دموع على الكتب!

يقول سقراط:
اذا أردت أن أحكم على انسان ، فاني أسأله كم كتابا قرأت وماذا قرأت ؟..
ويقول الفيلسوف والشاعر الأمريكي امرسون :
الكتب هي الاثار الأكثر بقاء على الزمن.

ويقول هنري دايفيد ثورو.:
الكتب هي ثروة العالم المخزونة ، وأفضل ارث للأجيال والأمم.
ويقول ديبارو:
الكتاب صديق لا يخون.
ويقول فنسنت ستاريت:
عندما نجمع الكتب نجمع السعادة.

____________

انتشر في السنوات الأخيرة مقطع فيديو لعالم عراقي يبكي بحرقة على كتبه التي اضطرته ظروفه المتعثرة إلى بيعها…

ومع الأسف أن كثيرًا من الناس لم يتعاطفوا معه كما يليق بمعاناته وظنّوه من الذين يبالغون في أحزانهم ويحرصون على أن يكون صوت شكواهم أكبر من حجم معاناتهم…ولكن من يعرف قدر الكتاب والعلاقة الروحية التي تنشأ بينه وبين صاحبه لا يستغرب هذا الحزن النبيل ولا يتعحب من الدموع التي ذرفها هذا العالم النبيل على كتبه…

كيف وقد قال المتنبي قديمًا:

وخير مكان في الدنى سرج سابح
وخير جليس في الزمان كتابُ!
وقال أحمد شوقي:
أَنا مَن بَدَّلَ بِالكُتبِ الصِحابا
لَم أَجِد لي وافِيًا إِلا الكِتابا
صاحِبٌ إِنْ عِبتَهُ أَو لَم تَعِبْ
لَيسَ بِالواجِدِ لِلصاحِبِ عابا
كُلَّما أَخلَقتُهُ جَدَّدَني
وَكَساني مِن حِلى الفَضلِ ثِيابا
صُحبَةٌ لَم أَشكُ مِنها ريبَةً
وَوِدادٌ لَم يُكَلِّفني عِتابا
رُبَّ لَيلٍ لَم نُقَصِّر فيهِ عَن
سَمَرٍ طالَ عَلى الصَمتِ وَطابا
إِن يَجِدني يَتَحَدَّث أَو يَجِد
مَلَلاً يَطوي الأَحاديثَ اقتِضابا
تَجِدُ الكُتبَ عَلى النَقدِ كَما
تَجِدُ الإِخوانَ صِدقًا وَكِذابا
فَتَخَيَّرها كَما تَختارُهُ
وَادَّخِر في الصَحبِ وَالكُتبِ اللُبابا
صالِحُ الإِخوانِ يَبغيكَ التُقى
وَرَشيدُ الكُتبِ يَبغيكَ الصَوابا
إلى آخر قصيدته العصماء التي قدم بها مذكرة دفاع عصية على النقض دافع فيها عن الكتاب وانتصر له ممن لم يعرفوا له قدره ومكانته العظيمة. فلا عجب إذن أن نرى عيني ذلك العالم الحزين وهن مغرورقات بالدموع وملؤهن الشجن و الأسى. وهو ليس أول عالم يبكي كتبه فقبله بكى العلماء كتبهم ومكتباتهم وهذه قصة من مئات القصص المشابه ذكرها العلامة ياقوت الحموي المتوفى ٦٢٦هـ في كتابه معجم الأدباء وقال: حدث أبو زكريا التبريزي و قال: رأيت نسخة من «كتاب الجمهرة» لابن دريد باعها أبو الحسن الفالي بخمسة دنانير إلى القاضي أبي بكر ابن بديل التبريزي وحملها إلى تبريز، فنسخت أنا منها نسخة، فوجدت في بعض المجلدات رقعة بخط الفالي فيها:

أنست بها عشرين حولا وبعتها …
فقد طال شوقي بعدها وحنيني
وما كان ظنّي أنني سأبيعها …
ولو خلّدتني في السجون ديوني
ولكن لضعف وافتقار وصبية …
صغار عليهم تستهلّ شؤوني
فقلت ولم أملك سوابق عبرة …
مقالة مشويّ الفؤاد حزين
«وقد تخرج الحاجات يا أمّ مالك …
كرائم من ربّ بهنّ ضنين»
فأريت القاضي أبا بكر الرقعة والأبيات فتوجع وقال: لو رأيتها قبل هذا لرددتها عليه، وكان الفالي قد مات!.

انتهت القصة.

وقال ياقوت الحموي معلقا على هذه القصة:

والبيت الأخير من هذه الأبيات تضمين قاله أعرابيّ في ما ذكره الزبير بن بكار عن يوسف بن عياش قال: ابتاع حمزة بن عبد الله بن الزبير جملا من أعرابي بخمسين دينارا ثم نقده ثمنه، فجعل الأعرابي ينظر إلى الجمل ويقول:
وقد تخرج الحاجات يا أم مالك … كرائم من ربّ بهنّ ضنين!
فقال له حمزة: خذ جملك والدنانير لك، فانصرف بجمله وبالدنانير.!.انتهى

فما أقسى الحاجة والافتقار !

وقد أُجبر العلماء على التضحية بكتبهم التي قضوا معها أجمل وأهدأ وألطف أيامهم وساعاتهم!

وأخيرا أود أن أنبه القارئ الكريم أن هذه الأُلفة مع الكتاب لا تشمل الكتاب الإلكتروني فالعلاقة مع الكتاب الإلكتروني -من وجهة نظري-علاقة مادية صرفة قائمة على المنافع المتبادلة…بينما الكتاب الورقي هو ابنك الشرعي الذي ترى ملامح خطك وتعليقاتك التي تعكس شخصيتك ووجهة نظرك على جوانبه وتزداد حبًّا له كلما ازداد بقاؤه عندك لأنه يحكي لك عن لحظات من ماضيك الجميل لا تود نسيانها!.

الكاتب: عبدالكريم المجهول

زفايغ: الكاتب الذي حلم بعالم من غير حدود

الكاتب المنفي قتل نفسه يائساً بعد صعود النازية.

قبل أن يموت، قال: أن البرازيل أصبحت ما يحلم بأن تكونه أوروبا.

قبل خمسة وسبعين عاماً، في فبراير ١٩٤٢، انتحر الكاتب الأكثر شعبيةً في أوروبا في بيت صغير في بلدة بيتروبوليس (Petropolis)، حوالي ١٠،٠٠٠ كم عن موطنه الأصلي ومكان ولادته: فيينا. في العام السابق لوفاته، أكمل زفايغ دراستين متناقضتين – عالم الأمس: مذكرات أوروبي، مرثية لحضارة استهلكتها الحرب، والبرازيل: بلاد المستقبل، نموذج متفائل لعالم جديد.

النمسا-هنغاريا قدمتا لزفايغ أنموذجاً للتعددية الثقافية في مواجهة الوطنية

ولد زفايغ عام ١٨٨١ لعائلة يهودية مثقفة وثرية في فيينا، عاصمة الامبراطورية الهابسبورغية متعددة الأعراق، حيث يعيش النمساويون ، الهنغاريون، السلاف، اليهود وغيرهم جنباً إلى جنب. كان الحاكم آنذاك فرانز-جوزيف الأول متعدد اللغات، وهو الذي أصدر مرسومًا في بداية حكمه ينص على أن “جميع الأعراق في الإمبراطورية لها نفس الحقوق، ولكل عرق حقاً مصوناً في إستخدام جنسيته ولغته الأصلية”.

كان فرانز-جوزيف عنيدًا ومتصلب الرأي، وحين لا ننظر لحكمه برومانسية، نجد أنه قدم لزفايغ أنموذجاً للتعددية الثقافية، في الوقت الذي كانت أوروبا تستهلك نفسها بالنَفَس القومي والوطنية.

بدأ زفايغ بكتابة “عالم الأمس” بعد مغادرته النمسا عام ١٩٣٤، متوقعاً تفشّي النازية في بلاده.

وأكمل مسودته الأولى للكتاب صيف عام ١٩٤١ في نيويورك، وقام بتسليم النسخة النهائية من كتابه – الذي قامت زوجته “لوت ألتمان” بطباعته – قبل يوم واحد من انتحارهما.

في ذلك الوقت، كانت الإمبراطورية الهابسبورغية قد “اختفت من غير أثر” كما كتب، وتم تخفيض مرتبة فيينا إلى مجرد بلدة ألمانية. أصبح زفايغ عديم الجنسية: “لا أنتمي لأي مكان الآن، أنا غريب أو – في الغالب – ضيفاً في كل مكان.”

إن مذكرات زفايغ ملهمة في عرضها للطبيعة المربكة للنفي. المدن التي كانت تحتفي بزفايغ، صارت تحرق كتبه؛ العهد الذهبي من “الأمن والازدهار والراحة” مهّد طريقاً للثورة، عدم الاستقرار الاقتصادي والقومية، “الوباء الذي سمم زهرة ثقافتنا الأوروبية”. الوقت ذاته تم اختطافه: “كسرت جميع الجسور بين اليوم والأمس وقبل الأمس”.

استقر زفايغ في بيتروبوليس، شمال ريو دي جانيرو – سميت المدينة على بيدرو الثاني، آخر إمبراطور للبرازيل.

(الصورة: Emma Bridget Byrne)

من دون أي أثر

من أكثر الأشياء التي كانت تقلق ستيفن زفايغ، هي فقدان بلد لغته. عبّر زفايغ: “إنه لعار معذب” في أن الأيديولوجيا النازية ظهرت وولدت من خلال اللغة الألمانية. مثل الشاعر “بول سيلان”، الذي انتحر في باريس، شعر زفايغ أن لغة شيلر، غوته، وريلك قد احتلت وشُوّهت من قبل النازية بشكل لا يمكن إصلاحه الآن.

يكتب زفايغ عن زمن بإمكانك فيه زيارة الهند والولايات المتحدة من غير جواز أو فيزا

في “عالم الأمس”، يصف زفايغ سهولة السفر من دون حدود بين الدول قبل عام ١٩١٤ – عن زيارة الهند والولايات المتحدة من غير الحاجة إلى جواز أو فيزا – وهو وضع غير مقبول لأجيال ما بين الحروب (الذين ولدوا أثناء الحروب أو بينها).

الآن زفايغ، مثل جميع اللاجئين، يواجه ذل التفاوض مع البيروقراطية غير العملية. يصف زفايغ “فوبيا البيروقراطية” لديه حين يطلب منه موظفو الهجرة تزويدهم بإثباتات إضافية للهوية، حتى أنه سخر مع صديق مهاجر عن مسماه الوظيفي “كنت كاتباً، والآن خبير في شؤون الفيزا”.

كان زفايغ واحداً من أكثر كتاب أوروبا شعبيةً في العشرينات والثلاثينات من القرن التاسع عشر، حتى أن صناع الأفلام تبنوا أعماله – أصبحت روايته “الخوف” فيلماً لروبيرتو روسيليني “لا باورا”. (Photo credit: Alamy)

مع انتشار قوات هتلر في أنحاء أوروبا، انتقل زفايغ من محل إقامته في باث، المملكة المتحدة، إلى أوسينغ، نيويورك.

كان زفايغ مجهولاً إلى حدٍ كبير للناس هناك باستثناء زملائه المهاجرين، الذين يفتقدون العلاقات الاجتماعية والملاءة المالية التي يمتلكها، ولجؤوا إلى الاستعانة بكرمه البالغ في العديد من المرات. لم يشعر زفايغ أبداً أنه في منزله عندما كان في الولايات المتحدة – اعتبر الأمركة (Americanisation) الدمار الثاني للثقافة الأوروبية تلو الحرب العالمية الأولى – وتمنى العودة إلى البرازيل، التي احتفت به خلال جولة محاضرات قدمها عام ١٩٣٦.

قد تكون رواية “رسالة من امرأة مجهولة” الأكثر رواجاً بين روايات زفايغ، والتي صارت فيلماً لماكس أوفولس عام ١٩٤٨، بطولة جوان فونتان ولويس جوردان. (Photo credit: Alamy)

البرازيل: بلاد المستقبل، ليست إلا احتفاءً بدولة أبهر جمالها وكرمها ستيفن زفايغ بشدة. كان زفايغ منبهراً بالبرازيل، وعاتب نفسه بسبب جهله و”غروره الأوروبي”. في كتابه، يصف زفايغ ويحدد تاريخ واقتصاد وجغرافية وثقافة البرازيل، لكن القيمة الأساسية للكتاب تأتي من منظوره الأوروبي الذي اكتسبه عن قارته.

لا يوجد فاصل لوني، لا فصل، لا تصنيف متعجرف – زفايغ

أصبحت البرازيل، في وصف زفايغ، كل شيء يتمنى أن تكونه أوروبا. حسية، ثقافية، هادئة ومنفرة للنزعة العسكرية والمادية.

(يدعي كذلك أن البرازيليين يفتقدون الشغف الأوروبي بالرياضة، وهي ملاحظة غريبة، حتى في ١٩٤١).

البرازيل دولة حرة من “المتعصبين عرقيًا”، “مشاهدها المحمومة ونشوة عبادة البطل”، “قوميتها المجنونة وإمبرياليتها”، “غضبها الانتحاري”.

أشاد “ويس أنديرسون” بزفايغ في اللقطات الختامية لفيلم “The Grand Budapest Hotel”، الذي يقول أنديرسون عنه أنه مستلهم من الكاتب. (Credit Fox Searchlight)

في ألوانها وإيقاعاتها، كانت البرازيل مختلفة بشكل كبير عن صورته المضطهدة لفيينا الهابسبورغية، لكن يبدو أن جمال هويتها الهجينة يبرر نظرته لها. في البرازيل، كان أحفاد المهاجرون الأفريقيون، البرتغاليون، الألمان، الإيطاليون، السوريون، واليابانيون يختلطون مع بعضهم البعض بكامل الحرية: “تعيش كل هذه الأعراق بتجانس تام مع بعضها البعض”.

تقدم البرازيل درساً “للحضارة” الأوربية في كيفية التحضر: “في الحين الذي تحكم فيه عالمنا القديم محاولات مجنونة لخلق سلالات بشرية نقية، مثل خيول وكلاب السباق، كانت الدولة البرازيلية قد بنيت على مر العصور على مبدأ التجانس الحر وغير المكبوت… يتحرك شيئاً بداخلك حين ترى الأطفال بألوان بشرة مختلفة – شوكولا، حليب، قهوة – يخرجون من المدرسة يداً بيد، لا يوجد حاجز لوني، لا فصل، لا تصنيف بغيظ… لمن نقوم هنا بالتباهي بنقاوة العرق المطلقة؟”

“الجنة”

أصبحت هذه الأنشودة شعبية بشكلٍ كبير لدى العامة، وحضر آلاف البرازيليين محاضرات زفايغ، بينما كان مسار رحلاته يطبع يومياً في جميع الجرائد الرئيسية.

لكن الكتاب تلقى النقد: يشير بروشنيك (Prochnik) إلى أن جرائد البرازيل الرئيسية نشرت – لثلاثة أيام متتالية – مراجعات سيئة لكتابه، تتهم زفايغ بتجاهل الابتكارات الصناعية والحداثية في البرازيل.

جعل احتفاء زفايغ بالبرازيل منه ذو شعبية عالية، العديد من المواقع سميت باسمه هناك (Credit: Wikipedia/Eduardo P)

 

من أكثر الأشياء جدلاً كان مديح زفايغ لديكتاتور البرازيل، غوتيلو فارغاس. في عام ١٩٣٧، أعلـن فـارغاس دولة جديدة (Estrada Novo) بنظام جديد مستلهم من الحكم السلطوي في البرتغال وإيطاليا. أغلق فارغاس البرلمان البرازيلي وسجن المثقفين اليساريين، والذين افترض بعضهم أن زفايغ قد دفع له مقابل مديحه، أو عرضت عليه الفيزا على الأقل.

قننت حكومة فارغاس استقبال المهاجرين اليهود على أساس عرقي – لكنها استثنت زفايغ لشهرته.

هذه الحلقة من حياة زفايغ توضح سذاجته السياسية. بطبيعته الهادئة والمتصالحة، خاف زفايغ من التحريض على العداء في لحظة حاسمة (انضم فاغراس أخيراً إلى الحلفاء في الحرب العالمية الثانية عام ١٩٤٢). بحثًا عن العزلة، خبأ ستيفن ولوت نفسهما في مدينة بتروبوليس الراقية، والمستوطنة سابقاً من الألمان، ٤٠ ميل (٦٤ كيلو) خارج ريو.

آمن زفايغ بعالم من غير حدود، لكن الحدود هي من عرّفته

“إنها جنة”، كتب زفايغ عن المناظر الطبيعية الخلابة لجبال الألب، والذي “يبدو على أنها مترجمة من اللغة النمساوية إلى اللغة الاستوائية”. هدف زفايغ إلى نسيان كتبه وأصدقائه القدامى، والبحث عن “الحرية الداخلية”.

أثناء كرنفال في ريو، علم زفايغ بتقدم النازية في الشرق الأوسط وآسيا، وهبط عليه الشعور بالموت. شعر زفايغ أنه لن يكون حراً أبداً، حراً من الخوف على وجه التحديد. “هل تصدقون فعلاً أن النازيين لن يأتوا إلى هنا؟” كتب، “لا شيء بإمكانه إيقافهم الآن”.

آمن زفايغ بعالم من غير حدود، لكن الحدود هي من عرّفته: “أزمتي الداخلية في ذلك هي أنني غير قادر على التعريف بنفسي عن طريق جواز سفري، الذات الخاصة بالمنفى”.

زفايغ المطارد من الأشباح (“نحن مجرد أشباح – أو ذكريات”)، كتب في رسالة انتحاره “ولقد استنفدت كل قواي في سنوات التيه الطويلة”.

كتب ستيفن ولوت في استقالتهما: “ليس لدينا حاضر أو مستقبل… قررنا، برابطة الحب، أن لا نتخلى عن بعضنا”.

قمت بزيارة بيت زفايغ الصغير في بيتروبوليس، والذي أصبح الآن “متحفاً نشطاً”، بحسب تريستان ستروبل، الذي يعمل هناك بالخدمة الوطنية كخادم للتذكار النمساوي للهولوكوست.

أراني تريستان شاشة تفاعلية بها صور لجميع اللاجئين الذين قدموا للبرازيل بين عام ١٩٣٣ و ١٩٤٥، مسلطةً الضوء على مساهماتهم.

“كانت هذه الفترة خسارة عظيمة على الحياة الثقافية الأوروبية”، يقول تريستان، “لكن للبرازيل والدول الأخرى، كان استقبال اللاجئين أمراً إيجابياً بشدة”.

العقد الأشد ظلاماً للعالم القديم جلب النور إليهم الآن.

 

كتبها: بنيامين رام، ٢٢ فبراير، ٢٠١٧. (BBC)

ترجمة: سالم الشهاب

في الفكاهة

 

بمزيج من الفكاهة، والكوميديا السوداء، والخيال العلميِّ، عُرفت أعمالُ الكاتب الأمريكيِّ كورت فونيجت (1922-2007). كانت بداياتُ رحلة فونيجت الأدبية مع كتابة القصص القصيرة للمجلاتِ في سنٍّ مبكرة، ونُشِرت أولُ رواية له عام (1951) وكانت بعنوان (عازف البيانو)، ومنذ ذلك الحين استمر في كتابة العديد من الأعمال الشيقة؛ منها: رواية صفارات إنذار تيتان (1959)، ليلة الأم (1961)، مهد القط (1963)، ومجموعة من القصص القصيرة بعنوان (مرحبًا في بيت القرود) في عام (1968)، المسلخ رقم خمسة (1969)، وفطور للأبطال (1973)، وأليف السجون (1979) وغالاباغوس (1985).

سُجن فونيجت خلال الحرب العالمية الثانية في ألمانيا، وكان شاهدًا على قصف مدينة دريسدن، وهي التجربةُ التي أثمرت عمله الأكبر، والرواية الأكثر شهرة حتى الآن (المسلخ رقم خمسة) والتي تُعد من أفضل الرواياتِ الإنجليزية في القرن العشرين.

في عام 2005 صدر له كتاب بعنوان (رجل بلا وطن) تضمن مجموعة مقالات قصيرة تناولت مواضيعَ شتى من منظور إنسانيٍّ؛ مثل: الفكاهة ودورها وأهميتها، ومشكلات التكنولوجيا الحديثة، وآراء في الاختلافاتِ بين الرجل والمرأة، وفي السياسة، وفي قضايا المجتمع الأمريكي المعاصر.

وإليكم المقال الأول في المجموعة:

وأنا طفلٌ، كنتُ الشخص الأصغر.

أيُّ موضوعٍ في الحياة هو قابلٌ للضحك، وأعتقد أنَّ هناك جانبًا طريفًا ما في معسكر أوشفيتز المروع. النكتةُ هي استجابةٌ فسيولوجية مضادة للخوف. قال فرويد: إنَّ النكتة هي واحدةٌ من عدة استجاباتٍ لمواجهة الإحباط

عندما كنتُ طفلًا، كنتُ الشخصَ الأصغرَ بين أفراد عائلتي، وغالبًا ما يكون أصغرُ طفل في أيِّ عائلة هو صانعُ الدعابة والباحثُ عنها؛ فالطريقةُ الوحيدة التي تمكِّنه من الدخول في محادثة الكبار هي الدعابة. كانت أختي أكبرَ منّي بخمس سنوات، وكذلك كان أخي أكبر مني بتسع سنين، ومن يتحدث دائمًا هما والداي؛ لذا عندما نجتمع على مائدة العشاء كان حديثهم يبعث على الملل ويثير ضجري، إنهم لا يريدون أنْ يسمعوا عن أخباري الصبيانية التي وقعت اليوم، بل يريدون فقط التحدثَ عن الأشياء المهمة التي وقعتْ في المدرسة أو في الكلية أو في العمل؛ لذا فالوسيلةُ الوحيدة التي يمكنني أنْ أقطع بها سيْر هذا الحديث هي أنْ أقولَ شيئًا مضحكًا! أعتقدُ أنني فعلتُ ذلك دون قصد في البداية، فعندما تلفظتُ بعبارات تلاعبتُ بكلماتها في منتصف حديثهم توقفوا عن الكلام، ثم اكتشفتُ أنَّ النكتة كانت وسيلةً لاقتحام محادثة الكبار.

لقد نشأتُ في وقت كانت فيه الكوميديا نوعًا من الترف في فترة الكساد الكبير. كان هناك العديدُ من الكوميديين في برامج الراديو كنتُ أستمع إليهم، ومن دون قصد بدأتُ دراسة أسلوبهم بجدية. وفي فترة الشباب حرصتُ على الاستماع إلى هذه البرامج الكوميدية لمدة ساعة على الأقل في كل ليلة، ومن يومها أصبحتُ مهتمًّا بمعرفة الفكاهة وأساليبها وتأثيرها.

عندما أثير أيَّ طُرفة، أحاول جاهدًا ألّا أسيء إلى أحد. لا أعتقد أنَّ الكثير مما قمتُ به كان خادشًا للذوق، أو أنني قد أحرجتُ الكثير من الناس، أو سببتُ لهم الضيق. في بعض الأحيان، قد استخدم بعض الكلمات البذيئة وهذا أسوأ شيء فعلته. بعض الأمور ليست مضحكة، فعلى سبيل المثال، لا أستطيع أن أتخيل كتابًا فكاهيًّا أو ملاحظةً ساخرة عن معسكر أوشفيتز النازي. كما إنه من غير الممكن أنْ أقول طرفة عن موت جون كينيدي أو مارتن لوثر كينغ. خلاف ذلك فأنا لا أستطيع التفكير في أيِّ موضوع آخر لا يمكنني أن أفعل شيئًا حياله.

كم كان فولتير محقًّا حين قال: «الكوارثُ مدهشةٌ بشكل مرعب»!

لقد رأيتُ تدميرَ مدينة دريسدن، رأيتُ هذه المدينة قبل الغارات الجوية وبعدها، وبالتأكيد كانت ردة فعلي هي الضحك؛ الله وحده يعلم سببها، كان ضحكًا للروح الناجية من الموت! أيُّ موضوعٍ في الحياة هو قابلٌ للضحك، وأعتقد أنَّ هناك جانبًا طريفًا ما في معسكر أوشفيتز المروع. النكتةُ هي استجابةٌ فسيولوجية مضادة للخوف. قال فرويد: «إنَّ النكتة هي واحدةٌ من عدة استجاباتٍ لمواجهة الإحباط». فعندما لا يستطيع الكلبُ الخروجَ من قفصه، يبدأ في النباح والهمهمة والحفر في الأرض، والقيام بحركاتٍ لا معنى لها؛ للتعامل مع هذه الحالة من الإحباط أو المفاجأة أو الخوف.

من الخوف، يأتي القدرُ الأكبر من الضحك. قبل عدة سنوات كنتُ أعملُ في برنامج فكاهيٍّ في التلفزيون، وكنا نحاول أنْ يكون عرضنا الأساسي في كل حلقة عن الموت، وهذا العنصرُ من شأنه أنْ يجعل ضحكَ الجمهور أعمق من دون أنْ يدرك الجمهور كيف كنا نحفز فيهم الضحك الداخليَّ. إنَّ هناك نوعًا سطحيًّا من الضحك، فعلى سبيل المثال الممثل بوب هوب، لم يكن في الحقيقة فكاهيًّا، فقد كان ممثلًا يتناول المواضيع البسيطة جدًّا، فهو لم يتناول أيَّ شيء مثير للقلق أو الخوف. ولطالما ضحكتُ بملء فمي وأنا أشاهد لوريل وهاردي، فلدى هذين الممثلين مشاكل مستمرة بطريقة أو بأخرى، وكان يراودني شعور بأنه من الغريب أن ينجو هذان الرجلان ويبقيا على قيد الحياة في هذا العالم المليء بالمغامرات والمخاطر الرهيبة طوال الوقت؛ فلقد كان من الممكن أنْ يُقتلا بسهولة.

 

الكاتب: كورت فونيجت – ترجمة: بندر الحربي

المصدر: مدونة المترجم بندر الحربي

السخرية بين الحداثة وتجلياتها

بانصرام الزّمن وتطوّر الحادثات، اتّجه العالم في سعيه إلى التعرّف على كلّ ما حوله، ومشى في سبيله إلى تقديس كلّ ما يفتح له موالج المجهول ويمنحه مفاتيح أقفال ما غاب عن فهمه وعلمه، خفرًا فخورًا بكلّ ما قد وصل إليه من مكتشفاتٍ ومخترعاتٍ، وإن كانت في الحقيقة هيكلًا فارغًا أجوفًا.

هذه المسافة التي قطعها الإنسان من نقطة جهله الأولى التي كان عليها، إلى المناطق التي أضاءت في عقله ومهّدت الطريق أمامه ليسبر غور العالم من حوله؛ باعدت في المقابل بين الإنسان وذاته، وأطفأت مناطق وعي فيه كان يسترشد بها إلى فهم نفسه وما يعتملها من شعور وغيره، وبات الإنسان الحديث في نظر العالم آية في العلم والتمدن والتحضر، لكن أحدًا لم يعرف أنه كذلك صار عبرةً في دخيلة نفسه وخبرته بذاته.

شعورٌ مبهم

كان من تداعيات جهل الإنسان بنفسه خلق هوة سحيقة بين عقله وقلبه، وفجوة هائلة بين إنسانية الإنسان وآليته، وانقطع مع ذلك حبل الوصل بين ذبذبات الشعور وخلايا استقبالها، فبات الإنسان إما آلة تعقل وتعمل لتتقدم، أو خردة لا قيمة لها، وتداعت أبنية المشاعر ومعانيها، حتى صارت عقبة تعيق الإنسان عن ممارسة حياته الطبيعية نحو العقل والتحديث، كتلةً معقدةً مبهمة لا يدري لها أول من آخِر، تشغله عنها الحياة نهارًا ثمّ تهاجمه كالعفريت ليلًا، تتسرب كلصّ على هيئة حزنٍ على ملاذ الحياة التي لا يحصلها، أو تطرق باب سكونه بغضب كلما سارت الأمور كما لم يخطط لها، أو في صورتها الأسوأ: شوكةُ ندمٍ تخنق حلقه ألمًا نهاية فقد ما لا يمكنه استرجاعه أبدًا.

لم تُخلِّ العقبة صغيرًا ولا كبيرًا، ولم يعتق بُهم الشعور عالمًا ولا جاهلًا. الجميع أمام ذواتهم سواء.. كإنسان الكهف الأول، الذي حاول بما يشبه الفضول أن يستكشف النار للمرة الأولى غير عارف بأن أول سماتها أنها.. تلسع!

فما كان منه -الإنسان الذكي المتحذلق- إلا أن حاول دهسها، أو تجاهلها بما يفتح عليه كلّ طريق للوصول غيرها، فاخترع في سبيل ذلك مخترعات وابتدع لأجل ذلك الحيل، وكأنت أسوأ الحيل النفسية وأقساها: السخرية. قناع أسود يخفي هشاشته خلف صلابة واهية، يتحايل بها المرء على كل شعور مبهم يعتمله ليتخلص منه منتشيًا بإنجازه وسعيدًا بتجاوز عقبته تلك، وما كان عارفًا أن كل ما ألقاه خلف ظهره في فجوات سخريته يعود ليظهر مرة أخرى ومضخمًا عشرات المرات، إما في ادعاءات تمرّد على كل شيء، أو عنوان في جريدة: انتحار شابٍ لأسباب مجهولة! 

واجهةٌ برّاقة

مع انخراط العالم في حداثته وادعائه تقديس الإنسان وتكريس العلم لذاته وتذليل الحياة لاحتياجاته؛ تجاهل الناس لخطاباته الرنانة هذه تبعاتها، ولم يدركوا أن ضريبة الغاية التي أُشربناها هو دعس قيمة الإنسان الحقيقية بما لا يخدم صورة التقدم المطلوبة، سواء كانت قيمته هذه فيما يحمل من قيم أو يحتمل من شعور، ولما كانت قيمه وشعوره لا تعني أحدًا وعائقًا ليس إلا؛ تُركت هناك على أرصفة التخلف والضعف، ونُبذت كما تُنبذ ذبالة المصابيح الصدئة التي اهترأت لشدة ما أنارت، ثم حين لم يلتفت إليها أحدٌ.. انطفأت.

وغدا الإنسان حيُّ الشعور مجرد ضعيف ساذج، ورقيقًا ليس خليقًا بجدةِ الحياة وسيرها، وكغريق يترك نفسه يأسًا للموج؛ انقاد لأعراف مجتمعاته وعاداتها ومعاييرها، وليصبح قويًا كفاية لا يستصغره ولا يستضعفه أحد؛ استعاض عن كل شعور بواجهة السخرية البراقة، تلك التي تورّث في النفس أنفة كاذبةً واستغناء فارغًا وقوة وهمية للتجاوز، وصار في كلّ حالاته مجرد مسخ منها؛ حزينًا ساخرًا، متألمًا ضاحكًا، يائسًا هازئًا، يسخّر كل طاقاته لتطويع شعوره بما يخدم منظره الجيد بين أقرانه، وسمعته الحسنة المواكبة لسير “الروشنة”، غابت المساحات الفاصلة بين شعور وآخر، كلها صور باهتة مموهة لشيء لا تعرف ماهيته الحقيقة، لا حدود لجد وهزل، ولا لعقل ولا منطق، وغدت كل تجليات حس الإنسان منحصرة في ضحكة وتعليق ساخر يدعي بهما ما ليس عليه أصلًا، ويتلبس ثيابًا ليست له ابتداءً.

استشراء الأزمة

لم تتوقف حيلة السخرية على كونها مهربًا من شعور المرء، يتّخذ منها غطاء لحقيقة خوفه مما قد يعيق سير حياته أو يشعر كينونته أمام غيره بالتهديد، إنما باتت هي الطريقة الفعلية للتعبير عن كلّ شيء، وانسحب ذلك على كل أركان الحياة بدءًا بمعتقد الإنسان وانتهاءً بمواضيع سمره المعتادة، فتهدمت المقدسات في نفوس أصحابها لما أصبحت عليه من مادة للتندر وما دخلها من صور السخرية المعتادة، حتى العمل بات مثارًا من مثاراتها وميدانًا لها، الزواج، معاناة الشباب، مخاطر الانحراف، أزمات المجتمع، كلّ شيء بات حل نقاشاته ينتهي بالاستهزاء، كل المعاني والقيم مادة للتندر، الحديث الجاد بات “كآبة” وتم تحويل دفة الاهتمام كليةً إلى ما يعرف بالـ “كوميك” وصار هو اللغة الوحيدة التي يجيدها المعاصرون، لا يفقهون غيرها ولا يعرفون سواها متنفسًا لمجامل الحياة ودركاتها.

النتيجة

كان مآلًا حتميًا لكلّ تلك التجليات أن ينتج جيل مشوهٌ لا يقف عند جهله بشعوره ونفسه فقط؛ إنما يتخذ منهم منحدرًا ينزل به إلى دركات التجاهل والتهكم والسُخرة، وتسطح عقله ليكتفي من الحياة بظاهرها؛ ذاك الذي يخدر فيه شعور المسؤولية ويعمق من البحث خلف التجاهل والعيش بلا متاعب ومشاقّ بائنة، وكأنها حلِقٌ فارغةٌ بلا ثوابت؛ مركزها كلّ ما دون المعنى وأقطارها متباينة، فوضى شعورية فكرية هنا لا تدع مجالًا لأدنى اتزان، موازين مقلوبة هناك، والإنسان ضحيةٌ وجلاد، يرفع سوطه على بني جنسه فترتد ضربته عليه، وكأنى بنا في مسرحية هزلية عنوانها الضحك، الكلّ فاغرٌ فاه مقهقهٌ، ولا أحد يحوش الدموع المحتبسة خلف الأضواء أو حتى ينتبه لها.

أخيرًا، حلول الخروج من الأزمات المعاصرة المكينة من مجتمعاتنا ما هو إلا محاولات واهنة ربما تردد أصداؤها في صمٍ أو تحدث دويًا بعدما تندثر أجيالها، لكننا نحاول أن نتلمس في العتمات ثقوب ضوء نتبعها نحن أو يتبعها من يأتي بعدنا، وأظن أن حلول أزمة كهذه تبدأ بعودة الإنسان إلى قيمته الأصيلة وضبط بوصلة سعيه لتبحث عن المعنى لا عن الفراغ، ليطلق لبشريته العنان في حدود ما وضعه خالقها من ضعف ونقص لا كعيب وإنما كجزء من ماهيته، ولتكسر دورانه اللامجدي مع عجلات الحياة بلا زاد ثابت من معتقد يقدسه ووعيه ينبهه وفكر يضبطه، بهذا أقول.. ربما يعرف المرء لنفسه قدرها ويحفظ عليه حياته قبل أن تصير إلى فناء.

الكاتب: عائشة عادل

المصدر: مدونة أثارة

فرصة أخرى: رحلة إلى العمى

الفصل السادس

           البصيرة

         “كما لو أن العقل يتذوق طعم المسرات”

في زحمة الأصدقاء، شعرت بالدهشة للحية جويل رينولدز واستدارة توم بيلزيل الذي تخيلت أنه ممشوق وجميل المظهر، لكن في الغالب كنت مفتونًا بالوجوه، وبالتغيير الكبير في الوجوه التي كانت مألوفة ذات يوم. رغم ذلك، الوجوه مخيفة تقريبًا بالنسبة لي، حيث إن كل التفاصيل ليست موجودة، لذلك أرى الفم بدون شفاه وبياض العينين دون الرموش. عندما يكون الضوء قويًا كما كان هذا الصباح خارج الكنيسة، يبدو الوجه قاسيًا ومبالغًا فيه مثل الرسوم الكاريكاتورية. أعتقد أنني أميل إلى تفسير هذا على أنه تقدم العمر لدى أصدقائي. مع مرور الوقت، قد أجد أن خمسة عشر عامًا لم تكبرهم سنًا كما أعتقد.

هذه الرؤية المشوهة المبكرة عادت إليَ بعد وقت قصير في درس من إنجيل مرقس عندما شفى المسيح الرجل الأعمى في بيثيسدا. بعد أول وضع للأيادي في الأسفار المقدسة، نظر بيثيزدان للناس كأنهم أشجار تمشي، كان في المرحلة الثانية التي رأى فيها كل رجل بوضوح، وأنا ما أزال في المرحلة الأولى، ولكن الوجوه التي رأيتها في البداية لم تكن ضئيلة، وليست بيضاوية مع خط للفم ودائرة للعين مثل رسم كاريكاتوري لثربور. كانت بشعة، مثل أشجار تمشي، لم تكن هناك أسنان، أو كانت الأسنان مبالغًا فيها، وكانت فتحات الأنف مثل غرف التفتيش. أتذكر عبارة من ميلتون: “عين اليوم البهيجة”. العديد من صور أول أيامي المبصرة كانت ذات جودة رائعة. لحسن الحظ، لم يدم هذا التشوش الغريب طويلًا، وأصبحت وجوه الأصدقاء أكثر وضوحًا يوميًا كما أتذكر.

الوجوه تثير الكثير من التساؤلات، نحن نفترض أن الوجه هو الوسيلة الأساسية للاتصال البشري. إن مصطلح “وجها لوجه” هو مصطلح أساسي في اللغة. في أدب المجتمع الذي درسته منذ فترة طويلة، يشير إلى أن العلاقات الفردية هي أساسية في بناء مجتمعات تقليدية قوية، ماذا بعد ذلك للمكفوفين؟ هل لأنهم لا يرون الوجوه هم مستبعدون من المجتمع؟ من الواضح أنه لا. لا يحتاج المكفوفون إلى مواجهة بعضهم البعض على الرغم من أنهم في كثير من الأحيان يفعلون ذلك، يتجهون نحو الصوت كبادرة احترام أو محاولة للتوافق. بالنسبة لهم، إن العلاقة الخاصة تعتمد إما على صورهم الداخلية من الأصوات أو على بعض الأحاسيس. رغم أن الوجوه ثمينة جدًا بالنسبة لي، لنفسي أو لمجتمعي، إلا أنني أدرك أن للمكفوفين شكلهم الخاص من العلاقات المباشرة.

خارج الكنيسة، اشترت شيرلي نوع من زهور الكمبوديوم الذي يتم بيعه لسبب ما، المنزل الآن مليء بالزهور. لدينا زنابق عيد الفصح، والتوليب الأحمر محفوظ بوعاء وسلة ربيعية أرسلها كيفن وديبي، والورود من حديقة فيبي.

الاثنين، 31 مارس. بين 4:30 و 6:00 ص، كان الألم يأتي لعيني ولكن ليس لفترة طويلة. لقد لاحظت أنني بينما أضع الرقعة على العين ليلًا، لم تعد المساحات العائمة الضبابية التي تنتقل عادة عبر الخيال ذات لون أبيض أو رمادي ولكنها كانت ألوان متناوبة، كالأحمر أو الأزرق أو الأخضر أو الأصفر أو الألوان جميعها مختلطة. يبدو الأمر كما لو أن العقل يتذوق طعم المسرات.

كلما أغمض عينيّ، أظل أرى الرسوم المتحركة، شخصيات صغيرة تتقافز مثل رجال شرطة كيستون، يلوّحون بعنف بأذرعهم ورؤوسهم ووجوههم الملتوية، لأنهم يختبئون في حقول الألوان، وهي زاهية للغاية، وأنها تميل إلى المجيء قبل النوم أو الاستيقاظ.

يجب أن تكون الحقول العائمة مرتبطة بالمدخل المفاجئ للألوان في النظام المرئي، بحيث يتم سلبها لفترة طويلة. اختبر فالفو مرضاه بالنظام المنسق بهذه الطريقة: “كنت أرى بشكل دوري للقطع الملونة من الكريستال والفسيفساء المتماثلة”. ولكنها ليست ببساطة نتيجة لرؤية الألوان الجديدة، حيث إن بعض المكفوفين أيضًا يجربونها، وهي بالنسبة لهم لا تشكل تأثيرًا مرئيًا بل ذكرى مكررة، لقد رآهم صديقي وطالبي جوديث الأعمى. وقد أطلق عليهم ثوربر”زياراته المقدسة”، وهي عبارة عن فيض من الألوان يشبه إلى حد كبير بعض لوحات براك. وصفها هال بأنها “منطقة مستديرة من الضوء الوردي أو البرتقالي الفاتح يدور حول المجال المرئي”.

بالطبع هال الذي يستمتع بالخيال الشديد، يستمتع أيضًا بأحلام تكنيك ولور التي شعر أنها كانت تهرب من حالة عمى عيناه، على غرار الذكريات المستعادة. وكتب: “في كل مرة أعود فيها إلى الوعي، أفقد بصري مرة أخرى”. يبدو أن الألوان في الأحلام يجب أن تكون مسألة شخصية، بالنسبة لي، لم يعد لون الأحلام مع حقول اللون هذه إلا مع استعادة البصر.

أما بالنسبة للرسوم المتحركة، فإن الأدب النفسي على البصر المستعاد مليء بمثل هذه الظواهر. يصف فالفو هذه الظاهرة بأنها “خلاصة الهلوسة للتجارب المرئية الجديدة”. يفرّق علماء النفس الآخرون بين ثلاثة أنواع من الهلوسة: بسيطة، مثل البريق، ومربعات ودوائر هندسية، وشخصيات مهيكلة. في أوقات مختلفة أثناء وبعد الجراحة، كنت قد جربت كل ذلك. نظرًا لأنهم يتناقصون بمرور الوقت، يوجز فالفو إلى أنهم يمثلون “عملية كما لو كان مخزونًا عقليًا من الصور التي حرم منها المريض لسنوات يعيد ملء نفسه”.

المصدر: كتاب فرصة أخرى: رحلة إلى العمى

(الفصل السادس)

المؤلف: روبرت هاين

هل يُروى عطش القراءة بلمسة إبهام؟

 

المتأمل في المشهد الثقافي العربي في صيغته التفاعلية الرقمية الجديدة، يلحظ عطشا قرائيا يُروى بصيغة pdf ؛ لترتفع المكتبات الإلكترونية الشخصية بآلاف نسخ الكتب التي لا يكلف بنائها في أحايين كثيرة سوى لمسة إبهام؛ لتُسلب حقوق المؤلف و دار النشر في فوضى إلكترونية وتطرح عدة أسئلة حولها: هل ساهمت في رفع معدل القراءة للفرد العربي على الرغم من كسرها لحقوق المؤلف و دار النشر و كيف يمكن ضبط تلك الفوضى؟ وما مدى تأثير تلك الحالة في المشهد الثقافي و الوعي العام ؟

أسماء الزرعوني: لا بد من ضوابط لنضمن حق الكاتب والناشر

الثورة الرقمية واكتساحها لكل مظاهر الحياة والثقافة والإبداع غيّرت الملامح الجمالية للنص وخصائصها البنيوية لنقف عند بنية جديدة تستدعي آليات اشتغال جديدة، وما يهمنا هنا الكتاب الرقمي الذي جاء ليحل مكان الكتاب الورقي، صحيح إن هذه الثورة سهلت لنا الكثير من الأمور في يومياتنا وأيضا اجتاحت عالم المراهقة والطفولة لدرجة أن الأطفال يتعاملون معه أكثر من تعاملهم مع أي شيء آخر وهذا خطر جسيم ، الكثير منا تفاعل معه ولكن إلى الآن تنقصه الكثير من المعرفة لكنه في نفس الوقت أقلق الكثير من القراء والباحثين، والمهتمين بالكتابة الجادة في مجال الدراسات والنقد وخصوصاً أنه في كثير من الأحيان لا تنطبق عليه الصحة والدقة.

لا أعتقد أنها ساهمت في تحسين مستوى القراءة أو أضافت، بل أجد أنه سلب حق الناشر والكاتب، وذلك لأنه لا يوجد على الكتاب الإلكتروني الحقوق الإلكترونية، فأصبح من السهل أن يسرق ويتداول ويبقي الكتاب الورقي في مخازن الناشر، ضاعت حقوق كثيرة من خلال الكتاب الرقمي أحياناً حتى قبل أن ينزل السوق نجد إما أنه نشر بطريقة ما عبر هذه الوسائل، وليس من العدل أن نجد أحياناً في هذه الوسائل مادة واسم كاتبها مبهم غير الكتاب الورقي الذي كلما فتحنا الكتاب تقع أعيننا على اسم الكاتب قبل دار النشر وفي الآونة الأخيرة انتشرت ظاهرة السرقات الأدبية الذين يقومون بقص ولزق المادة ويتم نسبتها لشخص آخر دون أي تعب سوى تغيير بعض الجمل لذا فالسلبيات أكثر من الإيجابيات فلا بد من ضوابط لنضمن حق الكاتب والناشر.

نعيمة الخالدي: يتميز الكتاب الإلكتروني بسهولة الاستخدام.

بات السؤال عن معدلات القراءة للفرد العربي مقولباً بربع صفحة سنويا – حسب بعض الإحصاءات العالمية والعربية – وعلى الرغم من الاتفاق على تدني تلك المعدلات بشكل عام؛ إلا أن القفز بالسؤال إلى تأثير الفضاء الإلكتروني عليها يمكن أن يولد أسئلة أخرى عن مدى دقة تلك الأرقام!

خاصة إذا ما توقفنا عند نتائج تقارير الاستخدام الإلكتروني؛ إذ يشير تقرير اقتصاد المعرفة العربي 2015م-2016م، إلى أن العالم العربي يشهد حقبة جديدة عنوانها «النمو في عدد مستخدمي شبكة الإنترنت»، والذي يتوقّع أن يبلغ نحو 226 مليون مستخدم بحلول العام 2018م.

وفق هذه المعطيات لا يمكن تصور أن المكتبات الإلكترونية لم تساهم في رفع معدلات القراءة، إلا أنها تختلف – ولا شك- حسب المجال المعرفي، ففي حين يتميز الكتاب الإلكتروني بسهولة الاستخدام والوصول إلى المعلومة من جهة، يتميز الكتاب الورقي بسهولة استرجاع المعلومة، الأمر الذي يوضح الفرق بين القراءة العامة والقراءة البحثية أو النقدية؛ وبالتالي تفسير الفرق بين الإحصاءات المتناقضة لنسبة الإقبال على كلا النوعين من الكتب، من هنا يمكن ملاحظة بعض المؤشرات على تأثير هذه الحالة على المشهد الثقافي والوعي العام، مثل:

1- يتزامن ارتفاع مبيعات معارض الكتب الدولية مع ارتفاع معدلات توفر الكتاب الإلكتروني، ما يعني أن الأخير يسوق للكتاب الورقي، لذلك يعد رافداً له لا بديلاً عنه، ومؤثراً إيجابياً في رفع مستوى الاهتمام بالقراءة.

2- وجدت كثير من الكتب الموقوفة رقابيا الطريق إلى حريتها في فضاء النشر الإلكتروني، ومثلها تلك التي حجزها العامل المادي عن الطباعة، ما يمثّل كسراً للقيود التقليدية للنشر، ومجالا أرحب للحرية الثقافية.

3- أوجدت مواقع التواصل الاجتماعي – و تويتر بشكل خاص الذي يسجل فيه السعوديون أعلى نسبة استخدام عربياً حسب تقرير الإعلام الاجتماعي العربي 2017م- بيئة تفاعلية بين المؤلف والقارئ، يمثّل الكتاب الإلكتروني أو المقالة الإلكترونية وسيطاً ميسّراً بينهما، وتعد تجربة د. عبدالله الغذامي في وسم# نقاش_الغذامي حول كتبه الذي بدأ عام 2012م عبر تويتر نموذجا إيجابيا لهذا التفاعل، وللمشهد الثقافي بشكل عام.

أما الوجه السلبي للنشر الإلكتروني فيظهر عبر عمليات النسخ والقرصنة التي تتعرض لها الكتب مودية بحقوق المؤلف ودار النشر الفكرية والمادية، ورغم وجود قوانين حماية الملكية الفكر ية إلا أن الخلل يكمن في قصور تطبيقها، الأمر الذي يلقي بالمسؤولية على عدة جهات، من أبرزها جمعيات واتحادات الناشرين العربية، للوصول إلى الآليات المناسبة لتفعيل تطبيق قوانين الحماية، وإبداع إجراءات للنشر عبر السوق الإلكترونية بما يساهم برفع نسبة المبيعات من جهة، وضمان آلياتها القانونية من جهة أخرى.

علي الجبيلان: فوضى لا أخلاقية

بدايةً أود أن أقول: إن هذه الفوضى في أكثر صورها -وبكل أسف- فوضى لا أخلاقية، مما يُبعِد أن تكون فوضى خلاقة ثقافيًا، سمتها البارزة في ظني لا تتعلق بالقراءة وانتشارها بقدر تعلقها بالانتهاك الصارخ لحقوق المؤلف والناشر والمنشور، بل إني لأظن ظنًا أن لها تأثيرًا سلبيًا مباشرًا وبالغًا جدًا على حركة الثقافة والتأليف في العالم العربي اليوم – أي على القراءة في محصلة الأمر – والإسهام في ضعفها وركودها مقارنة بأمم أخرى، و لربما لو أجريت دراسةٌ بحثيةٌ في هذا الباب لكشفت عن ضرره وأثره بوضوحٍ شديد. غياب ثقافة الحقوق في حقوق الثقافة خاصةً بطبيعة الحال لا يتوقع أو ينتظر منه ترقية إن لم تكن من آثاره التردية.

عودًا على السؤال عمّا إن كانت ظاهرة فوضى الكتب المحمولة رقميًا قد أسهمت في رفع معدل القراءة عند الفرد العربي على فوضويتها وانتهاكها وحاجتها الماسة إلى ضبطٍ صارم، فلعله يحسن التساؤل قبل ذلك: ما معدل قراءة الفرد العربي المقررة أصلاً قبل ظاهرة الكتب المرفوعة رقمياً والإنترنت عامة؟ هل من دراسات وإحصاءات حديثة تعالج هذه المسألة كي يمكن الخروج برؤية من خلالها؟! للأسف، لغياب مثل تلك المباحث أو شحها على الأقل، يكاد يكون الجزم بشيءٍ حول ذلك غير متأتٍ، وإن كانت كثيرٌ من الظواهر والشواهد لتذهب بالناظر إلى أن يؤكد هذا الرأي ويؤيده، ولكن بلا معطياتٍ بينة، كيف يمكن للناظر تقرير ما إن كانت ظواهر الكتب المصورة رقميا قد أسهمت في رفع معدلات القراءة أم غير ذلك؟

ولكن لنفترض بدءًا أن الإجابة نعم، أفاد انتهاك حقوق الطبع وسهولة الحصول رقميًا على أكثر الكتب حداثة بعد نشرها ورقيًا بقليل بلا تكلفة مادية في انتشار القراءة ورفع معدلاتها بين العرب، ولكن هذا سيقودنا إلى سؤال: فكيف لم تظهر آثار ذلك الارتفاع على الأقل في شبكة الإنترنت نفسها كمًا وكيفًا؟! فعلى مستوى الكم، تبدو نسبة المحتوى العربي على الشبكة العنكبوتية مخجلة في الحقيقة، فلا تجاوز في أحسن الأحوال حسب بعض الإحصاءات الحديثة 3 % من مجموع المحتوى العالمي، قياسًا على اتساع رقعة الوطن العربي واتساع مساحاته وتعداد سكانه الناطقين أصالةً بالعربية، بل إن من المخجل بحق ألا يكون لبعض الهيئات والجهات المعنية بالثقافة والآداب والفكر مواقع وحسابات تواصلية خاصة بها،وأما من ناحية الكيف، فتفحص وتصفح خاطف لكثير من المواقع العربية الثقافية – أيًا كان قالب الثقافة التي تقدمها- من شأنه أن يوحي بنسبة الانتشار الهائلة للمادة المتناسَخة المنقولة كما هي بقضها وقضيضها، غثها وسمينها، جيدها ورديئها. ولعل هذا لا يوحي بفعل قرائي جاد، إضافةً إلى كونه في جزءاً جوهرياً من آلية تعاطيه بهذه الصورة متعلقًا بالكيف القرائية. وربما يبعث هذا ويدعو في المقابل إلى افتراض الشق الثاني والطرف المضاد من الإجابة: وهو أن ظاهرة الكتب المرفوعة رقميًا لم تسهم في رفع معدل القراءة، بل العكس في تدنيها، بعد أن أسهمت في ابتذال صورة القراءة مادتها ومظانها والإيحاء بضعف أهمية اقتناء الكتاب وعدم جدواها لتوفره متى ما أريد بمجرد طلبه في محرك بحث!وبالتالي أسهمت هذه الظاهرة إسهامًا مباشرًا -ومع غياب حقوق الملكية الفكرية في معظم بلدان الوطن العربي- في إضعاف حركة التأليف والنشر.. فهل يصدق هذا الأمر أم ذاك؟ طلب جواب دقيق قريب يتطلب جهدًا بحثيًا منهجيًا في ظني.. ولا أظن التعويل على المشاهدات الشخصية والانطباعات الذاتية يمكنه الإرشاد إلى إجابة مقبولة.

سيف المعمري: هذه الظاهرة تتفاقم وتعقد من الوضع الثقافي

إن المتأمل في الوضع الثقافي العربي يجده مليئاً بالتناقضات؛ ففي الوقت الذي تقل فيه معدلات القراءة بين السكان العرب يزداد الجدل حول الصراع بين ثنائيات الكتاب الورقي والكتاب الإلكتروني، وتخرج أصوات تنادي بأفول عهد الكتاب.. وكأن هذا الكتاب يعيش أزهى عهوده، وفي الوقت الذي لا يحصل الكاتب العربي على ما يساعده على العيش من كتاباته نتيجة قلة القراءة وأيضاً نتيجة عدم احترام الحق في الملكية. نجد أن الأمر لا يرتبط فقط بهدم التزام دور النشر بهذه الحقوق ولكن أيضاً عدم التزام كثير من السكان بذلك نتيجة تحويل الكتب إلى صيغ إلكترونية وتداولها من أجل تعزيز القراءة وتمكين الناس منها والسؤال بالفعل هل أدى مثل هذه النهج الذي لا يحترم حقوق الكتاب ودور النشر إلى رفع معدلات القراءة؟ وهل أسس لعلاقة قوية مع الكتاب؟

إن هذه الظاهرة تتفاقم وتعقد من الوضع الثقافي المعقد أصلاً وهي في الواقع نتاج لأزمة كبرى تعيشها المجتمعات يمكن أن يطلق عليها أزمة تنوير أو أزمة مواطنة لم تتمكن فيها هذه المجتمعات من بلورة وعي تحترم فيه الحقوق، وتراعى فيها الملكيات لاسيما وإن كانت لفئة لا تحظى بأي اهتمام وهي فئة الكتاب، وفي الوقت الذي يمتهن الكتاب في الغرب الكتابة ويعيشون منها؛ يكتب الكتاب العرب في ظروف صعبة وهم غير مفرغين ويدفعون من أجل نشر إنتاجهم، تنتهك حقوقهم من قبل الكثيرين من خلال التبادل الإلكتروني للكتب.

لا أرى أن هذه الظاهرة يمكن أن نحد منها لأنها مرتبطة باتجاهات نحو الكتاب فكثيرون يرون أن الفكر ليس له قيمة وأنه يفترض أن يحصل عليه مجاناً، يدفع لأشياء كثيرة قد لا تكون ذات قيمة ولكنه يتوقف عند الكتاب ويصر أن يحصل عليه مجاناً منتهكاً حقوق فئة تواجه العديد من الصعوبات من أجل النشر، هل يمكن أن يحدث الاشتغال على الوعي من الظاهرة أما أن الأمر يتطلب تشريعاً كبقية التشريعات التي وضعت للحد من تداول مقاطع وصور وكتابات تمس بأشخاص وفئات ومؤسسات، إن غياب الدعم للكتاب والمؤلفين ربما يتغاضى عنه رغم أهميته لكنه إن صاحب ذلك التغاضي عن انتهاك حقوق المؤلفين فالأمر يقود إلى تفاقم في وضع الحياة الثقافية المتردي أصلاً.

يوسف الزهراني: وصول الناس لنتاج الكاتب يُعتبر زكاة

ينصب اهتمام القارئ بالدرجة الأولى على الوصول إلى الكتاب واقتنائه، وهو بهذا لا يتنبه إلى حقوق الكاتب الفكرية أو المادية، وهي حقوق مشروعة بكل تأكيد نظير ما بذله من جهد فكري ووقت وتواصل مع دور النشر في سبيل خروج إنتاجه الكتابي إلى النور، وهنا يرى القارئ أنه غير ملوم، ذلك أن هدفه الوصول إلى المعرفة، ولديه، كما يعتقد أسباباً منطقية تجعله يقتني الكتب بصيغة pdf، يأتي على رأسها غلاء قيمة الكتاب الورقي، وقد شاهدتُ مقارنات بين الأسعار أثناء إقامة معارض الكتاب، مع أسعار يقدمها شباب يشترون الكتب ويوصلونها بالشحن إلى باب القارئ أينما كان، ومن بين تلك الأسباب في رأي القارئ عدم وجود مكتبات كبيرة في المدينة التي يعيش ويقيم بها، مما يجعل الوصول إلى الكتاب أمرًا بالغ الصعوبة، يستوجب السفر في كثير من الأحيان، مع الأخذ في الاعتبار ما يتعلّق بالسفر من تكاليف مادية مرتفعة، كلّ ذلك لأجل الوصول إلى الكتاب، ويدخل في هذا طلاب وطالبات الجامعات ومن هم في مرحلة الدراسات العليا أو لديهم أبحاث علمية، وبعضهم ضمن برنامج الابتعاث الخارجي، وكلهم يقولون بأن أسعار الكتب غالية أو بعيدة عنهم مكانياً، وما من سبيل لاقتنائها سوى طباعتها من شبكة الإنترنت بصيغة pdf.

وستستمر هذه الحكاية طالما استمرت أسبابها، وهنا لا مناص للكُتّاب والمؤلفين من التوصل إلى صيغة حل مع دور النشر، من خلال تسعيرة منطقية للكتاب، والتعهد بخدمة انتشار الكتاب داخل دولة المؤلف وخارجها، واستخدام التواصل الإلكتروني مع القراء لإيصال الكتب إليهم أينما وجدوا بأسعار معقولة لا تضيع معها جهود الكاتب، ولا تحمّل القارئ تكاليف مادية لا يطيقها، وخصوصاً أن أكثر القراء من الشباب والشابات طلاب الجامعات الذين ليس لديهم وظائف يجنون منها الأموال كما أسلفتُ القول.

هذه الطريقة ستسهم كثيرًا في اتزان الأمور بين الكاتب والقارئ، علماً بأنه من الصعوبة إيقاف ما يقوم به كثيرون من نسخ الكتب بصيغة pdf، وعلى الكاتب والمؤلف أن ينظر للأمر من زاوية إيجابية، وهي أن وصول الناس لنتاج الكاتب يُعتبر زكاة لحصيلته من العِلم والمعرفة، ويكفيه شرفاً أن اسمه وأفكاره وصلتْ للناس، حتى لو كان الأمر بطريقة لا يرى صوابَها.

 

الكاتب: حمد الدريهم

المصدر: جريدة الجزيرة | عدد السبت 06 مايو 2017

تعالوا إلى عالم الرواية

سأقول شيئًا، أنا قارئ يحب القصة جدًا، ويعشق الرواية؛ تعجبني روايات نجيب محفوظ وقصص يوسف إدريس وفانتازيا أحمد خالد توفيق، وأرتحل مع همنجواي في عوالم الحروب التي كان مراسلاً عنها، وأتماهى مع واقعية ماركيز السحرية، وأستمع للتراث الذي يستحضره محمد المنسي قنديل في كل أعماله، وأغوص مع تشيخوف وعوالمه الإنسانية المستوحاة من بيئته الروسية قبل الثورة البلشفية، وأظنُ أنّ الروس هم ملوك الرواية رغم وجود المبدعين الآخرين هناك على الضفاف الأخرى في القارة الأوروبية وقارة أمريكا اللاتينية بالذات، لكن الروس غاصوا في جنبات النفس البشرية أكثر من غيرهم – تجد هذا مجسّداً في روايات دوستويفسكي – فقدّموا سرداً إنسانياً رائعاً.

وقد نتساءل: لماذا يجب أن نقرا القصة / الرواية؟

لأننا سنقرأ حياتنا وحيوات الآخرين مسطّرَةً على الأوراق، فما حياتنا إلا قصص ذات أنواع؛ منها الكوميدي ومنها التراجيدي، وهناك الأكثر ميلودرامية.

ذات مرة قال لنا الدكتور الرائع عبد الحميد الحسامي- أستاذ الأدب والنقد بجامعة الملك خالد: “في داخل كل واحد منّا قصة”!

لكني أقول بل قصص متشعّبة ومشتجرة مع بعضها البعض ذات نهايات متعددة، ولو راجع كل واحد منا حياته لوجد أنه قد عاش قصصاً قصيرة كثيرة، وسمع عن قصصٍ أكثر، بحيث لو سطّرها على الأوراق – هذا إنْ كان كاتباً قصصياً- لوثّق لعوالم كثيرة.

لو عدنا لجغرافيتنا العربية لوجدنا أنّ الفن السائد هو الشِعر وليس الرواية، والمشهور لدينا أنّ “الشِعر هو ديوان العرب”؛ فنحن العرب قد نهتز للشِعر أكثر من القصة / الرواية وذلك لأن الشِعر خطابي ذو نبرة عالية، في حين القصة / الرواية صامتة!

لكن الرواية هي ديوان العالَم بأسره، ونحن –كما أعتقد– جزء من هذا العالَم!

وقد نسأل: ما الفرق بين القِصَص – بكسر القاف- والقـَصَص – بفتح القاف؟

جاء في لسان العرب: «القَصَصُ: الخبرُ المَقْصوص، بالفتح، وُضع موضع المصدر حتى صار أَغْلَبَ عليه، وقصّ عليّ خبَره يقُصُّه قَصّاً وقَصَصاً: أَوْرَدَه، يُقال قَصَصْت الرؤيا على فلان إِذا أَخبرته بها، أَقُصُّها قَصّاً، والقَصُّ: البيان، والقَصَصُ، بالفتح: الاسم، قال تعالى:{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3]، أَي: نُبَيّن لك أَحسن البيان، والقِصَص – بكسر القاف – جمع القِصّة التي تُكتب« (ابن منظور، 1414هـ، 7/73-74).

عن فن القصة / الرواية سألني صديق – ذات يوم -: ما الفائدة المرجوة من قراءة الروايات؟

فأجبت:

فضاء القصة أو الرواية متنفس جميل، ينقلك لتعيش عوالم أخرى حقيقية منها أو خيالية، ويجعلك تتفاعل مع بيئات مختلفة، وتتعرف على ثقافات تلك البيئات، وتعايش نماذج من البشر (وربما الآليات!) منها ما تعرفها وتدب على شوارع بلدك، بل ربما في حارتك الضيقة نفسها، وأخرى لم تعرفها إلا من خلال ما قرأت من سرد، لأنها غريبة قد لا تخطر ببالك وجودها!

وهذه الغرابة في العمل الذي بين يديك ربما دفعتك إلى أن تتساءل: كيف فكّر الكاتب بهكذا قصة؟

المؤكد أنه لا يوجد كاتب روائي نسج خيوط روايته من فراغ محض، لا بد من نقطة في واقع حقيقي أو واقع في ذهنه – تراكم من قراءاته السابقة- انطلق منها لصنع ذلك العمل الغريب، وهنا يكمن إبداعه الذي أذهلك؛ أظن أن رواية “أولاد حارتنا” لنجيب محفوظ تقدم نموذجاً لذلك.

في فضاء القصة / الرواية تكون مع إبداعات الكتّاب أنفسهم في نقل هذه العوالم إليك أنت المتلقي عبر الأوراق والممتد على السرير في استرخاء تقرأ ذلك العمل القصصي شاعراً بتلك المتعة عندما تجد أبطال تلك القصص “تتنطط” أمامك على الأوراق.

أنا لا أعتقد أنّ أحدنا لم يقرأ رواية أو قصة على الإطلاق، أضعف الإيمان الروايات التي كانت مقررة علينا في المدراس!

إنّ فن السرد فن جميل، لكنه يريد الأسلوب الرشيق الذي يجذبك منذ الصفحة الأولى لتغوص في تفاصيل تلك الرواية التي بين يديك، (أو في شاشة كمبيوترك إذا كانت pdf!)

وحتى الروايات المترجمَة لا تفقد جمالها بسبب الترجمة، بل على العكس، إنّ مطالعتك لأي رواية بلغتك الأم يجعلها أقرب إلى وجدانك؛ لأنها ستكون بتعابير تألفها، خاصةً إنْ أجاد مترجمها صياغة تلك التعابير بعربيةٍ سلسة.

أقول: اقرأوا ما يكتبه غيرنا، لتعرفوا كيف يفكرون، بل كيف يعيشون في هذا العالَم الذي لا تنتهي عجائبه!

ارتادوا هذا العالَم السحري، وعيشوا في رحاب هذا الفن الجميل، فن القصة / الرواية بكل أشكالها.

الكاتب: عبدالحفيظ العمري

المصدر: مجلة المحطة

وجه اللغة

من بين ذلك أنني كتبت يوماً أن «كلّ متكلِّم يُعبِّر باللغات الأجنبية انطلاقاً من لغته التي يُمكِن التعرُّفُ إليها عن طريق نَبرة شاذّة أو لفظ أو تركيب». كلام واضح، مقبول إلى حَدّ ما، لكنني أضفت- مباشرة- بعد ذلك: «وأيضاً عن طريق النظرة وَسِمات الوجه (أجل، للغة وجه)». ترى ما عساني كنت أعني بوجه اللغة؟ تملَّكني الشعور لمدّة بأنها عبارة لا تخلو من تهوُّر، وتخوَّفت أن يستفسرني أحد القرّاء عمّا قصدت، أن يقول لي مثلاً: هل يختلف وجهك عندما تتحدَّث بالفرنسية أو بالعربية؟ وكيف الحال عندما تتحدَّث بالإنجليزية التي لا تتقنها تماماً؟

مجرَّد تخمينات… لكن، أتيحت لي الفرصة مرّة أو مرّتين أن ألاحظ، لا أقول صحّة حدسي، وإنما إمكانية استئناف البحث في هذه المسألة. قرأت مؤخَّراً مقالاً عنوانه «ضَيْف غيرُ مَدعُوّ»، لشاعرة يابانية (يُوكُو تَاوَادَا)(1) تعيش في برلين وتكتب بلغتها الأصلية وأيضاً بالألمانية. من جملة ما لاحظت أن «العديد من الألمان يَبدون مَرِحِين عندما تُتاح لهم فرصة التحدُّث بالإنجليزية، فكأن هذا يسمح لهم بان يتحرَّروا من ضرورة تحسين أدائهم، ومن وسواس السيطرة على النفس، وهما أمران أصبحا مرتبطين باللغة الألمانية». روت- في هذا السياق- أن أحد معارفها، وهو تشيكي يعيش في كاليفورنا، يفضِّل كثيراً، حين يزور ألمانيا، التحدُّث بالإنجليزية على التحدُّث بالألمانية. «فما دام يتحدَّث بالإنجليزية، يُعامَل بلُطف على أساس أنه قادم من أميركا، لكن عندما ينتقل إلى الألمانية، تجعله نبرته الخفيفة يُصَنَّف حالاً في فئة «أوروبا الوسطى» […] ؛ يفقد حينئذ وضع الضيف […] ولا يُسمح له بدخول صالون اللغة الألمانية».

إذا كانت هذه تجربة الزائر التشيكي، فما هي حالة الشاعرة اليابانية؟ «فيما يخصّني يمكن أن أقول إن «النبرة» تبدو في وجهي أكثر مما هي عليه في نُطقي، فمهما تكن اللغة التي أتحدّث بها فإن مظهري الخارجي يكفي لتصنيفي فوراً. أُدْعَى بلُطف إلى الدخول إلى الصالون العائلي لأن ليس ثمة- فيما يخصّني- احتمال بأن أتحوَّل إلى امرأة أجنبية حتى النّخاع، لا يُكتَشف بسرعة أنها كذلك.».

تضيف الشاعرة: «ومع ذلك، هناك أشخاص من البورجوازية المثقَّفة لا يَكُفّون عن مقاطعتي بملاحظات من نوع: «مُذهِل حديثك الجيد بالألمانية!»، إلى درجة أنني أشعر في النهاية أنني مُقصاة، ولا أعود قادرة على الاستمرار في الكلام. أو لا ينفكّون يسألونني هل أعرف هذه الكلمة الألمانية أو تلك. بشكل عام يكشف اختيار هذه الكلمات- بالذات- أنه لم يسبق لهم أبداً أن تعاملوا فعلاً مع لغة أجنبية. يبدو جليّاً أن وضع شخص ليس منهم، وليس أيضاً أجنبياً، يثير الانزعاج.». لن تتكلَّم لغتي: ظاهرة تتخفّى في التفاصيل.

قبل ما يقرب من عشرين سنة، كنت- لمدّة قصيرة- في كامبريدج بالولايات المتحدة، حيث جامعة هارفارد. ذات صباح كنت متّجهاً إلى المكتبة (ماذا ستفعل في هارفارد إذا لم تزر المكتبة يومياً؟)، وإذا بي أبصر، عن بعد، مغربياً قادماً جهتي. لم أكن أعرفه، ولم أرَه قبل ذلك، لكنني علمت أنه من المغرب، ويمكن أن أضيف أنني نادراً ما أخطئ في تخميني. كيف أتعرّف إلى مغربي قبل أن ينبس ببنت شفة (لا بد من توضيح ذلك، لأنه إن تَحَدَّثَ لا مجال حينئذ للتردُّد)؟ أهي قسمات الوجه، كآبة مستسلمة، طريقة مشي ببطء، نعم ببطء، كأنه يتجوَّل؟

كان يقترب مني رويداً. ما العمل في هذه الحالة؟ متابعة طريقي. في تلك الأثناء قلت لنفسي إنه لا شكّ يحنّ إلى طبخ بلاده، إلى طعام أهله البعيدين، وتذكَّرت ما قاله الحسن اليُوسِي عن الطريقة المُثلى لعلاج المغربي عندما يمرض (ربما يقصد عندما ينهار عصبياً): «أطعِموه الكُسْكس». وبينما كنت أدير هذه الوصية في ذهني، اقترب مواطني بحيث صرنا جنباً إلى جنب. ركَّزت نظري على نقطة في الفضاء أمامي وتابعت السير، وإذا بي أسمع: سي عبد الفتاح! لا شكّ أنه كان يعرفني، ربَّما دَرَس في الكلّيّة التي كنت أشتغل فيها. قد أكون تضايقت حينئذ، وبدت عليّ علامات اضطراب، وعلى الأرجح لاحظ ذلك لأنه قال لي على الفور: «اسمح لي سي عبد الفتاح، بغِيت غِير نَدْوي معاك شويا بَلعَرْبِية (أريد فقط أن أتحدَّث معك شيئاً ما بالعربية)».

الحنين إلى الوطن حنين إلى اللسان. كان بحاجة إلى التحدُّث بلغة الأم، ضرورة قصوى، شكل من التداوي والعلاج. تبادلنا بضع كلمات، نزلَت برداً وسلاماً عليه، وعليَّ كذلك. تغيَّر وجهه، صار له وجه آخر، وجه يشعّ بهجة وسروراً.

اسم المؤلف: عبدالفتاح كليطيو

المصدر: أزمنة – عن مجلة الدوحة

شعراء تحت رحمة اللغو.

حذّر الفيلسوف اليوناني أرسطو مِن أنّ الكتابة نظماً لا تخلق شاعراً، مشيراً إلى أن امبيدو كلس كتب شعراً ولكنه يجب أن يُدعى فيزياوياً بدلاً من “شاعر” !

وهنا تحضر مقولة لدانتي: “أن الكلام بالنسبة للشاعر، كالحصان بالنسبة للجندي، فأفضل الجُند حريّ به أن يركب أفضل الجياد، وأفضل الكلام ما يلائم خير الأفكار؛ لخدمة موضوع فخم، كما يفهمه العقل المتسامي”.

وإزاء هذا المدّ اللافت المُتشاعر الذي ينساب في الصحف والمجلات الدورية، وكذا وسائل التواصل الاجتماعي التي باتت منصّة تستقبل مئات الأبيات تحت ذريعة قول الشِّعر تستوقفك حالة مآل هذا الفن الشعري، وتجعلك تتساءل: هذا الانفلات والتجاسر على اقتراف المقول الشعري هل هو دليل عافية في المشهد الشعري؟ وهل لازالت جذوة الشعر مشتعلة ومتوهّجة كما كانت مع قامات شعرية تركت أثراً جمالياً خليقاً بالتذكُّر والخلود؟

لكنّ تأمّلاً واقعيّاً وفحصاً رصيناً يجعلك تصل لقناعة مفادها خواء هذا القول، وعدم أهليّته لإطلاق صفة الشعريّة عليه إذ ليس ثمّة دهشة أو انقصافة شعورية يُحدثها لديك حين تلقّيه، بل إنّه يُشعرك بحالة انطفاء شعوري وذوقي جرّاء كميّة الهذر الذي يلوكه بلا أي مُتعة أو لذاذة في تعاطيه.

لكن ما العمل و”الشِّعر” هو مخزوننا الحضاري إنّك لو أخذت دبّوساً -وفقاً للشاعر الكبير نزار قباني- وأدخلته تحت جلد أي مواطن عربي فإنّ سائلاً سحريّاً سوف يتدفّق. وهذا السائل ليس نفطاً.. ولا هو من مشتقات النفط، وإنما هو سائلٌ أخضر اللون، ذهبيّ الشُّعلة، أبديّ التوهّج، اسمه الشِّعر.

وقدرنا كشعب عربي محكومٌ بالشّعر، فهو موجود في كل تفاصيل حياتنا اليومية، في الأفراح، نقدّمه مكان الورد الأبيض والقرنفل.

ولعلنا نتّفق مع الناقد عقيل مهدي يوسف حين يشير ببراعة لافتة قائلاً: “وحيث يخون الإلهام الشاعر يتركه تحت رحمة اللغو، والسُّخف…”، ويشير في مقالة له بعنوان: “من يعتذر للشعر” إلى ما كتبه فيليب سيدني كتابه “اعتذار للشعر” فيقول: نشر في عام (1595) وهو يتهّم الآراء السائدة عن الشعر ويقول:

“إنه هبط من أعلى تقديراً للمعرفة؛ ليكون لعبة الأطفال المضحكة حتى استطاع البعض وتجرّأ على تشويه الشعر، الذي كان النور الأول الذي أضاء دياجير الجهل، وكأنهم يلعبون مع الشعر لعبة الأفاعي الخبيثة، التي تقتل عند ولادتها والديها!”

قد نتفق أو نختلف مع درايدن حين ينادي بالحرّية وبلا سلطة إرشادية عُليا في الأدب، بل الأساس هو ذوق العصر، وإسعاد الآخرين، ويؤكد على “المتعة” ليجعل ناحية ما في الناس أفضل، فالأدب فن لا تعليماً، أو هو لا يعلّم إلا عندما يسر.

لكنّ المحبِط في الأمر هو انطفاء ما تظنّه وميض إبداع وشرارة تجاوُز بعد قراءته وكأنّك معين الشعرية نضب بأفكاره ومغامراته وفضاءاته التخييلة وهو ما يستدعي في المقابل أسماء شعرية فذة ظهرت في سماء الشعر كومض لكنه خالد بخلود الشعر وجمالياته.

فحين يلوح الذاكرة قامة شعرية كرامبو، وتجد الدراسات تنكبّ على منجزه الشعري بعد قرن ونصف يتملّكك العجب، فهذا الشاعر لازال نصّاً لا يُستنفد، على مرّ الدراسات والأبحاث والسنين والأجيال العاكفة عليه، وهو ما دعا كاتب مقدمة ديوانه وترجمته إلى العربية رفعت سلام ليقول: لم تخطر الحماقة ببال أحد فيُعلِن-أو حتى يُضمر- أنه قال أو كتب كلمة أخيرة فيما يتعلّق بأيٍّ من تضاريسه -أي رامبو-.

ولعل مساحات الدهشة تزداد حين نعلم أن إنجازات رامبو الشعرية كانت في خمسة أعوام فقط فمنجزه الشعري اختصار للذات الأقصى والتكثيف الاستثنائي للطاقات والنفي الصارم للتكرارات والتشعبات، والحدة اللغوية القاطعة ونهب الزمن.

والسؤال:هل يمكن امتلاك العالم -بكل تضاريسه،وتحولاته، وتواريخه، وصرخاته وغنائه، ودمائه وحروبه في نصّ شعري؟

هو إذن النّص المستحيل.

 

الكاتب: عبدالله الحسني
المصدر: صحيفة الرياض
السبت 5 شعبان 1436 هـ – 23 مايو 2015م – العدد 17134

هل تعزز العزلة الإبداع حقاً..؟

من أبرز صفات المبدعين اهتمامهم بالمخالطة الاجتماعية.

في مذكراتها (أتغير) كتبت الممثلة ليف أولمان «لطالما اعتبرت الكتب كائنات حية بعد أن صادفت مؤلفين غيروا حياتي قليلاً، فبينما أمر بفترة ارتباك ما، أبحث عن شيء لا أستطيع تحديده، إذا بكتاب معين يظهر، ويتقدم مني كما يفعل صديق، يحمل بين دفتيه الأسئلة والأجوبة التي أفتش عنها».
وكما وصفت أولمان علاقتها بالكتب كان كتاب «فلسفة الوحدة» للفيلسوف النرويجي لارس سفيندسون الذي أجاب عن الكثير من أسئلة الوحدة والعزلة والفرق بينهما، كيف تكون وحيدا أو مستوحدا؟ لماذا يكون الشعور بالوحدة مؤلما للغاية؟ وسؤاله الذي استوقفني «هل العزلة في الصحراء أقل قسوة من العزلة بين البشر؟»
لقد تعرض العالم خلال الفترة الماضية إلى عزلة إجبارية في زمن جائحة «كوفيد – 19» فقد أصبحنا في مواجهة مع أنفسنا رغما عنا، واختفت تلك المشاغل الاجتماعية والالتزامات التي كانت تملأ أوقاتنا، وبقينا في المنازل نمارس العمل والدراسة عن بعد من خلال التطبيقات الإلكترونية، ورغم ادعائنا بالراحة والتخلص من عبء الواجبات الاجتماعية في فترة انتشار الفيروس، فإن تلك العزلة كانت مؤلمة للبعض، وذلك بسبب عدم امتلاكهم للشجاعة في مواجهة ذواتهم والتعرف على المشاعر الحقيقية التي تعترض الجميع دون استثناء في هذه الفترة.
الوحدة في مواجهة الذات

الوحدة الدائمة كما عرفها سفيندسون هي حالة يعاني فيها الشخص من الألم المستمر بسبب عدم وجود علاقات مرضية مع الآخرين، إن الوحدة تخبرنا شيئا عن أنفسنا وعن مكاننا في العالم، إذ إنها تخبرنا عن مدى أهمية وجودنا من عدمه، فهي ترتبط بشكل خاص بالعار وبالصعوبة التي يواجهها الناس في الاعتراف بالوحدة علنا، باختصار الوحدة هي ألم اجتماعي يشير إلى أن حياة الفرد الاجتماعية ليست مرضية، فنحن ماهرون بشكل مدهش في خداع الذات، ويمكننا الفرار من الآخرين بالابتعاد جسديا أو إيقافهم عقليا، لكننا لا نستطيع الهرب من أنفسنا ومواجهتها بالحقيقة. هكذا أصبح بقاؤنا في المنزل يشعرنا بنوع من التهديد، فقد فرضت علينا هذه المواجهة مع الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي، وتعرض روتين حياتنا اليومي إلى ارتباك، وخلق بقاؤنا في المنزل لفترات طويلة الكثير من التساؤلات عن تلك المشاعر التي تعترضنا في هذه الفترة تحديدا، وسببت تلك العزلة المفروضة نوعا من الشعور بالوحدة والعزلة مع اكتشاف الفجوة الهائلة بيننا وبين أقرب الناس لنا.
يشير الفيلسوف وعالم الاجتماع جورج هربرت ميد، إلى أننا نخلق ذواتنا من خلال تفاعلنا مع أنفسنا، وبالتالي لا يمكننا بناء تمييز بين أنفسنا والآخرين، ومن هذا المنظور ترى أن الذات هي نتاج اجتماعي وليس فردياً، فأنت تتعرف على نفسك من خلال حكم الشخص الآخر عليك، والآخر هو شخص يحكم عليك، وأثناء ذلك نعلّم أنفسنا بأن نتصورها كما يفعل الآخرون ونحوِّلها من خلال تفاعلنا مع ذاتنا، وفي الوقت نفسه تحافظ النفس على استقلال معين فيما يتعلق بالآخرين، وتلك التجربة كما وصفها جورج هربرت تشكل علاقتك بالآخرين فهم يحكمون عليك، مع ذلك فأنت بحاجة لهم لأن الاعتراف الذي تطلبه يجب أن يأتي منهم، ولكي يكون لهذا الاعتراف قيمة يجب عليك أيضا الاعتراف بالآخرين، وتعتمد قيمة اعتراف الآخرين بك على حسب تقديرك له.
الإنسان المعاصر هو إنسان جماهيري واجتماعي بجدارة، لكنه في الوقت نفسه وحيد للغاية، كيف يكون الإنسان محاصرا داخل نفسه وعلى مسافة بعيدة جدا من أي شخص حوله. وقد عبر ديفيد ريزمان عن هذه الظاهرة بشكل لافت للنظر، في كتاب «الحشد المتوحد» قائلا: لقد أصبح الإنسان المعاصر أكثر نأيا عن الآخرين، وهو يواجه معضلة، فهو خائف من التواصل عن قرب مع الآخر، وهو خائف بالقدر نفسه من الوحدة وعدم وجود أحد يتواصل معه، إذ إن الإنسان يحتاج إلى الصداقة والحب في حياته، وأحد الأسباب التي تجعل العيشَ في عزلة صعبا، هو أن البشر مخلوقات اجتماعية، ولا يتم تثبيت هويتك الذاتية بعمق داخل نفسك وهي منفصلة عن الآخرين، بل يتم تثبيتها من خلال ارتباطك بالآخرين.كما ورد في كتاب «فلسفة الوحدة» أننا نطور العادات العاطفية عن طريق تغيير التقييمات الخاصة بنا بحيث يمكننا تغيير مشاعرنا، وتغيير ممارستنا وعاداتنا وبالتالي أيضا مشاعرنا، إن كل عواطفنا هي بالاستمرار عناصر التنظيم تجاه كل شيء وما تشعر به هو بالكاد نوع من الاختيار، ولكن هو نتيجة التصرفات سواء الفطرية أو المكتسبة، أنت لست مسؤولا عن الميل إلى الشعور بالوحدة لكنك مسؤول عن كيفية إدارتك لهذا الاتجاه، لذلك أنت مسؤول إلى حد ما عن وحدتك.

* كاتبة وتشكيلية وأكاديمية في جامعة البحرين
*وحدي… ولستُ وحيدا!

تؤمن الثقافات القائمة على التدين، بأن العزلة مهمة من أجل تحقق الإلهام والتنوير، فيكتب أوشو «التأمل هو فن الاستمتاع بالوحدة» وقد درست الأبحاث الحديثة الرابط بين العزلة والتركيز الذهني، فأثناء العزلة الاجتماعية تحدث حالة الراحة الدماغية، التي تسير جنبا إلى جنب مع ما يصاحب العزلة من هدوء وسكون، ولا بد أنك لاحظت حين يحضر شخص آخر بجوارك لا يستطيع دماغك إلا أن يعيره بعض الانتباه.
الكاتبة سوزان كين مؤلفة كتاب «الصمت: قوة الانطوائيين في عالم لا يتوقف عن الكلام» تنتمي إلى ذلك الطراز، الذي لا يحب الأجواء الاجتماعية الصاخبة، وتميل إلى ممارسة أنشطتها بشكل منفرد. فمن أبرز صفات المبدعين هي قلة اهتمامهم بالمخالطة الاجتماعية، هذا ما أظهره بحث عالم النفس الإبداعي غريغوري فيست، الذي أجراه على عدد من العلماء والفنانين، يصف «فيست» حالة الفنانين الذين يعكفون على عملهم بشكل منفرد: «الفنانون يحاولون فهم عالمهم الداخلي والكثير من التجارب الشخصية الداخلية، التي يحاولون التعبير عنها، وإضفاء معنى عليها من خلال فنهم، فالعزلة تتيح للمرء التفكر وإمعان النظر، وهذا من ضرورات العملية الإبداعية».
ولذلك، من الأهمية بمكان أن نتعلم كيف نتسامح مع الشعور بالوحدة فهي ليست أمراً سيئاً على الدوام، وبسبب ظروف الحياة والعمل ووسائل التواصل الاجتماعي أصبحت الضوضاء في كل مكان وأصبحنا نفتقد قضاء وقت قصير مع أنفسنا، لهذا يقتضي أن نحول تلك الوحدة إلى عزلة اختيارية، فأدمغتنا بحاجة إلى الراحة وهذا أمرٌ عادي يقره علماء النفس، حيث يصرح فيست «يوجد خطر لدى الناس الذين لم يمارسوا الوحدة أو العزلة على الإطلاق» لتكون العزلة سببا للراحة والإنتاجية والإبداع.

 

الأربعاء – 7 محرم 1442 هـ – 26 أغسطس 2020 مـ رقم العدد [ 15247] المؤلف: د. مياسة السويدي ..
المصدر: جريدة الشرق الأوسط