طلسمات … صرخة الرواية الأفغانية
حظيتُ في السنوات الأخيرة بقراءات أعدّها، على الأقل من وجهة نظري، متميّزة، لكنّ قصةً أو روايةً لم تمنحني هذه النغمة السردية وهذا الملمس التخييلي كرواية (طلسمات)الصادرة والمترجمة إلى العربية حديثاً للباحث والروائي الأفغاني محمد جواد خاوري. لم أكن لأتوقع حقيقةً أنني سأكون متورطاً ومتشابكاً معها إلى آخر كلمة فيها، إنها رواية تركت لديّ نغمتها المتفردة وملمسها القوي بكلّ امتيازأثراً لا ينسى. لماذا؟ هل هو الفعل الدرامي المركزي فيها؟ هل هي رحلة بطلها الحافلة بلحظات السقوط والنهوض من تحت الرماد؟ هل هي جماليات أساطيرها وخرافاتها؟ هل هي طقوسها الاجتماعية والدينية؟ هل هي حركية بيئتها الرمزية بجبلها وقراها وبيوتها في قلب الجبل ومدنها وأسواقها؟ هل هي لمساتها الحياتية التي تستعرض حياة المجتمع بكل تقلباته وسذاجته وإشكالياته...؟ هل هو تاريخ السلطة في أفغانستان الذي قدمته في رؤية متفردة من منظور ساخر ومثير للضحك ومؤلم ونبوئي في الوقت ذاته؟
الحقيقة أنها كلّ ذلك وأكثر؛ إذ تستطيع أن ترى كلّ شيء في هذه الرواية، فهي لا تضع على طاولة التشريح موضوعاًمركزياً واحداً، بل هي الحب والسياسة والتاريخ والقضايا الاجتماعية والدينية والشعبية. هي أفغانستان كما لم ترها من قبل.
يقدم الكاتب في هذه الرواية قصة قوم الهزارة المضطهدين، الذين يسكنون الجبال بل إن منازلهم في قلب هذه الجبال، التي لم تقدمها لنا وسائل الإعلام الآن إلا من منظور الصراع مع طالبان و«القاعدة»، لكن واحداً من أبنائها هو الكتاب هنا من مكانه في المهجر يقدّمها بحقيقيتها، في هيكلٍ بنائي ليس خطياً تقليدياً، بل إنه سرد دائري يبدؤها بمشهد احتضار بطلها «نيكه» في حضن زوجته وحب حياته وأسطورته «بلقيس»، لينهيها بنهاية هذا المشهد وهو موته، ذلك المشهد الذي تتم العودة إليه واسترجاعهباستمرار، وفي القلب من السرد يتركنا كقراء نتنقل ونتحرك من جغرافيا إلى أخرى، ومن زمن إلى آخر، ومن حدث إلى آخر، في حركية شيّقة ذات ملمس أخاذ، ونحن نعيش تلك المغامرات التي حدثت وتحدث في أفغانستان.
ولأن الكاتب يعيش في المهجر، وجدتني أشاركه صرخته الأفغانية هذه، وأنا أقرأ مجتمع بلده في ثقافته الأصلية،وأرصد معه حياة شخوصه الذين يعيشون في هذا المجتمع القبلي والتقليدي المتناغم مع طبيعته، والذي لم يسعَ يوماً إلى إزالة الغموض عن هذه الطبيعة، ووجهة نظرهالبسيطة والساذجة، لكن الساخرة، تجاه العالم، وتجاهالظواهر الطبيعية والبشرية… إنها رواية تروي لنا كيف هم يعيشون وكيف يفكرون.
إذا كنا نملك نظرة إيجابية لهذا العالم الذي نعيشه فقد تغدو الأساطير مجرد وهم، لكن الأسطورة هنا أمر آخر إنها ليست وهماً إنها حقيقة يعيشونها، فإذا كانت الأساطيرالقديمة تروي قصة الآلهة، فإن الرواية هنا تروي قصة البشر؛ قصة الأسرار الكبيرة والصغيرة المرتبطة بطريقةٍ ما بالإنسان ومصيره، وكالجبل بكل عظمته وقسوته، وكذلك حبه وغضبه، تسرد الرواية قصة بشر بكل بساطتهم وقسوتهم وحبهم وغضبهم.
فالجبل ميخ في هذه الرواية، مثلاً، بالإضافة إلى كونه موطناًللآلهة في الأساطير ومحل إقامة لغير البشر من المخلوقات، له حضور بارز في الواقع الموضوعي لبيئة الرواية، فمكان الرواية هو منطقة جبلية بالكامل، حيث تعيش الشخصيات التى تُروى قصصها في هذا الجبل،بيوتهم في الجبل، ويعيشون على بركة هذا الجبل؛ يشربون من مياهه، ويطعمون ماشيتهم عشبه، ويشعلون النار بحطبه… لقد ربط الجبل حياتهم بطريقة ما... إنهم كيفما استداروا يرون جبلاً، ويعبرون جبلاً. بؤسهم من الجبل،وسعادتهم التي ينتظرونها هي في الجبل.
يمكننا أن نقول إن حياتهم الحقيقية لا تتغير ولا تتلون إلا بالتغيرات التي يحدثها هذا الجبل والألوان التي يصبغهم بها هذا الجبل، كما يمكن لنا أن ندرك أيضاً أن حياتهم لا نكهة لها من دون الخرافات والأساطير، فبها يرون أنفسهم،وبها يفهمون أحلامهم، وبها يقرؤون تاريخهم… في وادٍضيق بجدرانه الجافة، وفي جبال حجرية تمطر الغضب والعنف على وجوههم، في هذا الفضاء القصير وفي هذا السكون يستيقظون كلّ يوم؛ ليس الجبل عندهم كومة كبيرة من الصخور؛ الجبل مظهر من مظاهر الألغاز التي لا حصر لها. حتى الأشياء من حولهم لها هويتها الخاصة وتاريخها؛ فالقمر والنجوم والأشجار والأحجار والكهوف هي الأسرار والشفرات التي توسع نطاق الواقع بالنسبة لهم، وتضفي التنوع على حياتهم... لذلك علينا، إذا ما أردنا أن نتذوق متعة هذه الرواية، أن نفهم خرافاتهم وأساطيرهموأن نعيش أحلامهم.
إننا أمام رواية تخبرنا فيها هذه الشخصيات عن نفسها،وتشاركنا وجهة نظرها عن الوجود والعالم من حولنا، وعن الحياة مع الآخرين، وتحاول أن تجعلنا نفهم الوجود والعالم المحيط بنا؛ أن تجعلنا نعرف الحياة جيداً، إنها تساعدنا على معرفة أنفسنا ومعرفة في أي مكان من العالم نحن شُكلنا وتم اختراعنا... إننا أمام رواية لا تقول لنا شيئاً واحداً، إنها تقول الكثير والكثير من الأشياء، إنها تحرك الراكد فينا، وتثير قلقنا، فبعد قراءتها من المؤكد أننا لن نعود نمارس حياتنا بصمت.
تروي حياة قوم الهزارة في جبال أفغانستان واضطهادهم إثنياً أمام البشتون والسادة والطاجيك، ولكلٍّ من هذه مرتبة، ومن ضمن قوم الهزارة، تسرد رحلة «نيكه» منذ ولادته ثم الهجرة من قريته طفلاً مع أمه إلى قريتها حسنك، ثم تسلل الموت إليه طفلاً وشاباً ورجلاً، ثم أخذه إلى الجندية، ثم العودة والتمرد على خاله، ثم الهجرة إلى كابول وفترة الضياع، ثم العودة والبحث عن الكنز والوهم، ثم اليقظة، ثم الانحراف، ثم العودة إلى إثبات الذات وإلى مجتمعه، ثم اكتشاف الذات، ثم نقطة التحول والثورة، ثم القائد، ثم إيجاد حبه الحقيقي بلقيس، ثمّ مرارات هذا الحب ودفع ضريبته، ثمّ الموت... هي ظاهرياً رحلة «نيكه» لكنّها حقيقة تاريخ ورحلة الشعب الأفغاني، أما أسطورته بلقيس فهي أفغانستان التي تستعصي أن تكون لأحد، كما أنها تتمرد على أن تُسجن في مكان واحد. وخلال هذه الرحلة نعيش مع الكثير من المغامرات والشخصيات: شمن (والدة نيكه)، بيوند (خاله)، وبيجوم (زوجة خاله)، وخليفة ضامن، والأسطى نجف، ونعيم المترنح، وماما شمسية، ولا ننسى أطرف الشخصيات وأغناها الملا يعقوب، ومدل عازف الطنبور، وبسكل، وحيدر القزم، وشاه ولي، وشاه كيدو الصوفي رجل الكرامات حارس الجبل في قبره... لكننا مع هذه الشخصيات نعيش الكثير من المغامرات والأحداث الطبيعية وغير الطبيعة والجدية والساخرة، القوية والهشة، المؤلمة والمفرحة….
في بنيتها تترحّل بنا الرواية في ثلاث مراحل تمزج الطبعية بالزمن، فتنتقل بنا من الجفاف، إلى درس سنابل القمح الرطبة، إلى انهيار الجليد، واجتماعياً أصدقاء الأمس أعداء اليوم، أما سياسياً وتاريخياً فبالتوازي من المَلَكيّة (الجفاف) إلى الانقلاب وقتل الملك (درس سنابل القمح الرطبة) إلى الثورة الشيوعية (انهيار الجليد).
أما الملكية فتبدأ برؤية الملا يعقوب الدجاجة تلحس الماء بلسانها كالقطط ولاتشربه بمنقارها ولا ترفع رأسها كعادتها، فكان أن هرع إلى كتابه (الملهمة) الذي يفسر من خلاله الظواهر غير الطبيعية: ليجد تعبيراً للحادثة، فعلم أن الدجاجة إذا سلكت سلوك حيوان آخر فهذا يدل على انفتاح الطريق لتسلل الموت... أما المرحلة الثانية فتبدأ (عندما يجرّون الجِمال للنحر، فيُصاب الملا يعقوب بالذعر… فيسرع إلى فتح كتاب (الملهمة)… وفي النهاية يرى في زاوية إحدى الصفحات أنّ قتل الجمل الپشتوني يدلّ على تغيير الملك. فينتاب الملا يعقوب قلقٌ كبير، ويتذكّر أنّه في أثناء تغيير الملك السابق، عصفت ريح حمراء وسوداء إلى درجة أنّ أحداً لم يستطع أن يتنفس بسهولة. في ذلك الوقت أيضاً كان قد راجع كتاب (الملهمة) وقرأ فيه أنّ ملكاً سيُقتل في الشرق. لقد قسّم الملا يعقوب العالم إلى الشرق والغرب، ورأى كابل في الشرق… هذه المرة، أيضاً، تحقّق تفسير كتاب (الملهمة) سريعاً، فوقع انقلاب ضدّ الملك. وقال الپشتون، الذين جاؤوا في الربيع اللاحق، إنّ الملك الجديد أقوى من الملك السابق، وأخرجوا أوراقاً نقدية جديدة من جيوبهم، وأظهروا صورته. فرأى الناس أنّ رأس هذا الجديد أيضاً أصلع مثل رأس الملك السابق، ولهذا السبب لم يرَوا فرقاً كبيراً بينهما. أخرج نعيم المترنح من جيبه ورقةً نقدية قديمة احتفظ بها من أجل الأيام السوداء، ووضعها بجانب الورقة الجديدة، ونظر إلى صورتيهما، وقال: «قسماً بالله إنّ هذين الشخصين شخص واحد!»، فضحك الپشتون قائلين: «ليسا شخصاً واحداً، فالورقة النقدية التي لديك باتت الآن غير صالحة ولا قيمة لها»).
أما المرحلة الثالثة فمع انهيار الجليد جاءت الثورية الشيوعية، «ولكن هل الثورة مثل انهيار الجليد؟» يتساءل خليفة ضامن أحد شخصيات الرواية... لكن الذي حدث أن الملا يعقوب استيقظ وقد انهار الجليد على القرية وغطاها بالكامل... جعلتهم الثورة حالمين، لأنها تحمل شعار العدالة والمساواة، لكن الحلم تبخر والشعار كان زائفاً.
لقد عشت عوالم الرواية، وأدهشتني حركيّتها الرمزية، وإيقاعها المثير، وأساطيرها المدهشة، وطقوسها الحياتيةوالدينية، وتقنياتها الحكائية، فكان أن وقعت في أسر هذه الملحمة الأفغانية، فأبحرت في جغرافيتها من سفوح جبل ميخ إلى كابل، وحاورت عميقاً شخصياتها المتنوعة: القروية الساذجة في قمة البراعة، والسياسية المثيرة للسخرية إلى حدّ الوجع، والدينية المثيرة للجدل إلى حافة الخرافة، وعايشت أحداثها ذات الإيقاع السيمفوني المتصاعد والمثير للغضب الممتع…. لقد لخّصت مأساة أفغانستان (بلقيس) وشعبها (نيكه) باختصار.