صعود الصواب في سُقُوط الأخطار

نوره بابعير

صعود الصواب في سُقُوط الأخطاء

من يعرف الطريق يُختَصر العديد مَن الوجهات و من يفهمُ الغاية يستطيع أختيار الرغبة بعناية ومن يسقط إمام خطواته كأن عليه أن يُدرس معنى الفشل ومن يُعرف الاستقامة لاَ يخشى الاهتزاز من تعرج المواقف ، ومن يبحث عن هدف لا يكترث للأشياء بقدر ما تخصه .

من يعرف الإنسانية يفهم الإنسان الذي يسكنه ومن وضع النقاء نصاب عينه مالت الذّات إلى نقاء خيرها ، ومن يسعى في الشر مات غريقًا قبل أن يُغرق غيرهُ ، تِلْك الأشياء تحدث ومع أحداثها تعلن معناها ، وتترك الفهم لمن يجيد الفَهْم ولمن لا يحسن صوابهُ .

من يُصنَع التميز فهو في حاجة التغيّر ومن يسلك التقليد فهو في مأزق الكسل ، ومن يُترك الفوضى تبنّي لَهُ الطرقات فكل الطرقات فارغة منه لا وصول إليه سوى التأخر فيَ متاهة الإنتباه ، ومن يُترك التوازن ينبي لَهُ الطرقات نال مرادهُ .

الكل نصفان بينهما قائدًا و أحدهما تائهاً وتلك اللقطات التي تحدث بينهما هو أختيار من قبل احتياجاتهم أو مَن مخيلاتهم التي صورت لهم الأفضلية في هذا المسارات .

لا شيء يبقى كما هو سوى إنسان تخلى عن فكرهُ وظل في ظلال غيرهُ ولا تقدمًا بلا أقدام تسيّرُ في مسار أهدافها ، ولا قوة بلا ضمير يقود الإنسان إتجاه إحسانه ولا قيمة بلا إنسانية تحفظ للذات مستوى تقديرها .

الحديث بين الداخل والخارج يصنعان الحاجة في ذاكرة العقل ثم يضعها العقل إمامه وكأنه يبحث عن شيء يهضمها ليخبرهُ عن ثمن أختلاطه بالذّات و بغيره ، يبدأ العقل يشرح اشيائهُ بتفاصيل مرتبطة بالوعي و باللاوعي ،

من يعرف يفكر لن يخرج عن دائرتهُ ومن يعرف الفرط سوف يظل مباليًا لا شيء يفيده ، وما يخبرهُ الفكر هو نظرة العقل عن الحلول أو عن الوقوع ، و أحدهما تأخذ الإنسان في صراعاتها الاقناعية من جهة مفهومها .

ومن يعرف الزاوية يعرف كيف يسير معها ومن يفقد الفهم فيها تبقيه في تفرعاتها التي لا نهاية له تحاصره بلا سد فجواتها بل تفقدهُ الكثير من الأشياء وهو لا يعلم أين صوابها .

التّفكير يضع الإنسان أمام نفسه بلا حدود أو تدخلات و يقدم له الإنتصار و الانهزام في آن واحد يجعله هو المشكلة الأولى منذ بداية خطواته ؛ لإن التّفكير يتسِع بنضج العقل و يضيق بجهله وهذا لا أحد يستطيع أن يحدده أو يراه من البداية فهو يتشكل على حسب الإنسان نفسه .

في مدائن العقل كلنا مغتربين

نوره بابعير

” في مدائن العقل كلنا مغتربين”

تضيّع الأفكار حينما نضعها في كفاً واحد لا نجعلها تتشكل بما يتلاءم مع وقتها ، نرفض الاتساع الذي يضع المستجدات الفكرية وَ القدارات الفعلية ، تفقد بريقها كلما قلّة قيمة حضورها و تعمدت بالفتور بدلًا من الوجود . كل الأشياء تُصنع نفسها منذ إعلانها بالبقاء .

تقتل الذّات أفكارها حينما تخلق الحاجز و تحجب عَن ستارها إضافات غيرها ، ينمو العقل في مكانًا ما لا يتشبَّثَ بشيئاً سواها . تظن النفس أنها تنمو ولكن ذلك النمو هزيلًا في جدواها.

تِلْك الأفكار هي العمران للعقل أن ثبتت أعمدتها زانت شرفاتها و إن تمايلت فقدمت التدهور على مهلًا تسمم الأشياء ببطء حتى لا يبقى منها سوى استذكارًا لا يهم من ذكرها سوى ذَات اخطئت في حق نفسها .

القوّة التي تنمو عليها العقول و الأشياء و الحياة و المفاهيم كلها تبدأ من صواب أفكارها ومن لا يجيد الأفكار فلن تجيده الإنجازات ، سوف يسعى جاهدًا بلا معنى .

للأفكار معنى …
على الإنسان إن يفهم المعنى من المغزى ليبقى ذو قيمة ذاتية إتجاه نفسه ، و القفزات التي يبحث عنها الإنسان بفطرته هي الحصول على الحاجة المرتبطة بأولوياته و احتياجاته .

الإشباع الفكري و الذاتي علامة فارقة في التقدّم التوعوي للعقل و للنضج الجسدي ، المعنى دائمآ تسعى في تحريك العقل مع انضباط الجسد حتى يخلق الانسجام في بناء وعي متكامل في صناعة الأفكار ذات تأثير معنوي .

للفهم معنى …
يقيم العقل افكاراً بناءً على ما يتكون به من الداخل وربّما يرتبط بالخارج ، ليكون العقل في منطقة فعالة في إيجاد محاولة الفهم من حقيقة المعنى ، و التقريب المعنوي يحدث مع تخاطب النفس مع ذاتها لتبقى ذات مؤهلات و مؤشرات واقعية تشير إلى معنى واضحة ، لإن الفهم أساسًا يعتمد على الوضوح في المقصد ، وتلك المقاصد قد تكون من أجتهادات بشرية مختلفة لكنها تستطيع أن تبين المعنى في ذاكرة شخصها .

بين الأفكار و الفهم صِلة عميقة قد ينتج عليها الإنسان معناها الحقيقي من خلال حواراته المعرفية أو بالأحرى الناتج عن بحث المعرفة في مجهولها .

قد نجهل القوة التي نتلقاها من خلال عقلانيتنا لكن من المفترض أن نسعى دائمًا في أتساع دائرة أفكارنا فهي المحرك الأساسي في تغيير مجرى حياتنا .

“هنآك انفعالات و أساليب وقيم ومبادئ تضع للنفس هويتها المتمكنة من الذّات وما يجعلنا نغرق في التقاليد قد نفسد على بعضنا بالإتباع التقليدي دون أن نبرز المستجدات الفكرية في خطوات طريقنا وهذا ما يجعل البعض يتأخر في تحريك وأتساع دائرة الوعي بصورة متوازنه مع حياته

«قتلى في بلاد العجائب» تفكيك عالم المتناقضات في النفس البشرية.

«قتلى في بلاد العجائب» يُحلِّق مرجان أوديك بالقارئ في رحلةطويلة يتردّد صداها في ثنايا الرواية فتثير بين أفراد الشرطة، الباحثين عن المشتبه فيهم، علامات استفهام كثيرة حول حوادث قتلغامضة.

ربما تكون الرواية هي النوع الأدبي الوحيد القادر على طرح أسئلةعن ماهية الحياة الإنسانية بحُلوها ومُرّها، وهي بذلك تمتاز عنغيرها من الفنون الأدبية الأخرى بأنها تتيح للروائي، بالإضافة إلىإمكانية الغوص في أعماق النفس البشرية والدخول إلى عوالمالإنسان بخيرها وشرها، الكشف عن حالة الشخصية المحوريةالمحمّلة بعُقَد نفسية ناتجة عن ضغوطات اقتصادية تعانيها داخلالمجتمع، وعلاقة ذلك بدلالة الفضاء المكاني، مسرح الجريمة، فيمحاولة منه لتأطير صورة المشهد المخيف والإفصاح عن الحالةالمضطربة للجاني الذي يسعى الى تقويض أسس وقواعد الأمنالمجتمعي من حيث كونها وحدة سيميائية تتحرّك داخل النظامالروائي السردي وتقود، في نهاية المطاف، الى الكشف عن وقوعالجاني تحت طائلة المسؤولية الجنائية أو إمكانية انتفاء المسؤوليةعنه.

يستثمر مرجان أوديك موهبته الأدبية وإحساسه بمختلف المشاعرالإنسانية في الكتابة عن أدب الجريمة؛ وذلك لما يحمله هذا الأخيرمن إثارة وتشويق وغموض وتعقيد في التفاصيل وتفاصيلالتفاصيل وفقاً لخيال كاتبنا عند تناوله للأحداث، وما يترتب علىذلك من استعراض لمسرح الجريمة وأساليب المجرم في إخفاء الأدلة، ومحاولات الشرطة المضنية في إماطة اللثام عن دوافع الجريمةوملابساتها عبر تقنيات علمية وراثية في علم الإجرام. فمسرحالجريمة الذي يشكل البنية الأساسية لنصنا السردي جاء ليعكسجغرافيا مكانية مخيفة أثَّرت تأثيرا مباشرا في إنتاج حزمة منالدلالات السلبية: الخوف، القلق، الفزع، المعاناة. هكذا يتشكل البعدالدلالي لمسرح الجريمة عبر السياق الزمني من حياة الجاني. كمايكشف مسرح الجريمة في هذا العمل الروائي عن خصوصية المكانالذي يحمل بين ثناياه آلام الفقد والخوف من القتل.

إن طبيعة العلاقة بين المكان والحالة النفسية لبطل الرواية، فرضتنفسها على القارئ وجعلته يغوص مع الكاتب في أعماق النفسالتي يمكن أن تدفع الإنسان الى ارتكاب أفعال اجرامية على مسرحلا فوضى فيه ولا صخب ويُخيّم عليه صمت كصمت القبورفأكسبته بعدا رمزيا جردت الضحايا من حولها وقوتها وجعلتهمينساقون الى حتفهم بأرجلهم. استطاع مرجان أوديك أن يطرحرؤيته عن نفس الإنسان غير السوي؛ إذ يشير عنوان الرواية إلىدلالة المكان المحورية «بلاد العجائب»، والدور الذي يؤديه المكان فيالسرد، إلى جانب شخصية الفتاة «أليس» التي استمر حضورهاعلى الرغم من اختفائها.

بطل هذه الرواية زوج فقد زوجته ومتّهمٌ بقتلها، ورجال الشرطةيبحثون عن قاتل هذه السيدة، وعن قاتل أوقتلة سيدات أخريات تمّ قتلهنّ في ظروف غامضة. يغوص الروائي الفرنسي مورجان أوديكفي أعماق النفس البشرية بدافع المغامرة لسبر أغوار أسرار هذهالجرائم، وأساليب المجرمين، وما يصاحب ذلك من عناصر تتعلقبالتشويق والإثارة؛ إذ تختلط مشاعر الخوف بالغضب، وذلك لجذبالقارئ وجعله متابعاً للقصة من بدايتها حتى نهايتها. ستختفيالسيدة ألِيس زوجة أندرسن المحامي المقيَّد في نقابة المحامينبباريس منذ ثلاث سنوات. كل الناس من حوله يطرحون نفسالسؤال: هل قتل أندرسن زوجته؟ يفقد أندرسن الذاكرة نتيجةلتعرضه لحادث قوي بعد أيام قليلة من اختفاء أليس. لمدة ثلاثسنوات وهو يحاول جاهدا استعادة ذاكرته. يتم رصد مبلغ كبيرمكافأة لمن يدلي بمعلومات عن الزوجة المختفية. يتسلَّم أندرسنرسائل نصية غامضة علي شكل أسئلة مشفرة تفيد بأن زوجته لاتزال على قيد الحياة. يستأجر الزوج المهموم مخبرا خاصا من أجلالبحث عن زوجته الشقراء التي أصبح اختفاؤها لغزا محيرا. موتعدد من الضحايا الأخريات اللاتي تم قتلهن أصبح أيضا لغزامحيرا. باءت محاولات الزوج في العثور على زوجته كما باءتمحاولات رجال الشرطة بالفشل وأصبحت محاولاتهم كمن يبحث عنقطة سوداء في غرفة حالكة الظلام. ما الذي حدث للزوجة؟ ألا تزالحية؟ أم أنها ماتت؟ وما علاقة اختفائها بوقائع مقتل نساء أخريات؟

استغل الكاتب أيضاً اختفاء هذه الشخصية عن الأنظار ليُعبّر، منخلالها، عن رؤيته حول ملابسات اختفاء فتيات أخريات ضمن مناخقاتم تحاول فكّ طلاسمه ضابطة شرطة سابقة، وتتداخل محاولاتهاالبائسة مع محاولات فاشلة لفريق من شرطة مكافحة الجريمة. ولأنرواية «قتلى في بلاد العجائب» تنتمي إلى عالم القصص الجنائيالواقعي شديد التعقيد، فقد استثمر الكاتب مجال أدب الخيالالإجرامي است ثماراً ذكياً من أجل أن تكون عقدة قصته لغزاً غامضاً تستدعي القارئ النموذجي القادر على فك شفراته.

من جانبه، يحاول كاتب رواية «قتلى في بلاد العجائب» تفكيك عالمالمتناقضات في النفس البشرية، وقد تمكن من أن يجول بالقارئ بينجريمة وأخرى؛ وهذا ما أضفى على الرواية نكهة خاصة جعلتمسرح الجريمة يمثل شكلاً من أشكال القبح، الذي يثير في القارئمشاعر الشفقة على الضحية، والنقمة على الجاني.

د.أيمن منير

المصدر: جريدة الجزيرة

صنيع الحب

ولاء الشمري

اثناء ممارستي لرياضة المشي، كان مقبل من بعيد رجل مسن، مطأطئ الرأس، يخطو بثقل وعلى مهل، فقد بدا لي انه حزين وهذه ابسط ملاحظه..
حتى فجأه رأيت على طرف الطريق سياره بها ثلاثة اطفال مع سائق، نزلوا واقبلوا عليه، واخذوا يتراكضون نحوه بكل لهفه وهمّوا بتقبيله، تارةً على جبينه، وتارةً على يديه، لقد احاطوه من كل جانب، ثم لوحوا له بتلويحة الى اللقاء، وركبوا مع السائق وذهبوا..
كان المنظر كالنسمة البارده في شهر آب..!
ما ادهشني ان هذا المسن، قد تغيّر تغيّراً كاملاً، وجدته يسرع في مشيته، فارداً اكتافه، رافعاً رأسه، مبتسم، مقبل، مسرور، نشط، خفيف..
تُرى من هم وماذا فعلوا به حتى ازداد قوه، حتى تعافى، حتى عادا الى شبابه، وتبدلت ملامحه الخريفيه الى ربيعيه!؟
اهكذا يفعل الاحتواء، اهذا صنيع الحب، اهذه نتائج الحنيه!؟
بهذه البساطه يتغير حال المرء، بحضور من يحب، بلمسة من يحب، بمشاعر من يحب، بكلمة من يحب، بتواصل من يحب، بصدق من يحب!
يقول غابرييل ماركيز في وصيته:
“حافظ بقربك على من تحب، أهمس في أذنهم أنك بحاجة إليهم، أحببهم واعتن بهم، وبرهن لأصدقائك ولأحبائك كم هم مهمون لديك..”
#بقلمي

العائق هو ما يجعل الرغبة أكثر وضوحًا وظهورًا .. من مذكرات إرنستو ساباتو

يوم الأحد، قبل المغادرة.

 

كانت الأمتعة جاهزة في وقت مبكر من الصباح. أشرب القهوة وألقي نظرة على الصحف. وقرابة الساعة التاسعة صباحاً، ستحلّق الطائرة التي ستعيدنا إلى بوينس آيرس.

وبعد ذلك، كما هو الحال في أوقات أخرى، حينما أشاهد الأخبار، أو أقرأ الصحف، أو أستمع إلى الناس؛ غالباً لا أفكر كثيراً فيما يُقال، ولكن فيمن يظل صامتاً؛ فهو من يقول أشياء كثيرة. أفكر في الكلمات التي لم تعد تردد على المسامع؛ مثل: التنفس، والخير، والتلقائية، واللامتناهي، والروح؛ تلك الكلمات التي استخدمناها في شبابنا على الأقل عند إهانتهم وانتقادهم، ولكن -رغم كل ذلك- كنَّا نقدرهم، وعرفنا وشعرنا بثقلهم وخطورتهم.

بعد ذلك، وخلال سنوات، يتم استعادة أحدهم، ولكن يعتريني حينها -في كثير من الأحيان- حزن لا يوصف، حزن يشوبه رعب؛ بأنهم لن يعودوا موجودين بين أيديهم لكي تتمكن الأجيال الجديدة من معرفتهم، ومعرفة وجودها.

 أرى أنهم اختفوا من الثقافة، بكل بساطة ليسوا موجودين.

هناك مثل هذا الاستبداد «للواقع» التاريخي، والسياسي، والاقتصادي؛ حيث لا يتم حتى توقع حدوده.

ومع ذلك يفتقر الإنسان اليوم، ربما كما لم يحدث من قبل في مجال الشعر الأسطوري الذي يحمي الوجود. أنا لا أشير إلى «الأفكار» بل أقصد أن أشير إلى وعاء يمتلئ بالحياة، ومؤامرة إلى أين تذهب بذرة الوجود، وعن كيفية إظهار ذلك. لا أعرف كيف أشرحها.

طالما أُلقيت اللوم على احتياجاتي إلى المطلقة التي تظهر من ناحية أخرى في شخصيتي. هذه الحاجة المُلحة تنفذ عبر حياتي كقناة أو نفق؛ مثل الحنين إلى الماضي، الذي لم أكن لأصل إليه أبداً. ربما تكون بعض الأشياء المُلحة، والعلامات غير المفهومة؛ مثل الضباب الخفيف في الأفق اللامتناهي، صامتة لمطالب الرجال.

حتى لآلام الرجال، حتى لآلام الأطفال.

لمحات تتساقط في المساء، لحظات من النشوة في نهاية عمل تتجاوزني، أو في مواجهة الهاوية. حنين لا يمكن تحمله من المفاهيم، ولكن بلا شك يقول ذلك، وقد أظهر له كل تجعد في جسدي، وكل تلجلج في نبرة في صوتي.

الحنين إلى الماضي هو شوق، ذكرى المشاعر اللامتناهية الموجودة في العالم. لا يمكنني شرح ذلك؛ لكن الذاكرة المتسقة بدت كأنها طريقة للوجود. نظراً إلى أننا لم نختبرها أبداً، فإننا نميلُ إلى وضعها في مرحلة الطفولة، ربما لإعطائها قسطاً من الراحة.

لم أستطع أبداً تهدئة حنيني إلى الماضي أو تسكينه، أو ترويضه، وأقول لنفسي إن هذا الاتساق كان وقتاً في طفولتي؛ كنت أتمنى لو كان ذلك، ولكن لم يحدث. كنت فتى شديد الحساسية، كما قلت بالفعل، وعرضة للمخاوف والشكوك وعدم اليقين. لذا إن الشعور بالحنين إلى الماضي بالنسبة إليّ هو شوقٌ لم يتحقق أبداً، ولاسيما هو ذلك المكان الذي لم أتمكن من الوصول إليه أبداً.

ولكن هذا ما أردنا أن نكونه؛ هذه هي أمنيتنا. إلى درجة أنكَ لا تستطيع أن تعيشها، إلى درجة أنك تصدق أنها خارج الطبيعة. إذا لم يكن الأمر كذلك، فإن أي إنسان يحمل في نفسه هذا الأمل في الوجود، هذا الشعور بأن شيئاً ما مفقود.

 إن الحنين إلى الماضي هذا الشيء المُطلق يشبه خلفية غير مرئية، وغير معروفة، لكننا نقيس بها كل الحياة، وإلا فإننا نسميها «محدودة لوقت وزمان معلوم»، كما لا نسميها «محدودة» لامتلاك ذراعين فقط. هناك شيء داخلنا يرفض تقبل الموت. ربما، كل ما نفعله ضد هذه الأدلة، وقولنا «لا» هو «نعم» لذلك الشيء الآخر، ولذلك الانتماء إلى حياة بلا موت، من دون عنف كثير، ومن دون حروب… تلك الحياة التي هي صورة لطريقة حياة مغايرة للعيش، ولحياة أخرى، حتى لو كنَّا نعيشها فقط على الهامش أو في وضع سلبي. أفتقدها، وأشتاق إليها… وكذا أفكر في كافكا الذي قمت برسم عدة لوحات له! يبدو أن كل أعماله قد تخطتها تلك الأمنية فيما يعرف بالمطلق، وهي رغبة مدفونة تحت الوساطات التي يضعها النظام لتغطية أعماق الإنسان، والتي لن تجعل أحداً يؤمن بـــــــ«المطلقات» الدوجماطيقية  اليقينية. لكن لا شيء -في عمله- يمكن أن يمنع شخصياته من الاستمرار في التمني، وفي الاستمرار والتمسك بالأمل… ولا حتى الفشل.

ربما كافكا، مثله مثل أي شخصٍ آخر، قد وضع موضوع القرن العشرين بأنه: العقبة. وعلى الرغم من ذلك؛ مثل حجر في نهر، إن هذا العائق هو ما يجعل الرغبة أكثر وضوحاً وظهوراً. كالحجر في مجرى النهر.

 

 

 

مخاض العزله

ولاء الشمري

يبدأ تكوينك وانت في الرحم، وحيد مطمئن
تأخذ وقتك الكافي ف تتهيئ للخروج للحياة، للانطلاق، للتجارب..
يمشي بك العمر، وتتكاثر عليك الخيبات والصدمات
والانكسارات والمسؤوليات، ف تتعب وتنهار وتقرر ان تلجأ للوحده والعزله والاختباء والسكون، هذه المنطقه الآمنه، التي تشبه الرحم!
تأخذ وقتك الكافي فيها، ف تتهيئ مرةً اخرى للحياة، للانطلاق، للتجارب..

لكن لا احد يعلم ان من يختار الوحده دائماً، هو في الحقيقه مات شيئاً فيه، ف يبتعد وينطوي حتى يولده من جديد..
ف لا تستعجلون احداً وهو في رحمه الخاص، دعوه يتكون من جديد، دعوه يخلق من جديد، دعوه يستعيد ما مات فيه من جديد..
وكلما طالت فترة العزله، وتعسرت الولاده، كلما دل هذا على ان ما مات، كان شيئاً عظيماً..

جميعنا سنبقى هكذا طيلة العمر، في حالة ولاده ذاتيه مستمره، وخلق مستمر لأشياء تموت فينا بعد كل خيبه وخذلان وانكسار وفشل..
المنعزل ليس فارغ، المنعزل مشغول..

يقول ماركيز: ” لا يولد البشر مرةً واحده، يوم تلدهم امهاتهم وحسب! فالحياة ترغمهم ان ينجبوا انفسهم ”
#بقلمي

مرّ من هنا ، قصة بعنوان : خدوش على ظهري ، غازي

قطّب الطبيب حاجبيه في ذهول، بدأ يتلمس أماكن الخدوش بحذر كي لا يؤلمني، لكنه آلمني جدًا، صرخت بقوة أوقعت القلم الموضوع على حافة الطاولة، قال: “لا بأس، سأكتب لك ورقة للمضمد، أريدك قويًا لتتعافى بسرعة”، نهضت دون أن أجيبه، ألبسني أخي ردائي الداكن لنخرج.

دخلنا غرفة التضميد التي حفظتها، سلّم المضمد عليّ كما يفعل غيره، تكفّل أخي بالإجابة هذه المرة: “أنا في عجلة، هل يمكنك إنجاز الأمر بسرعة من أجلي؟”، يفعل ذلك في كل موقف يكلمني فيه الناس، بعد ذلك عدنا إلى البيت ودخل معي، فلم يكن هناك مشوار ولا عمل ليُنجز، لكنه يعلم أني لا أحب الرد على الغرباء.

ظل ممسكًا يدي بقوة كما يفعل عادة، لا يحب الأمر كثيرًا، لكن أمي دائمًا تطلب منه ومن أخواتي ذلك، فحرارة جسمي إن غضبت لا تنخفض إن بقيت في نفس المكان، أحب أن أخرج دون إذن أو إخطار، لا أنوي العودة إليهم، لكنهم يجدونني في كل مرة.

دخلنا للبيت؛ فاستقبلتني أمي بذراعين مفتوحتين، تجاهلتها وذهبت لألعب سباق السيارات في المضمار الدائري البلاستيكي، لا أملّ هذه اللعبة أبدًا، بل لا أتركها إلا حين أحن للعبة الدوّامة المربوطة بحبل صغير، أو حين أجد كرسيًا قريبًا من الخزانة؛ فأصعدها وأقفز إلى الأرض، ثم أعيد الكرّة مرات ومرات، تألمت من بعض قفزاتي، لكن سعادتي فيه تشجعني لتكراره.

لم تكن تلك المرة الأولى التي يضربني بها أبي، في كل مرة يغضب مني؛ يكرر ضرباته القاسية حتى تصل لهذا الحد، وفي مناسبتين سابقتين زاد قوة ضرباته، فاستدعى الطبيب المحقق المناوب في المستشفى، وفي كلا المرتين يخرج بلا خطيئة، أوقّع ورقة يسمونها تنازلًا، أبي يأمرني بالتوقيع، أمي وأخي يصمتان، أما الضابط فيستمر بالإلحاح بصوت منخفض لئلا أفعل، لا أعلم ما الأمر، أكتب اسمي نهاية الورقة، فلا أرى ابتسامة إلا من أبي، ثم نخرج من تلك الغرفة، ونعود للبيت لتبكي أمي، ويغضب أخي.

أنا أتحمل جزءًا من اللوم، فحين يسألني الضابط لا أجيب، يظنني في البداية خائفًا من غضب أبي، يحاول طمأنتي بأن الأذى لن يمسني لو تكلمت، بل كان يقسم أن يحميني من أي سوء قد يطالني، كل هذا في سبيل وضع حدّ لما يسمّونه: (تعنيف الأبناء)، لكني لا أتكلم؛ لأني ببساطة لا أريد.

أنا أكره أبي، لا أدري لماذا لا يريد أن يفهمني، رأيته مرة جالسًا في الصالة؛ اقتربت منه وارتميت في أحضانه، أمسكت بيده الكبيرة، وضعتها على رقبتي من الخلف كي يتلمسها وينزل بلمساته إلى ظهري، يفعل ذلك إن كان مزاجه بخير، ونادرًا ما يكون كذلك، لكن في تلك المرة أمسك شعري بكلتا يديه وهزّني، بصق عليّ وصفعني، ثم قذفني بعيدًا عنه، لم أبكِ… فضرباته لم تؤلمني، أحسستها لمسات ثقيلة قليلًا، لكنها غير مؤلمة، نزل ماء من عينيه، أخفاه بسرعة ومسحه، صرخ في وجهي لأذهب إلى غرفتي، هذه المياه تخرج من عيني أحيانًا، لكني لا أصرخ في وجه أحد، أمي كذلك لا تصرخ، فقط أبي يفعل.

دخل عليّ الغرفة بعد دقائق، جلبه صوت التكسير والضرب إليّ، هكذا أفعل منذ كنت طفلًا، إما أن أحظى بما أريده، أو أكسّر كل شيء حولي، الأشياء في غرفتي لا تنكسر، بعكس تلك الموجودة في الصالة التي يُدخلون إليها الغرباء.

أضرب رأسي بالحائط وبالأرض، لا أتألم أبدًا، بل أراهم هم الذين يبكون من ضربي لنفسي، فأزيد الضرب كي ينتبهوا لي، يمسكوني بقوة ويتلمسون يدي وظهري وكل جسمي، أشعر بالراحة قليلًا، أصرخ بشدة إن لم يفعلوا ذلك.

حاول إمساكي ومنعي من الضرب، دفعته دون أن أنظر إليه وأسقطته أرضًا، يريد أن ينتقم لنفسه مني، لكنه لا يستطيع، أنا أضخم منه جسمًا، عمره كبير، وجهه مجعد ومرتخ، أما أنا فأستطيع حمل الكرسي بيد واحدة، وأدفع بعض الأغراض بسهولة.

تدخلت أمي أخيرًا، وساعدها أخي، صرختْ في وجهه: “ابنك توحدّي، افهم”.

 

(الاستعجال ام التأني)

ولاء الشمري

تستعجل الشاي لكي يبرد وتشربه، فتحرك الملعقة فيه اجباري..
تستعجل الطبخه لكي تنضج وتأكلها، فترفع النار عليها اجباري..
تستعجل القميص لكي ينشف وتلبسه، فتعرضه للحراره اجباري..
تستعجل سماع “احبك” لتنتشي بها، ف تضغط حبيبك للنطق بها اجباري..
فتشكوا من قلة جودة حياتك!
وتشكك في مصداقية النتائج ولن ترضيك..
نعم قد تتحقق لك الاشياء ولكن لا بطعمها الحقيقي ولا برائحتها الحقيقه ولا بلونها الحقيقي..
انظر من حولك، هل جميع ما تملك استمتعت بالحصول عليه، ام حتى هذه المتعه اجباريه؟
هل اخذت الوقت الكافي للاحتفال بنجاحك؟
هل اعطيت نفسك استراحه بعد انجازك؟
لا تلم احداً ان كانت حياتك سطحيه، لا شيء فيها عميق
لا مشاعر ولا اشخاص ولا ماديات ولا ذكريات..
انت الذي لم تحترم طبيعة الاشياء، وحاجتها للوقت المناسب والكافي..
وهناك من خالفني مخالفه جميله فقال لي:
“إن مايجعل القصةَ قصه هو الاستعجال! ففي الاستعجال قصة نرويها نتعلم منها لكننا نعيشها..”
#بقلمي

الجمال والقبح .. الجمال هو الحقيقة

الجماليات المجسمة

في مقالةٍ نُشرت في الدورية الأدبية السياسية المراجعة الفصلية (Quarterly Review) لـ شهر نيسان/أبريل 1900، تتناول السؤال في مقالة تولستوي (Tolstoi) «ما هو الفن؟»، اغتنمتُ الفرصة لألمح إلى علم جديد في الجماليات أراه قادراً بالفعل على حسم بعضٍ من الحجج التي ساقها الروسيُّ الكبير، ويمكن أن يُظهر مصالحةً بين الفن والحياة تختلف عن استنتاجاته المتقشفة. يهدف موضوعُ الصفحات التالية إلى توصيف بعض هذه الميزات الجمالية الجديدة لتحديد المشاكل المختلفة في سعيٍ تدريجي لحلها، وللإشارة إلى المسارات الدراسية التي قد تفضي في نهاية المطاف إلى حلها.

لقد قلتُ إن هذه الجماليات جديدة، وعليّ أن أضيف أنها لا تزال أوّليّة ومليئة بفرضياتٍ غير مبرهَنة بعْد، وبثلّة حقائق تحتاج إلى أن تُربط بِصلةٍ جليّة مفهومة. لا يمكن للأمر أن يكون خلاف ذلك. وفي حين أن جماليات الماضي كانت، في الأساس، فرعاً من الفلسفة الاستدلالية الصرفة، التي تعتني بالأحرى بتماسك المنطق أكثر من اعتنائها بالتحقق من وجود الشيء، وهي لهذا تُعدّ فلسفة نظامٍ منهجي وعقائدي؛ إن جماليات اليوم، على نقيض ذلك، ليست كما يشرح كاتبٌ مفرد أنها ما ينتج عن اتفاقٍ عرَضي بين مختلف الطلاب، وأنها التقارب -الحتمي أكثر منه الفعليّ- بين أنواعٍ عدة من الدراسات. وسبب هذا الأمر أن المشكلات المتعلقة بالجمال والقبح، والمتعلقة بتلك الأنشطة الفنية، التي تزيد من مشكلات جمالياتِ أحدهما وتقلل من مشكلات الآخر -هاتين المشكلتين في الجماليات- تتم مقاربتها من جهتين، ومن مجموعتين من الباحثين الذين غالباً ما تجهل مجموعتهما وجودَ المجموعة الأخرى، وغالباً أيضاً ما يجهلون المسائل ذاتها التي يضيّقونها، في ما بينهم هم وشركائهم المجهولين لهم، لتصبح وجوداً قطعياً محدداً.

هذه الدراسات غير المترابطة، التي تتجمع بشكلٍ لا واعٍ في العلم الجديد للجماليات، هي نفسها حديثة وغير ناضجة. إنها دراساتٌ تشمل، على التوالي، علمَ العقل، الذي لم يَفصل نفسَه عن الفلسفة العامة إلا مؤخراً فقط، وأيضاً مختلفَ العلوم التي تتناول مقارنةَ الشكل الفني وأصلَه وتطورَه، وهي لا تزال تعتمد على دراسات الأعراق البشرية الإثنوغرافيا ودراسة المجتمعات والثقافات البشرية الأنثروبولوجيا من ناحية، وعلى علم الآثار وما يسمى خبرة التذوق من الناحية الأخرى. ومن ثم من المهم معرفة أن الموادَ اللازمة لعلم الجماليات،

 

التي خلّفها الماضي لنا، موجودةٌ كحقائق متفرقة، وملاحظات جزئية وفرضيات غير مكتملة، مبعثرة في أعمال الفلاسفة مثل “أفلاطون” و”أرسطو” و”كانط” و”شيلر” و”شوبنهاور” و”سبنسر” من جهة، ومن جهة أخرى، في أعمال متخصصين في بعض فروعٍ فنية محددة مثل “وينكلمان” و”موريللي”، أو في أعمالِ مرافِعين عن قضيةِ فنان معين مثل “راسكين” في «الرسامون الحديثون» (Modern Painters)، و”نيتشه” في «قضية فاغنر» (Wagner Case). وإلى جانب هذا، تتبقى كمية كبيرة من الحقيقة والنظرية القابلة في المحصلة للتطبيق على جمالياتٍ في كتبٍ حول الأطفال والبدائيين والمختلّين، وكل الأدب بأكمله الذي يمثله، بما يثير الإعجاب، الأساتذةُ “إرنست جروس”، و”يرجو هيرن”، و”هنري بلفور” أما فيما يتعلق بالأساليبِ التي سيتم توظيفها، والمقارباتِ التناظرية التي ستُتّبع، بل الأسبابِ الكامنة وراء هذه الظاهرة قيد النظر، فسيتم تعلّمها بشكل أساسي من علماء الأحياء، وعلماء النفس، وطلاب التطور العقلي والجسماني، الذين يسيئون، في أغلب الوقت، فَهمَ وجود الجماليات ذاته، أو يزدرونه.

الهدف من ورقة البحث الحالي هو إظهار بعض النقاط التي تنحو لتلتقي عندها كل هذه الدراسات المنفصلة، على أملِ أن تسهم محاولةُ رسمِ المجال الملتبس للجماليات في تعريف حدوده ومساراته، ومن ثم في تطويره المنهجي الشامل.

……..

تتضمن المشكلة الأولى لعلم الجمال تعريفاً للصفة التي تأخذ منها هذه الدراسة اسمَها؛ وتعريفاً للدراسة نفسها. لا نحتاج إلى أن نشقّ على أنفسنا، أكثر مما نفعل مع مسائل تاريخية أخرى، بمغامراتِ كلمة «الجَماليّ aesthetic»، وتحوّلِها من صفةٍ فلسفية مرتبطة بالإدراك إلى صفةٍ حالية ترتبط بالفن (art) وبالجميل (beautiful). ولكن من المهم أن يقرر المرء في ما إذا كان ينبغي أن يعدَّ الكلمةَ، تبعاً للاستخدام الخاطئ لها حالياً، صفةً تشير إلى الفن  (art)أو صفةً تشير إلى الجمال (beauty)؛ فاستخدامُ المعنَيين لهما تناوباً قد ساهم، لدى معظم الكتّاب، بدرجة لا يستهان بها، في تشويش هذه الأسئلة المعقدة أصلاً. لَئِن كانت صفة «الجَماليّ aesthetic» تُطلَق على «ما له علاقة بالفن»، وتعني كذلك «ما له علاقة بالجمال beauty»، فيجب، إذاً، تحديد المفهومَين وسلسلة لاحقة بهما من المناقضات الذاتية. لا يمكن لأحدٍ، على سبيل المثال، إنكار أن المسرحية والرواية والشعر هي، بشكل عام، من طبيعة الفن، لكنّ أحداً لا يمكنه إنكار أنه يوجد فيها كلها، إضافة إلى ما يستميل رغبتنا إلى الجمال، ما يستميل أيضاً مطالبَ مختلفة تماماً في النفس البشرية، مثل مطلب النشاط المنطقي، ومطلب إشباع الرغبة الأخلاقية، وكل ما هنالك من تحفيزٍ عاطفي، من الأجلف إلى الأرفع؛ ناهيك عن مطلب التعبير عن الذات، والبناء، والصنعة الماهرة. كل هذه المطالب، المتضمَّنة في كل شكلٍ من أشكال الفن، هي بطبيعة الحال مَطالب للسعادة والمتعة، لكنّ بعضَها لا يتناغم مع إنتاج الجمال وتصوره، بل مع القبح.

 الآن، إنْ كانت صفة «جَماليّaesthetic » مرادفة لـ «فنيّ artistic»، وتستحضرُ أيضاً دلالة ما هو «جميل beautiful»، فسوف يتم الخلط والتشويش بين متعة الفن وبين المتعة المستمدة من الجَمال (beauty). سيصل الأمر بنا إلى المغالطة التي تقول إن الجمال يعتمد على الوضوح المنطقي، أو المهارة الآلية، أو اللياقة العملية، أو الأهلية الأخلاقية، أو الدقة العلمية، أو الاهتمام المسرحي؛ أي فعلياً الجمال الذي له كل الصفات ما عدا صفة عدم القبح. وبهذا إن صيغة كيتس (John Keats) -«الجمال هو الحقيقة، والحقيقة هي الجمال»- إما أنها تحدّ من معنى الحقيقة وإما تُوسّع معنى الجمال ليشمل الكثير من العناصر غير الجميلة إطلاقاً. إن استعمال عالِم الجماليات لكلمة «جميل beautiful»، لأيّما ميزة في العمل الفني تشعره بالإشباع والرضى، هو السبب الرئيس إلى الآن في أن مشكلةَ الجمال والقبح قد سُلبتْ احتيالاً من أي دراسةٍ تُناسب أهميتها وصعوبتها. لذلك من الضروري العاجل، كخطوة أولى في كل مجال الجماليات (aesthetics)، أن تكون هناك تعبيرات منفصلة للتعبير عما «يتعلق بالفن art»، و«عمّا يتعلق بالجميلbeautiful »؛ ونظراً إلى أننا نمتلك مسبقاً صفةً مفهومة على التمام وهي صفة «فنيّ artistic»، إذاً هناك ما يكفي من الأسباب التي تحدونا لنُفرد للصفة الأخرى «جَماليّ aesthetic» تسميةَ ظاهرةِ الجمال وأيضاً القبح؛ إذْ إنّ له علاقة ارتباطٍ وثيق اللزوم بهذه الظاهرة، بدلاً من تعقيد بحوثٍ هي مسبقاً كثيرة التعقيد بسبب التغيير الحاصل في المعاني أو إدخال كلمات غريبة غير مألوفة.

ربما تبدو المناقشة الآنفة مجرد نزاعٍ حول المصطلحات، بَيد أننا سنجد أن الحال ليس كذلك، وأن تعريف كلمة «جَماليّaesthetic » يقدم دليلاً على جملةِ سؤال «ما هو الفن، وما علاقة الجميل (beautiful) بالفن؟» سنجد أن مطلب الجمال (beauty) هو الذي يؤهل جميع المطالب الأخرى، التي قد تسعى إلى الإشباع من خلال الفن، ومن ثم إنه يوحّد، بوصفه عاملاً مشتركاً في الاختلاف، بين كل الغرائز والأنشطة غير المتجانسة التي تذهب لتؤلف الفروعَ المختلفة للفن.

في الوقت الحاضر استُبدل هذا الرأي من الجميع بنسخةٍ من النظرية التي تطرّق إليها أولاً “شيلر”(Friedrich Schiller) في عمله “رسائل حول الجماليات”، ثم أعاد إحياءها السيد “هربرت سبنسر” (Herbert Spencer)، والتي تنص على أن الفن يتمايز عن التوظيفات الأخرى للنشاط البشري لكونه نوعاً من اللعب. تنسحبُ نظريةُ “اللعب” هذه على جميع فروع الفن المختلفة، لكنها تركز بشكل خاص على الفروع الأدبية وتتجاهل، كقاعدة عامة، تلك الفروع التي يكون فيها الجمال متحداً مع المنفعة، وتربط ُبين الفروع بخاصيةٍ مشتركة هي التأمل المنزّه عن الحرص، أما حقيقةُ هذا الزعم، سواء كانت صحيحة أم خاطئة، فهي أن هذه الفروع لا تخدم أي هدفٍ عملي بل تشكل نوعاً من العطلة في الحياة. وأضاف السيد سبنسر إلى نظرية “شيلر” عن الفن، بوصفه نوعاً من اللعب ويستمد قيمته من تحرره من أي حرص، فكرةَ أن الفن، مثله في هذا مثل جميع أشكال اللعب الأخرى، هو نتيجة لتخزين الطاقة التي لم تجد تنفيساً لها بطرقٍ أخرى، لكنّ الفرضية المحدِّدة «لغريزة اللعب» هذه، والتي يكون الفنّ فيها مجرد واحدٍ من تجسيداتها، تغاضت عن حقيقةِ أن جميع الأعمال الكفؤة تقريباً، وبالتأكيد كل الأعمال الإبداعية، مهما توجهت إلى غاياتٍ عملية، لا بدّ أن تعتمد على فائضٍ من الطاقة، وأنها -تقريباً في كلٍّ منها- تحضر المتعة المختصة بالصرف المحسوب لمثل هذه الوفرة في الطاقة.

ولأن البروفيسور جروس ليس فقط أحد أبرز علماء الجماليات(aesthetics)  الأحياء، بل هو أكبر سلطة مرجعية لما يخص اللعب  (Play)وفق هذه الطريقة، فإنه قد أضرّ كثيراً بنظريته الخاصة في الفن، أقصدُ عندما اضطر، في كتبه المتميزة حول لعب الإنسان ولعب الحيوان، إلى الاعتراف بأنه لَمِن الخطأ التحدث عن أية «غريزة لعبٍ» بهذه الطريقة، وأن اللعب ليس نشاطاً محدداً، بل هو مجرد نمطٍ من الأنماط قد يُقضى فيه كثيرٌ من الأنشطةِ البشرية أو معظمها؛ ولذلك رفض البروفسور جروس صيغة “الفن بوصفه لعباً” في نظرية السيد سبنسر. بَيد أنه بعد أن ألغى الفكرة السبنسرية عن “فائض الطاقة”، قام ببساطة بالعودة إلى نظرية “شيلر” القائلة إنّ الإمتاعَ المستقى من الفن يرجع إلى خاصيةٍ تميز جميع أنواع اللعب الأخرى، وهذه الخاصية هي الإحساس بالحرية أو العطلة.

لكنّ هذا بالتأكيد قلبٌ للترتيب الصحيح للحقائق، فنحن لا نستمتع باللعب لأن اللعبَ يجعلنا نشعر بالحرية، بل على العكس، نحن نحصل على متعةٍ أكبر وأكثر صفاء أثناء اللعب؛ لأننا أحرارٌ في التوقف وإجراء تغيير؛ أي فعلياً نحن أحرارٌ في فِعل ما لا نستطيع فعله أثناء العمل. لقد أجرى البروفيسور “جروس” نفسه، في صيغة لا تُنسى سنعرض لها تواً، ربطاً بين الإمتاعِ الخاص الذي يُسعى له عبر الفن وبين نشاطٍ مختلف تماماً عن اللعب وفق ما تَقدّم. وآمل أن أبيّن أن التعارضَ، الذي أقامه “شيلر” بين السكينة والراحة في الفن من جهة، وقسوة الحياة من جهة أخرى، هو بعيد كل البعد عن أن يكون من الأساسيات. آمل، بما أعانتني عليه بعضُ فرضيات الأستاذ “جروس”، أن أطرح أن الحالةَ الجمالية هي نقيض ذلك؛ إذْ إنها حصيلة كل أفعال الانتباه الصحية المستمرة والمتكررة؛ وأن الفن ببساطةٍ، وبعيداً عن إقصائنا عن الإحساس الحقيقي بالعيش، ينتقي ويكثف ويضاعف حالات الصفاء التي مُنحنا منها عينةً نادرة جداً، وقليلة جداً، ومختلَطة للغاية، في سياق حياتنا العملية العادية.

وهنا يحضُرنا مرة ثانية التمايز بين لفظتَي فنيّ(artistic)  وجماليّ (aesthetic)، وضرورةَ تخصيص المصطلح الثاني لوصف انطباعاتنا حول الجمال والقبح؛ إذْ بعد أن وجدنا أن التوظيفَ الفني لبعض الملَكات لا يمكن له أن يتمايز إنْ سميناه لعباً، سنجد أن أرقى الأعمال الفنية قد أُنتجت عندما وُظفت الأنشطة التعبيرية والمفيدة والمنطقية وغيرها من الأنشطة في أقصى توظيف عمليّ لها، ومع إقصاءٍ حتى لكل ديكور الزخرفة، ما قد يفسَّر كزوائد طُفيلية من اللعب على العمل. لا يوجد لعبٌ عندما يحسّن الخزّافُ أو المهندسُ المعماري شكلَ إناء أو مبنى إلى أن يصل إلى ما نسميه جميلاً (beautiful)؛ ولا عندما يرتب كاتبٌ جُملَه، أو قاطعُ حجارةٍ نقشَه، بطريقةٍ لا نتعلمها فحسب بل نشعر بالسرور في سيرِ التعلم. وإنْ كان التحررُ من الاعتبارات العملية داخلاً، دونما ريب، في مثل هذه الصناعة، التي تجعل الأشياءَ الضرورية جميلةً، فإن تلك الحرية ليست هدفاً لهذه العملية الفنية، بل هي شرطها الضروري؛ إذْ نحن لا نتصرف بحريةٍ من أجل التمتع بالحرية، بل نمتع أنفسَنا لأنه حدثَ أن كنّا أحراراً لنفعل هذا.

لذلك، إذا أعطينا مسمى الفن لكل محاولةٍ من هذا القبيل تضيف صفة أخرى إلى جانب صفة المنفعة على الأشياء المفيدة أو الأعمال المفيدة، فهناك، إذاً، طبيعة مشتركة يتمايز بها الفن عن جميع الأنشطة الأخرى، سواء في العمل أم اللعب. وهذه الطبيعة المشتركة، التي تجعل اللعبَ أحياناً فنياً، وأحياناً أخرى تجعل العملَ فنياً، والتي إنْ غابتْ فسيؤدي غيابُها إلى إقصاء اللعب والعمل على حدٍّ سواء خارج فئة الفن (art)، هي بالضبط ذلك الطابع القائم بذاته الذي أرغب في أن أخصص له كلمة «جماليّ aesthetic». إنْ نحن تفحصنا جميعَ فئات الفن، بغض النظر عن هدفها الرئيس، سواء كان بناءَ شيءٍ مفيد، أم شرحَ شيءٍ مهم أو تسجيلَه، أو التعبيرَ عن عاطفةٍ، أو إشباعَ رغبةٍ، أو فعلَ شيءٍ ما سواء كان عملياً أم غير عملي، مفيداً أم مؤذياً، فسنجد أن تحقيق هذا الهدف الرئيس يتمايز من خلال محاولةِ تجنب القبح قدر المستطاع، وتحقيقِ أكبر قدر ممكن من الجمال (beauty) الذي تسمح به الظروف الخاصة. ربما يكون المبنى أو الآلة المطلوبة خرقاء في أجزاء منها لا شك؛ وربما يكون الشخص المراد رسم صورته قبيحاً بالطبيعة؛ والحقيقة المراد توصيفها ربما مثيرة للاشمئزاز؛ وربما تكون الغريزة التي تبغي الإشباع وحشيةً أو بذيئة؛ ورغم ذلك، إنْ كان المبنى أو الآلة، أو الصورة، أو الوصف، أو الرقص، أو الإيماءة، أو الثوب، سيؤثر فينا بفنيّته، فلا بد بالضرورة أنه يمتلك، بدرجة أو بأخرى، الميزة الخاصة بما يكون جميلاً (beautiful). وفي حالة العكس، حيثما لا يكون مطلبُ الجمال (beauty) واضحاً جلياً، وحيثما لا توجد محاولة لإحلال الجميل محل القبيح، في الخط مثلاً أو في الفراغ أو اللون أو الصوت أو الكلمات أو الحركات، هناك لا تنطبق كلمة فنيّ (artistic)، بل تستخدم بدلاً منها عباراتٌ مخالفة لها في التمييز، مثل عبارة بارع تقنياً، أو معقول منطقياً، أو مناسب عملياً، أو مقبول حسياً، أو مثير عاطفياً، أو يستحق الثناء أخلاقياً، أو أي من النعوت الأخرى التي تصف جدارةَ العمل البشري أو اللعب البشري. الفن، إذاً، هو إظهارٌ لأية مجموعةٍ كانت من الملَكات، وتعبيرٌ عن أية غريزةٍ كانت من الغرائز، واستجابةٌ لأية حاجةٍ كانت من الاحتياجات، وهو كفوء بأية درجة كانت؛ أيْ بمعنى أنه منضبط وقابل للإضافةِ إليه وتعديلِه أو انعطافِه، في طاعةٍ لرغبةٍ منفصلة تماماً عن أي من هذه، ممتلكاً أسبابه الخاصة ومعاييره الخاصة ومقتضاه الخاص؛ حيث رغبته هي الرغبة الجمالية (aesthetic). أما الميزة التي تلبي هذه الرغبة الجمالية فهي ما نسميه الجمال (Beauty)؛ أما الصفة التي يجتنبها أو يقلل منها فهي القبح (Ugliness).

نأتي الآن إلى المشكلة الرئيسة الثانية في مسألة الجماليات: ما الجمال (Beauty)؟ أَهو صفة محددة بعينها، يسعى الجميعُ إليه قاطبة بدرجة أو بأخرى، ويدركونه، أم الجمال مجرد التعبير عن علاقات متغيرة معينة، عن علاقات ملائمةٍ أو تجديدٍ أو تقليدٍ، وهكذا دواليك؟ يستمر عدد من المتخصصين في الجماليات، كتفسيرٍ كلي أو جزئي، في القول إن الجمال هو تكيف مرئي لغاية مقصودة سواء كانت بشرية أم إلهية. نجد هذه الفكرة موجودة ضمناً، على سبيل المثال، في إصرار “راسكين” فقط على الضروريات المفيدة والعملية في العمارة. ورغم ذلك، إن هذا التفسير له القليل من المصداقية الفلسفية، وقد تم دحضه سابقاً وبشكل معمق من قِبل “كانط”، وللتذكير فقط إنه مَن أسهمت قدرتُه على التمييز والحكم مساهمةً مهمة في مجال الجماليات. هناك شرح آخر للجمال يخلط بينه وبين المهارة الفنية أو الوضوح المنطقي، اللذَين يحتاجهما الجمالُ ليظهر؛ وهناك فكرة أخرى تتكرر بشكل أكثر خفية ضمن التوجه مؤخراً لجعل سهولة الإدراك ليست شرطاً للجمال، بل معادِلاً للجمال وتساويه؛ فعملية التعريف بالصورة مثلاً أو التمثال، وفق مثل هذا التبسيط للخطوط والأسطح المستوية، لكي يصبحا مفهومَين بسهولة بمثل هذا الترتيب، تعني كأننا نجعل الصورةَ أو التمثال يدفعان لنا ثمن فهمنا لهما. ومن الصعب للغاية تفادي هذه النظرة الخاطئة حالياً؛ حيث توجد في أقصى درجات الفهم الفني دقة بين المشتغلين بالجماليات.

أما الفكرة البديلة، أي حتى يكون الشيءُ جميلاً تجب علاقة فريدة قائمة بذاتها بين الأشكال المنظورة والمسموعة وبيننا نحن أنفسنا، فيمكن استنتاجها من المقارنة بين الأعمال الفنية مِن أنواعٍ وفتراتٍ ومناخاتٍ مختلفة؛ إذْ إن مثل هذه المقارنة ستُظهر أن نِسَباً محددة وأشكالاً ونماذجَ وتكوينات تميل نحو التكرار حينما لا تعيق الفنَّ رغبةٌ واعيةٌ تتعمد التجديد. سوف تُظهر مثل هذه المقارنة أن الجنسَ البشري يفضل دائماً أن يكون أثاثه وحاجياته المنظورة، مثلاً، مجسِّدةً لبعض ميزات خاصة من التناظر وعدم التناظر، ومن التوازن، وأيضاً تأكيد جانب على آخر؛ وهو دائماً، عند التصرف بشكل عفوي ومن دون تَفكّر، يعدّل الأشكالَ التي يوفرها الواقعُ له، أو توحي بها المتطلباتُ العملية إلى أن يطابقها مع أنماطٍ متكررة محددة. مثل هذه الدراسة المقارِنة، التي بدأت للتو في أيامنا هذه (والفضل يعود جزئياً إلى التسهيلات الميكانيكية مثل صبّ قوالب الأشكال والتصوير الفوتوغرافي)، يجب أن تصبح جوهر علم الجماليات كله. لا يمكن إلا لدراسة عمل الفن أن تجيب عما ينضوي تحت اسم الجمال، وما ميزات الشكل الرئيسة التي تعتمد خاصية الجمال عليها. وإلى أن نعلم هذا، سنستمر في التكهنات المبهمة أو حتى غير المجدية للفلاسفة السابقين حول الكيفية والسبب اللذَين يؤثر بهما الجمالُ فينا بالمطلق، وسنستمر في التخمينات العشوائية لنقاد الفن حول الأسلوب الذي تأتّى فيه الحصول على مثل هذا الجمال.

اعتمدت هذه الدراسة المقارنة للفن –أي مقارنة فئة بفئة، عمل بعمل، تفصيل بتفصيل- حتى الآن، بشكل أساسي، على المحاولات التي بُذلَت للتأكد من هوية مؤلّفي الأعمال الفنية الفردية، على سبيل المثال، محاولات علماء الآثار من نوع “جوستاف فيلهلم فورتفانغلر” (Gustav Wilhelm Furtwängler)، و”جوزف لوي” (Josef Löwy)، و”ويكو” (Wickow)، ومحاولات ذواقة الرسم من مدرسة “موريللي”. ومن ناحية أخرى، كان مما ساعد هذه الدراسة بشكل كبير هو الدراسات والتوضيحات، التي قام بها عدد قليل من الفنانين العمليين، مثل النحات “أدولف فون هيلدبراند” (Adolf von Hildebrand) في كتابه (حول الشكل النحتيّ)، ومثل “راسكين” نفسه، ليس فقط في كتاباته، بل في الرسوم البيانية والرسوم التوضيحية التي أضافها كتكملةٍ مساعِدة لكتاباته.

من المحتمل أن يتم رفد هذه الدراسة للبنية الحقيقية للعمل الفني، عاجلاً أم آجلاً، ليس فقط بالمقارنة المنهجية للشكل كما يوجد في الفن -فن الحائك أو الخزّاف أو صانع الأسلحة، وبالقدر نفسه فن المهندس المعماري أو الرسام- وكما يوجد في العمل، رفيعاً كان أم متدنياً، بل أيضاً عبر مقارنة الشكل الموجود في الأجسام الواقعية والشكل المعدّل بالفن أو «البعيد عن الأشكال الواقعية». في أرقى المنحوتات، من العصور القديمة والقروسطية، لا تؤدي العضلات، على سبيل المثال، دوراً وفق النظام الحركي الواقعي، فالكثير من حقائق بنية الجسم يجري الابتعاد عنها لمصلحة البحث عن سطحٍ وكتلةٍ تروقان للفنان. وبطريقة مشابهة، يتعارض منظور؛ أي تكوين الصور العظيمة مع تكوين المنظر الواقعي؛ وعلى هذا النسق، تُجعَلُ الأشكالُ الحيوانية والنباتية متناظرة وإيقاعية ومنسجمة مع المقتضى الجمالي الذي يمكن رؤيته على حد سواء في صنع السلال من عملِ البدائيين، وأيضاً في المنحوتات القوطية من عملِ نحّاتي الحجارة.

 لقد استخدمتُ أكثر من مرة تعبيرَ “المقتضى الجمالي” (aesthetic imperative). بطبيعة الحال هذا المقتضى يكون مضمراً ضمناً في كل التقاليد الفنية، ويوجه ممارسةَ كل حِرفيّ وكل مدرسة فنية، بل حتى لو تمكنا من أن نترجم إلى مصطلحات منطقية؛ أي إلى كلمات مفهومة، ذاك غير المنطوق به، وتلك الخيارات التفضيلية التي لم تجرِ صياغتها، والتي يخضع لها كل فنان ويطيعها، عظيماً كان أم قليل الشأن، فسنعرف وقتئذٍ بدقةٍ ما هو الجميل وما ليس بالجميل، وأين تكمن الميزة الأساسية لكل عملٍ فني وكل مدرسة، لكن لأنّ الممارسةَ الفنية هي التعبير الخاص والوحيد للجمال، ولأنّ الأسبابَ التي تحدد مستوى الحِرفيّ تنبع بالضرورة من اللاوعي –طالما أننا نربط الوعي بالمنطق والكلمات- فإنه لا يمكن أن نواصل دراسة ماهية الجمال إلا بالأساليب العلمية للمقارنة والحذف. نستطيع أن نرمز لهذه الطريقة، وأن نجعل منها مثالاً بتطبيقها على الفن البصري، فنأخذ صورة فوتوغرافية لموضوع واقعي، وصورة أخرى معدّلة فنياً لهذا الموضوع نفسه، ثم نمحو ونضيف ونعدّل في الصورتين إلى أن تصبح كلتاهما متشابهتين، باتّباع نظام التحليل والتوليف العملي نفسه وتطبيقه على مختلف أنواع الأعمال ودرجات تَميزها؛ فنحدد من خلال هذا الحذف والدمج ما الذي يمثل ما نسميه “جمالاً”، ومن ثم نتثبت من صحة استنتاجاتنا عن طريق المقارنة المعالَجة إحصائياً لـلأشكال الفنية المتكررة، التي ستُثبت قبولَها عالمياً حال وجود انتظامٍ متماثلٍ في تكرارها.

 ولكن ما السبب الذي يجعلنا نفضّل ترتيباً محدداً للخطوط والألوان والأسطح والأصوات، ناهيك عن الكلمات؟ الجانب النفسي من الجماليات، واعتماده المتبادل على كل أسئلة العلوم العقلية، يبدأ بهذا السؤال الذي سيكون تعبيره العلمي كالآتي: ما هي أولاً حقائق الوعي، وما هي ثانياً العمليات الفيسيولوجية، التي تترافق مع الرضا والإشباع من أشكالٍ معينة لكونها جميلة وتكمن وراءها، وتترافق مع عدم الرضا من أشكال أخرى معينة لكونها قبيحة؟

 هذه المسألة، التي حلها النهائي مشروطٌ، بشكل طبيعي، بتقدم علم النفس عموماً -لا شك- تطرح نفسها مجدداً فيما يتعلق بكل نوع من الفن، وكل حرفة تنطوي على مسائل الجمال والقبح. بَيْدَ أنّ هذه المسألة معقدةٌ للغاية في الأدب بفعل اهتماماتٍ أخرى، منطقية وعاطفية وعملية، تؤلف القسم الأكبر مما هو جزءٌ فقط من الفنون جميلة؛ وتحجب وضوحَها مسائلُ تفصيلية لم يتم تفحص أيٍّ منها بشكل صحيح، وتتعلق بالعمل المباشر للكلمات. حتى جماليات الموسيقى -إنْ أمكن القول- لا تزال في حالة أكثر تخلفاً بسبب الصعوبة الكبيرة في المراقبة الذاتية والخلط الذي لا يُرتجى منه خيرٌ في المصطلحات المستخدمة. لذلك، وعلى الرغم من قيمة أشخاص مثل “ستومبف”(Stumpf)  و”هانسليك” (Hanslick) و”دورياك”(Dauriac)، لم ألحظ كثيراً من التقدم منذ التحليل البارع للراحل “إدموند جورني” (Edmund Gurney)، الذي دحض عملُه العظيم (قوة الصوت) كل ما وجِد من التفسيرات، لكن دون إحلالٍ لأية تفسيرات جديدة محلها. على أنّ الفنون الجذابة للعين قد أثبتت طواعيةً أكثر للتحليل النفسي، فقد خضعت أكثر بكثيرٍ للفحص العلمي بفضل الخبراء المتذوقين، وعلماء الآثار، وعلماء دراسة المجتمعات والثقافات البشرية. وفيما يتعلق بهم، من الممكن بالفعل أن تظهر المسارات الرئيسة التي تتحرك وفقها الملاحظةُ والفرضيةُ؛ أي الاتجاه الذي سيكون ملزِماً لكل فئات فلسفة الفن بأن تذهب فيه.

البوهيمي

ولاء الشمري

‏( La Boheme )
مصطلح فرنسي، كان يستخدم للتحقير والازدراء لمجموعة الغجر “مجموعة اشخاص ذوي ميول مشتركه، غالباً فنيه” ، وعلى الاشخاص المهمشين الفقراء، وتعني ممارسة نمط حياة غير تقليدي..
لكن سرعان ما ازدهر هذا المصطلح واصبحت له دلاله رومانسيه في خمسينيات القرن التاسع عشر، بعد نجاح مسرحية (مشاهد من الحياة البوهيمه)، وقيام الموسيقار الإيطالي (بوتشيني) بتحويل هذه الأفكار إلى اوبرا..
ف اصبح رمز للبساطه وايقونه، ومحط اعجاب وانتماء، وتجد الستايل البوهيمي، في اللباس، الاثاث، نمط الحياة..
ومن وجهة نظري الشخصيه ان من تابع مسلسل
“عيلة سبع نجوم” سيفهم كيف البوهيميون يعيشون ويفكرون ولكن بطريقه كوميديه “دراويش”..
وغالباً البوهيمي الحقيقي يظهر بملابس فضفاضه من النساء والرجال على حد سواء..
ولكن في ظل التطور وزمننا هذا، اصبح البعض يستخدم الاسلوب البوهيمي ويعبر عن ذاته بطريقه تثير السخريه فعلاً، كأن يتكلف ويبالغ في لبس الالوان المتناقضه..
البوهيميه في رأيي تعني البساطه والعفويه والحريه وعدم الاهتمام لنظرة الآخرين، وهو فكر يراه البعض لغريبين الاطوار، وفي نفس الوقت هو مسبه واستهزاء، وايضاً هو مديح واعجاب!
كما توصّل الفيلسوف المعاصر آلان دو بوتون الى ان البوهيميه هي الحل لمن يعاني من “قلق السعي الى المكانه” كما هو عنوان كتابه..
#بقلمي