثلاً عن فرنسا. غير أنه سرعان ما يُعقب: “إلا أنني أعتقد أن هوغو ليس مَن هو أولى بتمثيل فرنسا” لما تتميز به كتاباته من لجوء إلى استعارات فضفاضة”.

حالة أخرى أكثر غرابة يقف عندها بورخيس هي حالة إسبانيا. فهو يرى أن مَن كان أولى بتمثيلها هو لوبي دي فيجا، إلا أن إسبانيا ترتبط في ذهن الجميع بثيربانطيس. “ومع ذلك فهذا الرجل لا يتصف لا بمناقب الإسبان، ولا بمثالبهم”.

كل بلد من هذه البلدان، إذن، يظُّن أن مَنْ يخالفه هو الأولى بتمثيله. فكأنه يشعر برغبة في التعويض، ف “يختار ” مَن لا يقاسمه أوجه الشبه.

إذا كان الأمر على هذا النحو، يصعب علينا أن نُجيب عن سؤالنا: من يمثل الثقافة العربية؟ إذ إن الأسماء التي هي من هذه الثقافة من غير أن تلتقيَ كثيراً مع مميزاتها غير قليلة. فالثقافة العربية مَلأى بمتونها،لكن، أيضا، بهوامشها. قد نلجأ على غرار ما يفعل ابن خلدون إلى اقتراح أسماء هي أَوْلى من غيرها في تمثيل فرع من فروع تلك الثقافة، بيد أن المقصود هنا ليسَ هذا، ليس انتقاء اسم يجسِّد الكلام، وآخر يمثِّل الشعر، وآخر يمثل البلاغة… وإنما الاستعاضة عن الثقافة بمجموعها باسم واحد.

ربما كان الأجدر، إذن، التساؤل ليس عمَّن يُمثل الثقافة العربية” أحسن تمثيل؟ وإنما لماذا لم تلجأ الثقافة العربية تلقائياً إلى فرض اسم واحد بعينه بديلاً عنها دالاً عليها، حتى إن كان سيتبيَّن فيما بعد أن ذلك الاسم ليس هو الأنسب؟ لماذا استغنت هذه الثقافة عن البحث عن اسم، يعوضها عن نواقصها؟ ألِشُعورٍ بعدم الحاجة؟ أم لأنها من السعة، بحيث لم تجد لا في المتنبي ولا في ابن خلدون ولا في التَّوحيدي، ولا في الجاحظ، من هو أوْلى من غيره في أن يكون غوته العرب؟

 

المؤلف: عبد السلام بنعبد العالي.

المصدر: كتاب لا أملك إلا المسافات التي تُبعِدني.

الذكاء اللُّغويّ بوصفه أمَارَةً للعبقريّة

 

أنْ تُولد بملَكةٍ لُغويّة [جبّارة] مقارنةً بأقرانك فقد وُهِبتَ آلةً بالغة التفوّق تُمَكِّنك من العيش ببراعة، وما عليك إلا الثقة بها والحِفاظ عليها.
حسناً! لنتّفق -بدايةً- على تعريفٍ جامعٍ لماهية الذكي لُغويّاً، إضافةً إلى مخزونه اللغويّ الواسع وقدرته على التصرّف بالكلمات -كوحدة لُغويّة-، ونَفَسه الجدليّ العالي، وقابليّته الذهنية لتعلّم اللغات، فهو مَن يُعطي اعتباراً للمتلقي، ويبَني تعبيراته -بإيجاز- من منطلق السياق والمعرفة المشتركة بينهما، كما يبرع في شرح مقاصده بلا تشنّج؛ لثقته المُتّزنة بقُدرته. كما أنّ اللغةَ والمنطق لا ينفصلان، إذ ستجده لمّاحاً ومقنعاً ومنطقياً في نقاشاته. ولكونهِ يعرف مكامن اللغة وحدودها فإنه الأقدر على تجنّب الَّلغوِ والتطويل والغريب من الألفاظ.
والتعريف مانعٌ عمَّن يحتشد اللغة ويَلوكها بشاعريّة مفتعلة إلى أنْ يُرقِّق من وزنِ فكرته الخام فيقع في الحشو اللغويّ (فكرة واحدة تُكرَّر في نصٍّ واحد بأكثر من صيغة وصورة بلاغيّة)، وهنا أجرؤ على تحليلٍ لساني- نفسيّ إلى أنَّ البعدَ المقصود عن الإيجاز ناتجٌ إمّا عن الخوف من عدم التأثير على المتلقي، فيجيء الحشو كمحاولات إقناع واستجداء، وإما قد يكون ناتجاً عن التشكيك الشخصيّ بجودة الفكرة المطلوب إيصالها للمتلقي.
قد وقعتُ على اقتباسٍ ثمين لحالة الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير لمّا قال: “حين أقع في السجع المبتذل أو التكرار السيِّئ، أعلم يقيناً أنني أتخبّط في الغلط. […] إذْ لا تغيب المفردةُ أبداً إذا كان المرء مسيطراً على فكرته”.
أعتقد غالباً بإمكانية أن يكون أي شخص ذكياً، بل عبقرياً، ولكن حصيلته اللغوية تجعله يبدو مفلساً فكرياً. فمهما أقدم على ترجمة فِكره ومكنونات نفسه فإنه يخفق، ولربّما ظَنَّ واهماً بأنه ليس صديقاً للغة وانغمس في وهمهِ بينما يُلقّن ذاته بعبارات مغلوطة، مثل: “أنا ذكي منطقيّاً، لكني فاشلٌ في اللغة”، وهذا -على الأرجح- خلطٌ وسوء تقدير واضح، فبحسب دراسات خبراء الذكاء، فإن هذين النوعين من الذكاء، أعني الذكاء اللغوي والمنطقيّ، يرتبطان ببعضهما ارتباطاً جذريّاً، ويدعم كل منهما الآخر؛ فكلاهما لغات طبيعية تحتوي على الأبجديات الأساسية الصغيرة (الحروف/الأعداد)، وكلاهما يدمج بين عناصر أبجدياته لتكوين مجموعات فرعيّة أو مجموعات كبرى ذات معنى (كلمات/جمل، مجموعات/معادلات)، كما أنهما من المكوّنات الأساسيّة لاختبارات الذكاء النموذجيّة، حيث يشتركان في كون مادتهما تتحدّى العقلَ وتُحفّزه من أجل تكوين الروابط بين عناصرهما، كما أنها تلهم العقلَ بالإبداع والابتكار، وتدفعه إلى تهذيب وصقل عمليّاته، وعلى الفَهْمِ والتفكير بصورةٍ أجلى، وعليهِ، فلا حجة للافتراض السابق، بل العكس هو الصحيح. والأمر مشروطٌ فقط بالتطويرِ فالممارسة؛ لإيقاظ المَلكة اللغوية الكامنة، وذلك بواسطـة الألعاب والأحجيات؛ لكونها تزيد من نشاط المناطق المتعلقة بالحديثِ والكلام في المخ. بالإضافة إلى ممارسة التدريبات اللغوية التقليديـة كالقراءة، والكتابة التجريبية، والحديث المتصل بموضوعات عميقة، وغيرها.
هذا وينطبق الأمر نفسه على الذكي لُغويّاً الذي يَزعم ضعفه في المنطق/ الرياضيات لمجرّد ميله الذوقيّ للُّغة، أو لكونه لم يختبر ذكاءه المنطقي بعد، أو أنه رغِبَ الركونَ إلى هذا الوهم؛ ليُريح ذهنه في منطقة الراحة، بالرغم من أنه المخوّلُ للتجاسر على مناطق فاعلة أكبر، فبحسب البروڤيسور “لويس إم. تورمان” (خبير الذكاء من جامعة ستانفورد) فإن الذكاء اللغويّ مؤشرٌ ناجح للغاية على النجاح المثالي في الحياة الأكاديمية والمهنية وفي مستوى الذكاء العام ككل! كما نعرف أن الذكاء اللغوي ما هو إلا واحد من عشرةِ أنواع مختلفة من الذكاء، من بينها الإبداعي، والاجتماعي، والمكاني، والمنطقي، والروحي، والشخصي، والحسيّ، والجنسي، والجسماني، وكل واحد منها ينتفع من تحسين الأنواع التسعة الأخرى. لذا، عندما تسعى نحو تطوير ذكائك اللغويّ تعمَل في الآن نفسه من أجلِ تطوير باقي الأنواع التسعة. فإن اللغةَ هي ترسانة الأسلحة الخاصة بالعقل البشريّ

تأليف: أروى الفهد
المصدر: القافلة مارس-أبريل 2021

فلسطين.. يحرِرها الأدب العربي!

فلسطين.. يحرِرها الأدب العربي!

طالما سألني الكثيرون عن فائدة الأدب العربي، وعن وقع أثره في حياتنا -عامها وخاصها- وإن كانت أهميته بالغة لهذا الحد الذي يجعلني أهتم به كل الاهتمام، فما الذي يضيفه الأدب إن لم يكُن هو إضافة زائدة علينا؟ أليس كل مكتوب في النهاية هو تعبير عن نفس صاحبه فقط؟ وتجسيدٌ لتجربة خاضها، أو شعورٍ استشعره حتى فاض؟

 

وما الداعي لأن يكون الحبر على الورق فنّا، له ضوابطه، وأهدافه؟ أولسنا جميعًا نجيد الكتابة؟ وما جدوى الصفحات التي تُكتب في قضية كفلسطين الهوى والهُوية؟ أيحرر الكتاب وطنًا، وهو الذي لا يقوى على الصمود في وجه الرياح! وهل تنصت آذان التاريخ لما يكتب حقًا، أم أننا نحفر الكلمات على جداول المياه؟
في معنى الأدب

ارتبط وجود الأدب بوجود الإنسان؛ فمذ بدأ الإنسان يكتشف الكون، ويعرف خباياه، نشأت لديه رغبة في نقل هذه المعرفة إلى غيره، وكان الأمر يسيرُ بدايةً بالإشارات، ثم المُشافهة، إلى أن ظهرت الكتابة، ورأينا المصري القديم، ينحت قصصه على الأحجار، أو يرسمها على الحائط، أو يدونها في مخطوطات البردي؛ ليحفظ مكانه في التاريخ، ويسطر حياته كما كانت، بما لا يترك مجالًا للشك، من هنا يمكننا أن نلمس خيط بدايتنا، كان الأدب ولازال صورة حقيقية لحياة البشر في زمن معين، بعيدًا عن مجلدات التاريخ، وسقطات المؤرخين الكبرى، فمفتاحك الأول لتعرف عن الماضي أكثر، هو الأدب، فيه تجد واقع الحياة، ثقافية أو اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية، حتى الواقع الفني تلتمسه في الأدب.

منارة الأدب العربي

مع تكتل المُجتمعات الحديثة، تباين الأدب أشكالًا، فهذا أدبٌ روسي تقرأ فيه لميخائيل ليرمنتوف، وليو تولستوي، ودوستويفسكي، وهذا أدب إنجليزي فريد، وهذا أدب عربي، يتوج بلغة القرآن، ذات المرادفات الكثيرة، والبلاغة العالية، والانتشار الواسع، منه الأدب الأندلسي، والعباسي، والحديث، وأسماء واسعة كثيرة، تؤرخ كل فترة عاشها المسلمون، في صورة فنية مقبولة. أن تقرأ كتابًا مضى على كتابته نحو خمسين سنة، فهذا يعني أنك اجتزأت قطعة من الزمن واحتفظت بها لنفسك.

 

رواية “زمن الخيول البيضاء” صور فيها “إبراهيم نصر الله” النكبة، والمأساة الفلسطينية بداية من الدولة العثمانية وحتى تسلم اليهود فلسطين من الإنجليز (مواقع التواصل )

 

فلسطين في عيون الأمة

مذ وقعت نكبة العام ١٩٤٨م، تحركت أقلام للدافع عن فلسطين قضيتنا، تاريخيًا وفكريًا، فخُطّت الأشعار، وغُلّفت الكتب، وغدت الكتابة عن فلسطين واجبا تتحمله الأمة، وأثار الكتاب في هذا الصدد، معانٍ كثيرة، فترددت على آذان الناس ألفاظ الأمة والهُوية والحضارة والمُقاومة، والاحتلال، نعم! كانت ولاتزال فلسطين صحوة تجمعنا من جديد حول معنى الأمة التي تقف وتبني ذاتها، وتمكن لأفرادها ثقافيًا وعلميًا، فلسطين الحرة وحدها من أصّلت للهُوية مكانتها في عقول الشباب حديثًا، وهي أيضًا التي وقفت أمام العبرية المتفحشة في أرضها، بسلاح اللُّغة العربية، وفنونها، وآدابها.

فلسطين القصيدة

الشعر محطة أدبية قريبة من الناس، وسلاح المُقاوم العربي في وجه تزييف التاريخ، وطمس الحقائق، وتغييب العقول؛ انطلاقًا من هذا المعنى جرى سيل الشعر العربي في تحرير فلسطين، تحريرها في العقول من قيود العجز والتأخر التي نصبها لنا المُحتل وصغاره. فرأينا محمود درويش الذي استل قلمه في وجه الاحتلال، فجالت قصائده الآذان كلها، وترددت أبياته التي تنصر الحق، وتجسد معاناة الفلسطيني في كل صباح منها:

 

آهٍ يا جُرحيَّ المُكابِر
وَطني ليسَ حقيبة
وأنا لست مُسافر
إنّني العاشقُ، والأرضُ حبيبة
ويقول أيضًا:

أسمِع يا صَديقي ما يُزلزل الأعداء
أسمعهُم من فجوةٍ في خيمةِ السماء :
“يا ويلَ مَنْ تنفست رِئتاه الهواء
مِن رئةٍ مَسروقة!
يا ويلَ مَن شرابه دِماء!
ومَن بَنى حديقةً ترابّها أشلاء
يا ويلَه من وردها المَسموم!”

وكان لنزار قباني إضافة يقول فيها:
يا قدسُ، يا منارةَ الشرائِع
يا طفلةً جميلةً مَحروقةَ الأصابِع
حزينةٌ عيناكِ، يا مدينةَ البتول
يا واحةً ظليلةً مرَّ بها الرسول
حزينةٌ حِجارةُ الشوارع
حزينةٌ مآذنُ الجوامِع

 

هكذا كتب الشُعراء وغيرهم كُثر لنصرة فلسطين، من كل أنحاء العالم الإسلامي، تربطهم الهُوية، وتجمعهم الأمة صفًا واحدًا على هوى فلسطين التي تسكننا لا نسكن فيها، كتبوا ليحفروا الحقائق بأقلامهم في ذاكرة التاريخ، ليحفظوا عهدهم بفلسطين، وينصروها ما كانت أقدامهم على الأرض، سلامٌ عليهم، وقلبٌ لهم.
كتبت رضوى عاشور روايتها “الطنطورية” التي تسرد فيها معاناة قرية الطنطورة، الرواية تمزج في سطورها بين الوقائع التاريخية من ناحية والإبداع الأدبي من ناحية أخرى، في صورة فريدة.

 

فلسطين الرواية

كُتبت روايات كثيرة، جسدت واقع يوميات الفلسطيني وما يعانيه في وطنه، تصور كيف امتزج الضدان، الموت بحب الوطن، ورُسمت صورة الصمود في عكا رُغم الحصار، والمُقاومة في غزة، وشجر الزيتون، وبرتقال يافا، وقسمات الشيوخ التي تحوي بداخلها الحق، وورود الجدات، وخبزهن، ولعبة الشهيد التي يلعبها أطفال غزة وحدهم، ومعاناة لا تنقطع، فرأينا رواية “عائد إلى حيفا” لغسان كنفاني والتي تطرح فلسفات عميقة حول معنى الوطن والهُوية وتعبّر بواقعية عن معاناة يومية، لا يلقي لها العالم بالًا، عن بكاء الطفل في أرضه، وموت الشاب في وطنه، عن سلب الحق من أهله.

منها ما يقول: “أتعرفين ما هو الوطن يا صفية ؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كله”. “فلسطين ليست ذكريات، بل هي صناعة المُستقبل”.

وجاء مريد البرغوثي بروايته “رأيت رام الله” ليضخم في عيوننا المأساة التي تتجدد مع كل شروق للشمس؛ إذ نقاط التفتيش والوجوه الإسرائيلية البغيضة، وفوهات البنادق التي لا تُنكس، وحال الأسرى والمُرابطين، وشجاعة الشهداء في لحظاتهم الأخيرة. منها ما يقول فيها: “الاحتلال الطويل الذي خلق أجيالًا إسرائيلية ولدت في إسرائيل ولا تعرف لها وطنًا سواها، خلق في الوقت نفسه أجيالًا من الفلسطينين الغرباء عن فلسطين، أجيالًا وُلِدت في المنفى ولا تعرف من وطنها إلا قصته وأخباره.”

وكتبت رضوى عاشور روايتها “الطنطورية” تسرد فيها معاناة قرية الطنطورة الواقعة على الساحل الفلسطيني جنوب حيفا؛ تعرضت هذه القرية عام ١٩٤٨ لمذبحة على يد العصابات الصهيونية، تتناول الرواية هذه المذبحة كمنطلق رئيس لتتابع حياة عائلة اقتلعت من القرية، وحياتها عبر ما يقرب من نصف قرن إلى الآن مرورًا بتجربة اللجوء في لبنان، الرواية تمزج في سطورها بين الوقائع التاريخية من ناحية، والإبداع الأدبي من ناحية أخرى، في صورة فريدة.

وكتب إبراهيم نصر الله روايته “زمن الخيول البيضاء” صور فيها النكبة والمأساة الفلسطينية بداية من الدولة العثمانية وحتى تسلم اليهود فلسطين من الإنجليز، دعّم فيها بالأدلة التاريخية كل ما يخص القضية، ليس فقط عبر المجلدات والمراجع التاريخية، وإنما ذكر المسكوت عنه في القضية وما رواه كبار السن ولم يذكره التاريخ، منها ما يقول: “إذا خسر اليهود فإنهم سيعودون إلى البلاد التي أتوا منها، أما إذا خسرنا نحن، فسنخسر كل شيء”.
لا أعرف كيف وهنت عزائمنا، وارتعشت أيدينا، لنكون لهؤلاء تبعًا؟ يبقى السؤال دائمًا قيد التفكير “متى ستُسعفنا الحقيقة لتحرير فلسطين كلٍ منا”؟

 

هذه الروايات بعض مما كُتب نُصرة لقضيتنا الأولى -قضية فلسطين- وتحريرها بعيدًا عن التزييف والتهميش المُتعمد، فالأعمال باقية لن تزول مهما تقدم الزمن، وستظل حاملة في طياتها الحقيقة التي جسدها أبناء فلسطين أنفسهم، ووقع هذه الأعمال في حلتها الأدبية العالية على العقل، تجعلك شريكًا رئيسًا في معاناة الفلسطيني اليومية، وتُريك الأحداث من نافذة واسعة، وتضعك على الطريق الصواب، طريق المُقاومة حتى آخر نفس.
المقاومة الثقافية

جميع ما سبق يندرج تحت مُسمى “المُقاومة الثقافية” التي نحن في حاجة شديدة إليها؛ إذ هي دعامة رئيسة في الحرب التي يديرها الاحتلال ومؤيدوه علينا كل يومٍ؛ ليهدموا مبدأ يجمعنا، أو يُشتتوا فكرة نحاول تنفيذها. يؤلمهم أن نعرف، أو أن نقرأ، وقعُ هذا الأمر عليهم كبير؛ فهم يعلمون أننا متى قرأنا وفهمنا قضيتنا حقًا وعرفنا قدر تاريخ أمتنا، لن نتفرق، بل سيجمعنا الهدف، وتوحدنا القضية، ولذلك ليس أسعد منهم عندما يروننا غرقى في بحار الجهل والتخلف، يقتل بعضنا بعضا، وضرورة المُقاومة المُسلحة لا تقل عن ضرورة المُقاومة الثقافية لهذا الاحتلال الغاصب؛ فهم يحشدون الدبابات والبنادق ليأخذوا ما ليس بحقهم، فما الداعي من أن يدافع صاحب الحق عن أرضه بشتى الوسائل!

عن فلسطين كلٍ مِنّا

بعيدًا عن سياج المُحتل الإسرائيلي الغاصب، بعيدًا عن بنادقه التي سيلقى حتفه بها يومًا ما، هناك.. في وطن كلٍ مِنا -نحن المُسلمون- ثمة مُحتلٌّ، خائن يحكمنا، يتواطأ مع انتهاكات المُحتل، ويُطأطئ له الرأس باسمًا، لا أعرف كيف آلت بنا الحال، ليحكمنا بعض الرعاع والجبناء والخونة! لا أعرف كيف وهنت عزائمنا، وارتعشت أيدينا، لنكون لهؤلاء تبعًا! يبقى السؤال دائمًا قيد التفكير: “متى ستُسعفنا الحقيقة لتحرير فلسطين كلٍ منا”؟

الكاتب: محمد الخشاب

المصدر: الجزيرة

كتاب ذو وجه خفي فيسبوك السلاح السري للشاعر الأمريكي: جاك هيرشمان

عباس محسن

كتاب ذو وجه خفي فيسبوك السلاح السري ــ
الشاعر الاميركي :جاك هيرشمان

ترجمة: عباس محسن

الفيس بوك
الذي بدد الغيمة
التي كانت جاثمة على مِصر
وحركت الجبل النحاسي الجاثم
فوق رقاب الناس
كل شخص يملأه الابتهاج
كم جميل الآن ان تجلس
وتفرقع الفقاقيع المتطايرة
الشخص يمشي حراً،
المسير في الشوارع
جيئة وذهاباً
القلوب فرحة، الصدور مبتهجة
العين قرص خبزنا
العين خَمرَتُنا
القلم ،أُوه ، الكاتب ،هو طفلنا
افضل القبر المحفور
أفضل الفيس بوك الذي جعل خالد سيد في الذاكرة
من أجل كل ضربة على جسده
من أجل كل خدشه و لكمة
وكدمة ، ربما يعصبوا حدقة العين المجللة
لتصبح مثل لمبات منيرة على شجرة اللوتس
المنحدرة على ضفاف النيل.

منذ أسبوعين ، باكراً، من شهر ديسمبر
وتحديداً في العيد السنوي رقم 737 لذكرى وفاة جلال الدين الرومي
في كونيا، تركيا، في سيدي بوزيد، تونس،
بائع متجول عمره 26 عاماً
اسمه محمد بوعزيزي،
أشعل في جسده النار
بعد ان سقط في الإذلال،أُجبر ان
يترك مكانه لأنه لا يملك رخصة .
صفعه رجل الشرطة عندما أحتج على ذلك
من دون اي سقطة للمستقبل ومن لاشيء
وبلا اي شيء،صار جسده البشري
محمد الانسان .صار مشعلاً . يدار في أرجاء تونس
و قبضته المشتعلة
التي أحكمت حول السارق المستبد
حاكم تلك الأرض صار
متصدراً كل الأخبار والفيس بوك.

أصابعي على الأزرار محدقة ،
تكبس ،الشوق في توحد الروح مع هؤلاء في تونس
ميدان التحرير، مع شباب ولدوا من جديد
في كل انحاء المعمورة بطرفة عين مع أولئك
المتمركزين بين الناس كقطب الارض
اين هو وتلك الكلمات و الهتافات الثورية
تصدح في ميدان التحرير،
لكن جون روس ، وناره في البرج المدبب
متسلقاً للأعلى بعيداً عن الموت ليكون مع أُخوته وأخواته
وسط الاحتجاجات ،هناك
من يموت في تيبزو ، ميتشغان، مكسيكو ، اسبوع واحد
فحسب من قبل ان تأخذ الشارع القاهرة، وليس لدي ادنى شك
حتى في الموت جون واضعاً قدمه على الارض
ومُصرٌ بشدة على اداء الواجب في افريقيا الشمالية .
من جعل سيندور ليمينزو يُحيي شعر زاباتيشتا
في ثورة شعب المايا في المكسيك،
كاتباً شعر مقاومة، شعرا يمنح قوة ما بعدها قوة،
من يضع نفسه على عبوة ناسفة في طريق بغداد
بعد ان وضعت الحرب أوزارها،
مثل أشلاء البشر، يحمي العراقيين بشكل حرفي ومجازي كلاهما،
والآن حتى الموت نفسه لا يقدر على الاحتفاظ به بين كلِا فكيه
فهو معنا في الصعود والهبوط مسيطراً على تأكيد العالم المتوهج،
مع أسماء محفوظ ورايتها، نوال السعداوي، المؤمنة بالمساواة
الحزن المتفجر قبالة مجاميع زهرة الشمس
نعم، مع وائل غنيم والشعراء
أحمد فؤاد نجم، عبد الرزاق طارق الطيب
يحيى لبابيدي، ..المصري في المدن
الكل في كل مكان ، من رُفع ،
ومع الانكماش والانبساط على سطح الفيس بوك
العظيم جداً والقوي .
على الرغم من مئات الشهداء
فهم سريعاً ما يبعثون من جديد وكل الجروح تملأ بالضوء
وتسد التجاوزات ، الدموع المبذورة طمعاً واللانسانية
لأن الثورة امتدت
والمجد يبحث في كل عين
ما لم يقدر القدر بطبيعته ان يكون ربيعاً.

ملاحظة لابد منها:
كتب الشاعر هذه القصيدة بعد أن شاهد الشاعر هيرشمان في التلفاز المواطن التونسي البوعزيزي، وهو يحرق نفسه والتي على أثرها اندلعت أحداث ثورة تونس في 17 ديسمبر 2010.
ارسلت القصيدة الى الصديق المترجم احمد الجاسم وهو بدوره أرسلها لي لغرض الترجمة لانشغالاته وهو من عرفني على الشاعر هيرشمان.

نقرأ / لا نقرأ (الصورة كتاب)

تحولت البشرية تحولاً كبيراً حينما اعتمدت الكتابة وسيلة للثقافة، وكانت الشفاهية هي الوسيلة المطلقة، وجاءت الكتابة لتحتل المركز الأول ثقافياً وتزيح الشفاهية إلى الهامش، وحدثت مرحلة وسط فيما بين الشفاهي والكتابي، وهي مرحلة التدوين حيث جرى رصد المنطوق وتحويله إلى مكتوب (مدون)، ثم انفتح الزمن للكتابة لتصبح الورقة والقلم محل اللسان والذاكرة، ومر زمن طويل تعودت فيه الثقافة على هذه الوضعية، حتى جاء زمن الفضائيات، وهو زمن ورث كل التحولات المرحلية في الإذاعة والسينما، ومرحلة التلفزيون الأولى، ومن هذه الوراثة جاءت ثقافة الصورة لتعلن تحولاً كبيراً آخر في حياة البشر، وهو التحول الثاني تاريخياً وحضارياً من بعد حدث الكتابة التي أزاحت الشفاهية، ولا شك أن ثقافة الصورة قد أعادت كثيراً من خصائص الشفاهية في المباشرة والسرعة والتفاعلية، وغيرت من أنظمة الاستقبال التي رسختها الكتابة، فالكتاب صامت ومطلق، والمؤلف في الكتاب سلطة متعالية، بينما القارئ للكتاب سلبي وهو مجرد مستقبل سالب، وليس بينه وبين المؤلف صلة من أي نوع فهو لا يراه ولا يسمعه ولا يستطيع محاورته، ومعظم المؤلفين هم أموات أو بحكم الأموات من حيث غيابهم المطلق، والكلمة في الكتاب هي صورة جامدة، وهذه مفارقة كبرى مع الشفاهية حيث إن الكلمة الشفاهية حية وقابلة للتبدل والتغير والتفاعل، ويكون المستقبل فيها إيجابياً وفعالاً، مع اشتراك لغة الجسد في صناعة الرسالة وصياغة التواصل، وفيما بين الشفاهية والكتابية تحولت الأنماط الثقافية ومالت لمصلحة الكتابة وقيم النص المكتوب، وتولد عن ذلك أعراف ونظم معرفية منها وجود الوسطاء بين المؤلف والقارئ وهم الناشرون والموزعون من جهة، ومن جهة أخرى جاء وسطاء آخرون من الشراح والمفسرين والنقاد وعارضي الكتب، وهم فئات شكلت مهناً ثقافية كبرى على مر التاريخ.
وسط هذا كله جاءت الصورة لتقدم ثقافة مختلفة تلغي فيها – أول ما تلغي – وظيفة الوسطاء، فالصورة تأتي مباشرة ولا تحتاج إلى شارح ولا مفسر ولا مترجم، ولكنها تكتفي بقيمها المباشرة، وهي قيم تفاعلية وحية وإيجابية، والمستقبل فيها يتفاعل عبر العين والأذن مباشرة وتلقائياً، وهي تعيد له موروثه الأنثروبولوجي القديم في المشافهة ولغة الجسد والتفاعلية.
هذا أمر، ومعه أمر مصاحب وهو ظهور رسائل الجوال ورسائل الفضائيات، وشاشات الإنترنت، وهي كلها صيغ ثقافية جديدة تتيح فرصاً خيالية للناس لكي يمارسوا أنواعاً متجددة من الوسائل المعرفية الرخيصة أو حتى المجانية، مع ما فيها من حرية مطلقة وسرعة في الاستقبال واختصار للوقت والجهد وتوفير للمال.
ومن المهم هنا أن نقول إن هذه صيغ ثقافية ومصادر للمعرفة تكشف أن القراءة التقليدية عبر الكتاب ليست هي المعيار على ثقافة مجتمع ما أو عدم ثقافته، وكما كانت الثقافة الشفاهية قادرة على خلق شاعر عبقري مثل امرئ القيس ولم يقصر به عجزه عن القراءة والكتابة، فإن ثقافة الصورة تستطيع أن تخلق أجيالاً مثقفة ثقافة عصرية، وهي ثقافة نوعية ومتطورة بكل تأكيد، وإن اختلفت بالضرورة عما هو متعارف عليه تقليدياً في تعريف المثقف. والصورة كتاب أيضاً مثلما هي مصدر ثقافي لا يقل ثراء عن الكتاب بمفهومه التقليدي، وهي لذلك من أهم مصادر التثقيف، ولن نشك بكونها مصدراً مهماً وفاعليته عالية جداً ولها من الأثر أضعاف ما للورقة المنقوشة بالكلمات الجامدة.
المقارنة الثقافية
أشير هنا إلى عدد من التصورات الواهمة التي تعري حواراً كهذا الحوار حول سؤال القراءة عربياً، وهي كالتالي:
أ – تجري المقارنة مع الغرب عادة وتجري الإشارة إلى ظاهرة الكتب الأكثر مبيعاً في الغرب، وهذا أمر يتم من باب التبكيت على العرب حينما تجري مقارنة الأرقام، والحق أن ظاهرة الكتب الأكثر مبيعاً في الغرب ليست علامة على القراءة الجادة، ولكنها علامة على المكاسب المادية وعلى الاستهلاك السطحي للكتاب، وتلك النوعية من الكتب هي كتب ساذجة وبسيطة وليست كتباً في المعرفة ولا في الثقافة العليا ولا في الثقافة الجادة، وهي إلى الاستهلاك وصناديق النفايات أسرع منها إلى العقول وكثيراً ما يترك الناس هذا النوع من الكتب على كراسي الانتظار في المطارات وعلى مقاعد الطائرات والقطارات للتخلص منها بعد التسلي بها لساعات، وهي كتب تباع عادة في أكشاك المطارات ومحطات السفر بعامة، وتصاحب الجرائد اليومية في مواقع بيعها، أي أنها كتب يومية كالجرائد اليومية، ولغتها ومستواها هي لغة الصحافة ومستوى الصحافة، وهذه مسألة لا بد من الأخذ بها وقت المقارنة، لكيلا نخلط بين الجاد والبسيط.

ب – حينما نقارن بين العرب والغربيين في مسألة الكتب، فلا بد أن نستذكر وضع وحالة الكتب المسماة بالأكثر مبيعاً وهي التي تكون عادة في رأس المقارنة، وكذا لا بد أن نستذكر الحال الاجتماعية الغربية، وهي حال انفرادية، والفرد هناك هو كون قائم بذاته، ويندر التفاعل الاجتماعي المباشر بين البشر، وإذا ركب المرء في طائرة أو في قطار وحافلة فإن الصمت يعم بين الركاب ويندر أن يدخل راكب وآخر في محادثة تقطع عليهما مشوار السفر، ولهذا يلجأ الناس للكتب البسيطة والمسلية لتزجية وقتهم كبديل عن المحادثة، وهذا ما صنع موضة الكتب الأكثر مبيعاً، بينما الطبع الشرقي هي تزجية الوقت في الأحاديث بين الناس المتعارفين وغير المتعارفين، وإذا جمع الناسَ عندنا مكان نشأت بينهم لغة في التخاطب والتواصل مباشرة، وهذه حالة تمييز بين مجتمع وآخر فرضت عند الغربيين شراء الكتب الميسرة لقيام أسبابها الاجتماعية والحياتية، بينما لم تنشأ عندنا نفس الأسباب، فاختلفت الحالة هنا عن هناك، وليست المسألة مربوطة بحب الكتب وحب الثقافة، وليس في نوعية الأكثر مبيعاً ثقافة ذات شأن، وهي – فحسب – ضرورة اجتماعية.
وفي المقابل فإن التخاطب بين البشر هو ضرب من ضروب التبادل الثقافي والمعلوماتي مثلما هو إمتاع وتسلية وتزجية وقت، وهو عندنا من نتائج التفاعل البشري بينما يطلبها الأوروبيون عبر الكتب إذ لم تتيسر لهم عبر البشر.
ج – لا شك أننا نضج بالشكوى من تراجع مقام الشعر بين الناس، والأمة الشاعرة لم تعد تعير الشعر مكانة عليا كما كانت في سابق أزمنتها كلها، وهذه ظاهرة لا تخصنا وحدنا، ولقد جرى قبل بضع سنوات أن قامت جامعة أوكسفورد بإلغاء كافة عقود النشر المتفق عليها سلفاً مع عدد من الشعراء الإنجليز وتحملت الجامعة غرامات الإلغاء، وذلك لأن دار النشر الجامعية الخاصة بالجامعة لاحظت عزوف القراء عن الشعر مما حول المنشورات الشعرية إلى مكدسات في مستودعات الجامعة، وكانت الخسائر هنا كبيرة مع فقدان الدور الطليعي للجامعة في نشرها لأعمال لا تسويق لها، وهذه قصة كبيرة ومشهورة تكشف عن التغيير الثقافي الهائل وعن مبلغ خطورته مما أدى بالجامعة إلى تصرف جريء كهذا. ونحن هنا نقول ذلك للتعرف على الوضع الكوني بعامة كيلا نظن بأنفسنا وثقافتنا ظنوناً غير واقعية ونكون مهولين أكثر منا باحثين وملاحظين.
التفاعل الثقافي
من الملاحظ ثقافياً أن الناس قد تجاوبوا مع ثقافة الصورة بصيغة عريضة وسريعة ومغرية، وهذا مؤشر على ما تضمره النفوس من مخزون أنثروبولوجي للحس الشفاهي لدى البشر، وكأن البشر كائنات شفاهية أكثر منها أي شيء آخر، وهذا ما يجعلنا نأخذ بعين النظر ما كان الناس يمارسونه وقت سيطرة الكتاب حينما كان الوسيلة الأهم في تداول المعرفة، وكانت الممارسات تجري دوماً لتحويل الكتاب إلى مادة صوتية، عبر تحويل الروايات إلى مسرحيات ممثلة، وإلى أفلام مصورة، وعبر الأمسيات الشعرية والمحاضرات والندوات والنقاشات حول الكتب، وكان الناس يكتشفون فروقاً جذرية في فهمهم للمكتوب حينما يتحول إلى منطوق أو مصور، ولقد كان هذا مؤشراً إلى العلاقة الذهنية بين البشر والصوت، وبين البشر والصورة الحية، وكون هذا أكثر مدعاة للفهم والتفاعل.
ولذا فإن الصورة المتلفزة حينما جاءت لتعم الكون الاستقبالي لاقت استجابة سريعة وتفاعلية معها حتى صار ذلك بمثابة العودة إلى الأصل الثقافي البشري، وتحول التواصل بين الناس ومصادر الثقافة ليأخذ هذه الصيغة الحديثة للشفاهية، وهذا تطور يجري ضد مصلحة الكتاب.
وإن كنا نقول بهذا فإننا نعززه بالقول إن ثقافة الكتابة لكي تحافظ على قدراتها التنافسية لا بد لها أن تتمثل خصائص ثقافة الصورة، وهي خصائص واضحة المعالم، ومنها المباشرة والسرعة والتلوين والدقة والإثارة، وهي سمات تفاعلية نجحت مع النصوص التي تنطوي على هذه الصفات أو بعضها، ولقد كنا نشهد كيف أن محمود درويش يستقطب حضوراً كاملاً في كل مرة كان يلقي فيها أمسية شعرية، وذلك لما في خطابه من خصائص تشبه سمات وخصائص الصورة، وسنقول شيئاً من هذا عن أمسيات الشعر الشعبي، والاحتفاليات الثقافية، والروايات، وهي صور ثقافية متحركة، عرفها ما يسمى بالوعاظ الجدد واستثمروها بمهارة جاذبة، وهذه كلها أمثلة واقعية تكشف أن ثقافة الصورة تحفز الاستقبال لأنها تحفر باتجاه رغبات قديمة مخبوءة داخل النفس البشرية في حنين الذات باتجاه إلى الجذر الإنساني العميق في المشافهة والمحادثة والتفاعل الحي ومباشرة الفعل، مما يفرض علينا التفكير بصدق عن مصادر المعرفة ونوعية المعرفة، وكيفية توصيلها، وليس للكتاب إلا أن يلعب لعبة التغشيش، فيسترق النظر للصورة ويحاول أن يحاكي بعض خصائصها لكي يبقي على موقعه بين الناس.

وليس بالصعب أن نتذكر أن أمسيات محمود درويش تحظى بحضور جماهيري كبير معظمه ليس من أهل التخصص الشعري الحداثي، ولو كانوا كذلك لرأيناهم مثلاً عند أدونيس، والذي يمكن أن نقوله هنا هو أن نصوص درويش ترتبط ارتباطاً عضوياً بالصورة الحية للحال الإنسانية الفلسطينية، وهي صورة تحضر فيه ومن حوله حتى صار يجسدها حتى في نصه الذاتي والغزلي، ويحيط به وبشعره هذا الحس الحيوي المتفاعل عقلياً وعاطفياً حتى ليكون صورة متحركة وفعّالة في النص وفي الناس.
وسنرى أيضاً مثالاً آخر مع الشعرالشعبي الذي يستقطب جماهير عريضة ليس لنا أن نحصرها بالثقافة الفصيحة، وهذا الشعر ينهل من اليومي ومن الصورة المغناة والأرشيف الأسطوري للذاكرة الشعبية، وهو ذو تركيبة شفاهية وصوتية تقوم على التفاعل والحركات التمثيلية ولغة الجسد وتستحضر الشارع اليومي والمباشر بصورة تلقائية.
وهذا يفضي بنا إلى وضع تصوراتنا مرة أخرى نحو الثلاثية الإصطلاحية: (يسمع) (يقرأ) (يبصر)، وما تحمله كل واحدة منها من بعد ثقافي وحضاري وتحولات مرحلية كبيرة وعميقة الدلالة، حيث تتولى البشرية تبديل علاقاتها مع ذاتها ومع محيطها حسب الوسيلة الثقافية المستخدمة، مما يشكل تنويعاً في المصادر الثقافية. ولسوف أقف وقفات على عدد من الكتب التي حققت مبيعات عالية بمثال عربي ومثالين أمريكيين للتعرف على خصائص ظاهرة الأكثر مبيعاً وأبعادها، وذلك في مقالات تأتي بعد إجازة الحج – إن شاء الله -، وفيما بين ذلك سأقدم مقالتين تخص أمور الكتاب والاستقبال الثقافي.

 

-المؤلف: د. عبدالله الغذامي
-المصدر: جريدة الرياض: الخميس 29 اكتوبر 2009م – العدد 15102

أول قصة للكاتب العالمي : ارنست همينغوي ،لم تنشر

عباس محسن

لا يأس في عالم النشر
أول قصة للكاتب العالمي : ارنست همينغوي ،لم تنشر !!

نشرت الغارديان في يوم 27- سبتمبر/ ايلول /2013 خبرا للكاتبة ساندرا سبنسر مفاده ” ان الغارديان نشرت خبرا عن صدور كتاب عن الكاتب همينغوي وهو الجزء الثاني لمجموعة من رسائله والتي نشرت جزءها الاول في فترة سابقة ، وهذا الكتاب الجديد – حسبما افادت الغارديان – عبارة عن رسائل الكاتب المرسلة لأصدقائه ومعارفه في الفترة ما بين 1923-1925 ، “.ومن الجدير بالذكر ان هذا الجزء من الكتاب قد احتوى على رسالة ارسلها الكاتب إلى صديقه الكاتب والناشر دونالد ستيوارت،وقد ارسلت هذه القصة برسالة حملت تاريخ 15- ديسمبر- كانون الاول/ 1924 ، لغرض النشر إلى مجلة ( فانيتي فير) والتي رفضت برسالة من المحرر (فرانك كروين انشيلد) حملت تاريخ 22-يناير /كانون الثاني/ 1925 جاء فيها ما مفاده :” كنا نفكر منذ وقت طويل نشر مثل هكذا عمل قصصي ولكن الان نعتبره وقت غير مناسب ، ارجعها لك معتذرين عن نشرها ” وقد يكون السبب الاساس لعدم نشرها هو بإعتبارها قصة لـ ( كاتب مبتدئ) وغير معروف .وعلى الرغم من مرور ما يقارب على القرن من الزمان على كتابة هذه القصة ، الا انها تعد الاساس الاول وبداية المعرفة لأسلوب همنغوي الادبي.

ادناه النص الكامل لهذه القصة وهو من ترجمتي
ارجو ان تنال اعجابكم

حياتي في حلبة مصارعة الثيران مع دونالد أوغدن ستيوارت
قصة قصيرة لـ ( إرنست همينغوي )

لقد التقيت بـستيوارت عن طريق الصدفة ، في حلبة لمصارعة الثيران ، الوقت مبكر جداً لكن لقاء الصدفة هذا لم اعره أي انتباه ولم اهتم برؤيته . كان يبدو شكل اللقاء كأحد سكان لقاءات القارة الاميريكية ، حيث في اللقاء الاول يروي الفرد ومن يلتقي به عن أماكن بين الحين والحين تواجدهما وعن الساكنين في تلك الاماكن .
التعليق الأول الذي وجهه لي والذي بدأ فيه الحديث ، كان منه ، عندما كان اللقاء في الـ ( بلازا دو توروس ) في بامبلونا .
” أحترس ،” قال ستيوارت .” ذلك الثور مجنون ” .
كنت ، نوعا ما على معرفة جيدة وعلاقة طيبة بزوجة السفير الأمريكي في اسبانيا عندما كانت في جولتها الأوربية آنذاك ، لذا كنت على معرفة قليلة بما كان له من القاصدين من لكنته الأمريكية ، ان المقصود بصفة الثور هي الغضب الشديد .
” لا شي غير معتاد في الوضع الراهن “، قلت ، بينما كنت اختار الرمح المزركش البانديرلوني .
” هي الإثارة ، أليس كذلك” قالها ستيوارت.
كانت الجملة قليلاً متقاربة من اللهجة الاميريكية لذا لم أعط أي جواب ،اكتفيت فحسب بتوجيه إيماءة للعمال لفسح المجال لي فحسب وبدأت استعداداتي لأحرض الثور لمواجهته بالرمح البانديرلوني ، ولكن بينما كنت على تلك الحال من التحريض وصيحات الابتهاج والتهليل والتي تتعالى ، لاحظت امراً غير اعتيادي . عينا الثور اللامعتين كانتا محدقتين صوب ستيوارت . التفت نحو ستيوارت وقلت له بلهجة يملأها الرقة واللطف : ” أقول لك أيها الرجل العجوز .كن رجلاً عاقلاً وارجع لما وراء السور الحامي .”
” أقول لك ان ذلك الثور مجنون .” صاح ستيوارت.
في تلك الإثناء ، الجمهور رفعوا قبضات الأيدي متحمسين ، هاتفة بالتشجيع والصراخ على ستيوارت وهو يندفع مهاجماً قبالتي .
“نريد دون ستيوارت !” كانت النبرة الرئيسية والغالبة في نبرات الصراخ المتعالية والصادرة من الجمهور ، وحالما رأيت ارتباكهم في لفظ نغمة اسمه الأول وبنبرة اسبانية وهم يأخذون ستيوارت من اجل جعل احد أبناء البلد بطلا قوميا لهم .
” سلم لنا (دون) !” رجل ذو بشرة حمراء ، عظيم الجثة ، قالها صارخاً هذه الجملة بالقرب من أذني .
” ارجع لنا أموالنا !” . صرخ آخرون .
” ارجع لنا أموالنا ! وسلمنا دون !” انضم الرجل ذو البشرة الحمراء والضخم الجثة من بين اثنين من هولاء الصارخين .
” نريد دون ستيوارت ” . جزء من المضمار ملأ بصرخات بدأت تتعالى .
” أقول !” . عملاق اسباني ، يضع قرطين تتراقصان في أذنيه ويحرك مسدساً أوتوماتيكيا ، علا صوته ملعلعاً من بين الحشود .
” أقول لك سلمنا ستيوارت.”
في تلك اللحظة ، احدهم ألقى بثمرة طماطم ضربتني مباشرة في وجهي ، كنت مستندا بصعوبة والتفتت بعدها نحو الحشد .
رفعت يدي لأسكت الحشد ، وهو يبدو هادئ . أبدو إني لا زلت محافظاً على شعبيتي وبينما قمت بمسح بقايا ثمرة الطماطم الملقاة على عينيّ بوساطة منديل ذو نوع فاخر قد أعطي لي ، قررت ان أعطي الجمع درساً بليغا .
” رجال “، قلت ” حمقى ، أطفال” موظفا الكلام بلهجة قشتالية . ” أنا مجبر” .
أخذت هذه الجلبة أكثر من ربع ساعة لقول هذا الكلمة بلهجة قشتالية ولكني بإجادة تامة أرد على عجاجة الحديث والتي قوبلت بتصفيق علا أكثر ، حالما انتهيت من الكلام .
” دون ستيوارت، دون ستيوارت ، دون ستيوارت ” الشباب ذوي الصوت الخشن يصيحون .
الاسباني الكبير والذي يجلس بمقعد ورائي وتبدو على وجهه الحماسة الزائدة .
“دون، ” تكلم بصوت غير واضح . ” دون” بعدها امسك بحافة السياج في الحلبة ووجهه الأرجواني يقترب حتى صار قريباً جداً من المشهد . ” سيقتلهم ! سيأكلهم احياءً !”.
التفت ، انحنيت محيياً الجمهور بتحية يملأها الفخر والكياسة وأنا أضم بيدي السيف أما القماش الأحمر فمن اجل ستيوارت . أما ستيوارت فرد عليهم بكلمات من الشكر والثناء ولكن بصوت غير مسموع أو مفهوم – ربما بسبب الصراخ – . التفت نحوي ملوحاً لي ووجهه قبالة الجمهور .
” رجال !، مخنثون ! ،صغار ! ” بدا وكأنه يستخدم لهجتي الأندلسية . ” هل هناك طبيب في المنزل ؟”
متعب وبحالة مزرية ، وكأنه محاط بمجموعة من طلبة كلية الطب والزهور تغطي قدميه .
” أقول طبيب” قالها ستيوارت بصوت أجش .
جلس رجل .
” اعتقدتك تقول طبيب أسنان” أجابه بصوت ذو نبرة تذمر .
” ألا يوجد طبيب في هذا المنزل ؟” نادى ستيوارت .
” ندى، ندى” صاح احد الحضور . ” يوجد طبيب لكنه سكران “.
” الحمد للرب القدير” كلمني ستيوارت بصوت مفهوم ، ملتفتاً نحوي بسرعة .
” وأنا متدين عليم “
قلتها كي يعجب الرجل بحديثي .
نزع قبعته الديربية السوداء محيياً ، كلا ، تذكرت الآن لم تكن سوى قبعة اعتيادية ، ستيوارت لم يرتد قبعته الديربية مطلقاً في حلبة مصارعة الثيران. تبدو نازلة على عينيه . عندها بدأ ستيوارت يحي الجمهور .
” اقسم لك إني سأقتل هذا الثور أو هو الذي سيقتلني ،” تلفظ هذا القسم أو اليمين بلهجته القشتالية القديمة .كانت هناك موجة عارمة من التصفيق والترحيب لاختياره هذه اللهجة . التفت ستيوارت واظهر سيفه والرداء الأحمر قبالة الجمهور . لحظة موت صامتة عمت الإرجاء ، ” سوف يقاتله بيديه المجردتين ” صرخ احدهم .
بالخلف مني ، الاسباني ذو السحنة الغاضبة ، تراجع للخلف مذعوراً.
” سيقتلهم بالتأكيد” صاح بصوت كالعويل، ” سيأكلهم وهم أحياء”.
امسكني ستيوارت بأحكام من يدي .
” هلا بقيت بالقرب مني همنغواي ؟ ” .سألني .
نظرت داخل عينيه الرماديتين الصافيتين .
” للموت ، ” قلتها .
قفز ستيوارت بشكل مفاجئ إلى احد الجوانب .
” لا تفكر بتلك الكلمة ” قالها .
مشى ستيوارت بخطوات متسارعة نحو الثور الهائج والذي بدوره اندفع صوبه مهاجماً من الجهة المعاكسة له .لم ارّ مثل هذا المنظر منذ لحظة موت مصارع الثيران (غاليتو ) . كانت لحظة يملأها الارتباك والحيرة وقد وجدت صعوبة في إعادة تركيب هذه الصورة وأنا لا أتذكر سوى ستيوارت والثور الهائج ، يصارع بعضهما بعضاً ويرمي بعضهما البعض في أطراف الحلبة .وبعدها انتهى هذا المشهد وستيوارت يقف بالقرب من الثور الساقط على الأرض . قتله ستيوارت بيديه المجردتين، ومن دون أي سلاح .
صديق مسكين ، كان عبارة عن علامة من علامات الرعب ، أضلاعه مندفعة للخارج مثل هيكل عظمي يرتدي معطفاً . كان يحمل عضو البنكرياس في يده اليسرى. بينما وصلت إليه ، صبي صغير يعبر السور راكضا في الحلبة ، ثم التقط شيئاً من بين رمال الحلبة . حمله إلى ستيوارت والذي سريعا ما وضعه في مكان ما جانباً . لقد كانت أمعاءه ألاثني عشرة.
” من الأفضل ان تغتسل” قلت له بصوت واهن .
” لم يعد يجدي الأمر ، ليس ذا بال .” قال ستيوارت، ,بصوت خفيف .
عندما أفاق واسترد وعيه ،كنا مجتمعين حوله ، كان الجمهور يحاول ان يقتطع ملابسه التي يرتديها كقطع تذكارية ،جموع كثيرة تتقافز من سياج الحلبة متوجهة إليه .
” قل لهم ماذا فعلت لـ ( فيلاديفيا جاك اوبراين) ” همس بصوت خشن . لم أكن اعلم صاحب الاسم المذكور في سؤاله السابق .لكني رأيت ستيوارت بمشهد لن يخبو من ذاكرتي ، وهو يتقاتل مع الثور المجنون. ربما ادع ذاكرتي تستريح قليلاً ، لكن حمل ستيوارت بين ذراعي . وبأفضل الكلمات من لهجتي القشتالية القديمة والتي احتفظ بها لمناسبة عيد ميلاد ولدي الأول، البكر ، – وأنا أحتفل بعيده مولده العشرون – قلت له الكلمات .
ستيوارت فتح عينيه مرة أخرى بينما كنت أتكلم.
” اخبرهم ، يا فتى !” قال ” اخبرهم”.
بسعادة، الصديق القديم يردد الكلمات .

محاولة لايجادنا

ريمة العيسى

عند عمر العشرين غالبا ما نبحث عن ذواتنا أكثر نكون أوعى بما يكفي لنبدأ باكتشاف أنفسنا وبهذا الوعي غالبا ما نضيع. نفقد أصدقائنا ،لحظاتنا وأحلام الطفولة في هذه اللحظات أكثر ما نحتاجه هو تلك الاشياء التي أضعنها نظن أن التمرد على الواقع هو المنجي من المستنقع الذي ادخلنا نفسنا فيه في المراهقة في للحظات معينة نفهم أن المراهقة ما كانت إلا نحن كما نريد بل أكثر مما نريد ولكن بطرق ألطف وأكثر وعي أن تكون شخص واعي يفهم ما يريد دون أن يعي ما يريد.أفضل من شاب لا يفهم مايريد وهو يعي ذلك التفكير بلاوعي هو أجمل خصائص المراهقة .مجتمعاتنا التي تعمل جاهدا لتخرجنا من الحالة المراهقة إلى حالة الشباب والتي لاتفكر بشئ بقدر ما تفكر بكيف تخرج مراهق مازال يعيش الوعي بالاعي إلى شاب يعيش الاوعي بوعي أليس أخطر؟ لماذا تستعجلون الأناس بعبور مراحل نموهم؟؟ وكأن مجتماعتنا ينقصها لاوعي أكثر لاأعلم أتعلمون أم لا بأن الشاب العشربن يعيش في أغلب الأوقات حالة من الضياع النفسي عدم القدرة على مواجهة الحياة والتي لم يأخذ حقه في فهمها كما يشاء في سن المراهق بعادة مجتمعيا بحتة تقوم عوائلنا باغتيال هوايتنا بفكرت أنه أهم ما يجب فعله هو أننا سوف نندم ولأن الوقت يمشي ويسرقنا ويجب أن ندرس أما انا فقدم ندمت فعلا لكن ليس لأني لم أدرس بل لأني لم أكتب في كل اللحظات التي كنت أود أن أكتب بها هذا العام أعيش أصعب حالات ضياع وهو الضياع الواعي الذي يعرف الكثير ولا يعرف شئ لنعتني بمراهقينا كي يصلوا إلى وجود أنفسهم لا العكس.