هنا القاهرة : تسريد الوصف، الإيقاع البطيء والانتقال المفاجيء، التوغّل في أغوار البنية النفسية للشخصيات والمراوحة بين بناء النموذج ورسم النمط.
نافذة على الإبداع – د. محمد صالح الشنطي
تضم هذه المجموعة ثماني عشرة قصة، الأولى منها ( هنا القاهرة) القصة الرئيسة في المجموعة التي عنونت بها المجموعة، وهو عنوان لافت لأنه يشير إلى الفضاء بمفردتيْه (هنا) اسم الإشارة إلى المكان متضمناً اللحظة الزمنيّة المقترنة بلحظة الإشارة، ثم (القاهرة) الاسم العلم بما ينطوي عليه من عنصر بشريّ وثقافي وحضاريّ، فهذه الجملة (العتبة الرئيسة) تختزل الرؤيا، وتومئ على نحو مبكّر إلى لحظة التنوير بعد تتبعٍ متأنٍّ ومخاتل لتطور الحدث الذي يتماهى مع الوصف الدقيق لحركة الشخصية الرئيسة، حيث الاندماج و توحّد الوصف و السرد في اللوحة التي تحدّد ملامح الشخصيّة (البروتريه) الذي تشكّل عبر الملاحظة الدقيقة للشخصية في حالة ترقّب يقظ، وجدل متواصل بين الرؤية البصريّة و الباصرة الذهنيّة، التقاط رهيف وصبور لكل حركة، فضلاً عن الإمعان في تضاريس الجسد وملامح الوجه، واشتغال الذهن في إيقاع دؤوب في التفسير و التأويل و التوقّع والتعبير عن الهواجس ومضيّها في ارتياب واثق انتظاراً لحدوث المفاجأة، و بناء المفارقة والاشتغال على نسج الحركة الداخلية التي تستثمر ذلك كله في إذكاء لحاسّة التشويق لدى المتلقي ؛ لذا لجأ الكاتب إلى استبطاء الحركة عبر الاستغراق في المتابعة وإدارة آلة التفسير و التأويل، وإذكاء ظاهرة التوتّر و الوصول بها إلى مشارف الترقب الفادح للنهاية، ثم التدخّل المباغت والانعطاف عبر استدعاء مشاهد جديدة تكسر أفق التوقّع و الانتظار لتفجّر لحظة التنوير و إحداث المفارقة الكبرى التي تقلب المشهد رأسا على عقب،فكان الانسحاب المفاجئ من ساحة التوقع، والارتقاء المفاجئ من حضيض الرذيلة إلى ذروة الفضيلة.
الموقف شديد الوضوح حيث استكمل الكاتب شروط ( الانطباع الموحد) بوصفه مقوّما أساسيّا لفن القصة القصيرة كما ورد في أدبياتها عند إلان إدجار بو وتشيكوف ونقادها من شكري عياد إلى رشاد رشدي إلى الطاهر مكي و الشاروني وغيرهم ؛ وهذا واضح كما جاء في صفحة الإهداء ؛ ولكن حِرَفيّة الكاتب و مهارته تتبدّى في قدرته على التشكيل الجمالي البارع الذي تبيّن في استطاعته تسخير الوصف لخدمة السّرد أو بمعنى أدق (تسريد الوصف) وهي ظاهرة لافتة ؛ ثم توظيف الإيقاع والعمل على تبطئته لحشد عناصر التشويق و تفجير المفارقة، واستثمار التحوّلات المشهديّة و الانتقالات المكانيّة لحقن اللحظة بعنصر التوتر وصولاً إلى لحظة التأزّم، حيث بلغ الحدث ذروته، ثم الانحدار السريع نحو النهاية ولحظة التنوير، لقد بدا جليّاً أن الكاتب عزف على وتر اللغة وتطويعها فبدت ليّنة طيّعة استنقذت الموقف من آلية الاعتياد وروتينية المألوف إلى مستوىً يثير الدهشة و يحقق المفاجأة ويفجّر المفارقة,
ينتقل الكاتب في قصصه بين هذا اللون من ألوان البناء الفني المحكم إلى لون آخر في السياق ذاته الذي يريد من خلاله أن يطوف بقارئه في فضاء المكان الذي اختاره لقصص المجموغة ؛ فمن النسج البطيء على نول الفن القصصي القصير إلى الانتقال المفاجئ السريع من المقدمة إلى النتيجة دون إغفال للمفارقة في لحظة وامضة خاطفة، متعجّلة يغلب عليها أمران : الأول استبداد الفكرة و مباشرتها عبر الحوار و التعليق عليه، كما في قصته (الجرس) فالمفارقة قريبة (الحديث عن التمسك بالدين قوام الخلق) والاكتشاف المفاجئ لمسيحية السائق، واستثمار هذه الثنائية في لحظة التنوير .
ظاهرة أخرى لافتة في هذه المجموعة تقدم لنا نموذجا بشريّا يتجاوز الملامح الخارجية ليوغل في الأغوار النفسية لتصل إلى جوهر البنية السيكولوجية وتلامس عقدها الباطنة، مركّب النقص من خلال مرآوية السلوك مع الآخر الأنثى متقصيّا أبعادها عبر المثلث المتمثل فما يمكن أن نسميها المرايا المتقابلة أو المحيطة التي يعكس كل منها جانبا من جوانب الشخصية لدى الأنا و الآخرين، والأنثى في العلاقات المتقاطعة بين أقطابها، المرأة التي يجتذبها لون من ألوان السلوك الذكوري تفتقده الأنا الساردة، وعجز الذات وإحساسها بمركّب النقص إزاءها، ثم القفز من خلال الحدث فوق هذا الشعور المستقر في أعماق الذات لدى السارد في تحوّل نوعي عبر إدارة الوقائع الطارئة وصولاً إلى ذروة المثلث الأرسطي للحدث بداية وذروة وانتهاءً بلحظة التنوير ممثلة في انطفاء الأمل والانتهاء إلى الخيبة ؛ ففد سلك الكاتب سبيل التراكم في بناء الحدث عبر التفاصيل الصغيرة، أملاً في إحداث التحوّل المأمول في تفكيك مركّب النقص، ولكنه انتهى إلى الفشل ؛ فقد انقطع حبل التواصل وتبعثرت التراكمات، فنحن أمام جملة من التقنيات : البوح الصريح ؛ الامتياح المباشر من الداخل، الاعتراف ، والتصاعدة في تنمية الموقف، والبناء على الوهم، المفارقة التي تمثلت في التضاد بين الذروة التي وصل إليها، حيث التقاطغ بين هاجس الأمل وحضيض اليأس الذي انتهت إليه خاتمة المطاف في قصته ( مقطع تافه) وقد ظلت سمة التوتّر سائدة لتؤكد جوهر هذا الفن .
ظاهرة أخرى في هذه المجموعة القصصيّة لافتة، تتمثّل فيما يشبه المنحى التسجيلي الواقعي الذي يعنى بتقديم أنماط من السلوك الباشري لشريحة اجتماعية تختلف عن النموذج ؛ فالنمط عيّنة تمتاز بسلوكيات معروفة و متكرّرة، تعرف بها طائفة مهنية أوشريحة هامشيّة معتادة، أما النموذج فيختلف عن النمط في كونه يمتاز بخصوصية ما، فضلاً عن الصفات الجوهريّة التي تمثل الطبقة التي ينتمي إليها، من هنا كان البناء في هذه القصة دائرياً بدأ بالعنون المصاغ باللهجة العامية (ما يخافوش ربنا) وانتهى بالعبارة ذاتها.
ظاهرة أخرى تتمثّل في خطاب الآخر والحديث إليه وعنه في آن واحد واصطناع ما يشبه القناع، مُمثلاً في شخصية أخرى لم يفصح عنها ؛ و لكنه (أعني الراوي) يتمثّلها ؛ فهو يخاطب السيدة النموذج، ويعمد إلى رصد سلوكها عبر الشخصية الأخرى التي تناقضها في المستوى الاحتماعي و النفسي : الأولى المرأة الأرستقراطية المتعالية التي تقف في الأوتوبيس معتدة بذاتها من خلال وصفه لمظهرها الخارجي وسلوكها و حوارها مع المرأة االمسكينة حول ابنها المعاق، والآخر القناع؛ و لعله سائق الحافلة، ورصد التحوّل المفاجئ الذي طرأ على الموقف كله كما تبدّى في انهيار المرأة الأرستقراطية أمام المشهد الإنساني، والسلوك العدواني للسائق تجاهها، ثم الإشفاق عليها بعد أن طردها و أذلّها، رؤية تحليلية للحظات معبأة بالتوتر : الاكتظاظ بالرّكاب و الطفل البدين المعاق و السلوك العدواني للسيدة الأرستقراطية، ثم اجتماع الضعف و التعاطف بين السائق والسيدة، حشد متراكم من التوتّرات وتظل لحظة التنوير مفتوحة على فيض من المشاعر المزدوجة.
ثمة ظاهرة أخرى تتّصل بغيرها من الظواهر السابقة، تتمثل في تركيزه على بناء الشخصية و سبر أغوارها النفسيّة و تحوّلاتها، وأثر الزمن في تشكيلها من جديد بأبعادها الفكرية و الوجدانيّة، كما يتضح في قصته(ليس خطأي) فقد أسرف في التأمل واستثمار الحديث النفسي ورصد الهواجس، وما إلى ذلك، لقد أهمل الإشارة إلى اسم الشخصية متعمّدا ذلك ليمنحها سمة التجريد و التعميم ؛ بدا وكأنه يعرض لموقف مزدوج يتمثل فيه نموذجاً بشريّا، وما اعتراه بفعل الزمن من تحوّل وتعبير عن حالة نموذجية من الترقّب و القلق ؛ تماثل مقصود بين لحظة التوتر واسترخاء النموذج، وهنا تكمن المفارقة و الخاتمة المفاجئة .
لقد بدا واضحاً اهتمام الكاتب بالبعد الإنساني من خلال استحضار الحالات المرضيّة للأطفال في بعض قصصه، و الاهتمام باللحظات الحرجة التي تحيط بهم في بعض نماذج منها، و للمكان رمزيته في هذه المجموعة القصصية فالأمكان الضيقة و المحدودة،المساحة والمناطق المكتظّة، والأسواق ومساكن الصفيح تمثل حيّزاً تدور فيه الحوادث الدّالة على أنماط من السلوك و الثقافة الشعبية ، وكذلك وسائل المواصلات من حافلات وسيارات، ولها رمزيّتها المعنويّة؛ فضلاً عن دورها في تطوير الحدث القصصي ؛ فالنقلات المكانية ؛ فضلا عن النقلات الزمانية أدت إلى التحوّلات النفسية، كما نلاحظ فيما طرأ على الصديق الغائب و السيدة الأرستقراطية و السائق الجهم و العجوز المسنّة .
إن النزعة الاستكشافية بارزة تكاد تقودنا إلى مربع السرد المألوف في أدب الرحلات، حيث الاهتمام بالطوبقرافيا و الديمغرافيا و السلوك ما يحيلنا إلى العنوان وخصوصية المكان بعناصره البشرية وعاداته.
لقد قدم الكاتب في قصصه نماذج متنوعة من النساء : المرأة المتعالية الغنية و المرأة الفقيرة البائسة و المرأة المسنة القاسية و المرأة المتعلمة المرحة التي تخفي وراء مرحها مأساة، وهي التي أفاض في تحليل شخصيتها ورصد سلوكها و البحث في سيرتها و الحوار معها، واستكشاف أزمتها في ثصتع (العقل نقمة) وكانت الطفولة المعذبة رفيقا ملازما للمرأة في معظم قصصه التي التقطت هذه الثيمة.
لقد بدا واضحاً اهتمام الكاتب بتشكيل شخصياته وتقديم نماذج متنوّعة منها، وخصوصاً فيما يتعلق بالمرأة وتعاطفه معها، وربما ذهبت بعيداً في استنتاج أن بعضاً من هذه الشخصيات كانت أقرب إلى العلامات الرمزية، مستحضرا رواية (عودة الروح) لتوفيق الحكيم الذي جعل من بطلة قصته (سنية) الفتاة الجميلة رمزاً أسطورياً لإيزيس في الأسطورة الفرعونية المعرروفة (إيزيس و أوزيريس) فسنيّة (إيزيس) تمثل مصر، و الفتاة الجميلة في قصة (صورة سيئة) يمكن أن تكون كذلك، ولعلي أكون مخطئاً إذا استنتجت من سرقة الكاميرا و الربط بينها و بين الفتاة الجميلة مثل هذا المعنى الرمزي الذي يفسر اختيار العنوان (صورة سيئة) شوّهت جمال الفتاة الرمز ,
وأخيرا فقد بدا واضحاً أن النَّفَس الروائي يغلب على هذه المجموعة، فالشريط اللغوي فيها ممتد؛ وكذلك العناية بالتفاصيل ورسم الشخوص والحس السّردي التراكمي، كل ذلك يشير إلى كاتب روائي له باع طويل في السرد، ورؤيا تتجاوز الانطباع الذي تخلّفه القصة القصيرة عادة .
المصدر: مجلة اليمامة