السخرية بين الحداثة وتجلياتها
بانصرام الزّمن وتطوّر الحادثات، اتّجه العالم في سعيه إلى التعرّف على كلّ ما حوله، ومشى في سبيله إلى تقديس كلّ ما يفتح له موالج المجهول ويمنحه مفاتيح أقفال ما غاب عن فهمه وعلمه، خفرًا فخورًا بكلّ ما قد وصل إليه من مكتشفاتٍ ومخترعاتٍ، وإن كانت في الحقيقة هيكلًا فارغًا أجوفًا.
هذه المسافة التي قطعها الإنسان من نقطة جهله الأولى التي كان عليها، إلى المناطق التي أضاءت في عقله ومهّدت الطريق أمامه ليسبر غور العالم من حوله؛ باعدت في المقابل بين الإنسان وذاته، وأطفأت مناطق وعي فيه كان يسترشد بها إلى فهم نفسه وما يعتملها من شعور وغيره، وبات الإنسان الحديث في نظر العالم آية في العلم والتمدن والتحضر، لكن أحدًا لم يعرف أنه كذلك صار عبرةً في دخيلة نفسه وخبرته بذاته.
شعورٌ مبهم
كان من تداعيات جهل الإنسان بنفسه خلق هوة سحيقة بين عقله وقلبه، وفجوة هائلة بين إنسانية الإنسان وآليته، وانقطع مع ذلك حبل الوصل بين ذبذبات الشعور وخلايا استقبالها، فبات الإنسان إما آلة تعقل وتعمل لتتقدم، أو خردة لا قيمة لها، وتداعت أبنية المشاعر ومعانيها، حتى صارت عقبة تعيق الإنسان عن ممارسة حياته الطبيعية نحو العقل والتحديث، كتلةً معقدةً مبهمة لا يدري لها أول من آخِر، تشغله عنها الحياة نهارًا ثمّ تهاجمه كالعفريت ليلًا، تتسرب كلصّ على هيئة حزنٍ على ملاذ الحياة التي لا يحصلها، أو تطرق باب سكونه بغضب كلما سارت الأمور كما لم يخطط لها، أو في صورتها الأسوأ: شوكةُ ندمٍ تخنق حلقه ألمًا نهاية فقد ما لا يمكنه استرجاعه أبدًا.
لم تُخلِّ العقبة صغيرًا ولا كبيرًا، ولم يعتق بُهم الشعور عالمًا ولا جاهلًا. الجميع أمام ذواتهم سواء.. كإنسان الكهف الأول، الذي حاول بما يشبه الفضول أن يستكشف النار للمرة الأولى غير عارف بأن أول سماتها أنها.. تلسع!
فما كان منه -الإنسان الذكي المتحذلق- إلا أن حاول دهسها، أو تجاهلها بما يفتح عليه كلّ طريق للوصول غيرها، فاخترع في سبيل ذلك مخترعات وابتدع لأجل ذلك الحيل، وكأنت أسوأ الحيل النفسية وأقساها: السخرية. قناع أسود يخفي هشاشته خلف صلابة واهية، يتحايل بها المرء على كل شعور مبهم يعتمله ليتخلص منه منتشيًا بإنجازه وسعيدًا بتجاوز عقبته تلك، وما كان عارفًا أن كل ما ألقاه خلف ظهره في فجوات سخريته يعود ليظهر مرة أخرى ومضخمًا عشرات المرات، إما في ادعاءات تمرّد على كل شيء، أو عنوان في جريدة: انتحار شابٍ لأسباب مجهولة!
واجهةٌ برّاقة
مع انخراط العالم في حداثته وادعائه تقديس الإنسان وتكريس العلم لذاته وتذليل الحياة لاحتياجاته؛ تجاهل الناس لخطاباته الرنانة هذه تبعاتها، ولم يدركوا أن ضريبة الغاية التي أُشربناها هو دعس قيمة الإنسان الحقيقية بما لا يخدم صورة التقدم المطلوبة، سواء كانت قيمته هذه فيما يحمل من قيم أو يحتمل من شعور، ولما كانت قيمه وشعوره لا تعني أحدًا وعائقًا ليس إلا؛ تُركت هناك على أرصفة التخلف والضعف، ونُبذت كما تُنبذ ذبالة المصابيح الصدئة التي اهترأت لشدة ما أنارت، ثم حين لم يلتفت إليها أحدٌ.. انطفأت.
وغدا الإنسان حيُّ الشعور مجرد ضعيف ساذج، ورقيقًا ليس خليقًا بجدةِ الحياة وسيرها، وكغريق يترك نفسه يأسًا للموج؛ انقاد لأعراف مجتمعاته وعاداتها ومعاييرها، وليصبح قويًا كفاية لا يستصغره ولا يستضعفه أحد؛ استعاض عن كل شعور بواجهة السخرية البراقة، تلك التي تورّث في النفس أنفة كاذبةً واستغناء فارغًا وقوة وهمية للتجاوز، وصار في كلّ حالاته مجرد مسخ منها؛ حزينًا ساخرًا، متألمًا ضاحكًا، يائسًا هازئًا، يسخّر كل طاقاته لتطويع شعوره بما يخدم منظره الجيد بين أقرانه، وسمعته الحسنة المواكبة لسير “الروشنة”، غابت المساحات الفاصلة بين شعور وآخر، كلها صور باهتة مموهة لشيء لا تعرف ماهيته الحقيقة، لا حدود لجد وهزل، ولا لعقل ولا منطق، وغدت كل تجليات حس الإنسان منحصرة في ضحكة وتعليق ساخر يدعي بهما ما ليس عليه أصلًا، ويتلبس ثيابًا ليست له ابتداءً.
استشراء الأزمة
لم تتوقف حيلة السخرية على كونها مهربًا من شعور المرء، يتّخذ منها غطاء لحقيقة خوفه مما قد يعيق سير حياته أو يشعر كينونته أمام غيره بالتهديد، إنما باتت هي الطريقة الفعلية للتعبير عن كلّ شيء، وانسحب ذلك على كل أركان الحياة بدءًا بمعتقد الإنسان وانتهاءً بمواضيع سمره المعتادة، فتهدمت المقدسات في نفوس أصحابها لما أصبحت عليه من مادة للتندر وما دخلها من صور السخرية المعتادة، حتى العمل بات مثارًا من مثاراتها وميدانًا لها، الزواج، معاناة الشباب، مخاطر الانحراف، أزمات المجتمع، كلّ شيء بات حل نقاشاته ينتهي بالاستهزاء، كل المعاني والقيم مادة للتندر، الحديث الجاد بات “كآبة” وتم تحويل دفة الاهتمام كليةً إلى ما يعرف بالـ “كوميك” وصار هو اللغة الوحيدة التي يجيدها المعاصرون، لا يفقهون غيرها ولا يعرفون سواها متنفسًا لمجامل الحياة ودركاتها.
النتيجة
كان مآلًا حتميًا لكلّ تلك التجليات أن ينتج جيل مشوهٌ لا يقف عند جهله بشعوره ونفسه فقط؛ إنما يتخذ منهم منحدرًا ينزل به إلى دركات التجاهل والتهكم والسُخرة، وتسطح عقله ليكتفي من الحياة بظاهرها؛ ذاك الذي يخدر فيه شعور المسؤولية ويعمق من البحث خلف التجاهل والعيش بلا متاعب ومشاقّ بائنة، وكأنها حلِقٌ فارغةٌ بلا ثوابت؛ مركزها كلّ ما دون المعنى وأقطارها متباينة، فوضى شعورية فكرية هنا لا تدع مجالًا لأدنى اتزان، موازين مقلوبة هناك، والإنسان ضحيةٌ وجلاد، يرفع سوطه على بني جنسه فترتد ضربته عليه، وكأنى بنا في مسرحية هزلية عنوانها الضحك، الكلّ فاغرٌ فاه مقهقهٌ، ولا أحد يحوش الدموع المحتبسة خلف الأضواء أو حتى ينتبه لها.
أخيرًا، حلول الخروج من الأزمات المعاصرة المكينة من مجتمعاتنا ما هو إلا محاولات واهنة ربما تردد أصداؤها في صمٍ أو تحدث دويًا بعدما تندثر أجيالها، لكننا نحاول أن نتلمس في العتمات ثقوب ضوء نتبعها نحن أو يتبعها من يأتي بعدنا، وأظن أن حلول أزمة كهذه تبدأ بعودة الإنسان إلى قيمته الأصيلة وضبط بوصلة سعيه لتبحث عن المعنى لا عن الفراغ، ليطلق لبشريته العنان في حدود ما وضعه خالقها من ضعف ونقص لا كعيب وإنما كجزء من ماهيته، ولتكسر دورانه اللامجدي مع عجلات الحياة بلا زاد ثابت من معتقد يقدسه ووعيه ينبهه وفكر يضبطه، بهذا أقول.. ربما يعرف المرء لنفسه قدرها ويحفظ عليه حياته قبل أن تصير إلى فناء.
الكاتب: عائشة عادل
المصدر: مدونة أثارة