“النسوية للجميع”.. بيل هوكس تعالج ثغرات النظرية والممارسة النسوية | بقلم: هيڤا نبي

يواجه كل من الخطاب النسوي والممارسات النسوية سوء فهم كبير قد يكون من بين أسبابه العميقة النسوية نفسها، في جانبيها النظري والتطبيقي، وهذا ما لا يطرح بشكل جدي للنقاش والبحث، وتستغله المنظومة الأبوية التقليدية ضد الحركات النسوية. وهذا ما دفع الناقدة والمفكرة النسوية بيل هوكس لتعيد تقييم واقع النسوية بشكل لافت.

في كتابها “النسوية للجميع: السياسات العاطفية” تتوجه الناقدة والمفكرة النسوية بيل هوكس بالدرجة الأولى إلى مَن لم يتعرّف إلى النسوية إلا من خلال الأفكار والكتابات المستهلكة حولها، أي كل من عرف النسوية من خلال خطابات النظام الأبوي. فتتناول مراحل النضال النسوي والإسهامات والتغيرات التي نتجت بفضل الثورة النسوية في الستينات والسبعينات وما بعدها.

لكن الكتاب الصادر عن دار جدل الكويت، بترجمة منير عليمي، موجه بدرجة أكبر للنسويات أنفسهن، إذ تهتم الكاتبة بتسليط الضوء على مكامن النقص والخلل والضعف في النظرية والممارسة النسويتين.

 

الطبقية والعنصرية والحب

الكتاب يبحث عن لغة مشتركة مع النساء والرجال من كافة الطبقات لتجاوز النقص في النظرية والممارسة النسويتين

الكتاب يبحث عن لغة مشتركة مع النساء والرجال من كافة الطبقات لتجاوز النقص في النظرية والممارسة النسويتين

يمكن القول إن هوكس تقف في المنتصف بين الدفاع عن النسوية ونقدها: دفاع عنها بتسليط الضوء على الإنجازات والتغيرات التي حصلت للعالم بفضل الحركات النسوية وإسهاماتها، ونقد للنسوية من حيث إنها حركة سياسية لم تتخلّص في بعض مواطنها من العنصرية والطبقية والعرقية، وعجزت أو أحجمت في بعض المواطن عن تقديم بدائل للخطابات الذكورية. فالهدف الذي تتطلع إليه النسوية كما تراها بيل هوكس هو إنشاء مجتمع متطهر من الطبقية والعبودية والاستغلال والتحيز الجنسي “عالم مجرد من كل هيمنة، حيث الإناث والذكور ليسوا متشابهين أو متساوين دائما، ولكن حيث الرؤية التشاركية هي الروح التي تشكل تفاعل (هم)”.

ومن أبرز النقاط التي تثيرها الكاتبة في هذا الشأن هي قلة وعي النسوية وإغفالها أحيانا الفروقات الطبقية داخل النسوية نفسها. فما إن تسلّمت النسوية البيضاء راية النضال حتى زاد الشرخ بينها وبين النسوية السوداء ونسوية الطبقة العاملة، إذ جعلت النسوية البيضاء نفسها النموذج المعياري في الممارسة والنظرية النسويتين. وبهذا تم تجهيل خصوصية هذه الطبقات والتي لا تنسجم غالبا مع مطالب وخصوصية النسوية البيضاء.

ترى هوكس أن النسوية يجب أن تعمل على محاربة العنصرية والتمييز على أساس العرق، بل إن خطاب الأختيّة وممارستها سيكون مستحيلا في ظل الإبقاء على الطبقية والعنصرية، وهي على تعارض كبير أساسا مع أهداف النسوية، تقول “لقد شهدتُ لسنوات إحجام المفكرات النسويَّات البيض عن الاعتراف بأهمية العرق، لقد شاهدت رفضهنَّ تجريدهنَّ من التفوق الأبيض، وعدم رغبتهنَّ في الاعتراف بأنَّ الحركة النسوية المناهضة للعنصرية هي الأساس السياسي الوحيد الذي من شأنه أن يجعل الأختيَّة حقيقة واقعة. وشهدت ثورة الوعي التي حدثت عندما بدأت النساء الفردانيَّات في التحرر من الإنكار، والتحرر من التفكير التفوقي للبيض. هذه التغييرات الهائلة تعيد إيماني بالحركة النسوية، وتقوي التضامن الذي أشعر به تجاه جميع النساء”.

إلى جانب الوقوف في وجه التحيز العنصري والعرقي، تؤكد هوكس الحاجة إلى ربط النظام الأبوي بالنظام الرأسمالي، والتركيز على أن التخلص من الثاني مقرون بالتخلص من الأول. فالرأسمالية هي التي غيرت شكل الأسر والعائلة وشكل العمل ولم تتوقف حتى بعد أن جعلت الاكتفاء الذاتي الاقتصادي غير ممكن للنساء كما للرجال. أما الأبوية فقد بررت العنف بأشكاله وجعلت ممارسته جزءاً من الحياة الأسرية سواء على النساء أو الأطفال أو حتى الرجال. تكشف الكاتبة هنا مثلاً عن عدم وجود تدخل نسوي لتسليط الضوء على دور الأمهات في تعزيز النظام الأبوي ومن ضمن أخطر نتائجه العنف الموجه ضد الأطفال. هؤلاء الأمهات اللاتي تبنين الرؤية الأبوية يستمررن في ممارسة العنف على الأطفال حتى وهن أمهات عازبات.

ما إن تسلّمت النسوية البيضاء راية النضال حتى زاد الشرخ بينها وبين النسوية السوداء ونسوية الطبقة العاملة

ولأن ارتباط هذين النظامين متداخل بشكل كبير، فإن النضال ضد الرأسمالية كرديف للأبوية يحتم الحاجة إلى إعطاء بدائل كثيرة عن المنظور الأبوي والرأسمالي للجمال والتربية والعلاقات وشكل الزواج والحب. رغم ثورتها على المعايير الجمالية الذكورية التي تحصر جسد المرأة في قالب واحد، عجزت النسوية عن تقديم بدائل عن الجمال التقليدي، وبالتالي تركت فراغاً وحاجة إلى معرفة الجمال أو حدود الجسد الممكن خارج القوالب، ما أعاد النساء إلى طلب الجمال وفق المعايير الشائعة. وهذا ما استغلته الرأسمالية أشد الاستغلال.

وبنفس الدرجة عجزت النسوية عن خلق خطاب نسوي إيجابي عن الحب يصبح مرجعاً نسوياً للرجال والنساء على حد سواء. تقول هوكس “بينما كان الكثير منا يحب في حياته الخاصة، وهو حب متجذر في الممارسة النسوية، لم نخلق حواراً نسوياً واسع النطاق حول الحب”. والأمر لم يكن بعيداً في التربية، حيث الأسس التي تقوم عليها الأبوية لم تُهدم تماماً، بل استمرت في حضورها من خلال الأمهات المتبنيات للخطابات الأبوية. تضيف هوكس “فالأم التي قد لا تكون أبداً عنيفة، لكنها تعلم أطفالها، ولاسيما أبناءها، أنّ العنف وسيلة مقبولة لممارسة السيطرة الاجتماعية، لا تزال متواطئة مع العنف الأبوي. على تفكيرها أن يتغيَّر”.

هذا القصور لا يعني أن النسوية لا تمتلك خطاب حب يختلف اختلافا جذرياً عن الحب في المؤسسة الأبوية، بل يعني أن النسويات لم يلتفتن للتركيز على ذلك إلا متأخراً، مما سمح للإعلام الأبوي تصدير النسوية كلها كسياسة ترتكز على كراهية الرجال والأسرة والعائلة. أما الرؤية النسوية للحب فتتلخص في أن الحب بين الجنسين لا يمكن أن “يتجذر في علاقة تقوم على الهيمنة والإكراه”. إن الحب الذي تتطلع إلى تأكيده النسويات هو حب رافض لكل الروابط السلطوية والتملكية.

إيجاد لغة مشتركة

إلى جانب نقد التحيزات العرقية والجنسية والإكراهات الممارسة من قبل الرأسمالية، لا تغفل الكاتبة الجانب الذي تجد فيه النسويات حاجة ملحة للانغماس والممارسة وهو جانب الروحانية. إن روحانية الأديان تم تخريبها بشكل كبير من قبل رجال المؤسسة الدينية وخطاباتها النافية للمرأة عامة. ودفاعا عن الروحانية التي تحتاجها النساء ويمارسنها تتولد الحاجة إلى تسليط الضوء على الشروخات التي أحدثها الدين المؤدلج بين الذكر والأنثى بدءا من الخطيئة المنسوبة لحواء. تقول هوكس “لقد ساعدنا تمثيل الله بطرق متنوعة، واستعادة احترامنا للمرأة المقدسة، على إيجاد طرق لإعادة تأكيد أهمية الحياة الروحية”.

أما المطلب المهم الذي تطرحة هوكس في كل تصور رؤيوي للنسوية فهو إيجاد لغة مشتركة مع النساء والرجال من كافة الطبقات وعودة إلى بدايات النسوية التي عملت على التوعية العامة والشاملة للجميع قبل أن تحصر نشاطاتها في الأكاديميات والجامعات وتعزل نفسها.

الاهتمام الذي توليه هوكس لجوانب النقص في النظرية والممارسة النسويتين إنما يأتي من الحاجة الملحة إلى الانتباه إلى الفراغات التي أهملتها، أو لم تعمل عليها النسوية بشكل كاف وجاد

 تطالب هوكس كذلك بعمل فعال لا على مستوى النخبة والأكاديميات بل على مستوى العامة، من مثل إنشاء كتيبات مدرسية ونشر التوعية برؤية النسوية في الأوساط الاجتماعية، إضافة إلى فتح محطات تلفزيونية وإذاعية نسوية وتمويل برامج تعليمية وفتح مدارس وكليات نسوية لا تضم فقط النساء البيض كما جرت العادة، بل تفتح الباب بشكل جاد أمام الملونات والمنتميات للطبقات الفقيرة، تقول “يلقي منتقدو النسوية باللوم على الحركة في كلّ الاستياء الذي تواجهه المرأة العصرية، إنهم لا يتحدثون أبداً عن النظام الأبوي أو الهيمنة الذكورية أو العنصرية أو الاستغلال الطبقي”.

إن الاهتمام الذي توليه هوكس هنا لجوانب النقص في النظرية والممارسة النسويتين إنما يأتي من الحاجة الملحة إلى الانتباه إلى الفراغات التي أهملتها، أو لم تعمل عليها النسوية بشكل كاف وجاد، بحيث إنها بعد وقت أُعيد ملؤها بالخطابات الأبوية وصارت سلاحاً ضد النسوية نفسها. هذه الثغرات استغلتها النظم الأبوية لأن النسوية لم تقدم لها بدائل في الوقت المناسب، تقول “تعتقد جماهير النَّاس أن الحركة النسوية دائماً تتعلق بالمرأة التي تسعى إلى أن تكون متساوية مع الرجل فحسب. والأغلبية العظمى من هؤلاء الناس تعتقد أن النسوية مناهضة للذكور. يعكس سوء فهمهم للسياسات النسوية حقيقة أن معظم الناس يستقون معارفهم عن النسوية من وسائل الإعلام البطريركيّة”.

 

لا يمكن حصر أهمية هذا الكتاب في اللمحات العديدة التي تقدمها الكاتبة عن الممارسة النسوية، ولا في فتحه الباب أمام المزيد من العمل الفعال، بل على الأخص لأنه يُظهر أن:

 

 اختيار السياسة النسوية هو اختيار للحب.

 أنك إذا كنت ضد الرأسمالية فهذا يعني أن طريق النسوية هو طريقك.

 إذا كنت ضد سلطة رجال الدين والدين المؤدلج فطريق النسوية أمامك وهو طريقك.

 إذا كنت ترغب بالاحتفاظ بالروحانية وترفض في ذات الوقت بقايا السلطوية الدينية التي تنبذك من أرض الله فطريقك يتقاطع مع طريق النسوية.

 إذا كنت ضد العنف ضد الأطفال سواء أكان ممارسه رجلا أو امرأة فإن طريق النسوية يتقاطع مع طريقك.

 إذا كنت ضد السلطة كمفهوم وممارسة على البشر والكوكب سواء بسواء فطريق النسوية هو طريقك.

 إذا كنت ضد الطبقية والعرقية في أصغر تفاصيلها فإن النسوية لا تخالف مطلبك، هي ضد كل تحيز وعنصرية حتى عنصرية النسوية البيضاء الغنية ضد نساء الطبقة العاملة.

المصدر: صحيفة العرب

لا تولد قبيحاً – قصة بعنوان المنتحر، رجاء علّيش

 

المنتحر

كان على وشك أن يرتكب أخطر عمل في حياته.. أن يقتل نفسه.. وللمرة الأولى بدأ يدرك سخف الفكرة الشائعة بأن الانتحار عملية تلقائية يقوم بها المنتحر دون إعداد سابق.. تطرأ على ذهنه فجأةً، فينفذها على الفور.. هكذا ببساطة شديدة.. الآن، وهو يقف أمام الموت، تأكد له أن الانتحار ليس عملاً من هذا النوع.. إنه شيء معقد مخيف يحتاج إلى كل شجاعة الرجل وعقله وحواسه.. على الأقل الجانب المادي الإرادي منه.. سيهلك جانباً من طاقته العصبية المختزنة؛ حيث يحتاج إلى أن يتفرغ له تماماً، وأن يعدّ له.

المنتحر.. إلى حد ما.. إذا لم يرد أن يترتب على عمله مضاعفات قد تسيء لآخرين يحبهم في هذا العالم، يشبه الجراح الذي يقوم بعملية بتر كاملة للعضو المصاب بالغرغرينا.. ينظف مكان العملية الجراحية ليتأكد له أنه لن تحدث مضاعفات خطيرة قبل أن يغلق مكان الجرح المفتوح.. المنتحر يصفي كل علاقاته القديمة.. يقطع كل الخيوط التي تربطه بأناس بعنيهم في هذا العالم حتى لا يرحل عن الدنيا وهو مدين لأحد.. حتى لا يسبب إزعاجاً لأحد.. هذا كله يحتاج منه إلى أن يخطط لهذا العمل الخطير قبل فترة مناسبة.. أن يقوم بمبادرات معينة، ثم عليه أخيراً أن يواجه أهم وأخطر المراحل على الإطلاق.. في لحظة ما.. من مكان ما.. بوسيلة ما.. أن يحول الفكر المجرد إلى عمل.

هذا هو الموقف الآن الذي يجد نفسه فيه، والذي يدرك معه أن كل أفكاره السابقة عن الانتحار كانت نوعاً سخيفاً من الوهم من أناس لم ينتحروا على الإطلاق، أو يفكروا في الانتحار.

إنه يدرك تماماً الآن أن الانتحار عمل مخيف، على الأقل الجانب المادي الإرادي منه.. أن يصل الإنسان إلى تلك الدرجة من الهوان على نفسه.. الإحساس الكامل بالضياع واليأس من الحياة؛ حيث لا يجد صعوبة في أن يضع رأسه في مواجهة مسدس، ثم يطلق الرصاصة.

لو أنهم اقتحموا جمجمته الآن لرأوا عن قرب ذلك الصراع المخيف الدائر فيها بين رغبته في البقاء ورغبته في الانتحار.. بين الشجاعة والخوف.. بين كل مغريات الحياة وجاذبية الموت الرهيبة.

لكن تردده لم يكن راجعاً إلى أنه لم يختر بعد أن يموت.. على مدى أيام طويلة كان قد اختار.. تذبذبه كان شيئاً غريزياً تماماً يتحرك في نفس كل إنسان يواجه الموت الإرادي، وتشده مغريات الحياة إلى الوراء.. تذبذبه كان إنسانياً تماماً؛ لأن الخوف الغريزي، الذي كان يشعر به تجاه الموت.. على الأقل الجانب المادي الإرادي من الموت، لم يكن شيئاً مخجلاً على الإطلاق.

كان عليه أن يحسم هذا الصراع المخيف على الفور.. أن يضع نفسه وجهاً لوجه أمام المخرج الوحيد من مأزقه.. أن يموت.

كان قد هيأ المسرح تماماً للعمل الخطير الذي ينوي ارتكابه.. اختار وقتاً هادئاً للغاية لتنفيذ مخطّطه الجنوبي.. كان يدرك أن زوجته المريضة طريحة الفراش منذ سنوات بعيدة، عاجزة تماماً عن إنقاذه في اللحظة المناسبة حتى لو

 

أحست به.. وكان قد طلب من ابنته الطالبة في الجامعة ألا تعود في فترة الظهر لتعطي أمها الدواء كالعادة، قائلاً لها إنه سينوب عنها في أداء هذه المهمة، ولم تشكّ ابنته في شيء، فقد كان حريصاً تماماً على إخفاء مشاعره الحقيقية عن أقرب المقربين إليه، ابنته وامرأته طريحة الفراش، بل إنها رحبت بهذا العمل من جانب والدها؛ لأنه سيعفيها من مشقة الرجوع إلى البيت، ثم العودة إلى الجامعة من جديد لتكملة باقي المحاضرات.

الحجرة، التي يوجد فيها، يخيم عليها الظلام.. مصراعها الخشبي المغلق يحجب ضوء الشمس المتوهج في الخارج.. الظلام سيضفي شاعرية غريبة على عمله الجنوني.. سيجعل كلّ الأشياء، التي لا يريد أن يراها، تذوب في الظلام.

كان واقفاً فوق مقعد صغير وسط الحجرة.. حبلٌ يتدلى من خطاف حديدي صغير في السقف يلتف حول رقبته.. صمت تام يخيّم على الشقة كلها.. صمت يحمل بين طياته رائحة الموت الطيبة العطرة.. ليس عليه أن يتردد طويلاً، بل أن يحسم الأمر بسرعة لمصلحة فكرة الموت، التي جاء من أجل تنفيذها.. دفعة بسيطة من قدمه للمقعد الذي يقف فوقه، ويجد نفسه جثة متأرجحة في الهواء، كما أراد تماماً، وبذلك تنتهي كلّ متاعبه في لحظات.

الثواني تمرّ عليه، وهو عاجز عن أن يصل إلى حسم الأمر لمصلحة فكرة الموت المسيطرة على كلّ خلجة في نفسه.. شجاعته تخونه مع الوقت.. العمل الذي تصوّره بالغ السهولة.. مجرد أن يدفع المقعد الصغير بقدمه إلى الأرض أصبح مستحيلاً بدرجة خرافية.. قدمه تحوّلت إلى صخرة من الجرانيت تعجز كل الدوامات الساخنة، التي تفور في داخله، عن تحريكها لتدفع بالمقعد الصغير إلى الأرض.. إنه يعيش لحظة تجمع بين الحقيقة ومنتهی الوهم.. عاجزاً عن رؤية أيّ شيء أمامه.. عن حسم أيّ شيء.

بدأ يقوم ببعض الأعمال التافهة ليكثف اللحظات التي تمرّ به.. اللحظات التي تشبه الهواء الساخن المتسرب من بين أصابعه.. ليعطيها شحنات أكبر من الحقيقة.. بدأ يتحسس الحبل الملتف حول رقبته.. مسند المقعد الذي يقف فوقه.. جسمه المسترخي في بلادة شديدة كأنّه مات فعلاً، وليس في طريقه إلى أن يموت.. ثمّ بدأ يفكر في زملائه في العمل.. الخطوة الأولى ليمتلئ بالغضب الذي يدفع به بسرعة في طريق الموت.. بدأ يحسّ أنه يمضغ إحدى الثمار الشديدة المرارة.. كان يشكّ طول الوقت في أنّ الأوغاد عرفوا شيئاً عن السر الدفين، الذي حاول، باستهانة بالغة، أن يخفيه عن عيونهم المستريبة الحاقدة.

الذي كان يعذبه أكثر هو أنه لم يكن مؤكداً له تماماً أنهم عرفوا شيئاً على الإطلاق، وإلا لما التزموا الصمت حتى الآن، ولجابهوه بعدوانية صريحة لا مواربة فيها.. ليس مؤكداً له أنهم عرفوا شيئاً على الإطلاق.. إنّه فقط يشك فيهم، وهو بالتأكيد ملك أسباباً حقيقية لذلك الشك.. هو نفسه أعطاهم مبررات الشك فيه؛ إذ لا ريب في أنهم لاحظوا أنها المرة الأولى في تاريخه الوظيفي الطويل، الذي يتميز بالانضباط الشديد، والتي ينصرف فيها عن العمل قبل أن يحين ميعاد الانصراف الرسمي دون أن يعطي لذلك مبررات معقولة لزملائه.. وفاة قريب مثلاً، أو عملية جراحية في مستشفى، أو عشرات أخرى من الأسباب.. كلّ ما برّر به هذا العمل أنه أحس إرهاقاً مفاجئاً يمنعه من الاستمرار.

كان لا بد لهم من أن يشكوا في رجل لم يشعر، خلال تاريخه الوظيفي الطويل، بأيّ ارهاق من العمل، ولم ينصرف أبداً قبل أن يحين ميعاد الانصراف الرسمي، مهما كانت الأسباب والمبررات.. أحس من نظراتهم إليه أنهم لا يصدقون حرفاً واحداً مما قال.. إنهم يتبادلون في ما بينهم شفرة صامتة غريبة في محاولة استجلاء السرّ الدفين الذي يحاول باستهانة بالغة إخفاءه عن عيونهم المستريبة الحاقدة.

المأساة أنه يعرف أنهم لم يصدقوا حرفاً واحداً مما قاله لهم، لكنّه لا يستطيع أن يصارحهم بذلك.. هم أيضاً يعرفون أنّه كذب عليهم، لكنهم لا يجرؤون على مصارحته بذلك.. ويتكهرب الجو بينه وبينهم، وترتفع حدّة الكراهية المشتركة إلى الذروة، وهو يعلم أنّ مرؤوسيه الصغار يتمنون من صميم قلوبهم أن يقع مرة واحدة على الأرض، فيسارعون إلى إحضار سکاکينهم الحادة، التي لا ريب في أنهم أعدّوها لتلك المناسبة والإجهاز عليه.

نظراته الخائفة، التي تتلصص عليهم من وراء أكوام الملفات الموضوعة على المكتب، أسهمت هي الأخرى في خلق حالة الشك المتبادل بينه وبينهم.. السجائر، التي يشعلها واحدة من الأخرى، ثمّ يطفئها قبل أن تنتهي.. محاولته المكشوفة في أن يبدو منهمكاً في أيّ عمل، فيرتبك أكثر وأكثر.. ارتعاشة يديه.. العرق الذي يتصبب بغزارة فوق وجهه، والذي كان يجففه بمنديله المكتوم المتّسخ، كلّها ساهمت في خلق حالة الشكّ بينه وبينهم.. وأخذت الهوة تتسع بينه وبينهم.. إنه يعلم أنّهم يضمرون له الكراهية التقليدية، التي يشعر بها الموظفون الصغار تجاه رئيسهم العجوز العاجز عن فهم عقليتهم الشابة المتفتحة.. الذي يقف أمامهم كالصخرة التي تسدّ طريقهم إلى المستقبل..

طريقته في العمل مختلفة.. إحساسه بالحياة مختلف، لكنّهم مضطرون، في نهاية الأمر، إلى الخضوع لتلك العقلية المتحجرة، التي تتحكّم في حياتهم ومستقبلهم الوظيفي؛ لذلك يكرهونه ويتمنّون له أن يقع مرّةً واحدةً، فيسارعون بالإجهاز عليه.

الخوف منهم.. كراهيتهم من قلبه بمزيجٍ غريب مقرفٍ من المشاعر… عيونهم التي تتلصّص عليه من وراء أكوام الملفات، دوائر من الضوء المركز تحاصره؛ حيث لا يمكنه الفرار من حصارها.. الجبناء يحسون بغريزتهم التي لا تخطئ.. بلؤمهم الوظيفي التقليدي، أنّه وقع في مأزق غير عادي.. مخجل على الأرجح، وأنّه لا يعرف طريقة للخروج منه؛ لذلك يشعر بالخوف والارتباك أمامهم؛ لأنّ المؤكّد أنّهم يعرفون سرّه الدفين، وإن كانوا لا يجرؤون على مصارحته بذلك.. لكنّهم لا يعرفون نوع ذلك السرّ، وإن كان مؤكّداً أنّهم سيظلون ينبشون بأظفارهم وراءه حتى يعرفوا ماهيته، وعند ذلك لن يتورعوا عن إحداث أكبر فضيحة له لن يستطيع بعدها أن يرفع رأسه.. لكنه لن يمنحهم أبداً الفرصة التي يتوخّونها.. لن يمكنهم أبداً العثور على السرّ الذي يسعون وراءه.. كلّ ما عليه أن يفعل هو أن يظلّ متماسكاً حتی يخرج من هذا المكان اللعين، ثم بعدها يعطي نفسه حرية الانهيار.. إنه لن يبالي حينئذٍ لو عرف كلّ الناس السرّ الذي يحمله بين ضلوعه؛ لأنه ببساطة سيكون في وضع لن يؤثّر فيه افتضاح هذا السر؛ لأنّه سيكون في طريقه إلى الموت.

جاءت اللحظة، التي قرر فيها الانصراف من المكتب.. أدخل الملفات بسرعة إلى داخل المكتب، ثم اختلس نظرة أخيرة على الوجوه المحنطة المحيطة به، وعلى الأخص عيونهم الزجاجية المضيئة المركزة فوقه، والتي تصيبه بارتباك فظيع.. أطفأ السيجارة العاشرة في المطفأة، وهي لا تزال في منتصفها.. وجهه قناع سميك من الجلد يخفي وراءه كلّ اضطرابه وخوفه من المستقبل الذي ينتظره.. وقف على قدميه متحاملاً بيده على سطح المكتب.. يجفف العرق الغزير، الذي يتصبّب فوق وجهه وجبهته العريضة، بمنديله المكتوم الذي يخرجه من جيبه.. أخذ يساوي ملابسه المتهدلة من الخلف.. رفع حزام بنطلونه الساقط إلى أسفل.. اختلس نظرة أخيرة إلى العيون، التي تشجعت وراحت توجّه إليه نظرات صريحة مليئة بالاتهام.. تصوّر لو أنه بقي أكثر من ذلك، لانهار تماماً أمام تلك العيون المليئة بقسوة فظيعة.

غادر الحجرة بسرعة بعد أن وجّه تحية إلى زملائه بإيماءة من رأسه.. حيث لم يجرؤ على النظر الصريح إلى عيونهم، التي اعتقد أنها مليئة بالضحك.. تنهّد في راحة، وهو يغلق وراءه باب الحجرة.

أحسّ أنّ عبئاً ثقيلاً انزاح من فوق كاهله.. لم يعد همّه أن يعرفوا السر الذي يخفيه بين ضلوعه، بل أنه لا مانع الآن من العودة إليهم وإخبارهم بذلك السر، فهو في طريقه الآن إلى عدم الاهتمام بشيء على الإطلاق.. في طريقه إلى أن يموت.

ابتسم في مرارة شديدة راضية.. لم يكن يتصور أن الموت يمكن أن يكون حلاً سحرياً لكلّ مشكلات الحياة المعقدة، وهو الذي كان يتصور الموت مشكلة في حدّ ذاته، والمنتحر مخطئاً عقابه الجحيم.

وهو واقف أمام الموت وجهاً لوجه.. الحبل المتدلّي من سقف الحجرة ملتفّ حول رقبته.. دفعة بسيطة من قدمه للمقعد الصغير، الذي يقف فوقه، وينتهي كل شيء كما توقع تماماً.. وهو في هذا الموقف المأسوي الحزين، تغيّر كثير من مفاهيمه السابقة عن الموت.. الجانب الإرادي منه على وجه الخصوص.. لم يكن يتصور أن قتل الإنسان نفسَه يمكن أن يكون بهذه الصعوبة.. إنّ على الإنسان أن يفكر مئة مرة، قبل أن يُقدِم على هذا العمل الفظيع.. الشجاعة، التي تصوّر أنها موجودة على طرف حذائه، اكتشف الآن أنّها لم توجد على الإطلاق.. دخل منطقة انعدام الوزن المحيطة بالموت؛ حيث يفقد الإنسان قدرته على التفكير العقلاني الهادئ، ويصبح مصيره معلقاً بعمل غير مقصود يقدِم عليه في لحظةٍ ما.. مجرّد غلطة بسيطة مروّعة تكلّفه حياته.. الحياة بكلّ قوی الجذب في داخلها.. بكلّ جاذبيتها العارمة، نشدّها إلى الوراء.. تبدّدت فكرة الموت من عقله بسرعة مذهلة.. تكسب مواقع جديدة في داخله، وهي تطارد أمامها ظلال الموت المنهزمة.. دوائر عديدة من الضوء المركز تتكون بسرعة داخل مسطح الظلام الرمادي الموجود في داخله.

في تلك اللحظة يدور صراع تقليدي رهيب بين قوتين تتنازعانه بشدّة؛ لكلّ منهما جاذبيتها التي لا تقاوم.. فلولها التي تنتشر بسرعة في داخله أو تختفي.. هو حائر بين هاتين القوتين لا يحسّ بالانتماء الحقيقي إلى أي منهما.. القوتان متعادلتان تماماً في داخله، لكن عليه، رغم ذلك، وبإرادة معدومة تماماً، أن يغلّب إحدى هاتين القوتين على الأخرى.. إنه في تلك اللحظات النادرة، التي يملك ولا يملك الإنسان فيها مصيره تماماً.. إنه إله صغير يستطيع، بعيداً عن أي تأثير خارجي، أن يتحكم في مصيره ومستقبله.. أن يعيش أو يموت.

في تلك اللحظة، يحس بأنه يريد أن يعيش، فهو خائف من الموت، لكنه أيضاً يريد أن يموت، فهو خائف من الحياة.. ضائع.. مبعثر.. لا يمكنه العثور على إرادة الإله الصغير الذي يحسم الأمور ببساطة شديدة؛ لأنه فوقها.. الآن يحس أنه ليس فوق المشكلة، بل في صميمها.. إنه ليس إلهاً يحل مشاكل إنسان آخر، بل إنسان في محنة شديدة وبحاجة إلى مشورة إنسان آخر إلى جانبه، لكنه لا يجد هذا الإنسان أبداً.. المهمة التي عليه أن يقوم بها الآن تبدو مستحيلة تماماً.. قدمه ثقيلة مليئة بالرمل ملتصقة بجسمه المتخاذل الذي يشبه کیساً من القطن.. بدأ يدرك الآن أنّ عليه أن يقوم بدور الجلاد والمحكوم عليه في الوقت نفسه، واعياً بكل ما يحدث له من الآن فصاعداً.. لا يمكنه ببساطة أن يضيع الوقت أكثر من ذلك، أو أن يترك الأحداث تدفع به إلى نتيجة لا يریدها.. عليه هو أن يدفع الأحداث إلى النتيجة التي يختارها، وهو قد اختار أن يموت، وجاء إلى هذا المكان ليضع اختياره موضع التنفيذ، لكنه يشعر الآن بأنه عاجز عن اتخاذ قرار مريع وحاسم بالمضي في طريق الموت إلى غير رجعة، وتلك مأساته الآن.. وبدأ يحسد المحكوم عليه بالإعدام؛ لأنه يجد على الأقل من يقوم عنه بهذا العمل الفظيع.

بدأ يفكر بطريقة عكسية تماماً ليتخلص من تأثير جذب الحياة له.. ليدفع بنفسه أكثر في اتجاه الطريق الآخر نحو جاذبية الموت الرهيبة.. بدأ يفكر في الفضيحة التي ستعقب اكتشاف عجز الخزانة التي في عهدته.. قنبلة ستنفجر في صرح حياته الطويلة الشديدة الهدوء والنصاعة، فتهدمها فوق رأسه.. ليس فوق رأسه فحسب، بل أيضاً فوق رأسي أعزّ مخلوقتين لديه.. زوجته وابنته.. الموت بعد أن فكر طويلاً هو الحل السحري لإنقاذه من المأزق الرهيب، الذي أوقعته فيه ظروفه السيئة.

تراءت له عيون زملائه في الحجرة ممتلئةً بوميض باهر من السخرية والشماتة لا يمكنه، بحال، احتماله، ثم بدأ يسمع أزيزاً کالكهرباء يزنّ إلى جوار أذنه.. إنهم يلوکون سيرته في أفواههم.. يقطعونه إلى عشرات القطع الصغيرة من اللحم النيء، ثم يقذفون بها إلى فوهات البراكين الجائعة في داخلهم.. يحس برغبته تتزايد في الموت.. يرفع ساقه إلى أعلى مستوى المقعد، الذي يقف فوقه ليدفع به إلى الأرض.. ساقه تتجمد في الهواء… تعود في تخاذل شدید، بعد لحظةِ ترددٍ قصيرةٍ، لتستقر إلى جوار قدمه الأخرى.

الآن يتأكد له مع الوقت أنه اختار وسيلة مستحيلة تماماً، وسخيفة في الوقت نفسه، للهروب من مأزقه.. الحياة تشده من جديد إلى مرافئها الدافئة القديمة.

فكر في ابنته التي ستصاب بإغماء مؤكّد عندما تعود من الجامعة لتكتشفه معلقاً من رقبته في حبل يتدلى من سقف الحجرة.. يتأرجح في الهواء ككيس من القطن فارقته الحياة.. عيناه جاحظتان بشكل مخيف داخل محجريهما.. فکّه ملتوٍ بشدة كأنه ضُرِب فوقه.. لسانه يتدلى من فمه المصاب بزرقة شديدة.. لونه شمعي باهت.. جسمه كلّه مسترخٍ في بَلادةٍ شديدة، كأن أشياء كثيرة قد سُحبت من داخله.. ابنته بالتأكيد لن تتحمل منظره المخيف، وستصاب بحالة إغماء مؤكدة على الفور، ثم زوجته المريضة طريحة الفراش منذ سنوات بعيدة، بقلبها العليل، لن تتمكن هي الأخرى من أن تظل على قيد الحياة بعد أن يبلغها خبر وفاته المفجع الذي سينزل عليها كالصاعقة.

إنها جريمة قتل متعمدة، إذاً، يرتكبها ضدهم.. ضد أحبّ مخلوقتين إلى قلبه، ولو أنه مهّد لهذا العمل الخطير، بأيّ صورة من الصور، لشجعه ذلك على المضي في تنفيذ مخططه الرهيب، دون أن يخشى التأثير المدمر له على زوجته وابنته، لكنه لم يفعل ذلك.. لم يشر بكلمة واحدة، ليس إلى ما انتوى الأقدام عليه فقط، بل حتى إلى مشكلته نفسها.. وبذلك تهاوى آخر معقل من معاقل الموت الرهيبة أمام الهجوم العنيف والمتصاعد لقوى الحياة في داخله.. صمم على أن يعيش من أجل المرأتين اللتين يحبّهما أكثر من أيّ شيء آخر في العالم.

رفع الحبل بتصميم من حول رقبته، وهو يحس أنّه أفلت بأعجوبة من أعجب ورطة وضع نفسه فيها بإرادته.. تنهّد في راحة شديدة.. نزل بسرعة وجلس على الفراش ممسكاً رأسه بين يديه يفكر بعمق في الخطوة التالية.. ما زال يحس أنه لم يبتعد تماماً عن خطر الموت، الذي يلاحقه، فهو لم يجد باقتناع کامل بديلاً له حتى الآن، فالحياة بكلّ مغرياتها، وقوة الجذب فيها، ليست قادرة تماماً على جذبه من الموت.. إنها على الأقل تحمل بين طياتها خطر افتضاحه أمام الآخرين.

غادر مقر العمل.. يسير بخطوات ذاهلة في الشارع المزدحم بأناس لا يشعرون بمأساته الحادة.. تسيطر عليه فكرة الموت كحلّ نهائي وسعيد لمأساة حياته.. يحسّ أنه بالون صغير ممتلئ بغاز أخفّ من الهواء، وهو على وشك أن يقطع الخيط الرفيع، الذي ما زال يشدّه إلى الأرض، منطلقاً إلى غير رجعة في فضاء لا نهائي.. خفيفاً كالأحلام.. كطيور السماء البعيدة، لا تثقله المشكلة الحديدية، التي يحملها في داخله.. قبل ذلك ظلّ يقارن في نفسه بين نوعين من العار لا بد من أنه واقع في واحد منهما.. العار وهو ميت، والعار وهو حي، مفضوح بين الناس.. واختار أخفّ العارين.. اختار أن يموت.. ربما كان موقفاً أنانياً منه لم يعمل حساباً لآخرين يحبّهم في هذا العالم، لكنه بدا له الحل الوحيد المفجع والسعيد للخروج من مأزقه.

اكتسبت خطواته خفة مذهلة وهو يفكر على هذا النحو.. وصل أخيراً إلى البيت.. كزورق وصل إلى مرفأ الأمان.. ألقى بكلّ همومه وراء ظهره، وبدأ يتطلع إلى حياة بلا هموم على الإطلاق في مكان بعيد عن الأرض.

وقف في بئر السلم يتطلع بضيق وعصبية إلى صف السلالم الطويل، الذي يتعين عليه أن يصعده ليصل إلى شقته في الطابق الخامس من المنزل.. لأول مرة منذ سكن هذا البيت يبدو له هذا العمل الروتيني المألوف نوعاً ثقيلاً من العبء عليه أن يؤديه.. أحس أن وزنه زاد بمقدار طن من العذاب، وأن عليه أن يحمل هذا العبء الإضافي، ويصعد به إلى شقته في الطابق الخامس.. أحس بإعياء شديد، لكنه تحامل على نفسه، وقرر الصعود على الفور كي لا يضيع الوقت الذي يحتاج إلى كلّ دقيقة منه.. بذل مجهوداً خارقاً ليرفع جسمه المترهل الضخم إلى درجة السلم الأولى.. استند بيده على سياج السلم الحديدي ليعاونه ذلك على الصعود إلى أعلى… أطلق كل البخار المختزَن في داخله كما تفعل القاطرة البخارية، وهي تحاول التحرك من حالة الجمود الأولى.. تصور أنه سيصعد باقي الدرجات بقوة الدفع الذاتي، وبشيء من السهولة النسبية.

في صعوده بدأ يحس بشعور غريب يجتاحه للمرة الأولى في حياته.. شعور يفتح مسام نفسه إلى الحد الأقصى لتفهّم عمیق وحقيقي للحياة.. يهزها لحب الأشياء الصغيرة، التي لم تلفت نظره قبل الآن.. الأشياء الدافئة المشحونة بقوة العاطفة الإنسانية الخلاقة.. بدأ يتنبه، للمرة الأولى في حياته، إلى رائحة الطعام العذبة السابحة في جو السلم الفسيح، مختلطة بذرات الغبار، ودفء الشمس، الداخلة من النوافذ المفتوحة العالية، صانعةً أعجب رائحة شمها في حياته.. أيقظت تلك الرائحة المثيرة كلّ الأشياء النائمة في صدره.. جعلت عينيه تغرورقان بدموع حقيقية.. أهاجت فيه حنين الإنسان العميق إلى الحياة والدفء، واللذات اليومية المألوفة.. كل الأشياء التي هو في سبيله إلى فقدها الآن.. تحول هذا الشعور بسرعة إلى حزن عميق يسيطر على حواسه.. إلى نوع فظيع من اليأس، فهو في سبيله إلى فقد كل الأزهار اليانعة في حديقته الخاصة، التي توشك على الذبول، في الوقت الذي ستظل فيه أزهار الآخرين حية يانعة تتقبل دفء الشمس كلّ صباح.. سيموت هو بينما سيظل الآخرون قادرين على الاستمتاع اليومي المألوف بكل الأشياء الصغيرة الدافئة، التي تهيج حاستهم العميقة للحياة.. استمتاعهم بها.. الضحكات.. الدموع.. الحب.. المشاكل اليومية الصغيرة.. وجبات الطعام الشهية.. وجوه الناس التي تطلّ من وراء النوافذ الصغيرة.. فوقها طبقة سميكة من حب الحياة والدفء الإنساني.. وفي عيونها فضول غريب.

أحس أنه مات قبل أن يبدأ يموت، لكنه حاول باستماته شديدة أن يكبت هذا الشعور في داخله، فهو قد جاء إلى هذا المكان وفي نيته أن يموت، وهو بالتأكيد لن يسمح لأية مشاعر إنسانية مفاجئة أن تفسد تدبيره.. وبدأ يتابع الصعود إلى أعلى، لكن ببطء أشد، وبقدرة أكبر على التأمل والاستمتاع والعذاب.

لفتت نظره صفائح القمامة الممتلئة الموضوعة أمام أبواب الشقق المغلقة.. كان هذا يسبب له إزعاجاً دائماً في الماضي؛ حيث لم يكن في المنزل العتيق سلّم للخدم.. الآن يحس بشعور مختلف تماماً وهو يرى تلك الصفائح الممتلئة حتى حوافها، والموضوعة أمام أبواب الشقق المغلقة.. يشم رائحة تلك الصفائح الكريهة بالشعور الغريب نفسه الذي يشم به رائحة الطعام السابحة في جو السلم.. دلالة هذه الصفائح تبدو له الآن واضحة تماماً.. إن معنى وجودها في تلك الأماكن أن وراء الأبواب المغلقة أناساً يعيشون.. يستهلكون، وأنهم لفترة طويلة قادمة سيظلون على قيد الحياة، في الوقت الذي يكون هو فيه قد اختفى تماماً من الوجود.. وبدأ الشعور الحزين يهاجمه من جديد بضراوة فظيعة.. إنه الآن في طريقه إلى أن يتحول إلى صفيحة قمامة يأخذونها مع هذه الصفائح، ويفرغونها في مكان بعيد عن العيون.. هذه الصفائح ستعود، أما هو فسيبقى هناك إلى الأبد.

فتح باب الشقة بهدوء حتى لا يوقظ زوجته النائمة في الفراش.. فتح باب حجرة نومها.. أطل عليها من فرجة الباب بحذر شديد.. اطمأن عندما أدرك أنها لم تشعر بوجوده.. أغلق الباب من جديد بهدوء شديد.. تقدم ناحية حجرة ابنته المجاورة لحجرة نوم زوجته.. فتح الباب.. الحجرة يخيم عليها ظلام نسبي.. تقدم إلى المصراع الخشبي المغلق وفتحه.. الضوء غمر الحجرة فجأة.. أعمى عينيه.. خرج بسرعة إلى الشرفة الصغيرة المطلة على الشارع المزدحم.. الناس من تحته مجموعة من الأشباح والظلال الذائبة في ضوء النهار المتوهج في الشارع.. ناس مصنوعون من دخان في عالمٍ كلّ ما فيه دخان.. أحسّ أن هذا التفكير يقربه أكثر من الموت الذي جاء من أجله.. فجأة خيّم صمت شديد على الشارع.. الأصوات الصادرة منه لا تصل إليه.. الناس تحولوا إلى حشرات صغيرة التصقت بإسفلت الشارع الذي ساح من حرارة الشمس القوية فوقه.. ثم بلعهم الشارع من تحته.. أحس فجأة أنه يقف في صمت وسكون أمام الموت الرهيب الذي جاء من أجله.. الموت قابع الآن داخل تلك الحجرة الصغيرة، فليدخل لمقابلته.. تصور أنه منوّم مغناطيسياً، أو أنه نوع من الإنسان الآلي المدرّب من قبل على هذا العمل، وأن كل ما سيقوم به بعد الآن من خطوات سيتم بطريقة آلية تماماً، ومجردة من مشاعره إنساناً.. سيتم بتلقائية مذهلة كأنّه انتحر عشرات المرات من قبل.. تحسس الملابس المنشورة فوق حبل الغسيل الممتد بعرض الشرفة الصغيرة.. الملابس جافة كما توقع.. جمعها ودخل بها إلى الحجرة، وألقى بها على الفراش.

بحث عن شفرة حلاقة سرعان ما وجدها.. خرج بها إلى الشرفة، وقطع بها حبل الغسيل، وحمله إلى داخل الحجرة.. أغلق المصراع الخشبي ليعود الظلام النسبي فيخيم على الحجرة من جديد.

راوده شعور غريب وهو يجلس إلى جوار الملابس المكومة على الفراش.. ملابسه وملابس زوجته وابنته، وقد اختلطت بعضها ببعض.. رائحة الصابون والشمس والهواء المنبعثة منها تملأ رئتيه.. تصور أن ملابس الناس يمكنها أن تحس بشعور الاغتراب المصاحب للموت، وأنها عندما تنتزع من جوار بعضها البعض تحسّ بشعور الأصدقاء القدامى عندما يفترقون.. بل إن الملابس يمكنها أن تحسّ بألفة تجاه أصحابها الذين تعودوا ارتداءها، والذين انبعث العرق من مسامهم ليختلط بنسيج تلك الملابس، فتشعر بالحزن لفراقهم، ولم يستطع إلا أن يتخيل شعور ملابس الغريب بعد أن يضمها إنسان آخر فوق جسمه.. أهاج هذا الشعور كلّ الخواطر الحزينة في داخله.. إنسانيته.. دفع به أكثر في طريق الموت الذي جاء من أجله.. الموت الذي يحس الآن أنه يحبه من أعماقه.. إنه الآن يدمر كلّ الجسور المشيدة وراءه ليبدو الرجوع إلى الخلف مستحيلاً تماماً.. ليبدو الموت هو الطريق الوحيد الذي يمكن أن يسير فيه.

أحس في تلك اللحظات الفريدة المليئة بالحنان أنّ علاقته قد قويت بكل الأشياء الصغيرة التي استعملها في الحياة.. فرشاة أسنانه.. ماكينة حلاقته.. مشط شعره.. وامتلأت عيناه بدموع الملح الصامتة، بينما يده تعتصر کومة الملابس، وتقرّبها بحنان وفظاعة من أنفه كي يملأ صدره برائحتها الغريبة الدافئة.

نظر إلى سقف الحجرة.. تنهد في راحة عندما وجد الخطاف الحديدي الصغير في مكانه كما توقع أن يجده.. كان يخشى، طوال الطريق إلى البيت، ألا يجده في مكانه.. أحضر مقعداً صغيراً من الصالة، وصعد فوقه.. ربط الحبل بقوّة في الخطاف الصغير.. تأكّدت له متانة العقدة أكثر من مرّة.. في الطرف الآخر من الحبل صنع عقدة أكبر أدخل فيها رأسه، ثمّ وقف ينتظر.

جالساً على الفراش.. رأسه المزدحمة الثقيلة بين كفيه.. يفكّر بعمق شدید.. إن الأمر، عندما تدوّي الفضيحة من حوله، لن يكون قاصراً على سخرية الموظفين وشماتتهم، أو ثرثرة الجيران ونهشهم الدائم اللحوح لسيرته، إنه بالتأكيد سيصل إلى أبعد من ذلك.. سيصل به إلى السجن.

تساءل، بينه وبين نفسه، هل يمكنه احتمال السجن في هذه السن المتأخرة، أو حتى في أيّ سن أخرى.. إنه بالتأكيد يفضل أن يموت على أن يسجن.. ثم إنه سيصمُ أسرته إلى الأبد في حالة سجنه.

ذبابة الموت تطنّ داخل رأسه من جديد وبإلحاح أكثر.. نظر بحنان شديد إلى الحبل المتدلي من سقف الحجرة.. الحبل يمثل له الخلاص من أزمته الحاضرة.. صمّم على أن يموت.. صعد، بسرعة وبلا تردد، فوق المقعد الصغير.. رفع قدمه إلى أعلى ليتمكن من دفع المقعد إلى الأرض.. قدمه تجمّدت في الهواء في حالة عجز تامّ عن تنفيذ الأمر الذي أصدره إليها.. بإحساس شدید بالإحباط والتخاذل عادت قدمه لتستقرّ إلى جوار جسمه المتبلّد المسترخي.. أدرك أنه لا يمكن أن يموت.. ليس الآن وليس بهذه الطريقة.. إنّ عليه مسؤوليات جسيمة تجاه أسرته الصغيرة، التي لم يَعدُّها، بأيّ صورة من الصور، لتقبّل صدمة موته المفاجئة.

ثمّ لماذا لا يحاول أن يجد حلاً لمشكلته التي يضخّمها الوهم أكثر من اللازم.. لقد امتدّت يده إلى الخزانة التي في عهدته.. فعل ذلك من أجل توفير الدواء لزوجته المريضة بالقلب.. من أجل مستقبل أفضل لابنته الطالبة في الجامعة.. كثيرون غيره فعلوها من قبل، وكثيرون غيره سيفعلونها في المستقبل.. عليه أن يفكر بحكمة ليخرج من مأزقه.. إنه لم يجرب مصارحة زملائه الموظفين الكبار في السن.. ربما وجد عندهم حلاً لأزمته المستعصية.. إنه واثق بأنهم سيساعدونه بكلّ ما يقدرون عليه.. إنه، إذاً، تقصير خطير في حقّ حياته الثمينة وحياة أسرته الصغيرة أن يموت بهذه السهولة.. هذه الأسرة التي لا يعتقد أنها ستتخلّى عنه مهما حدث له، بل إنه واثق بأنها ستقف إلى جواره، وتشد من أزره.

قوي في داخله الإحساسُ العميق بالحياة.. دقّت ساعة الحائط أولى الدقات في الساعة الثانية عشرة، وهو الميعاد الذي تتناول فيه زوجته دواء القلب، وهو عادةً يقدّمه إليها بنفسه عندما يكون موجوداً في المنزل.. اليوم وعد ابنته بأنّه سينوب عنها في هذه المهمة، ولا يمكن بحالٍ أن ينكث بوعده.. تخيل وجه زوجته وقد بدأت تسمع دقات الساعة وكل حواسها متنبهة انتظاراً لدخوله أو دخول ابنته إلى الحجرة ليعطيها واحد منهما الدواء، كالعادة، وهو يطبع قبلةً حانية فوق جبينها، بينما هو يتمنى لها الشفاء العاجل.. أحس أن شيئاً يعتصر قلبه بشدة، ويخرج منه كلّ ما فيه من مرارة.. وأخذت دقات الساعة تتابع في سكون الشقة الرهيبة، ومع كلّ دقة كانت أعصابه تتنبه أكثر، وإحساس عميق بالحياة في داخله يقوى أكثر.

فجأة خُيِّل إليه أنه سمع صوت زوجته الخافت تنادي على ابنتها.. بدأ الصوت يتّضح تدريجياً في أذنيه.. الآن تأكّد له أنّها استيقظت، وتريد أحداً يعطيها الدواء، ويجلس إلى جوارها.. هفّت كلّ مشاعره الطيبة نحو زوجته.. أراد أن يتحرك إليها بسرعة ليقبل يدها، ويطلب منها الغفران والصفح.. قلبه ممتلئ بالحب.. ذكريات السنين الطويلة تحرك خياله.. قوة أكبر من إرادته دفعت به ليتحرك من فوق المقعد كي ينزل على الأرض، ويلبي نداء زوجته.. الحبل ملتفّ حول رقبته.. المقعد الصغير الذي يقف فوقه يمكن أن ينزلق بسهولة شديدة من تحته لو لم يتحرك بحذر شديد.

ساد سكون فظيع أرجاء الحجرة التي يوجد فيها.. اكتشفوا الجثة في المساء… جثة رجل تحوّل إلى كيس من القطن يتدلى من سقف الحجرة بحبل معلق في رقبته.. عيناه جاحظتان إلى الأمام، وفكه ملتوٍ كأنّه ضُرِب فوقه.. لسانه يتدلى خارج شفتيه الزرقاوين المتضخمتين، وبشرته شمعية شاحبة يلمع فوقها اصفرار الموت الرهيب.. الموت الذي لم يتوقعه على الإطلاق.. ارتسم فوق وجهه تعبير غريب ينمّ عن منتهى الدهشة والإحساس بالألم.. حاول الذين تجمعوا حول الجثة في المساء أن يفسروا سرّ هذه الدهشة الغريبة، لكنهم عجزوا عن ذلك.. واحد فقط كان في مقدوره أن يكشف لهم عن السر الذي يحيّرهم.. إنه هو نفسه، لكنّه ببساطة شديدة كان قد.. مات.

التجريد والحرف العربي والفن الإسلامي ، بشرى بن فاطمة

 

 

التجريد والحرف العربي والفن الإسلامي

 

الخط العربي .. كلاسيكيات الأصالة تثبت قواعد التجريد والمفاهيمية المعاصرة .. تشكل الرمزيات البصرية

 

 

رغم أصالته المعتقة بالتاريخ والحضارة وعمق الفكر والهندسة وحسابات التشكيل والرسم، يُعدُّ الخط العربي من أبرز العناصر الحداثية في الفنون البصرية والتشكيلية المعاصرة، وخاصة أنه، بوصفه مجالاً فنياً، يُعدّ أولى خطوات المدرسة التجريدية والأسلوب الحداثي الخاضع لمميزات التجديد في مرونة الممارسة التشكيلية مع كتلة الحرف وتعبيراته الرمزية.

 فالخط العربي من أبرز الأشكال الفنية الحديثة المؤثرة في الصورة والمعنى؛ حيث يجمع مختلف عناصر التصميم والهندسة المعاصرة في الشكل والكتلة والفراغ والحجم، ويحوّل التفاعلات بينها إلى حركة جمالية موظفة فنياً.

 فالخط يرسم ويحفر ويشارك كعنصر أساسي في اللوحات الفنية والمنحوتة والزخرف، وهنا يتحوّل بفضاءاته إلى أفق رحب يحوي المعنى والمفهوم التشكيلي والخامات التي تندمج من خلال الخطوط والأشكال على حساب قوالب الفكرة التي تحرّك المضمون.

وقد بدأ الخط من منطلقات الذات وصولاً إلى تجميع المقاصد في الأشكال الغامضة والترميزية في تجسيد الطبيعة والحالات انطلاقاً من الانفعالات التعبيرية التي يطرحها الفن التشكيلي كأول عناصر تجريدية عرفها تاريخ الفن الحديث.

يتفاعل الخط العربي مع التجسيد الكلاسيكي في فكرة الإثبات والبناء والخلود والتوافق الشكلي والمعنوي بقواعد التصميم الهندسي وقيم التشكيل الجمالي الحداثي والمعاصر، الذي حرك مفاهيم التجريب نحو البناء الفني المعاصر في تجريدياته للحروفيات كعلامات بصرية برؤى عميقة ضمنياً.

فالتعبير الحرفي بعلاماته البصرية له مفاهيمه المقروءة، سواء لمن يعرف اللغة أم لمن يجهلها؛ لأن الخط العربي تجاوز بأبعاده البصرية التعبير المباشر إلى التجريد الذي يوصل الفكرة إلى الذهن من خلال إحداثات المشهدية التشكيلية، التي تخدم المعنى الجمالي، وتحوي التجديد وحتى تكنيكات اللغات الأخرى في هندساتها الخطية مثل الخط الياباني والصيني، وتلك التجربة التي حاول تأكيدها الخطاط والفنان العراقي حسن المسعود، الذي خاض التجريب والتجديد، وتحمّل عناصر الفرجة في تشكيل الخط العربي على مزاج خطوط العالم والتفوق الجمالي من خلال المعنى والصور.

 

وهنا لا يمكن التغافل عن تجارب مجددة اعتمدت الخط العربي بحضوره التشكيلي، الذي تجاوز المعنى اللغوي، وارتحل بالحرف نحو دروب أبعد في التوليف اللوني والتعبير عن الصخب والفراغ في النقاط والشكل والخطوط التي تمازج المعنى وتحاوره جمالياً، كما في تجربة الخطاط إبراهيم أبو طوق من الأردن أو الخطاط وجيه نحلة من لبنان، فتجربة أبو طوق حمّلت الحروف كيان المعنى لتتجسد مع اللوحة في تفاعل الضوء والعتمة واختراق الفضاء كأبعاد هندسية دقيقة ومدروسة لحركة كل حرف وتواصله وانفصاله. أما وجيه نحلة، فقد حرك الحرف بتناغمات لونية عزفت إيقاعات صاخبة في حالاتها النفسية وهادئة في محاورتها للطبيعة والحياة.

كما حمل الخط العربي عنصر الصورة كمشهدية تحوّل الخيال في معنى الحرف الى تعبير وموقف وحضور وتلاوين مكثفة في عناصرها التي تسبق التفسير بالرؤى الجمالية المقنعة ليتكامل العنصر الحروفي مع الموقف المعلن من رموز الصورة، كما في التجربة الحروفية عند التشكيلي اللبناني عدنان المصري.

ولعلنا بالبحث في تشكيلات الحرف العربي بين الحروفية والتنقل الخطي من التجريد الكلاسيكي المألوف إلى المفاهيمية التجريبية، التي تتحدى الصورة، وتتوحد مع عناصرها، نجادل التعبير والأسلوب الذي يعتمده الفنانون في هذا التجريب الجمالي البصري والمعاصر، ومن ثَمَّ الخروج بالخط من أطره المعتادة إلى تحميله رسائل تشكيلية لها دلالاتها التعبيرية، التي تحاكي الحضارات، وتسرد بصرياً الصدامات والتوافقات، وتحكي الشرق الإسلامي مثل تجربة التشكيلي اللبناني الإيطالي علي حسون، فقد بات الخط والحرف يتلازمان تعبيرياً في خدمة الصورة وأسلوب «البوب آرت» بتمازج مع الواقع والخروج به من توظيفاته نحو أبعاد أعمق كالتعبير عن الهوية الثقافية والاجتماعية عن قضايا الإنسان والمرأة. وهنا يحيلنا التجريب إلى أعمال خالد ترقلي أبو الهول، الذي اعتمد الخط مرجعيةً تاريخية حضارية اجتماعية وإسلامية لها رموزها الدلالية الموظفة للتعبير عن قضايا المرأة.

إن الخط العربي يتفرد بصرياً خاصة بدمجه المعاصر؛ فالتطوير التقني ساهم في تعبيرية الخط والحرف الرمزية بدلالاتها المختلفة، وخاصة أنه حرف مشحون بالروحانيات والعمق النفسي والتذكر الغارق في المخيال الجماعي، كما يتداعى إلى الصور التي حملها المستشرقون في تحويل الجوانب الجمالية من الزخرف والابتكار التزويقي للحرف في مختلف الخامات؛ الحفر على الخشب والحجر والخزف، والحضور الفني في عناصره الجمالية.

الرسائل المفقودة للمدعو آدم حلزون – طقوس العزلة ، محمد المطرفي

طقوس العزلة

ليست العزلة أن تبقى وحدك، فلا أحد باستطاعته أن يظلَّ بمفرده، طالما هناك ذاكرةٌ تتربص به لا يمكن إيقافها، وخيالٌ جامحٌ لا يمكن السيطرة عليه والتحكُّم بنزواته؛ هذا الخيال الذي أجبرني، في هذه اللحظة، على أن أتحدث إليك دون تخطيطٍ مسبق، ودون أن أعرف من أنت.

 تعرف من أنا، فاسمي مكتوب على غلاف هذا الكتاب الذي بين يديك، أما أنا فلا أدري في أيّ بقعةٍ من الأرض تقطن.

 

ستسأل نفسك الآن! ما فائدة حديثٍ فردي ذي اتجاهٍ واحدٍ دون رد؟

الأمر ليس كما تتصوره، فهذا الحديث وإن بدا فرديّاً دون تفاعل، هو عكس ذلك تماماً، فأنت في هذه اللحظة تبادلني الحوار.

نعم. ألم أقل لك؟! إنّ الخيال لا يترك للعزلة أيّ فرصةٍ لتستفرد بِصَمتِها المطلق.

بعد أن تبادلت معك هذا الحوار القصير الذي تجهله بالتأكيد، اكتشفت أنك تشبهني كثيراً، وتقبع في عزلةٍ مشابهة.

الفرق الوحيد أنني أواجه عزلتي في هذه اللحظة بكتابة هذه القصة، وتواجهها أنت بقراءتها.

لماذا اعتبر لينين تولستوي «مرآة الثورة الروسية»

 

 

لماذا اعتبر لينين تولستوي «مرآة الثورة الروسية»



يعرف كل روسي هذه العبارة منذ الطفولة، لكن القليل منهم يفكر في ما تعنيه حقًا. هل عكست أفكار تولستوي حقًا أفكار الثورة ؟

«ليو تولستوي كمرآة للثورة الروسية» – هذه الكلمات، التي أصبحت شعارًا في الواقع، هي عنوان إحدى مقالات فلاديمير لينين. كتبها في عام 1908، بعد أن هاجر إلى جنيف. نشر المقال عن تولستوي في صحيفته الخاصة «بروليتاري».

كان هذا ما يقرب من 10 سنوات حتى ثورة 1917 عندما استولى البلاشفة على السلطة وكان لينين يشير إلى الثورة الأولى 1905-1907، وكذلك العملية الثورية في حد ذاتها، فكرة الثورة نفسها.

 

لماذا يكتب لينين عن تولستوي ؟

يبدو أن تولستوي ولينين كانا قطبين بينهما هاوية. الأول كان كونت، أدب كلاسيكي من القرن التاسع عشر، مسيحي متدين. الآخر، على الرغم من كونه مثقفًا، كان ملحدًا، ومناصرًا للثورة، ومؤيدًا للإطاحة بالنظام الملكي وجميع الطرق القديمة، ومقاتلًا لا يمكن التوفيق بينهما. من المؤكد أن لينين لم يكن بحاجة إلى موافقة كاتب مسن ؛ ومع ذلك، في أهدافه الدعائية، يستغل ببراعة شخصية تولستوي – نجم بلا منازع على نطاق وطني والمؤلف الأكثر نفوذاً.

كتب المقال زعيم البروليتاريا العالمية بمناسبة عيد ميلاد تولستوي الثمانين. في الوقت الذي كان، في رأيه، جميع الصحافة الروسية القانونية «غارقة في الغثيان في النفاق». بينما يتذكر الجميع أعمال الكلاسيكية وعظمتهم الفنية، ومذاهب حياته الفلسفية، أكد لينين على الآراء السياسية والاجتماعية لبطل اليوم.

مع ملاحظة عظمة تولستوي ككاتب، يدرس لينين نظرته للعالم بالتفصيل، وينتقده قليلاً.

من ناحية أخرى، كان تولستوي عبقريًا، أظهر «صورًا لا تضاهى للحياة الروسية»، واحتج بصدق على «الباطل والنفاق الاجتماعي»، وانتقد السلطة والاستبداد، وتزايد الثروة والفقر. من ناحية أخرى، كان «البوق الهستيري المتعثر المسمى المثقف الروسي»، ومالك الأرض، وفوق كل ذلك، واعظ «أحد أبشع الأشياء على وجه الأرض، وهو الدين».

كما شعر لينين بالاشمئزاز من المبدأ الرئيسي لتولستوي – «عدم مقاومة الشر بالعنف». كما هو معروف، اعتقد لينين نفسه أن الإرهاب جزء مهم لا يتجزأ من الثورة (بما في ذلك التخلص العنيف من القوة القيصرية). وأشار إلى أن الأفكار المسيحية مثل «إدارة الخد الآخر» كانت تقف في طريق الثورة فقط واعتبر عدم القدرة على النضال من أجل حقوق المرء ما هي إلا نقطة ضعف.

إذن ما الذي عكسه تولستوي ؟

ومع ذلك، لم يعتقد لينين أن كل هذه التناقضات كانت حادثًا، بل على العكس من ذلك: «التناقضات في آراء تولستوي <… > هي في الواقع مرآة لتلك الظروف المتناقضة التي كان على الفلاحين أن يلعبوا فيها دورهم التاريخي في ثورتنا». وكان يعتقد أنه من المنطقي أنه بمثل هذه الآراء «لا يمكن لتولستوي أن يفهم لا حركة الطبقة العاملة ودورها في النضال من أجل الاشتراكية أو الثورة الروسية».

علاوة على ذلك، رأى لينين تناقضات الثورة نفسها ضمن تناقضات تولستوي. كان من المهم بالنسبة له ملاحظتها وحلها. «عكس تولستوي الكراهية المكبوتة، والنضج الذي يسعى لتحقيق الكثير بشكل أفضل، والرغبة في التخلص من الماضي – وكذلك الحلم الفج، وقلة الخبرة السياسية، ورخاوة الثورة.

بالنسبة له، لم يمثل تولستوي البروليتاريا، بل القرية الروسية الأبوية. وهو موجود، وفقًا للينين، حيث يجب أن يولد الاحتجاج على الرأسمالية.

 

كيف شعر تولستوي تجاه الثورة ؟

كانت أفكار تولستوي ثورية حقًا. في عام 1905، في مقالة «إثم عظيم»، كتب: «الشعب الروسي <… > لا يزال أمة زراعية ويرغب في البقاء على هذا النحو». وأعظم الشرور هو حرمان الناس من حقهم الطبيعي في استخدام الأرض. دعا الكاتب إلى إلغاء الملكية الخاصة للأرض (حيث يكمن التشابه مع لينين) وإعطاء هذه الأرض للشعب والمزارعين.

كتب أن الشعب الروسي لا ينبغي أن «يصبح بروليتاريًا في تقليد شعوب أوروبا وأمريكا». رأى تولستوي طريقه الخاص للروس وكان عليهم، كما ادعى، أن يظهروا للدول الأخرى طريقة «حياة عقلانية وحرة وسعيدة، خارج الإكراه والعبودية الصناعية أو المصنعية أو الرأسمالية».

 

ترجمة: إقبال عبيد 

كتابة: الكسندرا جوزيفا

 

الأدب الذي نحيا به … إن مجتمعاً بلا أدب هو مجتمع همجي الروح …

” الأدب الذي نحيا به ” يتناول قراءة في أدب جيمس جويس ومارك توين وجان بول سارتر وخورخي لويس بورخيس. هذا الكتاب هو كتابي الاول والذي يتضمن قراءات في أدب أربعة أدباء عالمين، الأدباء الذين لديهم باعٌ طويل في الكتابة والتجربة الادبية، الموضوع الذي تكلمت عنه في الكتاب هو موضوع أدبي بحت، أدبي في يخص أدباء وتجربتهم في الكتابة الأدبية الذين أغرقت أساميهم بقاع العالم، إنّ مجتمعاً بلا أدب، أو مجتمعاً يرمي بالأدب كخطيئة خَفيّة إلى حدود الحياة الشخصية والاجتماعية، هو مُجتمع هَمجي الروح، بل يُخاطر بحريته، لولا الأدب لقتلنا المنطق، ولولا الموسيقا لدفنتنا الواقعية، وقُصّت أجنحة العاطفة، الأدب مكانٌ يبنيه الكُتاب والقُراء؛ إنهُ مكانٌ هشّ شيئاً ما، لكنه عصيٌّ على التدمير، حين يتصدع نرمّمه لأننا بحاجة إلى مأوى. وكما يقول الكاتب والروائي البيروفي ماريو فارغاس يوسا «الأدب هو أفضل ما تم اختراعهُ للوقاية من التعاسة». الأدب كما يعرف جميعُنا جيداً لا يُقدم حلولاً، بل يطرح أحجية، وهو قادر، في رواية ما أو قصة معينة، على الجهر بتعقيدات لا نهائية لمسألة أخلاقية، ويمنحُنا شعوراً باكتسابنا حداً معيناً من الإدراك الذي نفهم به العالم بشكل أفضل، يُغريني القول إن كُل كتاب ينشغل القارئ به يطرح سؤالاً أخلاقياً، أو بالأحرى حين يكون القارئ قادراً على الحفر تحت سطح النص يُمكنهُ أن يستخرج من عمقه سؤالاً أخلاقياً، حتى لو لم يكن هذا السؤال مطروحاً من قبل الكاتب بكلماتٍ كثيرة، عبر هذه الخيمياء يغدو كلّ نصّ أدبي نوعاً ما مجازياً.

حين أقابل شخصاً للمرة الأولى، وأخبره أنني ألفتُ كتاباً أدبياً يتحدّث عن أربعة أدباء عالميين لديهم باعٌ طويل في الأدب والكتابة الأدبية، يكون سؤاله عادةً: لماذا وَقعَ اختيارُك على هؤلاء؟ ومع مرور السنين استطعتُ أن أصوغ إجابة جاهزة أقولها للجميع: «لقد كانوا رائعين ومُذهلين إلى حدٍّ لا يوصف، وإنهُ لشرفٌ عظيم للمرء أن يعرِفَهم». صرفتُ من العمر مع الكتب زمناً أطول بكثير من ذاك الذي صرفته مع الناس، والسبب ربما أنني وجدتُ في الكتاب نوعاً من السلوى لم أجدها عند معظمهم، فَقلَّ بذلك الأصدقاء وازداد عدد الكتب التي صادقتها، وقضيتُ عمري كلهُ وأنا أتحدث إلى أناسٍ لم أرهم أبداً، مع أناسٍ لم ألتقِ بهم أبداَ، وأتمنى أن أبقى كذلك إلى ما لا نهاية؛ حيث إنها الوظيفة الوحيدة التي أحببتها في حياتي.

تقدم بي العمر، وترسخت عزلتي، وأضحى عالمي الحقيقي هو عالم القراءة والكتابة، وَوَجدتُ أن القارئ الذي يمضي جُلَّ حياته في القراءة والبحث والتعليم والكتابة يكون، في الغالب، على هامش الحياة العامة والأحداث الجِسام، فإذا كان ثمة من فائدة تُرجى من تجارب حياةٍ مُنعزلة كهذه فهي تكمن في استعراض ما مَرِرتُ به من الكتب والنظريات التي شغلتني عبر السنين. وأعظم من وَصَفَ العزلة هو الروائي الإسباني كارلوس زافون، حين قال: «لم يُحببنا العالم ولم يسُعنا، وَوَسعتنا أرفُفُ مكتباتنا، وحيز غُرفنا الضَيّقة». وأنا في عُزلتي أقرأ، ثم أقرأ ثم أقرأ، وأشك في أن يتمكن المرء من أن يصبح كاتباً بارعاً من دون أن يكون قارئاً جيداً. وكما تقول الكاتبة والروائية الكويتية بثينة العيسى: «الكتابة بعين المُستكشف الفضولي أمتعُ من الكتابة بعين الخبير المُلمّ بكل شيء». وثبتَ لي بذلك أن الأدب هو القيمة الأسمى على الإطلاق، وأومن بأنّ الكتّاب يتوصلون إلى الكتابة عبر القراءة، وعبر عمليات التراكم والنضج، وعبر الأصداء وتكرارها، التي تُشكّل ذخيرةً تسمح لهم بالكتابة. ألوذ بالأدب عندما أكون مهموم البال؛ حيث ينقذني دائماً من اليأس. كنتُ أنا الحالة الشاذة في العائلة، الوحيد الذي تعاطى الأدب، وأتعاطاه كما لو أنهُ أفيون، وأشير إلى كاتبهِ على أنه طبيب للعقل، وأرى في ذلك أنّ الكاتب ليس في خدمة أولئك الذي يصنعون التاريخ، بل هو في خدمة أولئك الذين يتحملون أوزاره. وللأدب أهمية سواء في ذلك الفرد أم المجتمع، وبمقدوره أن يكون مُهماً، بل عليه أن يصبح كذلك، وقراءته هي الطريقة الوحيدة لفهم حقيقة هذا المُجتمع. في الأدب ندخل إلى قلوب الناس وأرواحهم بطرائق لا يسمح بها أيّ شكل فنيّ آخر. ومازال بحر الأدب يشهد الكثير من الأحداث والأحاديث، وما زلنا إلى الآن نكتشف جوانب الرقي والتحضّر التي أتى بها هذا الأدب. وقد قمتُ بمحاولة البحث والاكتشاف عبر السنوات الماضية، وَوَجدتُ أنّ هُناك قضية مهمة وخطيرة وطارئة على موضوع الأدب هي ما يسميه بعض الكتّاب، ومنهم سارتر، الأدب الرديء، فإنّ هذا الأدب طغى في بعض المناطق، ومنها مناطق الوطن العربي. ونحنُ، في هذا الصدد هنا، وفي هذا الكتاب، نقدّم مُحاولة قراءة لبعض الأعمال الأدبية الرصينة، أو ما يسمى الأدب الجيد؛ حيثُ هنا أغوص بقراءة ودراسة وتعريف هذا الجزء من الأدب بشكل واسع ومُستفيض، وذلك من أجل أن نتمكن من وضع النقاط على الحروف، وتفعيل السمة الجمالية والاستفادة منها. وقد بدأتُ الكتابة عَرضاً، مُثقلاً بالمعاناة، من دون أيّة خطة، بل مدفوعاً بالرغبة في كتابة المزيد فحسب. وفي كلّ الأحوال يبقى لدى الكاتب فكرة أن هناك من سيقرأه حينما لا يعود موجوداً، وهذا هو مستقبله، كم من الوقت يبقى مقروءاً؟ هذا رهنٌ بالكتاب، على كلّ حال. يُمكن أن تبقى مؤلفات سارتر خمسينَ عاماً، ويُمكن أن تبقى مؤلفات بورخيس مئة عام، ويمكن أن يبقى جويس مقروءاً إلى ما لانهاية. ليس المُهم أن يقرأ الناس قليلاً أو كثيراً، لكن مؤلفاتهم ستبقى كما بقيت مؤلفات أندريه جيد، وجان جيرودو، وروجيه غارودي، وسيمون دي بوفوار، وغيرهم. أما الذكريات الأخرى، فهي قد لا تهمّ سوى الأولاد والأحفاد وبعض الأصدقاء المُقربين، هذا إذا اهتموا بها أصلاً.

 

 

ثوب أزرق بمقاس واحد « تُعالج اكتئاب ما بعد الولادة »

تتناول الرواية يوميات امرأة تعيش مرحلة اكتئاب بعد إنجاب طفلتها الأولى. ولأنها تعيش وسط جهل تام حول هذا الوجه المعتم للأمومة تتجرع مرارات الوحدة والخوف والشعور بفقدان القيمة وفقدان الأمل لتصل بها إلى مراحل متقدمة من الانفصال عن الواقع.

الرواية، المكتوبة بضمير المتكلم “الأنا”، تتخذ شكل المذكرات حيث تسرد فيها الرَّاوِيَة كيفية دخولها نفق الاكتئاب وكيفية تعاملها معه وصولاً إلى الطريق المسدود وخيارها إنهاء الصراع مرة واحدة وإلى الأبد. تدور أحداث الرواية بمجملها داخل منزل بطلة الرواية، لتكون رمزية الحبس داخل المنزل رديفاً لحبسها في عالمها الداخلي.

يقود الألم بطلة الرواية إلى أسئلة وجودية كثيرة حول صورة النساء والرجال، حول أهمية التواصل والتفاعل مع الآخرين وأخيراً حول ضرورة تفهّم النواح النفسية والتعامل بجدية مع عِلل النفس لتجاوزها بدل الهروب منها، وقد جاء في كلمة الغلاف: ” أفترضُ أن عالم الداخل هو استعاضة عن فقداننا للعالم الخارجيّ. القاعدة تنصّ على أن نعيش في الخارج وللخارج، أن نفكّر ونحن نسير، أن نتأمل ونحن نتحرك، أن نبني حياتنا ونحن نتفاعل مع أشيائها ببساطة، مع الحجر والشّجر والعشب والخشب والحديد، مع الأرصفة والأبنية والناس المختلفين. أمّا الاستثناء فهو أن نضطرّ لاستعاضة ما نُحرم منه في الخارج بالعالم الداخلي؛ عالم الجدران المغلقة والأفكار والخيالات والهُلام الممتد. ولذا يُسجن المذنبون. لو لم يكن الداخل حرمانًا لما عُوقب المذنبون والمجانين والمعتوهون والمشوهون به. كلّ ما نود دفعه إلى الخلف نحتجزه ونغلق عليه، وهكذا دُفعت النساء إلى الخلف على الدّوام. احتُجزن بدوافع كثيرة في الداخل، ثم وُصمن بالضيق والمحدودية.

ترتيبات العالم أسهل مما نعتقد: نحتجزك ونوسمك من ثمّ بالضّعف والهشاشة، بل نجعلك تهمة إن حلا لنا ذلك.”

 

 

المصدر: الرواية نت

 

https://alriwaya.net/post/news/thob-azrk-bmkas-oahd-taaalg-aktab-ma-baad-alolad

 

 

«آدم ينحت وجه العالم»… تحدّث وتحدّث وتحدّث ثمّ تجرّد وعُدْ نقياً..

ماذا لو قلت لك إن كثيراً من الأشياء التي تمتلكها هي أشياء زائدة مُلهية وليست ضرورية، إنّها تسرق وقتك، وعلاقاتك بالناس، وتقلل لديك من نشر الحب، ومن ثمّ تُراكِمُ وهماً يُضاف إلى بناء عالمٍ هو أساساً مثقلٌ وعلى حافة الهاوية… قد يكفيك بيت صغير يؤويك، وطعام جيد، والكثير من لقاء الناس، عندها لن تشعر بأنك بحاجة إلى شيء، حينها ستكون حراً لأنك لست مرهوناً بالعمل كثيراً لتحصل على أشياء كثيرةٍ أنت حقيقةً لست بحاجةٍ إليها.. أشياء أقل، موارد أقل، وقت أكثر، علاقات إنسانية أكبر… هذه الكلمات تُعنَى بالأشياء المادية الملموسة، لكن ماذا عن الأفكار؟ يولد الإنسان في نقائه الأول، بريئاً، صادقاً، عفوياً، صريحاً، كل ما يمكن قوله عنه إن هويته الجينية مشتقة ومدمجة من جينات والديه، من سمات بيئته، صحرائه، أو جبله، أو بحره، أو سهله، لكنه يبقى، فكرياً، نقياً في نسخته الأولى التي لم يمسسها أي تدخل خارجي، ثم يبدأ اكتساب الأفكار دينياً، وتعليمياً، وتربيةً أسريةً، ومجتمعياً، وبيئياً، ثم عالمياً… لكنّ كثيراً من هذه الأفكار هي مجرد أقنعة هزيلة تدمّر نقاء نسخته الأولى، وإن كانت تعيد تشكيله من جديد، تعيد نحنته إنساناً يبتعد أكثر فأكثر عن إنسانيّته…

في هذه الرواية آدم، برمزيته الصارخة، يواجه مخاض حضوره في هذا العالم، في سرديته من التيه والضياع إلى الصمت الأبدي… من سريره، حيث يرافقه في تيهه قلمٌ وورقةٌ وكاميرا صغيرة ووسادة أحلام، يبدأ يتحدث ويتحدث، ثم يكتب ويكتب، ثم يخرج ويتجاوز حدود الجغرافيا، ثم يصرخ ثم يصرخ، لكنه في النهاية يصمت… بعد أن كان يتألم في عزلته، يخرج ويمتلئ بكلّ العالم، بصور العالم، بأفكار العالم، بأقنعته الهزيلة، بثرثرته، بقسوته، ثم يتلاشى العالم من حوله، ويختصره في نقاء أمه «فرنسا»، ونقاء فتاته التي أحبته بنقاءٍ بعيداً عن أي مكتسبات، فتاته التي هي ليست قديسة لكنها طهّرت نفسها وعادت نقية، ونقاء نصّه الذي يؤمن به متجرداً من هوامشه وشروحاته وشروحات شروحاته، ثم يتجرد من كل شيء، ويصمت.. يصمت إلى الأبد، لكنه الصمت الصارخ الذي يعيد بناء كلّ شيء، ويعيد نحت وجه العالم في نقائه الأول.

لغةً ومكاناً، ترتحل بك الكلمات من ظلمة ما وراء ستائر غرفة آدم إلى صخب أضواء شوارع وأزقة وأحياء الكويت بما بعد حداثتها، ثم عودة إلى صحرائها في نقائها الأول، ثم تعبر الحدود إلى ريف فرنسا، ثم عودة إلى القاهرة بنصفيها القديم والحديث، بفيزيائيتها الممايزة بين المحروسة ومصر الجديدة، وقد ارتسم التاريخ على كل شيء فيها، شوارعها، أبنيتها، مقاهيها، مساجدها، إنسانها، ترتحل بك نثراً سردياً يلامسك، ويحاورك، ويستفز فيك الأسئلة الوجودية الكبرى، ثم يجردك من كل شيء، ويعود بك نقياً، إلا ممّا يتركه فيك من آثار تلك الأسئلة الموجعة، التي لن تتردّد، حتى لا تسقط في الهاوية، في الهرب من أجوبتها… فآدم يعلن منذ الكلمات المفتاحية للرواية أنه «سيكتب الحياة كما يراها هو وليس كما تراها أنت»، ترافقه، في سرديّته، ثيمة مركزية في عالمه الجديد «الحياة.. أن تكون حاضراً بعد أن تغادرها»، فهو في رحلة البحث عن الذات يحارب من أجل البقاء بحب وإن غادر، لكنه ينتهي إلى صمته «غائباً عن الحياة».

حركية الشخصيات، أيضاً، في رحلتها من الامتلاء بالوهم إلى التجرد والنقاء القسري حيناً والاختياري حيناً آخر، ستضفي على الآثار المتراكمة لديك، بعد مغادرة الرواية، رنيناً ملموساً، فهي ممتلئة بالحدث فساداً ونقاء، ومترفة بالكلمات التبريرية والخطابية الشعاراتية حيناً وبالكلمات العفوية الممتلئة بالحب والمجردة من كل لبس حيناً آخر، أما في بنيائيتها وسيرورتها فهي تخضع لهزات حياتية تشكل نقاط تحولٍ تغيّر مسارها، فـ«نور» المترفة بأنوثتها وكلماتها الكرنفالية تنتهي قاتلة، تقابلها «ضحى» –مع ملاحظة التناغم والتناظر بين النور والضحى- التي تبدأ بالإثم وتنتهي بالطهرية والنقاء، و«مطلق» منذ الهزة الأولى وتيهه في الصحراء وحواريته مع الذئب إلى تمرّده، ثم خطيئته الأخوية، ورغبته في الإنجاب، في مقابل «فرنسا»، المولودة في ريف فرنسا في الحرب العالمية الثانية، بنقائها وبراءتها وامتلائها بالحب، والتي شكلت وفاتها موت النقاء ومن ثم بدء الصمت لدى آدم. كما أنها شخصيات مثقلة بالأفكار المكتسبة المتراكمة والمثيرة للجدل، لكنها شخصيات تمثيلية، بمعنى أنّ كلاً منها يمثل فئة من البشر، وقد يمثل جغرافيا بعينها، أو زمناً بعينه، في عالم يحتضر، وقد أجرؤ على القول في عالمٍ يتجه دون تردّد إلى أن يدمر ذاته، وإذا أردت للتفاؤل أن يعبر طريقه إلى ذاكرتي فنحن في عالم يتوسل إلينا أن نعيد نحته من جديد، عالماً مجرداً من تفاهات الإنسان، وتدخلاته التي تغير قوانينه، عالماً يستعيد بالإنسان نقاءه الأول… ولأنك إنسان، تحدّث وتحدّث وتحدّث، ثم تجرد، وعُد إلى نقائك الأول.. إلى آدم الإنسان الأول، وآدم الكاتب في سرديّته وهو يعيد، بصراخه وبصمته الأبدي، نحت وجه العالم.

أنا أكره أنا موجود!

 

في كتاب الكراهية والسياسة والقانون في فصل من الكراهية إلى التضامن السياسي: فن المسؤولية تؤكد الباحثة ميشيلا ميهي على ثلاثة أبعاد مهمّة “لا يعنى الانشغال بخطاب الكراهية وجريمة الكراهية بها إلا جزئيًا: اللغوي، والعاطفي، والجسدي. فلا يكفي النظر إلى خطاب وجريمة الكراهية بوصفهما وقائع فردية ومشحونة عاطفيًا، وهي إذ تشكك في هذا السياق في الأفكار والعواطف والحوادث التي تتوجه إليها قوانين خطاب وجرائم الكراهية، تلفت الانتباه إلى ثلاثة أبعاد تراها مهمة “اللغة بوصفها مستودعًا لتصنيفات جائرة، وعواطف تؤسّس لعادات غير ديمقراطية، وإلى الجسد، بوصفه موضعًا للقمع ومتواطئًا في القيام به.”

 

في الحالات التي تتمخض فيها الكراهية عن جريمة جنائية، كما تقر ميشيلا، الجريمة محددة، الجناة فيها محددون والضحايا أيضا محددون، لكن في تركيزها على الخطاب تفضل النظر إليه كأفعال كلام، أو سلوك يستهدف التحريض على الكراهية أو من المرجح أن يفعل ذلك إذا لم يكن يستهدفه. الجريمة مفردنة ولديها جناة وضحايا يمكن تحديدهم بوضوح، حيث الضحايا يُستهدفون بسبب ملامح هوية بعينها: لون البشرة، أو العنصر، أو القومية، أو الإثنية، أو الدين، أو التوجّه الجنسي.” غير أن هذا التصور البديهي ـ كما ترى ــ يغفل “أن اللغة نفسها تعيد إنتاج رؤى هرمية في البشرية تعزّز خطاب الكراهية في التلميحات والاقتراحات، وفي الحجج والعروض، باختصار في التعبيرات الجزئية في الحياة اليومية… واللغة غامرة بالعنف لأنها في الوقت نفسه انعكاس لعالمنا المجحف وتسهم بشكل فاعل في إعادة إنتاجه… وتسهم البناءات اللغوية التي تصف الجماعات بأنها غريبة، وإجرامية، ولاأخلاقية، وإرهابية، ومفرطة في استخدام الجنس، وسفاحية، إلخ. في قمع النساء، والفقراء، وأقليات متنوعة بطرق أكثر انتشارًا وأقل وضوحًا من خطاب الكراهية.”.

 

أما فيما يخص العواطف تُفسر الكراهية المستهدفة من قِبل قوانين خطاب الكراهية وجريمة الكراهية على “أنها عاطفة خبيثة، ومفردَنة، وتسهل ملاحظتها ويمكن أن تؤدي إلى استخدام العنف ضد أعضاء جماعة ما بفضل خصائص بعينها، تشحن بشكل اعتباطي بدلالة خاصّة. وعاطفة الكراهية في خطاب الكراهية وجريمة الكراهية إنما تفهم على أنها منحرفة، واستثنائية، وغير معقولة، في حين أن الضرر كرب عاطفي ومادي، ويتمثل الكرب الأول في شعور بالدونية، وانعدام الثقة في النفس، وإحساس بعدم الجدارة بالانخراط في السياسة لدى المجموعات الخاضعة، ما يفضي إلى اعتقاد راسخ لدى ضحايا التمييز بأن السياسة ليست لأمثالهم، “والشعور عاطفيًا بالانزعاج – بالترهيب، والخوف، وبالخزي، وبأن المرء موضع اشمئزاز آخرين – من الجدال مع الآخرين الأكثر تعليمًا، وفصاحة، وسلطة يفسر – جزئيًا على الأقل – السبب الذي يجعل البعض ينسحبون من صناعة القرار السياسي. فضلًا عن هذا، غالبًا ما يجعل الظهور المفرط للنزوعات العنصرية والطبقية الملونين والفقراء يفضلون الخفاء سياسيًا.” أما البعد الجسدي الظاهر من داخل المنظور القانوني لخطاب وجريمة الكراهية، فتصبح بعض السمات الجسدية ظاهرة كعلامة على الدونية في عيون من يمارسون الكراهية خطابًا وعنفًا، حيث “لون البشرة، أو ملامح الوجه، أو التوجّه الجنسي، تُختار بوصفها عناصر اختلاف وتشحن بأهمية أخلاقية أو سياسية سلبية. وفي حالة جريمة الكراهية، الجسد هو هدف العنف، أحيانًا إلى حد تصفيته.”.

ومن جديد، ما يغفل عنه الخطاب المذكور هو أن الجسد مهم سياسيًا بطرق أكثر تركيبًا وخفاءً مما يرد في هذه القوانين “ذلك أن جسد المرء يكشف، بقدر ما تكشف كلماته، عمن يكون: ليس فقط لون بشرته، وجندره، وملامح وجهه، بل حتى ملابسه، وتبرجه، وهيئاته، وإيماءاته، ومشيته، ووقفته، ولكنته مهمّة سياسيًا. وموضع المرء في العالم الاجتماعي منقوش على جسده، غالبًا خارج نطاق قبضة الوعي، أو التصريح أو التحول المقصود. نحن “نرمّز” ونصنف” أخوتنا المواطنين –فالواحد منهم محترم، أو متنفذ، أو حكيم، أو جدير بالثقة، أو خطير، أو غبي، أو تافه، أو مثير للاشمئزاز، أو يستحق الاستياء، أو أهلٌ للكراهية، إلخ. – وقفًا على ملامح جسده. ويحدد هذا التصنيف علاقاتنا”. وفي الغالب يكون ضحايا هذا التصنيف القهري: الملونون، والنساء، والأقليات الجنسية، والمعاقون، ما يجعلهم موضع عنف لفظي أو مادي بطرق لا سبيل لاختزالها إلى خطاب الكراهية أو جريمتها. ونحن ـ كما تقر ميشيلا ـ “لا نلحظ أهمية الجسد السياسية حصرًا في حالات الهجوم المدفوعة بكراهية وفي الكيفية التي يرتبط بها رفاه المرء بشكل جوهري بالكيفية التي يجعله الآخرون يشعر في جلده: بالخوف، أو الخزي، أو الإحراج، أو عدم الارتياح. ويعاد الانزعاج من الجلد بتنويعة من المواقف والممارسات المجحفة التي يرجّح أن تستهدف أجسادًا بعينها أكثر من غيرها. ويؤثر الجسد الذي نقطن فيه سلطتنا، وجدارتنا بالاحترام، وتيسرنا، وفرصنا وقوتنا السياسية النسبية في العالم الاجتماعي.”.

 

 

في المقالة السابقة تطرقت لخطاب الكراهية الواسع الموجه ضد الأمة الروسية، مدججًا بشبكات إعلامية كبرى وسوشيال ميديا متمثلة في أهم شركاتها، وكيف أن هذا الخطاب لا يبقي ولا يذر على شيء يمكن التسامح معه، واللغة المستخدمة هي حصيلة ما أنتجه قاموس الحرب الباردة طيلة عقود، إضافة إلى تنميط الشخصية الروسية السلافية عبر الصورة والسينما التي قدمت هذه الملامح كشكل دال على الشر والعنف المتأصلين، مثلما فعلت السينما الموجّهَة مع الملامح الأسيوية الصفراء، والغاية كانت تثبيت كل القوى الواعدة في العالم كمرادف للشر، لتغدو المسألة وجودية وفق كوجيتو مقترح: أنا أكره أنا موجود. وبمجرد أن قامت روسيا بعمليتها العسكرية في أوكرانيا كان هذا القاموس جاهزاً ومعززاً بتقنيات عالية لفبركة المشاهد وتبديل الحقائق وكان رد مؤسسات روسيا التقنية والإعلامية غير قادر على مواجهة هذا السيل الكوني من التضليل التقني الحاض على كراهية جنس بشري برمته، أو كما قال محلل سياسي روسي: الأمر مثلما توضع فوقك أكداس من القمامة وعليك أن تلقطها جزيئًا جزيئًا وتحللها. انطلقت مداخلة ميشيلا من تفحص وهن الجماعات الهشة المعرضة للتمييز، لكن هذا بالتأكيد لا ينطبق على روسيا الكبرى بكل ما تملكه من قوة، غير أن مأتى هذه الحرب الكلامية الموجهة إليها هي رغبة قوة أمريكيا وأتباعها في أن تكون القطب الأوحد المهيمن على هذا العالم، ولا تريد لأي طموح آخر أن يعكر صفو هذه الهيمنة، وكون هذا القطب استطاع على مدى عقود أن يسيطر تقريبًا على كل ميديا العالم، فهذه الميديا المروضة تستجيب للأسف بشكل يدعو للتقزز.

 

وفي هذا السياق من طيف الكراهية الواسع، لابد لي أن أمر بالحالة الليبية، كمثال واضح على تفشي أبعاد الكراهية التي أشارت إليها ميشيلا، مع اختلافات تستحق التوقف عندها، حيث أهداف خطاب الكراهية المقصود لا تنطبق مظاهره بشكل مباشر على الحالة الليبية (لون البشرة، أو العنصر، أو القومية، أو الإثنية، أو الدين، أو التوجّه الجنسي.) وإن استُثمِر بعضها بشكل يخدم توجهات أوسع أيديولوجية ذات بعد عالمي أو جهوية محلية. ثمة خطاب كراهية جهوي يجب أن لا نغفله خصوصًا بين الغرب الليبي والشرق تفشى علانية في السنين الأخيرة مخدومًا بسيل القنوات الفضائية التي دخلت على الخط، وبمواقع التواصل التي تحولت إلى منصات ترويج لهذا الخطاب، الذي تمخض عنه أحيانًا عنف وجرائم. غير أن انتشار هذا الخطاب الجهوي كان في حقيقته توسيعًا عاطفيًا لخلافات سياسية، أيديولوجية أحيانًا، أو حتى قبلية، أو مصلحية متعلقة بالمركزية والتهميش التي استثمرت من قبل بعض الساسة أو التيارات في توسيع رقعة الكراهية لتصبح ذات مظهر إقليمي.

 

 

اللغة، والعواطف، والجسد، استخدمت كسمات تمييز في هذه المشاحنات المشحونة بالكراهية في الاتجاهين، من لهجة، أو أنواع طعام، أو ملابس، أو لون (كما حدث مع تاروغاء مثلاً)، أو مهنة (رعاة الأغنام)، أو مسبة تاريخية (القرامطة). غير أنه تتوجب الإشارة هنا إلى مثال مهم، أختاره، لأن القناة التي تبنته من المفترض أن تكون قناة محترمة ومحترفة ذات إمكانات تقنية وفنية مهمة، ومن جانب آخر هي قناة ارتبطت بثورة فبراير من بدايتها وواكبتها كما يجب في البداية، لكن سرعان ما سرقها تيار محدد وحوّلها إلى منصة كبرى لخطاب الكراهية، وهي قناة (ليبيا الأحرار)، وخصوصًا البرنامج الهزلي الذي كان يقدمه كل من نعمان بن عثمان وسليمان دوغة، برنامج مفتوح لا سقف زمني له مهمته أن يبث الكراهية تجاه إقليم ليبي، مستخدمًا لغة نابية حيال سكان هذا الإقليم ووصفهم بكلمات مقذعة، وهو نموذج بارز لكل ما أشارت إليه ميشيلا في دراستها المهمة، دون أن ننسى بقية القنوات التي لم أشر إليها لأنها ولدت أساسا في كنف الاستقطاب الحاد، أو ما أسميها قنوات الرغاطة المحلية ذات الهدف التعبوي، وإن أسهمت بقدر لا يستهان به في إنتاج خطاب الكراهية وحتى جرائمها، إلا أنها في الأساس قنوات هزيلة ولِدت من قلب هذا الخطاب نفسه، ولا يمكنها أن تكون خارجه، بعكس قناة ولِدت مع الحلم الليبي بالخلاص ومن أجل كل الليبيين.

 

المصدر:

كوجيتو الكاره – بقلم سالم العوكلي ..

http://alwasat.ly/news/opinions/357171?author=1

 

 

«ماذا علينا أن نفعل؟» ومن لا يعرف الحقيقة الأخلاقية.. إنها مشهورة جداً

يبدأ تولستوي الريفي زيارة إلى موسكو حيث ينتظره بعض الأعمال ولقاء الأصدقاء وبعض المعارف، وحيث هو في موسكو تروّعه الأحياء والأسواق والتجمعات السكنية الفقيرة، تلك التي تكتظ بالآلاف من المشردين والفقراء والمتسولين. يحاول المساعدة لكن حجم الظاهرة أكبر من أن يفعل شيئاً، يلجأ إلى الأصدقاء والأقارب فيتعرض للسخرية ويشعر بالخزي لزيفهم الشكلاني، يفكر ويبحث عن حلول، لكن السكين هي سكينٌ في حالة واحدة فحسب؛ عندما تكون حادةً، وعندما تقطع ما نحتاج إلى قطعه، لكن أيّ سكين هذه التي يريد أن يقطع بها تولستوي ظاهرة التسول في موسكو القرن التاسع عشر؟ أَقَطَعَها فعلاً أم بقيت كلماته مجرد كلمات يوتوبية؟

شكلانياً، على الأقل، نعيش متعة الألم مع تولستوي في تجواله في تلك الأحياء والأسواق والمساكن بلمساته التصويرية ذات الرنين الملموس والنغمة الساحرة، إنّه ينقل بكلمات دقيقة صور المشاهد كما لو أنك تشاهد فيلماً سينمائياً، فيرسم المكان الكلي للحدث في صورة من الأعلى، ثم يدخل في جزئيّات المكان، ثم يمنحك لمسةً لخصوصية الزمن، ثم يرسم لوحةً للشخصية، التي لا يتردّد بعدها في الدخول إلى عمقها النفسي والفكري والوجودي وأحياناً العبثي، والأكثرُ إثارةً أنه عندما يُسقِط قدراته العقلية على هذه الشخصيات لا يخجل من قول إن هذه الشخصيات، بتفكيرها الذي ظنه بسيطاً، أظهرت مدى سذاجته هو. كل ذلك نقرأه في المشاهد التصويرية في سوق خيتروف وملجأ لبينسكي، وبيوت رجانوف… لِمَ لا إنه تولستوي الذي اعتدناه روائياً؟..  لنقرأ هذه النغمة التراجيدية:

« لم تثيرا فيَّ أيّ شفقة، بل الاشمئزاز، لكنّني رأيت أنّ إنقاذ الطفلة ضروري، وعليّ أن أستثير عواطف النساء اللاتي يشعرنَ بالأسف على حال هذه المرأة وأمثالها من النساء الأخريات، وأرسلهنّ إلى هنا. لو تفكّرت في كلّ ماضي المرأة الطويل، وكيف أنها أنجبت الطفلة وأرضعتها، وربتها وأطعمتها، وهي في الحالة التي رأيتها، وربما بلا أدنى مساعدة من الناس، وبتضحيات كبيرة، ولو أنني فكرت أيضاً برؤية الحياة التي تشكّلت عند هذه المرأة؛ لأدركت أن قرارها لم يكن فيه أيّ جانب سيّئ أو غير أخلاقي، وأنّها فعلت كلّ ما تستطيعه؛ أي أنّها فعلت ما تعدّه الحل الأمثل بالنسبة إليها. يمكن أخذ الفتاة من أمها بالقوة، ولكن لا يمكن إقناع الأم بأنّها مذنبةٌ ومخطئةٌ لأنّها عرضت ابنتها للبيع».

لكن هذه الفلسفة الحياتية التي تعلّمَها تولستوي من هؤلاء الفقراء الممتلئين بالبؤس، والتي كان يعتقد أنه قد أتقن فنّها، لم تمنعه من توصيف فعله وفعل من هم مثله ممن يتناولون اللحم كل يوم، ويضعون السجاد والجوخ على أرضيات بيوتهم، وحتى فوق ظهور خيولهم، بأنه جريمة تُرتكب دائماً وباستمرار.

هل هذا هو الوجه الحقيقي للمدن، الذي لا يرى فيه القروي شيئاً لافتاً للنظر؟ هل كان الحال دائماً على هذا النحو، وسوف يبقى، ويجب أن يبقى؛ لأنّ هذا هو الشرط الأساسي للحضارة؟ يتساءل تولستوي.

«في دائرة خامونيفنيكا، عند سوق سمولينسكي، في زقاق بروتوشني، بين مفرق بيروغوفوي ونيكولسكي، تقع هناك البيوت التي تسمّى بيوت رجانوف أو قلعة رجانوف. أكبر مكان للفقر والفسوق.. هنا كل شيء وسخ، رائحة كريهة تنتشر في الأبنية والمداخل وعند الناس أيضاً. كان أغلبية الناس الذين رأيتهم هناك يرتدون ثياباً ممزقة، وأشبه بالعراة».

انتهت رحلة تولستوي في أبنية الفقر والبؤس، وانتهى معها عمله الخيري والإحصائي بعد أن شارك في حملة موسكو لإحصاء المشردين والمتسولين والفقراء، لكنّ عمله الفكري أُوقِدت فيه شرارةٌ لن تنطفئ؛ إنه كالطبيب الذي يشخص الحالة، ومن ثم يبحث لها عن العلاج، فذهب إلى الريف، وهو مستاء من الجميع، لكن أفكاره ومشاعره، بالإضافة إلى أنها استمرت في التدفق، تضاعفت معها قوته الداخلية، وأول ما قرره في وجدانه وفي عقله (وهو جوهر كتابه) أن رغبة الأغنياء تكمن في الوصول إلى ذلك الوضع الذي يعملون فيه أقل، ويستخدمون خدمات الآخرين بشكل أكبر. وتبدأ الأسئلة بالتدفق من جديد:

لماذا كسب لقمة العيش يتحدّد في المدينة؟ لماذا يذهب أهل الأرياف إلى المدينة والخيرات كلها في الريف؟ لأن احتياجاتهم تفرض عليهم أن يبيعوا ثرواتهم لتجار المدينة عدا الضرائب والريوع والجندية، التي تستهلك أهل الريف؛ فسبب هذا الفقر هو أننا أخذنا من أبناء الريف كلّ ما هو ضروري لحياتهم، ونقلناه إلى المدينة. السبب الثاني هو أننا هنا في المدينة، وبعد أن نستخدم كلّ ما جئنا به من الريف، برفاهيتنا الحمقاء، سنغري ونفسد كل أولئك القرويين الذين جاؤوا إلى المدينة خلفنا، لكي يسترجعوا، بأية طريقة، ما أخذناه منهم:

«نحن – الأغنياء- بنينا بثرواتنا جداراً عازلاً يفصلنا عن الفقراء، هو جدار النظافة والثقافة، ولكي نساعدهم علينا أولاً أن نهدم هذا الجدار».

ويبدأ في نقد الأسس العلمية للاقتصاد، ولا سيما أسس العملية الإنتاجية: الأرض ورأس المال والعمال، فيشير إلى أن هناك عوامل أخرى تم إغفالها كالشمس والماء والهواء والتعليم والمهارات واللغة، ولكن كيف امتلك البعض الأرض ورأس المال وأدوات العمل وجُرِّد منها آخرون؟ هنا يطرح ببساطة قصة شعب فيجي، فقد فرضت عليهم أمريكا ضريبة قالت إنها بسبب العنف ضد مواطنين أمريكيين، وبحجة عدم التسديد تم أخذ بعض الجزر الغنية رهينةً، وأقاموا عليها مزارع البن والقطن، واستعبدوا السكان المحليين باتفاقيات لم تنقذهم منها بدائيتهم، لجأ ملكهم إلى الإنكليز ووضعَ نفسَه تحت حمايتهم ثم أعلن التبعية لهم، تردد الإنكليز بحذر، فلجأ إلى شركة أسترالية عُرفت فيما بعد بالشركة البولينيزية، التي تحكمت في كل اقتصاد فيجي، فأصاب حكومتها الفقر، عندها قبلت بريطانيا بتبعية فيجي، ما أدى في النهاية إلى ضياع فيجي واستعباد شعبها… المجرم إذاً هو المال، الذي يُسكّ ويطبع ويوزع ثم يُفرض ضريبةً على الناس فيبيعون عملهم بهذه القيمة التي تحددها الدولة، وترفض في المقابل زيادة الأجور، إن اختراع المال هو آلية أخرى من آليات الاستعباد، ووسيلة من وسائل العنف.

إذاً، نحن أمام ثلاث وسائل للاستعباد استعباد السيف وهي وسيلة بدائية، ثم استعباد الجوع بسلب الأرض، ثم استعباد المال بالضريبة… قد يعتقد البعض أن العبودية انتهت الآن، لكن تولستوي يقرر أنّ العبودية الشخصية لم تختفِ من مجتمعاتنا المتحضرة، بل يمكن القول إنّ قوّتها ازدادت مع التزامات عسكرية كبيرة لبقائها في الآونة الأخيرة، فماذا عن الجيش أليس الجنود فيه مستعبدين؟ وماذا عن الدولة، ألا يعاني أفراد الشعب من عبودية للدولة، التي تستطيع، وفق إرادتها، أن تجعلهم مفلسين، بعد أن تأخذ منهم كلّ ما ينتجونه، وتصرفهم من عملهم، وبعد أن تسوقهم إلى العبودية العسكرية؟ لكن علم القانون الاقتصادي ينفي، وعلم القانون المالي ينفي، وعلم القانون الحكومي (نظرية الدولة) ينفي، فيقرر تولستوي من جديد أن هذا العلم له هدف محدد، وهو يبلغه؛ هذا الهدف هو تعزيز الخرافات والأوهام عند الناس، وبهذا يكون قد منع البشرية من مواصلة تقدمها نحو الحقيقة والصلاح.

هنا لا بد من مصارحة الذات:

فإذا أردنا مساعدة الناس فعلينا، أولاً، التوقف عن التسبّب في بؤسهم؛ أي أن نتوقف عن المشاركة في استعبادهم؛ فما يجذبنا إلى استعباد الناس هو أننا اعتدنا، منذ الطفولة، ألا نقوم بأيّ شيء، واعتدنا الاستفادة من جهود الآخرين:

«إذا كنتُ مشفقاً على الحصان المنهك الذي أركبه، فعليّ أولاً أن أنزل عن ظهره، وأن أتابع رحلتي ماشياً».

علي أن أقوم بأعمال خدمتي بنفسي، وفي المقابل أعطي من كانوا يخدمونني المال، أو أعطيه لفقراء آخرين… كم هو يوتوبي هذا الكلام، ولا أدري إن كان قابلاً للتطبيق العملي، لكنه يستفز الحقيقة الأخلاقية، كما يستفز العقل.. إن تولستوي يقدم هنا وجهة نظر تحتاج إلى تأمل، لكنك لا تملك إلا أن تتفق معه تماماً في أن كلّ أولئك الذين يعدّون أنفسهم رجال دين، أو موظفي دولة، أو نخبة ثقافية، أوعلماء، أو فنانين، إنما هم متحرّرون من كفاح البشرية من أجل الحياة، ويتركون عبء هذا الكفاح على بقية الناس، مستندين إلى فكرة أنّ خدمتهم الحكومية تعوّض عدم مشاركتهم.

لكن المفاجأة التي يصدمنا بها تولستوي، وتستفز الجدل في داخلنا، هي غاية العلم والفن، ولا يستثني نفسه من ذلك: إذا سألنا أهل العلم والفن عن غاية عملهم فـ«إجابتهم تذهلك حالاً بوقاحتها، لأنها لا تستند إلى براهين، حيث يقولون، دون أيّ أدلة على صحّة كلامهم، كلاماً مشابهاً لما قاله الكهنة في الماضي، وهو أنّ نشاطهم هو الأكثر ضرورة وأهمية لجميع الناس، ومن دون نشاطهم تفنى البشرية»، لكنه لا يلغي العلم والفن، بل يشترط أن يربطا نشاطهما الخاص بالعلم التجريبي والوضعي والنقدي؛ لذلك يفند أوهام هيغل في فلسفة الروح ونظرية الدولة، ويحطم وضعية كونت التي عدت البشرية كائناً حياً، تماماً كما نقد مرجعيتها اللاهوتية في نقده مفهوم الكفارة، ويمر على مقولات سبنسر الواهية، ويقرر أن العلم عندما أدرك أنه لم يعد يتضمّن أيّ أفكار سليمة، أطلق على نفسه اسم «العلم الذي يسعى من أجل العلم».

حسناً، ما الحل؟

التقسيم المنطقي للعمل… وهنا تتجلّى فرضية تولستوي بقوتها الساخرة، وبدقّة المحلل والناقد اللاذع، يقول:

«من الغريب أن يعتقد الإسكافي أنّ الآخرين يجب أن يوفروا له قوت يومه؛ لأنه يواصل عمله في صناعة الأحذية التي لم يعد أحدٌ بحاجة إليها، ولكن ماذا عن أولئك الإداريين ورجال الدين وممثلي العلم والفن، الذين ليس فحسب لا ينتجون شيئاً مفيداً ملموساً، بل لا أحد يقبل على بضاعتهم أيضاً، لكنهم رغم ذلك تجرؤوا على الطلب من الآخرين، مستعينين بقانون تقسيم العمل، أن يقدموا لهم أفضل الطعام والشراب واللباس».

لقد قدم العلم مخترعات كثيرة: البرقيات والهواتف ومحركات البخار و… لكنه لم يحقق شيئاً لحياة العمال، أما الفن فحدث ولا حرج، يكفي أنه اقتصرت جمالياته على الأغنياء، إضافة إلى ما تنفقه الدولة عليه من دعم أخذته أساساً ضريبةً من الناس.

والآن، ماذا علينا أن نفعل؟

  1. التوقف عن الكذب على الذات وعلى الآخرين، والبحث عن الذات والمسار الواضح:

«عندما اعترفت وندمت فحسب؛ أي عندما توقفت عن النظر إلى نفسي على أني شخص مهم، بل بدأت أنظر إلى نفسي على أني شخص عادي، مثل جميع الناس، حينها فحسب أصبح مساري واضحاً لي.

  1. أن أتعلم كسب الرزق الحقيقي؛ أي ألا أعيش على حساب الآخرين:

«أؤمن طعامي وشرابي وتدفئة بيتي ومسكني بنفسي، وأن أخدم الآخرين من خلال هذه الأشياء».

  1. التخلي عن اعتقادي بامتلاكي حقوقاً وميزات وخصوصية عن الآخرين، والاعتراف بأنني مذنب.
  2. تطبيق ذلك القانون الأبدي، الذي لا شك فيه، المتمثل في العمل بكل طاقتي، وألا أخجل من أي عمل، وأن أصارع الطبيعة للحفاظ على حياتي وحياة الآخرين.

المُلكية هي أصل كلّ الشرور، والعالم كله تقريباً مشغول بتوزيع وتأمين المُلكية… فباسمها تحدث في هذا العالم الحروب والإعدامات والمحاكم والمعتقلات والترف والفساد والقتل وخراب البشرية.

وعلى الرغم من أن هذا الكتاب مؤثَّثٌ بالمقولات النابعة من حكمة عقل تولستوي، والتي قد تشكل كل مقولة منها إرهاصاً لنظرية في الأنثروبولوجيا، وفي علم الأخلاق، والإنسانيات عموماً، يقرر هو ذاته أن هذه المقولات، ومن ثم الحلول، لا تكتمل إلا بالنساء؛ فالنساء يصنعنَ الرأي العام، بل النساء هنَّ الأقوى في عالمنا؛ النساء يقدنَ البشرية إلى الخلاص، لكنّه يحصر دورهن في الفلك الذي رسمه هو حلاً للإشكالية الجوهرية التي أثارها:

«الأم الحقيقية، التي تعرف عملياً شريعة الله، هي من سوف تربي أولادها على الالتزام بها. ستشعر مثل هذه الأم بالألم عندما ترى طفلها يبالغ في طعامه ودلاله ولباسه؛ لأنها تدرك أنّ هذا كله سيصعّب عليه الاستجابة لإرادة الله التي عايشتها الأم. هذه الأم لن تعلّم ابنها أو ابنتها كيف يتحرران من العمل، بل ستعلّمهما ما يساعدهما على تحمل مسؤولية العمل في حياتهما».

أجل، أيتها النساء الأمهات، في أياديكنّ، أكثر من أيّ أحد آخر، خلاص العالم.