«قتلى في بلاد العجائب» تفكيك عالم المتناقضات في النفس البشرية.
«قتلى في بلاد العجائب» يُحلِّق مرجان أوديك بالقارئ في رحلةطويلة يتردّد صداها في ثنايا الرواية فتثير بين أفراد الشرطة، الباحثين عن المشتبه فيهم، علامات استفهام كثيرة حول حوادث قتلغامضة.
ربما تكون الرواية هي النوع الأدبي الوحيد القادر على طرح أسئلةعن ماهية الحياة الإنسانية بحُلوها ومُرّها، وهي بذلك تمتاز عنغيرها من الفنون الأدبية الأخرى بأنها تتيح للروائي، بالإضافة إلىإمكانية الغوص في أعماق النفس البشرية والدخول إلى عوالمالإنسان بخيرها وشرها، الكشف عن حالة الشخصية المحوريةالمحمّلة بعُقَد نفسية ناتجة عن ضغوطات اقتصادية تعانيها داخلالمجتمع، وعلاقة ذلك بدلالة الفضاء المكاني، مسرح الجريمة، فيمحاولة منه لتأطير صورة المشهد المخيف والإفصاح عن الحالةالمضطربة للجاني الذي يسعى الى تقويض أسس وقواعد الأمنالمجتمعي من حيث كونها وحدة سيميائية تتحرّك داخل النظامالروائي السردي وتقود، في نهاية المطاف، الى الكشف عن وقوعالجاني تحت طائلة المسؤولية الجنائية أو إمكانية انتفاء المسؤوليةعنه.
يستثمر مرجان أوديك موهبته الأدبية وإحساسه بمختلف المشاعرالإنسانية في الكتابة عن أدب الجريمة؛ وذلك لما يحمله هذا الأخيرمن إثارة وتشويق وغموض وتعقيد في التفاصيل وتفاصيلالتفاصيل وفقاً لخيال كاتبنا عند تناوله للأحداث، وما يترتب علىذلك من استعراض لمسرح الجريمة وأساليب المجرم في إخفاء الأدلة، ومحاولات الشرطة المضنية في إماطة اللثام عن دوافع الجريمةوملابساتها عبر تقنيات علمية وراثية في علم الإجرام. فمسرحالجريمة الذي يشكل البنية الأساسية لنصنا السردي جاء ليعكسجغرافيا مكانية مخيفة أثَّرت تأثيرا مباشرا في إنتاج حزمة منالدلالات السلبية: الخوف، القلق، الفزع، المعاناة. هكذا يتشكل البعدالدلالي لمسرح الجريمة عبر السياق الزمني من حياة الجاني. كمايكشف مسرح الجريمة في هذا العمل الروائي عن خصوصية المكانالذي يحمل بين ثناياه آلام الفقد والخوف من القتل.
إن طبيعة العلاقة بين المكان والحالة النفسية لبطل الرواية، فرضتنفسها على القارئ وجعلته يغوص مع الكاتب في أعماق النفسالتي يمكن أن تدفع الإنسان الى ارتكاب أفعال اجرامية على مسرحلا فوضى فيه ولا صخب ويُخيّم عليه صمت كصمت القبورفأكسبته بعدا رمزيا جردت الضحايا من حولها وقوتها وجعلتهمينساقون الى حتفهم بأرجلهم. استطاع مرجان أوديك أن يطرحرؤيته عن نفس الإنسان غير السوي؛ إذ يشير عنوان الرواية إلىدلالة المكان المحورية «بلاد العجائب»، والدور الذي يؤديه المكان فيالسرد، إلى جانب شخصية الفتاة «أليس» التي استمر حضورهاعلى الرغم من اختفائها.
بطل هذه الرواية زوج فقد زوجته ومتّهمٌ بقتلها، ورجال الشرطةيبحثون عن قاتل هذه السيدة، وعن قاتل أوقتلة سيدات أخريات تمّ قتلهنّ في ظروف غامضة. يغوص الروائي الفرنسي مورجان أوديكفي أعماق النفس البشرية بدافع المغامرة لسبر أغوار أسرار هذهالجرائم، وأساليب المجرمين، وما يصاحب ذلك من عناصر تتعلقبالتشويق والإثارة؛ إذ تختلط مشاعر الخوف بالغضب، وذلك لجذبالقارئ وجعله متابعاً للقصة من بدايتها حتى نهايتها. ستختفيالسيدة ألِيس زوجة أندرسن المحامي المقيَّد في نقابة المحامينبباريس منذ ثلاث سنوات. كل الناس من حوله يطرحون نفسالسؤال: هل قتل أندرسن زوجته؟ يفقد أندرسن الذاكرة نتيجةلتعرضه لحادث قوي بعد أيام قليلة من اختفاء أليس. لمدة ثلاثسنوات وهو يحاول جاهدا استعادة ذاكرته. يتم رصد مبلغ كبيرمكافأة لمن يدلي بمعلومات عن الزوجة المختفية. يتسلَّم أندرسنرسائل نصية غامضة علي شكل أسئلة مشفرة تفيد بأن زوجته لاتزال على قيد الحياة. يستأجر الزوج المهموم مخبرا خاصا من أجلالبحث عن زوجته الشقراء التي أصبح اختفاؤها لغزا محيرا. موتعدد من الضحايا الأخريات اللاتي تم قتلهن أصبح أيضا لغزامحيرا. باءت محاولات الزوج في العثور على زوجته كما باءتمحاولات رجال الشرطة بالفشل وأصبحت محاولاتهم كمن يبحث عنقطة سوداء في غرفة حالكة الظلام. ما الذي حدث للزوجة؟ ألا تزالحية؟ أم أنها ماتت؟ وما علاقة اختفائها بوقائع مقتل نساء أخريات؟
استغل الكاتب أيضاً اختفاء هذه الشخصية عن الأنظار ليُعبّر، منخلالها، عن رؤيته حول ملابسات اختفاء فتيات أخريات ضمن مناخقاتم تحاول فكّ طلاسمه ضابطة شرطة سابقة، وتتداخل محاولاتهاالبائسة مع محاولات فاشلة لفريق من شرطة مكافحة الجريمة. ولأنرواية «قتلى في بلاد العجائب» تنتمي إلى عالم القصص الجنائيالواقعي شديد التعقيد، فقد استثمر الكاتب مجال أدب الخيالالإجرامي است ثماراً ذكياً من أجل أن تكون عقدة قصته لغزاً غامضاً تستدعي القارئ النموذجي القادر على فك شفراته.
من جانبه، يحاول كاتب رواية «قتلى في بلاد العجائب» تفكيك عالمالمتناقضات في النفس البشرية، وقد تمكن من أن يجول بالقارئ بينجريمة وأخرى؛ وهذا ما أضفى على الرواية نكهة خاصة جعلتمسرح الجريمة يمثل شكلاً من أشكال القبح، الذي يثير في القارئمشاعر الشفقة على الضحية، والنقمة على الجاني.
د.أيمن منير
المصدر: جريدة الجزيرة